‏إظهار الرسائل ذات التسميات كافكا. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كافكا. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 13 نوفمبر 2014

ماذا لو أُحرقت كتب كافكا؟!! / احمد الليثي


ماذا لو أُحرقت كتب كافكا؟!!




ترجمة: أحمد محمد الليثي عن جريدة الجارديان البريطانية فى 14 أكتوبر 2014



يمكننا أن نعتبر أن طبعة "بنجوين" للنشر من المسخ وقصص أخرى تحتوى على الأعمال التى وافق "كافكا" على نشرها خلال حياته, وتتضمن "فى مستوطنة العقاب" و "المحاكمة" وقصص قصيرة اخرى بعنوان "التأمل" و"طبيب القرية .. قصائد نثرية قصيرة لأبى", وبالطبع "المسخ", هذه الأعمال هى التى أراد لها "كافكا" أن ترى النور, لا يمكنك ان تجادل ان هذه الاعمال هى التى شكلت محاولة "كافكا" للخلود.


وفى الحقيقة, فإننا لن نعرف أبداً نوايا "كافكا" الحقيقية, فمن المعروف إنه طلب من صديقه, وكاتب سيرته الذاتية بعد ذلك "ماكس برود" أن يحرق مخطوطاته غير المنشورة, ولكن, وعلى العكس من ذلك, فبرود قد نشر كل هذه الاعمال, فهل كان "برود" يعصى أمنيات صديقه الأخيرة؟, أم أن "كافكا" قد أعطى له هذه المخطوطات لأنه يعلم أن "برود" لن يعمل على حرقهم؟, كما أدعى "برود" أخيراً أن "كافكا" لم يقل أبداً إنه سيحرقهم, وماذا كنا سنفعل لو أن "كافكا" قد قرر إعطاء المخطوطات لشخص أخر, والذى قرر أن يودع هذه المخطوطات النيران, كتب كاملة تمت كتابتها حول هذه الاسئلة, فمن المستحيل أن تقرأ تلك القصص بدون التفكير فى القضايا التى تمس تراث "كافكا" ومكانه فى المستقبل.


-تخيل العالم لو أن "برود" قد نفذ أمنيات صديقه, كنا سنجد تعريف أخر للكفكاوية, أو كما قال "ميتشل هوفمان" فى تقديمه لطبعة "بنجوين", ربما لم نكن سنسمع عن كافكا على الإطلاق.


-"هوفمان" يعتقد إنه لمن المشكوك فيه أن نسمع عن "كافكا" بدون "المحاكمة" و "القلعة" و "أمريكا", وبعد كل شىء, وعلى قدر محاولته التى ذهبت به إلى الخلود, فإن "المسخ" و "فى مستوطنة العقاب" من رواياته الأكثر تأثيراً, ولكنها تظل رائعة عند قرائتها ضمن هذه المجموعة.


-المجموعة الاولى التى جُمعت فى طبعة "بنجوين" والتى نُشرت لأول مرة فى عام 1913 تحت عنوان "التأمل", كان من الممكن أن تسقط من ذاكرة إنتاج كافكا لولا أن الروايات قد أعطت لهذه الطبعة ثقلاً كبيراً.


-بالطبع لو أننا تجاهلنا هذه الاعمال لفقدنا بعض المتعة, خاصة الفقرة الاخيرة غير المتوقعة من المسافر, والتى تأتى بعد وصف إمرأة تُشاهد فى الترام, "تسائلت فى التو كيف أن هذه السيدة لم تُدهش فى نفسها لهذا الموقف, كيف إنها لم تنبس ببنت شفة, وكيف إنها لم تنطق حرفاً واحداً". هذه هى اللحظة التى كنت مفتتناً بها تحت أى ظرف.


-وفى الحقيقة, لم أستطع أن أحدد هل إستمتعت بهذه القصص لما أعرفه عن كافكا أصلا أم لا؟, ولكنها كانت مفاجأة سارة وغير متوقعة أن أجد مؤلف "المحاكمة" يكتب بخفة (برفق) عن رفضه من قبل إمرأة, أو عن قدرته على الإنطلاق فى الهواء مثل رجل هندى أحمر يمتطى حصاناً.


-الطريقة الأخرى لمعرفة كاتب هذه الأعمال ليس فقط أن تعرف كيف تقرأ هذه الأعمال, واحد من أهم وأول الأشياء التى يجب أن تعرفها عن "فرانز كافكا" إنك لا يجب أن تأخذ أعماله على وجهها الظاهر, وهو بالتأكيد جيد وحسن, ولكن ما يجب عليك فعله هو إنك يجب أن تقرأ هذه الأعمال منفردة من خلال تراثه الكبير


-من المستحيل – أيضاً- أن تقرأ أعمال "كافكا" بمعزل عن المستقبل, تخيل كيف إنك لن تقرأ أعمال مثل "المسخ" و "فى مستوطنة العقاب" التى نُشرت عامى 1913 و 1914 قبل الحرب العالمية الاولى, ناهيك عن الثانية.


-على الأقل عند قراءتى لهذين العملين الكلاسيكيين, كان لدى قلق بسيط على أحكامى الجزئية, فلم أر العلامات التى تُبشر بعظمة المستقبل, وأيضاً لم أر الإشارات المظلمة الاتية, والأسئلة التى تثيرها الصور المختلفة.


-وإذا وجدنا لدينا القدرة لنضع سؤال الجودة جانباً, تبقى حقيقة إنك لا يجب أن تقرأ أى عمل من أعمال "كافكا" بمعزل عن تراثه الكبير, فنحن نقرأ (الاسطورة) فى كل صفحة من صفحات قصصه, ويمكننا أن نأخذ مقتبسات من كلام "جون آبدايك" فى ذلك الشأن: لقد تعززت شهرة "كافكا" بشكل كبير بسبب ما يبدو إنها نبؤاته, ففى أعمال خاصة وشاذة عن أنظمة فاشية تضاهى أنظمة "هتلر" و "ستالين", وما حملوا به الاخرين من الذنب, المحاكمات الهزلية, جنون العظمة المؤسسى, كل ذلك كان خارج خبراته, فالسلطة الأبوية والبيروقراطية المنحطة التى وضع تصور عنها ككوابيس قد أثبتتها نبؤاته الروائية.


-هل بإمكان أى شخص اليوم أن يقرأ عن الة القتل العلمية فى "فى مستوطنة العقاب", أو العدالة التعسفية فى لباسها المميز وهى تطهر الناس من الاثام بلغة رسمية, دون أن يرى كوابيس البيروقراطية فى القرن العشرين, هل بإمكان أى شخص اليوم أن يقرأ عن إكتشاف "جريجور سامسا" المفاجىء بإنه منبوذ, أو بإنه حشرة مُحظر لمسها, دون أن يفكر على الفور بما فعلوه النازيين باليهود, اليهود الذى كان "كافكا" العظيم واحد منهم؟


-هناك قراءات سخيفة تقول بأن هتلر لم يكن قد بلغ درجة "عريف" عندما كان كافكا يكتب, ولكن هناك مساحات كبيرة من أعمال أخرى لكافكا تظهر كيف كان عميقاً وغارقاً فى الاحداث الجارية, كيف إنه كان شخص يرى المد يتدفق, ويرى بعض التحولات التى تقشعر لها الابدان.


-فعلى سبيل المثال, عندما تقرأ خطاباً أرسله "كافكا" لأخته محاولاً فيه حثها على إرسال إبنها الأكبر لمدرسة داخلية تنقذه من العقلية السامة ليهود براغ الاثرياء, وكيف إنها لن تستطيع ابعاده عن هؤلاء الأطفال, هذه العقلية التافهة, القذرة والخبيثة.


-على الاقل انها تبدو قارسة الان, ومن الممكن أيضاً أن هذا الإدراك المتأخر قد تسبب لى فى أن أرى النمطية عندما لم تكن هناك, إنه شىء لا قيمة له عندما تقرأ "المسخ" على إنها قصة عن العرق أو كراهية الذات, أو –لنكون أكثر دقة- عندنا تدرك إنك محتقراً من قبل كل من حولك, إنها واحدة فقط من تفسيراتها التى لا تُعد ولا تُحصى, إنها أيضاً عن العلاقات العائلية, عن قيمة أرباب العمل وإنتاجية العمال, عن التبعية ومحاولة خلق مكان فى العالم, عن تصورات أخرى للواقع.


-ويمكنها أيضاً أن تكون قصة طريفة عن رجل إستيقظ من النوم فى يوم من الأيام ليجد نفسه حشرة, أو كإدعاء "كينغسلى أميز" الشهير إنه وصف لدوار من أثار الخمر.


-النقطة الأوسع التى ستبقى من أعمال "كافكا" جزء لا يتجزأ من ما سيأتى لاحقاً, ولعله هنا تجدر الإشارة إلى أن "كافكا" نفسه لم يكن يرى أى مشكلة فى أن يكون الفن قناة للمستقبل, "جوستاف جانوش" شخص يعرف "كافكا" معرفة شخصية, يقول, "كافكا" كان يقول عن "بيكاسو" انه يسجل - بكل بساطة – التشوهات التى لم تعلق بإدراكنا بعد, الفن هو المراة التى تقود الطريق بإنتظام كالساعة, لبعض الوقت.


الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

حشرة كافكا

حشرة كافكا








“حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحوّل في فراشه إلى حشرة ضخمة.”- هكذا كتب كافكا الجملة الأولى من روايته الرائعة والمريعة “التحوّل” أو بتعبير أدق “المسخ”: إذ ما يمكن أن يعني أن يتحوّل جسم من صورة بشر إلى صورة حشرة؟ - ما يرعب القلب، لأنّ نصّ كافكا مرعب حقّا، هو أنّ الحشرة هي النسب الحيواني الأقدم لكل دابة على الأرض. إذا جرّدنا البشريّ من كلّ ادّعاءات الإنسان حول نفسه، لن يتبقى سوى الدابة، الجسم /الحيوان الذي يدبّ على الأرض. لكنّ ما قصده كافكا كان أسوأ من ذلك: إنّ الدابة التي تمشي تحت تصوّر الإنسان حول نفسه هي أيضا “ذاته” بنفس القدر، بهذا المعنى هو حشرة ضخمة. – الإنسان هو حشرة ضخمة تفكّر. ولكن إلى أيّ مدى يمكننا أن ننتمي إلى كوجيطو الحشرات الذي ينام تحت أجسامنا المتعبة بثقل النوع البشري؟ وبأيّ معنى يجدر بنا أن نؤوّل هذا التحوّل “الحشري” للجسم البشري فجأة؟ 
لنتخيّل أنّ شعبا أو مجموعة من الشعوب قد أصابها عين “التحوّل” أو “المسخ” الذي حكاه كافكا عن أحد شخوصه الروائية، كيف يكون علينا أن نواصل قراءة أنفسنا؟ - شعب يستفيق صباحا ما كي يجد نفسه وقد تحوّل في فراشه القومي إلى حشرة ضخمة. كيف يكون عليه أن يعي بنفسه؟ أن يفكّر؟
ولكن هل ثمّة صلة ضرورية بين الجسم البشري والتفكير؟ 

ما حاوله كافكا هو الفصل بين شكل الجسم البشري وقدرتنا البشرية على التفكير. يمكننا أن نواصل هويتنا في جسم حشرة ( !) – حشرة ضخمة، ذات “بطن شبيه بالقبة”، و“أرجل عديدة ونحيفة”. لكنّ من له أرجل عديدة وهزيلة، هو لا يمشي. بل يزحف. نحن ننظر إلى ما نضع في بطوننا وكأنه نحن. وننظر إلى أرجلنا وكأنّها يمكن دائما أن تحملنا إلى أيّ مكان. ولكن ماذا لو أنّ البطن هو مساحة خارجنا، وأنّ هذه الأرجل لا تقوى على حملنا، لأنّها عديدة أكثر من اللازم، أو نحيفة على نحو لا يُحتمل. 
لكنّ كافكا ما فتئ يؤكّد لنا: “لم يكن ذلك حلما”. إذ يحرص البشر على إبقاء إدراك الفرق بين النوم واليقظة واضحا. من لم يعد يفرّق بين النوم واليقظة ليس إنسانا. هل الإنسانية مجرّد خطّ فاصل عن النوم؟ هل هي مجرد حالة يقظة بلا أيّ ضمانات أخرى؟ ولكن ماذا لو أنّ ما ندركه هو ليس نحن. نحن مجرد حالة عابرة بين عالمين لا ننتمي إلى أيّ واحد منهما. ومن ثمّ أنّ إدراكنا بأنّ ما نعيشه “ليس حلما” هو حقيقة بلا جدوى. ولا تساعدنا في شيء على تعريف أنفسنا. 
لذلك يضيف كافكا أنّ غرفة بطله غريغور هي “غرفة بشرية” وتقع تماما داخل الجدران الأربعة المألوفة. – نحن نستمدّ بشريتنا، أو ما نسميه كذلك، دوما، من الطابع البشري للأمكنة التي نسكنها: نحن ضروب من المكان، إذن، والبشرية في جزء عميق منها، مجرد قدرة على ارتياد الأمكنة، أمكنة مخصوصة، أو ضرب من فنّ المكان. وحيثما ينام بشريّ، فهو في “غرفة”. إنّ العالم بهذا المعنى هو غرفة “بشرية”. وهو ليس غرفة عملاقة إلاّ بفضلنا، نحن بني ساكن ابن ساكن. لكنّ الغرف تقع دوما “داخل” الجدران وليس خارجها. وما لا جدران له ليس غرفة بشرية. إنّ معنى السكن البشري هو الداخل. – هذا الداخل هو الذي تهدّم أو امّحى عندما أفاق غريغور سامسا ووجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة، وإن كانت ضخمة: فالحشرة هي الخارج بإطلاق. الحشرة هي الكائن الذي لا داخل له. والحيوان الذي لا ينام داخل أربعة جدران. ومن ثمّ فإنّ بطل كافكا قد أخذ يستفيق على حقيقة مرعبة: أنّ جسده البشري قد تحوّل إلى جسم حشريّ غريب عنه: إنّه الخارج الذي عليه منذ الآن أن يسكنه بواسطة داخل لا وجود له. 
حين ندخل إلى ذات أنفسنا، للقاء معها، ما يبقى خارجنا هو الحيوان: جملة أعضاء الدابة التي تمشي تحتنا دون أن تكون نحن. فحين ننام نحن نترك أجسادنا خارجنا. ولا نحمل معنا شيئا إلى الداخل، غير ذواتنا. 
ولكن، حيثما يسكن المرء أو ينام، يتحوّل المكان، أيّ مكان، إلى غرفة: مساحة مألوفة، حيث تبيت أدوات العمل وصورة سيدة تنظر إليه، ونافذة تفصل عن الآخرين، وشيء ما يحدث في الخارج، مطرٌ ما “يوقّع في نفسه كآبة ما”. – لكنّ الجديد هو أنّ عالم الحشرة غير قابل للسكن: لا يمكن العودة إلى النوم كحشرة بعد أن أفاق كبشر. وهو لا يستطيع أن “ينام على جنبه الأيمن” لأنّ الحشرة لا تستدير. الحشرة لا يمين لها. ولا تدور حول نفسها، كي تسكن نفسها بشكل أكثر راحة. إنّ شكل وجودها الذي فرضته على ذات غريغور هو الظهر. الحشرة ظهرٌ كلّها، وهي ترى العالم بشكل ظهريّ. ومن ثمّ أنّ كلّ معنى لنفسها هو عمودي، ولا يقبل التفاوض، مع البشر وعاداتهم. وعندما يشعر الإنسان بحدود الحيوان في جسمه، لن يبقى له سوى أن يغمض عينيه عن مساحة الإنسان فيه: نحن نسكن أجسامنا في حدود حيوانيتنا. وكل تمرد على حدود الحيوان سوف يلقي بنا في منطقة الألم حيث تتساوى الحيوانات: الألم إذن هو أوّل مغامراتنا البشرية. ويبدو أنّ الألم هو أوّل تعبير عن “خروج” الإنسان من عالم الحيوان. 
لقد وضعنا كافكا أمام استحالة الإنسان، كونه رهين البقاء في حدود شكله الحيواني. إذ كيف يمكن لمن يسكن جسم حشرة أن يكابد كل عناء الحياة اليومية للمواطن الحديث: “اللحاق بالقطار” المزدحم وتحمّل “وجبات الطعام الرديئة” واستساغة “الاتصالات الإنسانية المتبادلة”، تلك التي “لا تصبح ودية قط”، وقبول “النهوض الباكر من الفراش” البشري. يقول كافكا :“هذا النهوض الباكر من الفراش يجعل المرء أبله تماما”. تبدو الحياة اليومية للجسم البشري تمرينا أبله على الانتماء إلى إنسانية لا تحبّه قط. كل ما هو يومي هو تبادل لما لا يمكن الاحتفاظ به: دَين الإنسانية.
لا ينهض الناس إلاّ من أجل تسديد ديون ما. ولذلك هم عليهم أن يسكتوا الوقت اللازم لذلك. ففي صلب كل الضجيج الذي يصمّ آذان الحياة اليومية للفرد الحديث يقبع ويختفي سكوت ما: سكون الدَين. لذلك يصاحب العمل في المؤسسة الحديثة سكوت ما، انتظار يطول أو يقصر حسب القدرة على تسديد دَين ما. وبطل كافكا عليه أن يؤجّل كل صراحة أو شجاعة مع رئيس عمله ليس لأنّه “ثقيل السمع” بل لأنّه قبل أن يصبح شجاعا عليه أن يسدّد ديونا متخلدة في ذمّته، دون أن تكون ديونه قط. – نحن نأتي دوما إلى أنفسنا متأخّرين، ودوما تنتظرنا ديونٌ ما، لم نقترضها أبدا. إنّه ديون “الوالدين”. 
كل علاقة بالأب أو بالأم هي علاقة دَين ما، سابق على أنفسنا وعلى شكل أنفسنا الخاصة. لكنّ نجاحنا في أيّ عمل يقتضي أن نسدّد دَينا أصليا من نوع ما. إنّ وجودنا نفسه دَين ما. وعلينا أن نسدّده بماذا؟ - بالنجاح. ذلك النجاح الذي لا نقصده، لكنّه دَين علينا تسديده. – لا يعني ذلك أن نحبّ الوالدين، بل يعني أن الحياة نفسها دَين علينا أن نسدّده للوالدين بطريقة لائقة. ليس نجاحنا ترفا خاصا، بل دَين ما. وأثقل أنواع الديون هو ذاك الذي يكون دَينا أصليا، مع أننا لم نقترفه قط. إنّ دَين الوجود في العالم.
لذلك لا يبدأ اليوم البشري فعلا إلاّ حين نستفيق على وقع دَين ما، لسنا مخيرين أبدا في تسديده. ولذلك نحن ننهض كل يوم. الحياة كنوع من الدَين.
ولكن من بإمكانه مساعدة الحشرة في الإنسان على النهوض؟ - شعر غريغور أنّ عمله كحشرة أكثر إزعاجا من العمل البشري. لكن الذهاب إلى العمل البشري في جسم حشرة يتطلب قبلُ أن يوجد من يساعد الحشرة على الوقوف. الأم؟ الأب؟ الأخت؟ - توجد العائلة دوما على حدود الحيوان فينا، كي نلتحق بعالم الإنسان. العائلة مركز حراسة حدودي يؤمّن التحاقنا بالحياة اليومية في الوقت المناسب. 
لكنّ ما يزعج الحشرة ليس الوقت اليومي بل الوقوف بالشكل المناسب: إذ يبدو أنّ الالتحاق بالمكان، بشكل المكان، هو أكثر صعوبة من الالتحاق بالحياة اليومية. – الالتحاق بالمكان هو موقف خطير يتطلب استعمالا مناسبا للجسد. لكن جسد الحشرة الملقى على ظهره لا يصلح للنهوض. إنه يبدو بمعنى ما كحيوان ممنوع من الحياة اليومية. وكافكا يزيد في إزعاج المشهد: حشرة ملقى على ظهرها لا يمكنها أن تتحرك من السرير في غرفة مقفلة الباب من الداخل، لكنها في المقابل لا يمكنها أن تطلب المساعدة، مخافة أن يكتشف بقية أعضاء العائلة البشرية أنّ أحدهم قد تحوّل إلى حشرة. وأنّ المسخ قد سرق شكل الإنسان فيه، ولم يعد شريكا في الإنسانية ولا طرفا تربطنا به لغة ما. 
قال كافكا: “ورغم كل الضيق، لم يستطيع- عند هذه الفكرة- أن يكبت ابتسامة”. – هل تبتسم الحشرات؟ إنّ المضحك هنا ليس حيوانيا. إنّه شعور غريغور، البطل الممسوخ، بالمفارقة التي تفصل الإنسان عن عائلته الإنسانية: لا يمكنه أن يطلب المساعدة من عين لن ترى فيه غير الحشرة. القبح حاجز كاف للخروج من عالم الإنسان. بيد أنّه أيضا يكمن الرعب: كل الضحك البشري يقبع على حدود الحيوان. نحن لا نضحك لأنّنا بشر، فقط. ونحن مثيرون للضحك بقدر ما يتصدّع الغلاف البشري حول حيوانيتنا. 


مقتبس عن موقع الاوان . فتحي المسكيني .