يان مارتل: الكاتبُ هو الذي يعمل على إحياء الانفعال
ترجمة: هيفاء الجبري
في عام 2001، كان من النادر أن تجد من سمع باسم “يان مارتل” حتى من بين القراء النهمين، وما أن حل عام 2002، وحازت روايته الثانية “حياة باي ” جائزة المان بوكر” حتى صار بالكاد أن تجد قارئا في أي مكان كان لم يسمع به. وفي حين أن الفوز بجائزة البوكر ليس بالضرورة تذكرة ذهاب دون عودة للشهرة والثروة، إلا أنها لفتت القراء إلى كتاب لمؤلف كندي غير معروف نسبيا، وهو الكتاب الذي – كما اتضح فيما بعد- خاطب عددا كبيرا من الأشخاص حول العالم بطريقة وفي فترة زمنية لم يستطع بها أي عنوان معاصر أن يفعل الشيء ذاته. والقصة التي تتحدث عن فتى عاش على متن قارب بعد أن كان الناجي الوحيد مع النمر البنغالي من تحطم سفينة ألهمت القراء للتفكر والتحدث والكتابة في القضايا الشائكة كمعنى الحياة. وهكذا ما إن انطلقت الرواية إلى العالم حتى أصبحت ظاهرة فريدة بحد ذاتها، وبعبارة أخرى أصبحت من الكلاسيكيات الذائعة.
ثم اكتسح اسم “يان مارتل” وسائل الإعلام، وكأي ابن من أبناء الدبلوماسيين، عاش مارتل طفولته متنقلا بين البلدان، وبعد أن حصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة وقضى بعدها سنوات متنقلا بين المهن أصبح كاتبا ومفكرا ذا شأن، وأصدر مجموعة قصص قصيرة تحت عنوان “حقائق وراء روكاماشيوز هلسنكي” ورواية “الذات” ولكن لم تحظيا بشعبية في مرحلة التسعينات. وحاليا يتنقل مارتل من مكان لآخر لترويج روايته “حياة باي” كما سيقوم بانتقاء الرسوم المناسبة لإخراج نسخة مزودة بالصور للرواية.
وظل مارتل صادقا مع ذاته ووفيا لبلاده إذ أنشأ مشروعا تحت عنوان “ماذا يقرأ ستيفن هاربر؟” دعما منه للأدب والفن، ويقوم في هذا المشروع بإرسال كتاب و إرفاق رسالة شخصية به إلى رئيس الوزراء كل أسبوعين، وكان ينشر الرسائل وعنوانين الكتب التي يبعث بها إلى الرئيس في هذا الموقع whatisstephenharperreading.ca).) حيث يطالع القراء نادٍ للكتب ربما يعد من أكثر الأندية تحيزا ومدعاة للحسد.
ثم شرع بعد ذلك في كتابة كتاب جديد. والآن كثر الحديث حول عودة مارتل المرتقبة منذ وقت طويل ليطالعنا براويته الجديدة الرمزية “بياترس وفرجيل”، ولكن مارتل ذاته قالها بصراحة في حواره المنشور بصحيفة “رايترز دايجست” قبيل إصدارها في أبريل: ” لا أجزم إن كانت الرواية ستفي بالتوقعات بعد ما حققته رواية “حياة باي” من النجاح فقد وصلت مبيعاتها إلى سبعة ملاييين نسخة وما زالت تباع، وسيتم تحويلها إلى فلم من إخراج آنغ لي وترجمت على ما يبدو إلى 41 لغة، وهذا النوع من النجاح استثنائي فليس هناك أي مجال للمقارنة.
وتستهل رواية بياترس وفرجيل بشخصية الكاتب “هنري” الذي يناضل من أجل مشروعه القادم بعد أن أحدث كتابه السابق ضجة هائلة كتلك التي أحدثتها رواية “حياة باي”، والنتيجة هي حكاية تناولت المحرقة بأسلوب مارتل الخاص: مستعينا بمحنط الحيوانات، والحمارة، والقرد.
ولك أن تقرأ عن حياة مارتل وشغفه بالكتابة والقراءة، وكيف أن الأدب والفن حياته ومتنفسه.
• لديك خلفية عن الفلسفة، ويبدو أنك تخلق فلسفة كاملة جديدة في قصصك؛ فلسفة تعتم الخطوط الفاصلة بين القصة والقاص.. بين الراوي والمؤلف بل حتى بين الخيال والحقيقة، هل هذا حقا ما تسعى إليه؟
لا، لأن ذلك الفعل يقتضي وعيا بالذات وهو الأمر الذي لست أمتلكه بعد. وكما تعرف، فالأعمال الإبداعية تختلف عن الطهي مثلا حيث يكون لديك مجموعة من المقادير وما عليك إلا أن تتبع الأساليب المعهودة في الإعداد، بخلاف الأعمال الإبداعية التي لا تفرض عليك إتباع الأساليب المعهودة، لذلك عليك أن تبتكر منهجك الخاص وهذا ما يحدث بطريقة عفوية هي أن تبدأ الكتابة ثم بعد ذلك تسير بك الأمور إلى مسار محدد.
ما أفعله عن وعي ومعرفة هو أنني في كل كتاب أتناول قضية من القضايا التي تشغل اهتمامي. فكل كتاب من كتبي يعد سيرة ذاتية فكرية، ففي كتاب “هلنسكي” حاولت استكشاف ما يمكن أن تفعل القصص، وفي رواية “الذات” كنت أستكشف الهوية الجنسية، وفي رواية “حياة باي” حاولت سبر أغوار الدين والإيمان وعلاقتهما بالحقائق، وفي كتاب “بياتريس وفرجيل” كنت أنظر إلى المحرقة نظرة المتأمل، وكل هذه القضايا كانت تشغل تفكيري في مرحلة أو أخرى من مراحل حياتي، وكان الأسلوب المفضل لدي في تناول مثل هذه القضايا هو الخيال– تحويلها إلى قصص، وهذا ما يجعل الأمر ذا معنى ومتعة بالنسبة لي.
• في رواية “حياة باي” ذكرت أنك أردت أن يحار القراء في ما إذا كانت القصة حقيقة أم غير ذلك، ويبدو أنك نحوت المنحى نفسه في كتاب “بياترس وفرجيل”، برأيك لم يمنح ذلك المنحى القصة هذه القوة؟
لأنها تشرك القارئ، فمثلا رواية “حياة باي” تستدعي أن يتساءل القارئ أي القصتين هي الحقيقة: القصة بالحيوانات أم بدون الحيوانات؟ وهنا يأتي دور القارئ في اتخاذ القرار، وهكذا يصبح شريكا في القصة.
أما كتاب “بياترس وفرجيل” فهو ينحو منحى مختلفا من الغموض إذ يستحث القارئ على التفاعل مع “المحرقة” بطريقة مغايرة لتفاعله معها في سياق السرد التاريخي، كنت أريد أن يشعر القراء بهذه المأساة بطريقة جديدة، لأنني لم أر طرحا مختلفا لهذا الحدث، فكل ما سبق طرحه لا يتجاوز السرد الوقائعي والمذكرات والتوثيق التاريخي، ولا يعد ذلك خطأ بطبيعة الحال – فنحن نحتاج إلى معرفة ما حدث فعلا قبل أن نضمه إلى حراكنا المعرفي – ولكن ليس لدينا إلا القليل نسبيا مما كتب عن المحرقة بالأسلوب القصصي الخيالي، وهذا ما يحتم علينا أن نطلق العنان كله للخيال في تصوير “المحرقة” تماما كما كتب عن الحرب، فموضوع “الحرب” مثلا قد حظي بكافة أنواع الكتابة القصصية الخيالية بينما لا تزال الكتابة عن المحرقة تفتقر إلى ذلك ولهذا حاولت أن أتجاوز الحرفية والواقعية في الكتابة عنها.
وأنا أرى أن “بياترس وفرجيل” أقل غموضا من “حياة باي”، ولكني أردت أيضا أن يشعر القارئ بالمفاجأة، تماما كما تفاجأ اليهود في أوروبا بالمحرقة إذ لم يتوقعوها أو كانوا ينكرون حدوثها.
• في رأيك، ما ذا يمكن أن يتعلم الكُتَّاب إبداعيا من خلال إعادة التفكير بالحدود بطريقة مشابهة لما فعلت أنت؟
حسنا، أعتقد أن على كل كاتب أن يفعل ذلك، إلا إذا كان من كتاب قصص الخيال الشعبي، التي تحتم عليه أن يلتزم بالمنهجية الخاصة بهذا النوع من الكتابة، لأن القارئ يتوقع ذلك، وبالنظر إلى نقاط القوة والضعف، فإني أرى أن قصص الخيال الأدبي ليس لها منهجية محددة تستدعي الالتزام بها، ولذلك قد نرى عملا روائيا ضخما مخالفا تماما للتوقعات، وهذا ما يجعل هذه الأعمال صعبة القراءة، لكنها بذلك تكتسب أصالة كبيرة ، لذلك على الكاتب نفسه أن يحدد مكانه في المساحة الممتدة ما بين الخيال الشعبي والخيال الروائي، ولا يمكن فعل ذلك إلا باتباع المنهجية ثم مخالفتها حتى يجد الكاتب المكان المريح له، ولن يرتاح إلا أذا عرف جيدا لم يكتب وماذا يكتب، لذا فعليه أن يتحرك هنا وهنا حتى يجد المكان الملائم له.
• تعتبر رواية حياة باي عملا ضخما وهي أول تجربة تحتم عليك متابعة العمل السابق مع مراعاة التوقعات الخارجية، ما ذا تمثل لك هذه التجربة لك؟
كنت أفكر في قصة “بياترس وفرجيل” قبل أن يتحقق ما تتحقق من النجاح لرواية حياة باي، والآن يبدو لي أن الأخيرة هي العمل الأبرز، ولكنني في طور كتباتها كنت كاتبا فقيرا يعيش في مونتريال، وكان دخلي في السنتين السابقتين لإتمامي كتابة الرواية لا يتجاوز 6000 دولار في العام أي أنني كنت أعيش تحت خط الفقر، وكنت أسكن مع رفقاء، ولا أدخن، ولا أشرب، ولا أمتلك سيارة ولا أحتاج كثيرا من المال. فأمي وأبي يسكنان قريبا من هنا، وأقوم عندهما بغسيل الملابس وتناول الطعام في بعض الأحيان، وهكذا جرت الأمور على نحو مرض تماما وكنت سعيدا جدا.
في هذه الرواية صوّرتُ حديقة الحيوان على الرغم من أن معظم القراء لا يحبون هذه الحدائق باعتبارها سجونا، وكتبت عن الدين الذي يحترم الدين، وعن مفهوم الإيمان الذي يعد في التيار الكندي السائد موضوعا قديما.
إنها في نظري رواية تقليدية بجدارة، وما حققته من نجاح كان معجزة، صحيح أنني أحببته ولكنه لم يكن بمحض جهدي، أنا حقيقة لا أشعر أنني وحدي من صنعت هذا النجاح ولكن من حسن الحظ أن العمل ضرب على وتر حساس عند كثير من الناس، وكان الناشر موفقا في إصداره في الوقت المناسب ثم حالفني الحظ بلجنة تحكيم جائزة البوكر المكونة من خمسة محكمين ومن حسن حظي أيضا أن نالت الرواية استحسانهم من بين الكتب المرشحة، ولو تغير هؤلاء المحكمون الخمسة فلربما فاز كتاب آخر، لذلك أرى أن عامل الحظ كان له دور في هذا النجاح.
وبالتالي لم أشعر بالضغط فالنجاح كان محفوفا بعوامل خارجية تماما؛ باطنيا حياة باي عمل يروي قصة فتى على متن قارب نجاة بصحبة نمر، وهي عن الإيمان وكيفية قراءة الواقع وأن الحياة تأويلات، وكل ما تحقق من نجاح كان شيئا مبهجا لكنه أيضا كان بفضل عوامل خارجية، ولذلك عندما أردت كتابة “بياترس وفرجيل” أغلقت الأبواب أمام كل هذه الضجة، فلكل كتاب عالمه المختلف واحتياجاته التي يفرضها عليك، وفي كل كتاب تسأل نفسك: “هل بإمكاني إنجاز هذا العمل ؟ هل أنا على وعي بما أفعله؟ هل هذا العمل سينجح؟! وإن كنت تعتقد أنه لن ينجح، فكيف يمكن إصلاحه؟ هذه العملية غير مرتبطة بما قبله من الكتب أو ما سيأتي بعده.
أنا من جهة لا أهتم كثيرا لما سيجري لكتاب “بياترس وفرجيل” من حيث المبيعات أو الجوائز، فقد كتبت هذا الكتاب لفهم “المحرقة” ولا أجزم أنه سيفي بالتوقعات بعد ما حققته رواية “حياة باي” من النجاح فقد وصلت مبيعاتها إلى سبعة ملاييين نسخة وما زالت تباع، وسيتم تحويلها إلى فلم من إخراج آنغ لي وترجمت إلى ما يقارب 41 لغة وهذا النوع من النجاح استثنائي فليس هناك أي مجال للمقارنة. صحيح أنني سعيد لاهتمام القراء بكتاب “بياترس وفرجيل” على إثر رواية “حياة باي” ولكن هذا الكتاب مختلف تماما، فإن حظي بإعجاب القراء فسيسرني ذلك وإن كان العكس فسيؤسفني – لكن سأظل على أمل أن ينال العمل القادم إعجابهم وهكذا تستمر الحياة.
• يستهل كتاب “بياتريس وفرجيل” بتصوير إحباط أحد الكتاب من الناشر، تُرى هل من الممكن أن يكون الجانب التجاري من الكتابة سببا في قمع الكاتب كما هو الحال مع شخصية الكاتب “هنري”؟
نعم من الممكن، ولطالما كان الحال كذلك في وجهة نظري، وكأن العالم يُصرّح لك باستمرار أنه لا يريد المزيد من الروايات، أو من القصائد، أو من المسرحيات أو من اللوحات الفنية، وهذا ليس صحيحا فالواقع أنه يحتاج ، بل يحتاج الكثير.
نحن نعيش في عالم رأسمالي رهيب حيث اللهث وراء الربحية والمادية وما أشبه ذلك، وهذا ما يجعل الناس يرغبون في الهروب من هذا العالم، وفي رأيي أن عالم الأدب والفن عالم رائع يحتوي كينونتك، والأدب والفن ليس مهنة يومية كما هو الحال مع المحاسب والطبيب والمحامي وسائق الحافلة، فهؤلاء يستطيعون تغيير المهنة عندما يشعرون بعدم الرغبة في الاستمرار، أما الأدباء والفنانون فلا يستطيعون إذ إن الأدب والفن يحيطهم من كل النواحي وهذا ما يفسر كيف يتضرر أحدهم حين لا يكون أداؤه على ما يرام، ولو قارنا حال الأديب أو الفنان مثلا بطبيب الأسنان لوجدنا أن طبيب الأسنان لا يقلق كثيرا عندما لا يرضى المريض عن أدائه، لأنه يعلم أن مريضا آخر سيأتي في اليوم التالي، أما الكاتب فحين لا يحظى كتابه بمراجعة جيدة فسيواجه بالرفض من جميع النواحي ، وهذا ما يُشعر بالألم حقا، سواء كان الكاتب في بداياته أو في أي مرحلة من المراحل اللاحقة.
وبالتالي فإن الجانب التجاري قد يكون بالتأكيد قاتلا لذات الكاتب، إذ لا يوجد في الواقع ما يفرض عليك أن تشتري كتابا معينا، وعندما يكون هناك تراجع اقتصادي فإن أعمال النشر تتضرر.
والأمر الآخر هو استيلاء الشركات على دور النشر، وخير مثال على ذلك “ألفريد كنوبف” وكانت في الأصل دار نشر تقع في نيويورك، ومؤسسها ألفريد كنوبف الذي لم يكن يجني الكثير من المال، كل ما في الأمر أنه قرأ كتبا ومخطوطات جيدة ثم قام بنشرها، وكانت لديه ذائقة عالية، و اكتسب شهرة كبيرة فيما بعد، ولم يكن يجني الكثير من الأرباح فهو لم يكن إلا ناشرا فقط. ولكن الآن لدينا شركات ضخمة يجني من ورائها ذوو المستويات العليا ثروات معتبرة، ومن يدفع الثمن في ذلك ؟ الكُتّاب هم من يدفع الثمن.
إنها سوق مرهقة، ولكنّ لا يعني ذلك أن يتوقف الكاتب، كل ما عليه أن يجد عملا نظاميا ثم يحاول التوفيق بين ساعات العمل والساعات المخصصة للكتابة، وإن وُفّقَ في ذلك فهذا عظيم، وإن لم يوفق فلا بأس، عليه أن يتصرف كبوذي ويتخلى عن التوقعات.
عندما بدأت الكتابة في بداية العشرينات من عمري بينما كنت على مشارف إنهائي الدراسة الجامعية، كنت فقط أترقب أن تبدأ الحياة؛ أن يشير إلي أصبع قادم من السماء مخترقا الغيوم ويقول: “ستصبح محاميا” أو “ستصبح سائق حافلة” ولكني لم أر هذا الإصبع وحينها بدأت أكتب قصصا قصيرة فقط لأقضي الوقت، وكنت بشكل قسري أراجع تقاويم الجامعة “حسنا سأعود إلى الجامعة” ما ذا سأفعل؟ سأضطر للالتزام بأبجديات المهنة ولكن ليس هذا ما أريده، ولذلك عكفت على كتابة هذه القصص القصيرة حتى تحسن الحال بشكل بطيء.
ولكن لم أتوقع أبدا أن أمتهن الكتابة، وما زلت لا أرى ذلك، فحين يحقق أحد كتبك نجاحا هائلا فهذا أمر مقدر، لكن أن تكون الكتابة مهنة يُخطط لها كما يُخطط لأي مهنة أخرى فهذا ما لا يمكن، والأمر ينطبق على كافة مجالات الأدب الفنون، فالكاتب مضطر إلى أن يكتب خضوعا للرغبة الملحة في داخله، فهو لا يستطيع أن يتنفس دون الكتابة، ولكن من الصعب التنبؤ بالنجاح أو عدمه. صحيح أن النجاح يجعلك أكثر ثقة ويفتح الأبواب أمامك، ولكن هذه الأبواب قد تقفل، وتفتح أبواب أخرى لأشخاص آخرين.
منذ أعوام قلائل، تحدثت علانية عن إصدار (Flip book) تماما مثل ما فعل “هنري” الذي قوبل بالرفض من قبل الناشرين في قصة “بياتريس وفرجيل”، هل هذا المشهد مستقى من تجربتك – هل سبق أن قوبل أحد كتبك بالرفض من قبل المحررين؟
نعم حصل، على أن التفاصيل تختلف قليلا إلا أن النتيجة مماثلة، فقد كتبت مقالا مطولا استغرق مني سنتين في الكتابة لكن الناشرين لم يتقبلوه وتبريرهم جدير بالاعتبار، فهم يرون أن الجمع بين رواية ومقال في كتاب واحد وتحت عنوان واحد – فالمقال يتحدث بمباشرة عن المحرقة، والرواية تتناول تجليات المحرقة – فإن ذلك بالضرورة سيؤثر على تلقي القراء للرواية، والأرجح أنهم سيقرؤونها على ضوء ما كتب في المقال.
وهذا لم يشكل لدي مشكلة ولكنهم بخلاف ذلك يرون أنني بهذه الطريقة أضع الرواية في صندوق، فهل هذا تبرير منطقي؟ لا أعلم. ولكن على أية حال تنازلت عن المقال، ومن الصدفة أن الكتاب جاء على طريقة Flip book من حيث تعاكس الغلافين، وكأنه يشير إلى ما جرى من النقاش بين هنري والناشرين.
وكما أنك في مجال الفنون لا بد أن تؤمن بذاتك وبما تفعل، إلا أن الموازنة مطلوبة، فالفن والأدب نشاط اجتماعي، وفيه تواصل مع القراء أو المشاهدين، أو المستمعين، ولا بد من الاستماع إليهم، ولذلك لا بد من المقاربة: أن تؤمن بذاتك وتحاول مراعاة الجمهور، وهذا ما دفعني للتنازل عن المقال ولكن لا يزال لدي أمل أن أراه في إصدار.
هذا هو سؤالي التالي.
لم يكن الناشرون متحمسين على وجه الخصوص للمقال، فالسوق الاقتصادية تعتبر المواد غير القصصية مواد متخصصة، وأتصور أن مقالا عن المحرقة في نظرهم لا يعد من الأشكال الكتابية التي قد تحقق أعلى المبيعات، وهذا ما صرف نظرهم عن المقال. فالكتب التي تحقق أعلى المبيعات تدر عليهم الكثير من الأرباح إلى جانب الدعاية، أما الكتب المصنفة على أنها “متوسطة” فهي تلك التي تُنحَّى جانبا.
عندما فرغت من هذا الكتاب، كم في تقديرك أمضيت من الوقت في كتابته؟
قضيت وقتا طويلا في التفكير بالطريقة التي يمكن أن أنتهجها في الكتابة عن “المحرقة” من منظور شخص ليس يهوديا، ولا ألمانيا ولا حتى من أوروبا الشرقية، شخص خارج عن هذه الحدود تماما، ولكن المحرقة قد أزعجته بما يكفي للكتابة عنها، وقد أبدع كتاب آخرون في الكتابة، وكنت أتساءل كيف يمكنني أكتب قصة عن المحرقة؟ فالقضية أكبر من أن تختصرها قصة، إن جريمة قتل واحدة قد تكتب عنها ستة ملايين قصة، ولكن كيف لستة ملايين جريمة قتل أن تحتوى في قصة واحدة فقط.
عندما فزت بجائزة البوكر عام 2002، كنت حينها أُدَرِّس فصلا دراسيا في جامعة فري في برلين، وكنت أراها فرصة ممتازة أن أكتب عن المحرقة في برلين، وأي مكان أفضل من برلين وهي قلب الحدث الذي حصلت فيه هذه المأساة البشعة، وكنت أفكر وأخطط أن أجري الكثير من البحوث والكتابات، ثم جاءت جائزة البوكر وما صاحبها من الضجة وتوقفت، ولكني لم أتوقف عن التفكير بها، وربما أقول أنني أمضيت سبع أو ثمان سنوات، على الرغم من أن الرواية ليست طويلة.
أتصور أنك تلقيت – كهنري – عددا كثير من الرسائل الإلكترونية بما فيها رسالة من الرئيس أوباما وقد حظيت بتغطية إعلامية متميزة، هل ترد على رسائل قرائك؟
نعم أرد، ومن الطريف أنني إلى الآن لم أرد على رسالة الرئيس أوباما – لك أن تسميها سذاجة – لكن لا بد أن أرد …أنا أرد على جميع القراء.
ما هو أفضل الرسائل في رأيك؟
جميعها رائعة، فأن يقرأ أحدهم كتابك ثم يكتب إليك، فهذا بحق أمر مدهش والرسائل عموما تختلف عن الكتب التي تحمل عناوين مؤلفيها على الصفحة الأمامية، بخلاف الرسائل التي تتخذ أساليب ملتوية، وتخيل موقف الكُتّاب، ربما يرى بعضهم – كما ذكرت في الرواية – أنه كمن يرمي رسالة في زجاجة في المحيط ثم يأتي من يهتم بهذا العمل ويكلف نفسه الكتابة إلى المؤلف. هذا ما يؤثر في نفسي حقيقة.
لكل كاتب فكرة معينة في ذهنه وحين يترجمها إلى كتاب ثم يأتي هؤلاء الغريبون عنك ويبدون اهتمامهم بالكتاب فهذا مؤثر حقا، لذلك أرى أن أقل ما أفعله هو أن أرد على رسائلهم.
بمناسبة الحديث عن الرسائل، أنت أمضيت الآن ما يقارب ثلاث سنوات في مشروعك “ما ذا يقرأ ستيفن هاربر”، وقد قابلتُ شخصيا بعض الأشخاص الذين اعتبروا عدم رده على رسائلك أمرا محبطا، هل تراه كذلك؟
أنا أراه مفاجئا، فقد أرسلت إليه 76 كتابا، و76 رسالة، ولم أتلق منه ردا واحدا. تلقيت خمسة ردود من موظفيه لكنها كانت ردود عامة جدا وهي موجودة على الموقع، مثل “العزيز مارتل شكرا لهذا الكتاب، نقدر لك هذه الرسالة، شكرا جزيلا للطفك، مع فائق الاحترام” وفي آخر الرسالة اسم الشخص المرسل. وكوني من أصحاب الأدب فأنا متفاجىء بعدم رده، وأظن أنه لم يقرأ كتابا قصصيا منذ انتهائه من المرحلة الثانوية حيث يطلب كجزء من متطلبات المنهج الدراسي، وربما أنه يشعر بشيء من الخجل وشيء من الرغبة والافتقار في هذا الجانب ولكنه لا يريد الاعتراف، لأنه لو كتب إلي ردا صريحا كأن يقول مثلا : ” السيد العزيز مارتل، أنت على حق تماما، أنا لم أقرأ الكثير، وأجدني غير مهتم، ربما لم أوفق في قراءة الكتب الصحيحة، وقد تكون محقا ولكن هذه هي طريقتي، وبصفتي رئيس الوزراء فأنا مشغول جدا، ولكن بعض الكتب التي أرسلتها إلي استوقفتني، وعندما أجد الوقت الملائم فسأحاول قراءتها. هذا كل ما بوسعي فعله، وتقبل تحياتي، ستيفن هاربر” لو تلقيت هذا الرد الصريح منه، لتراجعت تماما عن مشروعي لأنني لو واصلت بعد ذلك فسيقول الناس هذا شخص متعجرف ولسان حالهم يقول : ” أخبرك الرجل أنه مشغول جدا وأعتذر عن القراءة ولكنه سيحاول إن أمكن، ما ذا تريد منه أكثر؟”
لكنه لم يفعل، وكلما طال هذا الصمت، فسيكون الحال أكثر حرجا وأكثر افتضاحا فهناك شاهد عام على ذلك وهو الموقع الإلكتروني، والعبرة أن نسأل الناس ونستمع إلى ما يقولون: هل نريد أن يقود المجتمع رجل أبيض البشرة في منتصف العمر لا يفقه شيئا في الآداب والفنون ؟ إذا كان هذا الحال، فأنا أتساءل من أين يستمد هذا القائد رؤاه القيادية؟
خذ مثلا كتاب ” العين الأكثر زرقة” للكاتبة توني موريسن، وهو أحد الكتب التي بعثت بها إليه. هذا الكتاب لا يرتبط بواقع ستيفن هاربر، ولا بواقعي شخصيا، ولكن إذا لم يقرأ السياسيون أو أصحاب السلطة أبدا هذا النوع من الكتب، فكيف سيصلون إلى مشاعر الآخرين؟ والمشكلة أنه إذا رضي الناس بعدم الحاجة إلى قراءة مثل هذه الكتب، فمعنى ذلك أن حياتهم منغلقة، وأنهم معرضون للأدلجة بشكل أكبر وهذا بالضبط ما ينطبق على ستيفن هاربر.
بعد انقضاء فترة رئاسة هاربر، هل ستستمر في إرسال الكتب إليه ؟
هل تمزح؟ لا قطعا، لا يمكن أن أستمر، فأنا بكل شغف أترقب خسارته في الانتخابات، فقد بذلت جهدا مضنيا، صحيح أنني قضيت وقتا ممتعا إذ اكتشفت كتبا جديدة وأعدت قراءة أخرى، وهذا رائع – لكني متشوق لخسارته لأن ذلك لن يكون لصالح البلد فحسب بل أيضا لصالحي.
يبدو من خلال أفعالك وأيضا من خلال ما تطرحه من القضايا في قصصك أنك حريص جدا على التصدي للامبالاة، هل لك أن تخبرنا ما الذي يدفعك لذلك؟
اللامبالاة سلوك غير لائق في جميع الميادين، ولاسيما في ميدان الأدب والفنون، وربما يُعذَرُ من لا يهتم بمجال العلوم مثلا لأنها علوم غير شخصية لا ترتبط بذاتك، فأنت حين تقود سيارتك لا تهتم أن تعرف كيف تعمل، كل ما يهمك أن تكون آمنة عند القيادة.
أما مجال الأدب والفن فمختلف تماما، إذ هو الأداة الكبيرة للتأمل والتفكر واختبار الحياة، لذلك فهو مرتبط بالذات ارتباطا كليا، بل هو متغلغل فيها، ومن يقل أنه لا يهتم فبالأدب فقد خالف الصواب، إذ إن طريقة ملبسك، ومأكلك، واللغة التي تتحدث بها، كل هذه انبثاقات ثقافية، فإن لم يسبق لك أن قرأت كتابا أو شاهدت مسرحية أو قرأت قصيدة، أو شاهدت فيلما ليس من الأفلام الهوليودية التقليدية الرائجة فهذا حتما يعني أنك لا تقدر التجربة الإنسانية.
ومن ناحية عملية أكثر، فالأدب والفن يجعلك تفكر، وتتمرد، وإذا لم تكن ثائرا، فإنك ستغرق في السائد، وهذا بالنسبة لي ما يجلب الشقاء للمجتمع.
فالأدب والفن ليس فقط للمتعة بل أيضا للانفعال ، فبهما معا يحيا المجتمع، وبصفتي كاتب فأنا أعمل على إحياء ذلك، وأعتقد أن كل كاتب يفعل كما أفعل، فكل كاتب يحاول بطريقة أو بأخرى أن يستنهض الناس قليلا وكأنه يقول: “هل فكرتم في هذا الأمر، هل استوعبتموه ، هل أحسستم به؟
هل ترى أنه من المسؤولية الاجتماعية أن يطرح الكاتب هذه الأسئلة؟
لا أرى ذلك ، فالأمر متروك للكاتب وهو من يقرر لم يفعل ما يفعل، وما يميز الأدب والفن أيضا حرية التصرف، فالكاتب ليس له مدير، صحيح أن هناك ناشرون ولكن مهمتهم تقتصر على إصدار الكتب لا كتابتها، ولهذا فأنت عندما تكتب أو ترسم أو تعزف أو ترقص، فإنك تتمتع بحرية كاملة. إنك تفعل ما تشاء.
وفي ذلك ما يبرر كون الأدب خطيرا إذ تتسع مساحته إلى أقصى درجات الحرية، ولذلك يمكن القول بأن الأدب قد يربك الأنظمة السياسية، فالأديب لا يدين لأي شخص. وهذا ما يمنح الكُتّاب الحرية في النقد، ولكن لا ينبغي إجبارهم، فالإجبار يقيد مساحة الحرية لدى الكاتب، لذلك فهو صاحب القرار فيما يريد أن يكتب.
هل تعمل حاليا على مشروع جديد؟
لدي مشروع الآن كان في الواقع يشغل تفكيري منذ عشرين عاما: رواية تصور ثلاثة من قردة الشمبانزي في البرتغال. وستكون حول دور المعلمين العظماء في حياتنا. لكل منا معلمه إما بالمعنى الحرفي وأقصد بذلك معلمي المدرسة المُلهِمين أو الموجهين كالأبوين أو المرشدين في فترة الشباب؛ ما ذا يحدث لأحدنا حين يُتوفى قائده الروحي؟ أنا مفتون نوعا ما بذلك: ظاهرة رحيل المعلم العظيم. وسأبدأ بحثي هذا الخريف بعد الانتهاء من رحلاتي.
وكم ستستغرق رحلاتك؟
ستستغرق سبعة أسابيع في أمريكا الشمالية.
وهل لك دور فعلي في فيلم “حياة باي”؟ لاحظت تغيير المخرجين عدة مرات
نعم، والمخرج الآن هو آنغ لي ولكنه لم يُعطَ الضوء الأخضر بعد في هوليود، ولكني مؤخرا سمعت أنهم سيبدؤون التصوير في سبتمبر في تايوان، وعلى حد علمي أنه بدأ فعليا. ومشاركتي في الفلم غير رسمية إطلاقا، هم من اقتنى الكتاب ولهم أن يفعلوا ما يشاؤون، ولكنهم كانوا لطفاء جدا ووضعوني في الصورة، وكانت تجربتي معهم إيجابية جدا، وكانوا حريصين جدا “نريد أن نفعل ما بالإمكان لإخراج الفلم في أفضل صورة بناء على الكتاب” وكانوا في الحقيقة أكثر مني حزما ودقة في الإخراج.