ما بين حسابات التاريخ ومستحقات السياسة مسافات من تصادم المصالح واعادة صياغة الأحداث وفي كل هذا يظل مشهد التاريخ اعترافاً لا تظهر ملامحه الا عبر فترات من الازمنة.
في هذا الاتجاه من تاريخ الجزيرة العربية في العصر الحديث تأتي كتابات المستشرق البريطاني وضابط المخابرات هاري سانت جون فيلبي والذي عرف باسم ( عبدالله فيلبي) لتعزز صلة التاريخ مع السياسة والجغرافيا ومراحل إعادة إنتاج السلطة من موقع الأحداث.
نستعيد قراءة مؤلفات فيلبي في الراهن وغيرها من الوثائق التي ظهرت مؤخراً ليست عند حدود الفترة وصناعها بل للتواصل مع سياسة وتاريخ كانت أرضه رمالاً متحركة ثم أصبحت صخوراً صلبة ولا يستبعد أن تتحول إلى براكين متفجرة في القادم.
في تلك الحقبة من تاريخ جزيرة العرب سعت السياسة إلى تجاوز حدود الجغرافيا حتى تعيد صياغة التاريخ ولم تكن العقلية البريطانية بعيدة عن هذا المربع بل هي من ارسى دعائم وحدد اتجاهات وتعامل مع المواقف تذكر وثيقة رقم A21 تاريخ 26 أغسطس 1936م ملخص المخابرات السياسية عدن رقم 500 التالي:
( افاد الضابط السياسي الثاني من يثبوم بأنه قد أحيط بأن الحاج عبدالله فيلبي الرحالة المقيم بجدة قد وصل إلى شبوة بمحمية عدن عبر نجران واتجه من هناك إلى شيبان في حضرموت.
وقيل انه ينوي التوجه إلى المكلا وحجار في محمية العوالق العليا . أضاف أن فيلبي في رفقة مجموعة من السعوديين وقيل أنهم يحملون بندقيتين اليتين إلى جانب أشياء أخرى . قيل أيضاً أن عناصر من مرافقيه أعلنوا أنهم علي استعداد لمحاربة أي أناس يريدون الحرب.
وإذا كان لمعلومات الضابط السياسي الثاني أن تكون دقيقة فان دخول فيلبي للمحمية وبصفة خاصة تحركاته المستقبلية واضعين في الاعتبار أوضاع مرافقيه من المحتمل أن يسبب قدراً من الإرباك لهذه الإدارة التي لم يكن لها علم مسبق بهذا الاستهداف الذي يتضمن فعلاً أحمق وجافاً تم تبادل الاتصالات البرقية حول هذا الموضوع مع وزير الدولة للمستعمرات في حكومة جلالة الملك).
عندما نعود لقراءة تاريخ هذه الشخصية الهامة في أحداث جزيرة العرب في القرن الماضي تقول لنا سيرته : هاري سانت بريد جر فيلبي ولد في 3 ابريل 1885م في سريلانكا من اب وأم انجليزيين مستعرب مستكشف كاتب وضابط مخابرات بمكتب المستعمرات البريطاني تلقى تعليمه في أرقى الكليات البريطانية مثل ويستمنستر البريطاني والتالوت المقدس في كمبرج متخصصاً باللغات الشرقية الهندية والاوردية والبنجابية والفارسية والعربية مما جعله مؤهلاً ليكون ضمن الجيش البريطاني المحتل للعراق عام 1915م في البصرة .
انسحب العثمانيون من البصرة واخذوا معهم كل السجلات الحكومية وما يتعلق بالتنظيم الإداري للبصرة فأصبحت الحاجة ماسة إلى إعادة بناء التنظيم الإداري في المنطقة وكان فيلبي من بين الذين اختيروا للقيام بتلك المهمة ومنها تحرير جريدة الأوقات البصرية ( بصرة تايمز ) التي اصدرتها سلطة الاحتلال وقد استلمها من ميجر صون الذي اشتهر بعدها كحاكم سياسي في السليمانية وسلمها إلى لوريمر صاحب موسوعة دليل الخليج.
كانت السلطات البريطانية قلقة من المنافسة بين شريف مكة الحسين بن علي وحاكم نجد عبدالعزيز ال سعود وحاولت قدر الإمكان منع تلك الخلافات من أن تبدد الجهد في حرب الاتراك فأرسلت فيلبي إلى نجد لمعرفة الوضع السياسي هناك وكانت هذه أول صلة له بعبد العزيز آل سعود واستمر بقاؤه في الجزيرة العربية فترة وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استدعي إلى بغداد وانغمس في الخلافات الدائرة حول تقرير مصير الحكومة العراقية من خلال وظيفته التي كانت مستشار وزارة الداخلية.
وقد أشيع ان فيلبي كان يروج لفكرة تأسيس جمهورية في العراق أيام استشارته وكان يكره أسرة الشريف حسين ولهذا شجع وزير الداخلية السيد طالب النقيب على إرباك الوضع وخصوصاً أن المرشح للعراق هو الأمير فيصل بن الحسين لذلك اضطر المندوب السامي السير برسي كوكس إلى إبعاده عن العراق.
ترك فيلبي مؤلفات عديدة وهي مهمة لتاريخ تلك المرحلة وأخيراً توفي 30 تشرين الثاني عام 1960م بعد حياة حافلة وصاخبة مثيرة.
أما وثائق المخابرات البريطانية ماذا تقول عن هذا الرجل الذي رسم ملامح لحقبة جديدة من تاريخ جزيرة العرب يقول الصحفي حسن ساتي: ( رجل يستقيل من الخدمة المدنية الهندية ليدخل المنطقة العربية ثم يعتنق الإسلام ويصبح مقرباً من الملك عبدالعزيز ال سعود وتدور به الدوائر ليقول له الملك “ أنت كذاب “ ورجل يجادل حكومته البريطانية بان الملك عبدالعزيز ال سعود هو الوحيد القادر على توحيد السعودية خلافاً لترشيحات لورانس العرب فيقول له اللورد كيرزون عضو مجلس الحرب “ أنت مجنون يا فيلبي” .
رجل يسوح بهويته البريطانية في محمية عدن فيثير غضب ملك اليمن ويضطر إلى مراسلة الملك عبدالعزيز ال سعود في شأنه.
وفيلبي كاتب كاتب بارع وهو الوحيد الذي عبر السعودية من البحر الى البحر عام 1917م دون ان يحس به احد فألف كتابة قلب السعودية مثلما اوحى له التجوال في عدن وحضرموت بتأليف كتاب آخر اسماه اخوات سبأ.
وفيلبي سياسي قاد في مراسلات حية وساخنة من منزله في جدة لتغيير مواقف حكومة العمال من فكرة توحي بتقسيم السعودية واحتضان معارضين للملك عبدالعزيز ومع ذلك قبض في النهاية ، وبسبب مواقفه من الحرب العالمية ، الثمن اتهامات تصفه بالانهزامية ،وعدم الولاء ليتم التجسس عليه وعلى حركته واعتقاله.
من خلال هذه المعلومات ندرك أن فيلبي لم يكن حالة من النفوذ البريطاني مرت على الرمال العربية بل هو مشروع سياسي تحرك عبر فترات كان لكل واحدة منها حساباتها حسب مقاييس العمل نفسه.
وتدل مؤلفاته التي أصبحت في الراهن من الموسوعات الهامة في معرفة أحوال جزيرة العرب في تلك الأزمنة على ان العمل السياسي لا يجانب الشكل النظري بل يعد الذهاب الى موقع الحدث والتعامل معه احد مقومات الاجتهاد في دائرة صراع المصالح في قيادة هذا العمل.
لقد أدركت هذه العقلية أن الجغرافيا هي بداية المعرفة فمن المستحيل وضع التصور السياسي خارج نطاق حدود المكان، فكان التنقل لا يعني الوصول إلى عند حد معين بل الاتساع في مد نفوذ المشروع السياسي وفرضه كتاريخ جديد ترسم ملامحه في هذه المواقع.
فالسياسة البريطانية في جزيرة العرب لم تكن حالة كشف عن مواقع بقدر ماكانت إعادة صياغة هذه الأماكن حسب الطلب السياسي البريطاني، وعمل في هذا المستوى من المواجهة والتحدي لا تقيمه غير عقليات ادركت على أي مساحة من المعرفة والوعي تقف عليها، فليس من السهل إقامة برلمان في خيمة بدوي، من الإسرع تحويل التجمعات القبلية المتفرقة عند كل بئر نفط الى دويلات.
وعند هذا المستوى من حرارة الرمال العربية كان فيلبي يبحث عن أماكن لم تعرف آلية رسم المنافذ السياسية فهذا المد الواسع المتسع من جزيرة العرب ظل لا يعرف شكل التقاطع السياسي إلا عندما وصلت العقلية البريطانية إلى هنا، من أمواج الشواطئ حتى نجود الصحراء وقمم جبالها ومراعي بدوها، كل هذا هو الطبيعة وجغرافية المكان، فكان لابد من معرفة الهوية حتى يتجاوز المشروع القادم مع العقل والنفسية.
عام 1936م يكتب فيلبي عن إحدى رحلاته في جزيرة العرب قائلاً: (وصلنا إلى ما يسمى الحصينية بعد رحلتنا الشاقة وهي التي تبعد حوالي 8 أميال عن معبد الشمس و33 ميلاً عن وادي حما، وكان في استقبالي هناك محمد ابن إبراهيم النشمي الذي يبلغ من العمر حوالي 15 سنة والمكلف من قبل الحاكم لجمع الضرائب، وعند الغداء من ذلك اليوم العاصف جاءني يحيى ابن نصيب لأخذ رسالة مني كان قد بعثها معي أخوه حسين المتواجد في مدينة أبها، كذلك اقبل علي الكثير من البدو الموجودين قرب الحصينية ظناً منهم إنني سوف أقوم بتوزيع هدايا أو أموال.
نمت حوالي اربع ساعات ذلك العصر قبل أن اذهب أنا واحد جماعة أبو ساق اسمه حسن بن حسين لابحث عن كعبة نجران التي طلبت منه الوقوف عليها لأخذ صورة له هناك عندما وجدناها ولكنه رفض خوفاً من الجن هكذا قال لي.
وفي اليوم التالي ونحن في اتجاهنا إلى نجران قابلت الكثير من بدو آل هندي وآل فاطمة حيث كان كرمهم لي بشرب حليب النياق واتجهت انا ومن معي إلى نقطة تسمى عويرة مروراً بشعتة تقريباً 5 أميال وشاهدت قبوراً ضخمة في الأحجام استغربت كثيراً من أشكالها المميزة وفي طريقنا إلى بلاد آل منجم ونحن في محيط قصور زبيد الشاهقة قابلنا احد العسكر الحكوميين اسمه أسامة بن عبدالرحمن اخبرني أن قصر ابن سعود.
يوجد فيه حوالي 100 رجل عسكري و 100 رجل من رجال الدولة وهناك ستة مجموعات أخرى من العسكر موزعين بين آل منجم ((زبيد)) ورجلا والأخدود ونهوقة والموفجة وشعب بران وإلحضن.
وعند بوابة قصر ابن سعود قابلني المسمى سالم احد الحراس الذي أوصلني إلى إبراهيم النشمي الذي رجب بي كثيراً وهو من بلاد القصيم كان قايدا في حصار المدينة من قبل جيش الإخوان عام 1925 قبل أن يأتي إلى نجران.
قابلت سالم ابن منيف الابن الأكبر للسلطان الذين سوف أتحدث عنهم لاحقاً وعن ضيافتهم.
قررت في هذا اليوم زيادة ابن ثامر وقصره وبلاد الأخدود حيث مررنا بما يسمى بئر سلطانة ونحن في اتجاهنا، إنها آثار تاريخية عجيبة وفي صباح اليوم التالي وصلني في مخيمي سلطان ابن منيف ومعه ذلك الطفل حمد وتعذينا معاً وكان سلطان كبيراً في السن وهو شيخ لقبيلة جشم له من الأبناء ثلاثة سالم وهو الكبير وحسن الذي كان مسافراً إلى الرياض لزيارة الملك ابن سعود.
لاأنسى ذلك المساء عندما اقبل علي احد اليهود اسمه يوسف حاملاً معه حجرين قديمين على الأول كتابات حميرية والآخر كتابات عربية والذي جلس معي إلى آخر الليل يسمع راديو القدس ولاحقاً سوف اكتب عنه وعن عائلته ووجودهم في نجران .
حاج في الجزيرة العربية، مغامرات النفط العربي، الربع الخالي، بنات سبأ، أيام عربية، العربية السعودية، قلب الجزيرة العربية، نجود الجزيرة العربية، الذكرى الذهبية للمملكة العربية السعودية، أربعون عاماً في البرية، ارض مدين، جزيرة العرب الوهابية. وغير هذه من المؤلفات والتقارير السياسية ورسوم للخرائط وصور ومراسلات نعبر من خلالها نحو عمق العلاقة بين التاريخ والسياسة وكيف يصبح كل هذا ثقافة فكرية تمهد للأفكار والعقل عند بناء المشاريع الكبرى التي تحدد مصائر الشعوب وإعادة صياغة الوطن ـ الجغرافيا.
إن شخصية هاري سانت جون فيلبي (عبدالله فيلبي) أصبحت من حيث المكانة المهمة التي يقف أمامها الباحث في تاريخ المملكة العربية السعودية وجزيرة العرب، كما لا يمكن في التاريخ تجاوز الأحداث، كذلك لا يمكن إسقاط دور الرجال الذين شاركوا في صناعتها، ثمة تساؤلات كثيرة في هذا الجانب، ومنها لماذا جاء إلى حضرموت عام 1936 ؟؟
تذكر الوثيقة رقم 28 A ـ تاريخ 28 ـ أكتوبر عام 1936م التالي: (أفادت تقارير بأن احمد ناصر وبصحبة شخص آخر ذهبوا إلى شبوة وظهروا أمام المسترفيلبي والمسؤول السعودي القائم بمهمة مرافقته وأخذا اللجوء ورافقا هما عائدين إلى الحجاز.
ووفق التقارير الواردة إلى الممثل المقيم بالإنابة، من فخامة سلطان لحج فأن هناك انطباعاً عاماً في المحمية بأن فيلبي والمرافقين السعوديين المسلحين في رفقته اتجهوا إلى شبوة، فيما ذهب فيلبي إلى حضرموت، بإذن من حكومة جلالة الملك البريطانية. وقد صدرت إشارة في جريدة المحمية الرسمية (جازيت) بنفي ذلك مؤكدة أن حكومة جلالة الملك لا تقر بأية حال التقارير الصادرة عن الرؤساء المحليين هنا.
أفاد الكاتب السياسي للحديدة بأن سيد يحيى الحجي أمير الزيدية اخبره بأن فيلبي وبرفقة فرقة من 25 سعودياً قد زاروا حضرموت وتبعه عبدالله بن سليمان الذي قيل إنه وزير المالية السعودي.
قال سيد يحيى أن فيلبي قدم هدايا وأموالاً إلى رؤساء القبائل بحضرموت، وإنه (أي سيد يحيى) اعتقد أن هذه مؤشرات تفيد بأن الحكومة البريطانية مع تسليم (وطن يحيى) اعتقد أن هذه مؤشرات تفيد بأن الحكومة البريطانية مع تسليم (وطن يحيى).
وحضرموت إلى الملك ابن سعود . وفي هذا، أضاف سيد يحيى، ضرر بمصالح ملك اليمن).
تلك حقبة من تاريخ جزيرة العرب مازالت صفحات قراءتها تعطي الباحث رؤية لما هو قادم، فالماضي لا تقف توابع هزاته عند حدود مرحلته، فهي عروق امتداداً تحت رمال الصحراء، قد تنام بفقرات من الزمن ولكنها لا تفقد قوة اندفاعها نحو السطح من جديد، وفي هذا يظل اسم فيلبي جزءاً من تاريخ تكتبه عقلية الغرب.