مقال لروبرت مكروم
ترجمة أمير زكى
مايو 2011
***
عندما أعلن فيليب روث قبوله جائزة البوكر العالمية التى تقدم كل سنتين، محتفية بستين عاما من الكتابة الروائية، من (الوداع يا كولومبوس) وحتى (نيميسيس)، كان يجلس على كرسى خشبى فى مكتب ملحق باستراحته بكونيتيكت. يبدو أقرب إلى قس متقاعد أو قاض أو كشيخ الأدب الأمريكى الكبير، وهو يتجه نحو التاسعة والستين. أداؤه أمام الكاميرا كان مثاليا؛ مقتضب ومهذب ولكنه لطيف. مختلطا بالسخرية من مترجميه حول العالم، هذا الفريق الذى عانى طويلا فى وحدة روث الوقائية، تلك الوحدة المثيرة للسخرية رغم عظمتها.
مرة أخرى، هذا الرجل المنعزل المأخوذ بقصة شخصية لا تنتهى يُلقى عليه ضوء الشهرة الأدبية، يضيف بعد أن يتكلم لأقل من دقيقة: "هذا شرف كبير وأنا سعيد بقبوله". الكاميرا ظلت تعمل ووجهه يوحى بأنه لا يأخذ الأمر بجدية، فتند منه حركة صغيرة ولكن معبرة نصفها يقول: "لا يمكن أن تكونوا جادين". والنصف الآخر: "هل هذا حقيقى".
شكوك روث كانت ثاقبة، فالقائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية ضمت مارلين روبنسون وآن تيلور وروينتون ميسترى وفيليب بولما. وما أن أعلن فوز روث حتى انسحبت واحدة من الحكام - الناشرة السابقة كارمن كاليل - من لجنة التحكيم. قالت: "روث حالة سيئة من قصة ملابس الإمبراطور. وهو كاتب يكتب عن نفس الموضوع فى كل كتبه". تقول كاليل: "وهناك شىء واحد مؤكد، إنه لا أحد سيقرأه بعد عشرين عاما". ومن بين خليط الإهانات التى ذكرتها المرأة ما بعد النسوية، يظل الحكم الأخير هو الأكثر شذوذا؛ فروث الذى صنع بدايته عما 1959 بروايته القصيرة الرائعة (الوداع يا كولومبوس)، وأصبح يكتب اسمه فى العناوين الرئيسية مع رواية شكوى بورتنوى عام 1969، لن يكون شىء سوى شخص باق.
ولد لأسرة من الجيل الثانى من الأمريكيين اليهود فى نيويورك- نيوجيرسى. يقول: "قبل ظهور جوارب النساء الطويلة (البانتيهوس) والطعام المجمد"، وفى العام الذى وصل فيه هتلر للسلطة. كان أبواه مخلصين لابنهما. كتب عن أمه وأبيه فى سيرته الذاتية: "أن تكون عموما هو أن تكون فيليبها، وحكايتى وتاريخى أخذ دورته من البداية كروث الخاص به".
أصغر من مايلر وفيدال وميلر، فهو جاء من عصر الخمسينيات، من أمريكا آيزنهاور مع ستايرون وأبدايك وبيلو وهيلر. هؤلاء كانوا جيل من الشباب الأمريكى أرادوا إعادة صناعة دولة عظيمة بعد أهوال الحرب العالمية الثانية والوصول لذلك عن طريق الأدب.
لفترة طويلة ظل روث واحدا من القادة البارزين لهذه الجماعة الرائعة الموهوبة. الآن – باستثناء جور فيدال – كل زملاءه رحلوا. هو يقيم فى كونيتيكت، فى عزلة مثيرة للإعجاب، يعمل نهارا وليلا، كرجل كبير وحيد وحساس. هو احتفى بحياته فى رواية (الكاتب الشبح) 1979: "النقاء.. السكينة.. العزلة، كل تركيز المرء وتوهجه وأصالته محجوز للنداء المنهك والسامى والمتعالى، هكذا سأعيش". من النادر أن يأخذ كاتبا هزليا عظيما نفسه بهذه الجدية.
هذه العزلة ليست مجرد اختيار لفنان مهووس، فروث استقبل نوعا من الاهتمام بإمكانه أن يدفع أى مدمن للظهور بعناوين الصحف إلى العزلة؛ فهو يكتب باستمرار نكت مسيئة للذات، أو يكتب دفعات متوالية من العدائية المنحطة، وذلك يمكن أن يُمثّل فى ثورة كاليل، أو فى النقد الغيور الذى تقدمه أسماك النقد الأدبى الصغيرة. ربما سيوافق روث الكاتب الهزلى الأمريكى بيتر دى فريس الذى لاحظ أن الحياة الأدبية الأمريكية "يحلم فيها المرء بإلهة الشهرة وينتهى إلى الشعبية العاهرة".
عنونت عدة مرات بـ(الصبى اليهودى) ثم (الاستمناء) ثم (المريض اليهودى يبدأ تحليله)، قبل أن تصدر أخيرا بعنوان (شكوى بورتنوى)، الرواية التى دفعته إلى ساحة الاهتمام الأدبى الشائع. روث الذى وهب حياته لتحرير غضبه، يصر على أنه لا يستطيع تحديد خبرة واحدة اعتمدت عليه رواية النشأة العمرية تلك. موضوعات الرواية – تحركى يا كاليل – هى نفس موضوعات روايات روث الناجحة عن الهوية الجنسية لذكر يهودى أمريكى والعقد المزعجة لعلاقاته مع الجنس الآخر.
رواية فى صورة اعتراف، وإن أخذها مئات الآلاف من القراء الأمريكان على أنها اعتراف فى صورة رواية. حقت بورتنوى مبيعات عالية وسريعة. بالنسبة لبعض القراء فوجبة مثل هذه لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى، أما بالنسبة لروث فهذه الرواية وضعت النموذج الذى ستسير عليه كل أعماله؛ أى التأمل الأدبى الذاتى الذى يأخذ صورة التعذيب. يقول مارتن أميس: "لا يوجد كاتب حديث أخذ تحليله الذاتى إلى هذا المدى وبهذا الأدب".
بعد بورتنوى وجد روث ملاذا من الشهرة عن طريق شخصيته الأدبية البديلة (ناثان زوكرمان)، وعن ضغط الحياة الأدبية الأمريكية عن طريق إقامة رحلات طويلة إلى أوروبا وإنجلترا، انتهت بزواجه من الممثلة (كلير بلوم). كلا من الفترة الوسيطة لأدبه التى ضمت روايات زوكرمان، وزواجه الثانى (زوجته مارجريت مارتينسون التى كان قد انفصل عنها ماتت فى حادث سيارة عام 1968) كانا مثقلان ببحثه المحموم عن الاكتمال الأدبى.
كتب زوكرمان (على سبيل المثال درس التشريح والحياة المضادة) أبهجت وأغضبت نقاد ومعجبى روث. تقول كاتبة سيرته الذاتية (هرميون لى): "حيوات فى قصص وقصص فى حيوات، هذه هى لعبة روث المزدوجة".
الكاتب نفسه يكره أن يُسأل عن ذواته المختلفة، يشكو قائلا: "هل أنا روث أم زوكرمان، كلاهما أنا، ولا أحد فيهما أنا. أنا أكتب روايات ويخبروننى أنها سيرة ذاتية، وأكتب سيرة ذاتية فيخبروننى أنها روايات، لذا فطالما أنا غامض وهم أذكياء، فدعهم هم يقررون".
مثلها مثل الفكاهة الحادة لرجل وُهب للمحة الكوميدية المضحكة التى لا تُنسى، فالعجرفة المزعجة ملائمة جدا لروث. اعتقاده الواثق فى أصالته وتفرده أربك أولا ثم سمم علاقته بكلير بلوم، التى صرحت أنها أرادت: "قضاء حياتى مع هذا الشخص الفريد". فطلقته عام 1995، بعد سنوات من الخلاف.
روث كتب عن علاقاته النسائية فى رواياته مثل (خداع) 1990؛ وهى قصة مطابقة تماما لعلاقته مع امرأة إنجليزية مثقفة. بلوم انتقمت فى 1996 فى مذكراتها (مغادرة بيت الدمية)، كتبت: "أنا لم أهتم أبدا بالسؤال إن كانت تلك الفتيات خيالات جنسية، ولكن ما جعلنى مذهولة – وإن لم يكن لوقت طويل – هو أنه وضعنى فى صورة المرأة الغيورة التى يتم خيانتها باستمرار. وجدت أن الصورة بشعة ومهينة".
الآن روث حر، يتحدى مقولة سكوت فيتزجيرالد: "أنه لا توجد فصول ثانية فى الحيوات الأمريكية". يدفع نفسه إلى حمى التأليف. قال للنيويوركر: "لو استيقظت فى الخامسة ولم أستطع النوم وأريد أن أكتب، فأنا أخرج لأكتب".
هو يكتب وهو واقف فى مكتب منفصل عن المنزل الرئيسى الذى يعيش فيه. لا يمر يوم بدون أن ينظر للكلمات الثلاث الكريهة: qwertyuiop، asdfghjkl، zxcvbnm، يقول: "وعندما أكتب فأنا فى العمل، أنا مثل طبيب فى غرفة الطوارئ، وأنا طبيب الطوارئ". سنوات التحول من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين شهدت ازدهارا متأخرا لمواهبه. فى (الراعى الأمريكى) 1997، و(الوصمة الإنسانية) 2000 و(مؤامرة ضد أمريكا) 2004. النثر الناضج لقائد الأدب الأمريكى الكبير فيه إشراق ووقع وبساطة العظمة. الكلمات تُكتب ويعاد كتابتها فى عزلة ورهبانية. ومع قدوم السن الكبيرة يبدأ روث فى هجر منزله الريفى، يقضى الشتاءات فى نيويورك حيث يأكل فى المطاعم ويقابل دائرة صغيرة من الأصدقاء.
هو مستمر فى الكتابة يوميا والنتائج تكون متفاوتة. (الإذلال) 2009 الرواية القصيرة فى السلسلة التى بدأت برواية (كل الرجال) لم تكن ناجحة. (نيميسيس)، كتابه المنشور الأخير تم الاهتمام به بشكل أكبر. الأوبزرفر مدحت "البهجة والمرح فى أسلوبه، هذا النثر الممتد اللاذع والرفيع والمتناغم بمهارة يستطيع أن يضعك داخل حركة الأفكار عند شخصياته لأكبر عدد ممكن من الصفحات".
مع هذا التوجه الذى يمثل نهاية حتمية، يظل موضوع روث كما يقول مارتين أميس هو: "نفسه.. نفسه.. نفسه". هو لا يزال حذرا تجاه الأجيال الأصغر. وفيديو قبوله لجائزة البوكر العالمية يخبرنا أنه يعرف أنها لعبة علاقات وليست جائزة أصيلة، وإن كانت هناك جائزة أصيلة بالنسبة للكتب، فالجائزة المهمة الآن – نوبل – هى الجائزة التى لم يحصل عليها بعد.
وُلد فى مارس 1933 فى نيوارك، نيوجيرسى لهرمان وبيسى روث. كان أبوه مندوب مبيعات، ألهمه برواية (الميراث) فى عام 1991. درس الإنجليزية بجامعتى باكنل وشيكاجو، وكتب أكثر من 30 كتابا على مدى ستة عقود. روث طُلق مرتين.
أفضل أوقاته بعد أن فاز بجائزة البوليتسر للرواية عن رواية (الراعى الأمريكى)، وعليها أيضا حصل على الميدالية الأمريكية القومية للآداب فى نفس العام عن طريق المنحة الوطنية للآداب فى واشنطن.
أسوأ أوقاته من المعروف على نطاق واسع أنه ليس من العدل ألا يكون روث قد حصل بعد على جائزة نوبل فى الآداب.
ما الذى يقوله "فقط فى أمريكا، الفلاحات – أمهاتنا – يصبغن شعرهن بالبلاتينيوم فى سن الستين ويتجولن ذهابا وإيابا فى طريق كولينز بفلوريدا مرتدين بناطيل (بيدال بوشرز) ومعاطف من الفرو، ولديهن آراء فى كل المواضيع المطروحة تحت الشمس. إنه ليس خطأهن إنهن أعطين موهبة الحديث. لو استطاعت الأبقار أن تتكلم فسوف تقول أشياء بنفس السذاجة.
قيل عنه "كتبه كانت محفزة ومستفزة ومسلية لعدد كبير – ولا يزال يكبر- من الجمهور. مخيلته لم تغير فقط فكرتنا عن الهوية اليهودية، وإنما غيرت فى الأدب، وليس فقط على المستوى الأمريكى، وإنما بشكل عام". ريك جيكوسكى، جامع كتب وعضو لجنة تحكيم القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية.