مدخل لا بد منه
نقوس المهدي
تولد رواية ” الطريق الى الملح” للأديب عبد الكريم العامري في النفس العديد من التداعيات الاليمة، وتحرك في اعماق النفس الكثير من الذكريات الدفينة.. هكذ ا وجدتني مشدودا بحبل سري بابطالها كانهم احبابي واهلي.. الحب نفسه الذي اختزنته لسنوات متتالية لكاتبها عبد الكريم العامري. ولصديقي مضر حمد السعيد الفتى البغدادي والشاعر الطموح الذي افتقدته في أتون حرب الخليج الاولى.. لا هو من بين اسماء قوائم الشهداء ولا من عداد المفقودين.. ابتلعته الارض الى يومنا هذا.. والذي تعرفت من خلاله على روايات الحرب لــ ” إيريك ماريا ريماك”.. وادب الواقعية الاشتراكية عند مكسيم غوركي وخورخي أمادو ، وتنظيرات انطونيو غرامشي .. وقرات عن طريقه اشعار حسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف.. وعرفني على تاريخ النضال الجماهيري في الخليج.. والمعارك العقائدية والفكرية المحتدمة بين صفوف الطلبة العراقيين.. والاغتيالات والاختطافات التي تطال المناضلين.. وقصيدته الحزينة “شهادة عن مناضل اغتيل ذات مساء عند مدخل البار العتيق” .. واوراقه التي بعثها الي من ساحة المعركة ووسمها باوراق صفراء من زمن الحرب تحدث من خلالها عن ملابسات يومياته في الميدان ومعاناته وآماله العريضة الواسعة المتدفقة الرقراقة التي التهمتها الحرب اللعينة.. وتاريخ الحزب الشيوعي و”الرفيق فهد” وجريدة “الطريق” التي نشرت بها بعض الخربشات المبكرة.. وسلكت بعدها الطريق الشاق لــــ ” أحمد الصالح ” في سبيل البحث عنهما فلم اعثر لصديقي مضر على اثر.. فيما دلني على صديقي الآخر من غرناطة المبدع محسن الرملي..
قراءة في العتبة
العنوان مفتاح تاويل النص.. هكذا يحيلنا عنوان الرواية المكون من جملة اسمية على الطريق وركوب الاهوال وتكبد المشاق من اجل البحث عن الزمن الضائع.. اي على الرحلة.. ذلك ان الرحلة كتابة في المدى، والكتابة رحلة على الورق. اذ “يخيل إلي أن كل كتابة رحلة في الزمان والمكان ( الفضاء). وقبل كل شيء هي رحلة في المساحة اللامتناهية لجغرافية الكلمات” بحد تعبير الناشر الفرنسي الشهير فرانسوا ماسبيرو. ومن جانب اخر على الملح حيث هناك شخص تقاسم معه الراوي الخيز والملح كما نقول في المتخيل الشعبي.. وهو بوابة تتدفق عبرها بشكل لامتناهي جملة من المتتاليات التي تتولد في رحم الغيب.. وتحيلنا على عالم روائي مؤثت بالاحتمال والتوجس والمفاجاة والشوق والحنين المعشش في الحنايا والذكريات الحارقة والتاريخ الضمني لشخوص ينبضون املا ورقة وبساطة.. الأم رمز الارض، والجد رمز التاريخ العريق، ومعتوق الحداد الذي يحيل اسمه على العتق والتحرير، ونازك التي يرمز اسمها الى الرمح انظر لسان العرب ص 498، وما جاء في الحديث ” ان عيسى يقتل الدجال بالنيزك “.. وكل هذه المؤشرات الايقونية تكتسب دلالات تعج بالارادة والاصرار على تحرير مدينة الصبا ومرتع الشباب…. وترمز في نفس الآن للحياة والأمل والإستمرارية.. وتحاول التأريخ بهذه المعطيات لثالوث الانسان والمكان والزمان عبر أوبة الراوي بعد زمن طويل من الغياب القسري الى كنف مدينته المحررة العابقة بجمال مدبنة ” الفــــــاو “. والتي عمدتها دماء 52848 شهيد عدا العديد من الاسرى والمفقودين والمعطوبين .. وهذه احصاءات رسمية تختفي وراءه اكمتها الوجه الحقيقي والسافر للانظمة السنبدة.. والصورة البشعة للحروب، وما تجره من ويلات ومآسي من ترميل النساء وتشريد الاطفال وتشتيت العوائل، وتكبيد البلد العديد من الخسائر الاقتصادية والسياسية الفادحة .. على هذه الصورة تبتدئ الرواية وتبدو المدينة بعد ان يعود اليها البطل وهي محررة من المحتل وفي زمن ” بدأت الارض تخضر… والاشجار تستعيد عافيتها” ص 9.. بعد ان دمرت وحطمت الحرب كل شئ فيها، واقتلعت رؤوس النخيل… وعبر الاستعانة بالتذكر والاسترجاع ” الفلاش باك” يلملم الراوي شتات ذاكرة منهكة وضبابية لرصد حياة “احمد الصالح”، وايام الصبا والشيطنة والعفرتة والجنون والحب والعبقرية والجندية .. مسلطا كاميرته على تحولات المكان وهواجس البطل وجزئيات حياته الشبه الشطارية .. ذكريات جارحة تسربت عبر نافذة السيارة محمولة على هودج الريح الشرقية الملتهبة والحارقة دافعة الراوي الى هوة الماضي السحيقة ص11.. وركوب قطار الذكريات واستحضار سيرة مدينة عزيزة في سبيل البحث عن احمد الصالح مسلحا بالامل والرغبة الاكيدة وصورة الصاحب ومفتاح صندوق الذكريات الجميلة والعديد من الاشارات و المؤشرات الدقيقة.. ذلك لان مصير الرواية اية رواية هو بحث في بعض التفاصيل الصغيرة لنستدل عن طريقها على ما هو اهم.. ذلك أن “ميخائيل باختين” يعتبر الرواية جنينا، لم يكتمل بعد، كجنس أدبي قائم بذاته؟ طبعا ليس بالمعنى التصغيري أو التحقيري؟ على العكس من (الفن الْملحمي) …
المكان في الطريق الى الملح
“بإمكان كاتب أن يُهدي مدينةً شُهرةً عالميّة من خلال كتاب” هكذا تقول احلام مستغانمي .. وفي اقصى الحالات الإجرائية تتحول العديد من الامكنة الروائية في وجداننا الى اماكن حميمية، و الكثير من الشخوص الى اصدقاء ملحميين حميمين من حيث لا نعلم و لا نحتسب كانما تربطنا بهم صلة قرابة قوية.. ونعشق عن طريقهم تلك الاعمال بعوالمها وامكنتها وافضيتها الصغيرة المحدودة المضغوطة بين دفتي الورق والموشومة بالحبر .. و التي تغدو افتراضيا اكبر من حجمها في الواقع.. وننسج معهم علاقات ضمنية اقرب الى الحميمية واقوى من الخيال.. من منا لم تشده قاهرة نجيب محفوظ، واسكندرون حنا مينا، واسكندرية ادوار الخراط ولورنس داريل، وبصرياثا محمد خضير، وسومر حسب الشيخ جعفر، وطنجة محمد شكري وبول بولز، ودبلن جيمس جويس، وبيونس ايرس خورخي بورخيس، وباريس بودلير، ولشبونة فرناندو بيسوا، وبراغ كافكا، واسطنبول باورهان باموك .. ويتجلى ذلك الارتباط عن طريقة حديثهم الاسطوري عنها في كل حين كرد فعل لتاثيرات بصمها ذلك المكان على ارواحهم، واصبحت قطعة من حياتهم.. يكتب كافكا في احدى رسائله لأحد أصدقائه: “لن تخلي براغ سبيلنا، لهذه الأم الصغيرة مخالب، ينبغي الإذعان لها …” .
هكذا تخلق تلك الامكنة و الاشياء الحميمية في نفوسنا ذلك الفضول الآسر لاقتفاء آثارها خارج الحيز الورقي وتدفعنا لمتابعة تطورات الاحداث في رواية “الطريق الى الملح” عبر تتبع معاناة الانا والاخر.. “الانا” الراوي الذي ليس حتما الكاتب الذي يستلهم على مستويات عدة مرجعية السيرة الذاتية في تشكيل الخطاب الروائي.. و”الاخر” الذي يمثله احمد الصالح البطل الايجابي الذي يرمز في بحثه الى الامل واللقاء والمحبة والبساطة وهلم جرا من تلك الاوصاف النبيلة النابعة من اعماق الارض الطيبة المحتضنة لامال واحلام الناس الطيبين..
رؤى حول الرواية
تبتدئ الرواية في منطقة تماس بين زمنين يمتزج عبرهما الماضي بالحاضر الذي يتولد من رحمه المستقبل.. زمن ماض يستدعي التاريخ والمعالم والذكريات والرؤى والاطياف والاخيلة.. و زمن حاضر يستحضر الرغبة في اللقاء ويستنطق السجلات ويتحرى فيهم عن مصير احمد الصالح في دواليب الادارات والدوائر الحكومية وعبر مساءلة رفاق السلاح .. والمستقبل الباسم لكن الضبابي في ظل الخطر الداهم الذي يتهدد البلد ..
الطريق الى الملح من نوع السهل الممتنع بيساطة توليفتها وهرمية نسقها المعماري .. ومؤثثة بالشعر والنوستالجيا والشوق والتشويق واللهفة والاكتشاف لتتبع مجرى نهر الرواية وتتبع مساره ليمضي بنا صعدا لاهثين لمعرفة النهاية الحتمية للاحداث.. واقتناص المصير الغامض لكن المشرق والايجابي للبطل الذي ينبعث من جديد عبر الطفل رمز التجدد والعطاء والاستمرارية والتجدد، وعبر الحكاية اللامتناهية، واغراء القارئ وايهامه باكتشاف الاوراق المرتقبة التي ستنطلق في الفضاء الكبير كسرب حمام “ص112… والتي وعد بها – وهو من سيقترح ذلك بلسانه – في الجزء القادم من الرواية، كما يوحي بذلك آلبرتو مانغويل في أنه ” يعرض أمام القارئ كنزا من الروايات في حالة جنينية، وبذورا لحكايات، ليست في حاجة لتنمو زيادة حتى تمتعنا وتدهشنا.” وآخذا بقول احمد فؤاد نجم ” عشقي للكلام غالب سكوتي وكرهي للسكات جالب شقاي”
خلاصة
عموما الطريق الى الملح جاءت لتعزز المنجز الابداعي للاستاذ عبد الكريم العامري ولعل أول ارتسا نخرج به من اول قراءة لها انها رواية ناضجة بكل المعايير السردية بالرغم من انها باكورة شاعر راكم تجارب ناضجة ومهمة في الكتابة الشعرية والمسرحية، وتتعالق فيها بغبطة الكتابة الروائية بالتجرية الشعرية الناضجة، ذلك أنه حسب ديكارت “قد يبدو من المدهش العثور على أفكار عميقة في كتابات الشعراء وليس في كتابات الفلاسفة. والسبب هو أن الشعراء يكتبون تحت تأثير حماسهم وقوة تخيلهم: ذلك أنه توجد فينا بذرات العلم مثلما توجد شرارات النار في الحجر. الفلاسفة يستخرجونها بالبرهان العقلي أما الشعراء فتنقشع لديهم بفعل تخيلهم وتغدو أكثر لمعانا”..
بهذا السلاح وبتلك الرؤى آثر الشاعر والمسرحي والصحافي عبد الكريم العامري ركوب غمار الكتابة الروائية ببراعة فاتنة عبر الاسلوب الشاعري الذي يشيع داخل النص فيبعث بين ثناياه جمالية ويهاء ورقة، ولغة شفيفة جذابة تتوخى الاقتصاد في الكلام غبر الجمل القصيرة التي تتوغل عميقا داخل اعماق الابطال، وتؤرخ لمرحلة حرجة من تاريخ العراق الحالك الموشوم بالاستبداد والجبروت والتسلط والاحباط والاقصاء الممنهج للانسان.. التاريخ المليء بالبطولات الوهمية والانكسارات والحافل بالاشعار والمفعم باخبار الابطال الحقيقيين في الخليج واهب اللؤلؤ والمحار والردى.. وعبر معانقة الاحزان الدفينة في عراق ما مر عام والا فيه جوع وظلم وتشييء للكائن، ومعانقة الامل في النصر والتحول والاصرار على مواصلة الحياة برغم كل يتعرض له البلد من مكائد وويلات ضحيتها الاولى والرئيسة المواطن العراقي والقادمة من الغرب اساسا تمثلا بقول ابي الطيب
وسوى الروم خلف ظهرك روم = فعلى اي جانبيك تميل
ترى هل نقرا جزءا قادما تقول فيه الام وهي رمز العطاء والولادة المستمرة والخصوبة انه من الغرب جاءت المصائب” ص4..
—————————-
* نقوس المهدي: قاص وناقد من المغرب