اطروحة ماكس فيبر ٌالدولة بين الحق والعنفٌ",
السياسة
تقديم:
يعتبر حقل السياسة ممارسة جماعية وعمومية، وهي علم تدبير شؤون المجتمع تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات. وتستند السياسة على مبادئ موجهة وعلاقات فعلية. وهنا تطرح الواقعية السياسية مشكلة المعايير التي تتحكم في توجيه العلاقات داخل المجتمع ومشكلة المواقع التي تحدد فعليا تلك العلاقات. وهذا التقابل بين المعايير والعلاقات الفعلية يرجع إلى وجود تصورين في السياسة، تصور مثالي يعتقد بإمكانية بناء نظرية مثالية وتشييد دولة خالية من العنف أساسها العدل والعقل. وهناك تصور عملي ينظر إلى السياسة كممارسة مجردة عن كل قيم العدالة والحق وتقدم تصورا تقنيا للسياسة غايته تحقيق المصالح وامتلاك السلطة والمحافظة عليها. ومن هذه الزاوية يتم التساؤل حول الدولة بوصفها مؤسسة قائمة بالفعل، وفي نفس الوقت تستند على مشروعية تمكنها من تنظيم المجتمع واحتكار العنف وتوجيهه. كما يتيح هذا التناول التفكير في القيم والمعايير التي تؤسس المعايير والعلاقات الاجتماعية.
الدولة
تقديم:
تمثل الدولة تنظيما مستقلا وظيفته تسيير حياة المجتمع وضمان انسجامه وسلامته، ويتجلى هذا التنظيم في عدد المؤسسات الإدارية والقانونية والسياسية والاقتصادية التي تتطابق مع إنتظارات المجتمع ومتطلبات الأفراد. وتعبر الدولة مبدئيا عن مجموع المواطنين وتوحي ضرورة وجود الدولة بأن المجتمع غير قادر على تنظيم نفسه وضمان استمراره، وإذا كانت السلطة ملازمة للمجتمع فلابد من وجود دولة تنظم هذه السلطة وتدبر شؤون المجتمع.
ماهي الدولة ؟ :
إن أول ما يثيره مفهوم الدولة في الذهن هو السلطة والنظام، غير أنه لم يظهر المفهوم الحديث للدولة إلا في القرن السادس عشر، والدولة بهذا المعنى شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي تكفل الأمن وتدير شؤون المجتمع وتسعى إلى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة كحقوق طبيعية للمواطنين. فالدولة عموما هي مجموع المؤسسات السياسية والقانونية العسكرية والإدارية والاقتصادية تنظم حياة الأفراد والمجتمع داخل مجال ترابي محدد. ولا تقوم الدولة إلا حين تصبح السلطة مؤسسة قانونية وترتبط بالشأن العام وتنظم العلاقات بين أفراده.
الإشكالية:
ماهي طبيعة الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وما الأساس الذي تقوم ع ليه الدولة؟ وما الغاية منها؟ وهل تتعارض الدولة مع حرية الأفراد؟
I . مشروعية الدولة وغاياتها:
1 . نظرية الحق الإلهي:
تعد هذه النظرية أقدم نظرية في تفسير أصل الدولة، ويطلق عليه أحيانا حق الملوك المقدس. ومضمون هذه النظرية هو اعتبار الحاكم خليفة لله في الأرض، فهو يحكم باسم الله الذي فوض له السلطة، ولهذا سميت هذه النظرية بنظرية التفويض الإلهي، وبمقتضى هذه النظرية فإن للحاكم الحق في حكم رعاياه حكما مطلقا استبداديا دون أن يكون لأحد الحق في الاعتراض عليه. غير أن هذه الدولة فقدت مشروعيتها التقليدية فاسحة المجال أمام دولة تستمد مشروعيتها من الإرادة الجماعية.
2 . نظرية العقد الاجتماعي:.
بناء على هذه النظرية فإن الدولة لا تستمد أساسها من التعاقد بين الأفراد على تنظيم حياتهم الاجتماعية،ومضمون هذا التعاقد هو أن هولاء الأفراد اتفقوا على أن يتنازل كل وتحد منهم عن بعض حقوقه وأن يعيش مع غيره في ظل سلطة توفق بين مصالح الجميع، وبامتثالهم للقوانين والتشريعات التي تعاقدوا عليها تضمن لهم الدولة العيش في سلام وحرية مدنية، وهذا ما ساهم في بلورة مفهوم دولة الحق.
وإذا كان فلاسفة العقد الاجتماعي قد اتفقوا على إطار قانوني مشترك لمفهوم دولة الحق فقد اختلفوا حول معنى الحرية التي يتمتع بها الفرد في المجتمع ، وفي هذا السياق يعتبر جون لوك أن الدولة حل لضمان الحياة الاجتماعية وأن سلطة الحاكم مقيدة وان مجال عمل الدولة هو المجال العمومي المشترك بينما لا يجب عليه التدخل في المجال الخصوصي للناس اقتصاديا ودينيا. وفي مقابل ذلك يمنح طوماس هوبز صلاحية أوسع وسلطة مطلقة وحق التدخل في جميع المجالات لضمان السلم وحماية الممتلكات، كما أن روسو يعتبر أن أساس الدولة هو العقد الاجتماعي ، ولكنه عقد لا يقوم على القوة والعنف والسلطة المطلقة وإنما يقوم على المشاركة والتعاون والاتحاد، والسيادة للشعب وهذا ما قصده روسو بقوله " عن من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد" وغايته من ذلك الحد من الحكم المطلق الذي يشكل تهديدا لحرية الفرد. إن دولة الحق هي دولة ديمقراطية تعبر عن الإرادة العامة وبالنظر إليها كمجال يحقق فيه الإنسان بعده الكوني ويحمي حقوقه، وتضمن المصلحة المشتركة. وكل هذا يطرح السؤال: ما هي الغاية من الدولة؟
3 . جون لوك:
يقدر جون لوك بأن الدولة تستمد مشروعيتها من الإرادة الجماعية، وأن غايتها المحافظة على الخيرات المدنية لمواطنيها وتنميتها. ومن مظاهر هذه الخيرات الحق في الحياة والحرية وسلامة البدن وحمايته من كل أشكال الألم والعنف والخوف والترهيب والحق في الملكية. وتتجسد مسؤولية الحاكم في التعبير عن القوة المجتمعية المخولة له من طرف كل الأفراد، وعلى أساس أن يكون عمل الحاكم موافق للقوانين المفروضة على الجميع بالتساوي، كما أن السلطة الممنوحة له مقيدة تقف عند جدود تدبير المجال العمومي ولا تتجاوزه إلى التدخل في الحياة الخاصة للناس.
4 . باروخ اسبينوزا:
ووفق التصور السياسي لاسبينوزا فإن الدولة تستمد مشروعيتها من الإرادة الجماعية للناس وتعاقدهم على تنظيم على تنظيم حياتهم بإخضاع شؤونهم لتوجيهات العقل والامتثال للقوانين، بالتالي ليس من حق الفرد أن يسلك وفق قراره الشخصي أو أن يسلك ضد مشيئة السلطة العليا، كما ليس من حق الدولة أن تسيطر على الناس وتسلبهم حريتهم أو تهضم حقوقهم. تستطيع الدولة المحافظة على مشروعيتها من الغايات التي ستحققها، ومن أسمى هذه الغايات الحرية التي تمثل الغاية الحقيقية من قيام الدولة. فعمل الدولة من خلا كل مؤسساتها هو تحرير الفرد من كل أشكال الخوف والترهيب والقهر والظلم والحفاظ على إنسانية الإنسان وتحقيق آمنه، والشرط في ذلك أن تك ون ممارسة الدولة مقننة بتوجيهات العقل وموافقة للقوانين وتحقيق الحرية والحفاظ على الحقوق الطبيعية للمواطنين. وإن دولة التعاقد كما يتصورها سبينوزا لا تتناقض مع حرية الفرد بل تتكفل بصيانتها.
5 . فريدريك هيجل:
يقيم هيجل تمايزا بين مفهومي المجتمع المدني والدولة،لأن الدولة ليست هي المجتمع بل هي أكثر من ذلك. ويشير إلى أن غاية المجتمع المدني هي تحقيق مصلحة الأفراد الذاتية والمرتبطة بحياتهم اليومية وحماية ممتلكاتهم وحرياتهم الشخصية، في حين أن الدولة هي التحقق الفعلي للفكرة الأخلاقية الموضوعية، وإنها إرادة جوهرية وهي تجسيد للمطلق والروح الموضعي والتي تحقق فيها الحرية قيمتها العليا، وإنها الغاية المطلقة والنهائية للوعي الفردي وضمن هذه الدولة يتم التحية بالمصلحة الفردية من أجل المصلحة الكلية، وأن الحرية تتجاوز ما هو فردي لتأخذ طابعا كونيا. إن دولة هيجل هي دولة العقل وهي دولة مستقلة عن وعي الأفراد لأن الدولة فكرة تسمو على الأفراد الذين يعيشون في مجتمع مدني يلبي حاجاتهم ومصالحهم كالأسرة والمدرسة بينما الدولة هي مجال تحقق فكرة أخلاقية وحياة الناس جزء من مسيرة هذه الفكرة.
II. طبيعة السلطة السياسية:
لكي تحق ال دولة الغايات التي تنشدها فلابد من أن تتوفر على جهاز إداري ومؤسسات قانونية وتنظيم عقلاني ، كما أن ممارسة عمل الدولة تحتاج إلى وسائل تقنية وآليات اشتغال للوصول إلى السلطة واحتكار استعمالها.ومادام مجال السياسة هو مجال صراع بين المعايير الأخلاقية والعلاقات الفعلية، فهذا ما يحدد طبيعة السلطة السياسية.
1. مونتسكيو :
إن البنية المؤسساتية للدولة تلعب دورا أساسيا في تحديد طبيعة سلطتها السياسية، وفي هذا الاتجاه يميز مونتسكيو بين ثلاثة أنواع من السلط ويحدد لكل سلطة اختصاصاتها. وأول هذه السلط السلطة التشريعية ومجال اختصاصها تشريع القوانين وتعديلها، وثانيها السلطة التنفيذية المتعلقة بحقوق الناس وتختص بإقرار السلم أو الحرب واستقبال السفراء واستتباب الأمن وصد الاعتداءات، ثالثها السلطة التنفيذية المتعلقة بالحق المدني وتقوم بإصدار الأحكام وحل النزاعات ومعاقبة مرتكبي الجرائم. وهذا التمايز الذي أقامه مونتسكيو بين هذه السلط لا يمنع تكامل اختصاصاتها من أجل تحقيق الحرية السياسية للمواطن وحماية أمنه الخاص وطمأنينة نفسه. وإن الضامن عند مونتسكيو لتحقيق الحرية ومنع الاستبداد هو الفصل بين السلط ومنع اجتماعها بين يدي شخص واحد أو في هيئة واحدة أو في يد الشعب وحده، وإن اجتماع هذه السلط سيجعل الحرية مستحيلة والحكم اعتباطيا والعدالة حلما بعيد المنال، إن الفصل بينها هو الطريق لبناء دولة عادلة وديمقراطية في حين أن الجمع بينها يقود إلى دولة مستبدة وإلى نظام شمولي.
2. جون لوك:
يندرج تصور جون لوك ضمن التصور التعاقدي بحيث أنه ينظر إلى حالة الطبيعة التي عاشها فيها الإنسان قبل ظهور المجتمع أنها كانت تتميز بخاصتين أساسيتين هما الحرية والمساواة. فالناس كانوا يعيشون في ظل الحرية والمساواة المطلقة ولا يحكمهم إلا القانون الفطري الذي يتلخص في أن لكل فرد حقوق في الحياة والحرية والملكية الخاصة، وأنه يجب ألا يتعدى أي فرد على حقوق غيره من الناس أثناء ممارسة حقوقه الشخصية. غير أن الأفراد كثيرا ما يميلون إلى انتهاك هذه الحقوق الطبيعية ويعتدون على ملكية غيرهم، وهذا ما جعل حالة الطبيعة أو الطور الطبيعي يتحول إلى حالة عنف وصراع، وهكذا أصبح من غير الممكن للإنسان أن يمارس حقوقه، الشيء الذي جعله أن ينتقل إلى حالة مجتمع سياسي مدني والتضامن مع غيره من الأفراد من أجل تكوين مجتمع منظم وقيام دولة تحمي حقوق الأفراد الطبيعية من كل اعتداء. وبالتالي فإن الدول ة هي حل لضمان الحياة الاجتماعية وطبيعة السلطة السياسية ناتجة عن التعاقد على تأليف هيئة سياسية واحدة والالتزام لقرارات الأكثرية والقوانين والتشريعات المتعاقد عليها.
3. ألن تورين :
في إطار نقده للحداثة في بعدها السياسي قد ركز ألان تورين على البحث في طبيعة وأسس السلطة السياسية موظفا عُدة مفاهيمية قوامها الديمقراطية والحرية والمواطنة وحقوق الإنسان، وذلك بالنظر إليها كمبادئ ومعايير للتمييز بين أنواع من الدول وأشكال ممارستها للسلطة السياسية. وفي هذا السياق دافع على النموذج الديمقراطي الذي يتمثل في احترام السلطة السياسية للحقوق الإنسان في أبعادها المدنية والثقافية والاجتماعية. ومن تتجلى مركزية فكرة حقوق الإنسان في الدولة الديمقراطية والتي تهدف ضرب السلطة التقليدية والاحتماء من نموذج السلطة السياسية الحديثة التي تضيق المجال المعرضة والمبادرة. وإن انخراط السلطة السياسية الديمقراطية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان جعلها تصارع على جبهتين، فمن ناحية تصارع ضد السلطة السياسية المطلقة الاستبدادية والكليانية كما أنها من جهة أخرى تعمل على وضع حدود للتصور الفرداني المطلق. وكنتيجة لهذا الصراع فإن النموذج الديمقراطي ينبن ي على مبادئ الحرية والوعي بالحقوق الشخصية والحقوق الجماعية والقدرة على تدبير الاختلاف والتعدد والاعتراف بتعدد المصالح والأفكار. وعليه فإن طبيعة السلطة السياسية الديمقراطية تتحدد في الاعتراف بالحقوق الأساسية والشرعية المبنية على التمثيل الاجتماعي للقادة وسياساتهم بالإضافة إلى المواطنة أو الانتماء إلى المجتمع على أساس الحقوق.
III. الدولة بين الحق والعنف:
حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف، فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع، وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا تأسست هذه العلاقة على احترام المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
يتمثل العنف في كل العلاقات الفعلية والممارسات التي تتخذ من القوة وسيلة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، أوهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق. في حين يتمثل الحق في القواعد الأخلاقية والقانونية المشروعة. وتبين من خلال ذلك التناقض بين الحق الذي يمارس بإرادة الأفراد ويضمن لهم حرياتهم المشروعة، في حين يمارس العنف ضد إرادتهم ويغتصبهم حرياتهم. فما الذي يضمن للدولة وجودها؟
1. ماكس فيبر:
من منظور ماكس فيبر إن الدولة سواء كانت تقليدية أو حديثة، ديمقراطية أو استبدادية لا يمكنها أن تستغني عن العنف الذي لجأت له كل التجمعات السياسية، وإن وظيفة الدولة الأساسية هي ممارسة العنف واحتكار استعماله وتنظيمه بقوانين وإجراءات ولهذا فالدولة هي المخولة باستعماله وبتفويض من يستعمله. وإن سلطة الدولة هي علاقة هيمنة وسيادة الإنسان على الإنسان مبنية على العنف المادي المشروع. فلكي تمارس الدولة وظائفها واختصاصاتها فإنها تلجأ بالإضافة على الوسائل القانونية إلى العنف المادي الذي تحتكره. والأطروحة المركزية لماكس فيبر هي أن الدولة تتأسس على العنف وأن اختفاء العنف هو اختفاء للدولة، وباختفاء هذه الأخيرة تعم الفوضى بين مختلف المكونات الاجتماعية. وبالتالي لا توجد إلا بالعنف ولا تقبل التعريف إلا بالعنف الذي هو وسيلتها الخاصة والعادية لممارسة السلطة. والسؤال الذي تثيره أطروحة ماكس فيبر : هل يوجد عنف مشروع؟ وهل يمكن تبرير استعمال الد ولة للعنف إلى حد جعله حق من الحقوق التي تتمتع بها الدولة؟ فرغم كل ما يمكن تقديمه من تبريرات للعنف الصادر عن الدولة، سواء كانت هذه التبريرات سياسية أو قانونية أو اجتماعية فإن العنف يبقى دائما بدون شرعية لأنه يوجد خارج العقل وأن دولة الحق تتعارض مع دولة العنف.
2. بول ريكور :
إذا كان ماكس فيبر يربط وجود الدولة بنوع خاص من العنف يسميه العنف المشروع، وهو عنف تحتكره الدولة وتخول لنفسها ممارسته بشكل شرعي وقانوني لحماية النظام العام، فإن بول ريكور يميل إلى ربط الدولة بالسلطة عوض عن العنف المشروع ،لأن فكرة السلطة لا تختزل إلى مجرد فكرة العنف كما أن منح الدولة امتياز العنف لا يعني تعريفها انطلاقا منه وإنما تعريفها انطلاقا من السلطة. والفارق بينهما هو أن العنف يحيل على استعمال القوة لإخضاع الآخرين، بينما تدل السلطة على الإمكانية والقدرة التي يتوفر عليها فرد أو جماعة فتمارس تأثيرها على الآخرين وتوجه تصرفاتهم بدون إكراه أو قوة. ولهذا فإن بول ريكور يضفي على الدولة طابعا مزدوجا عقلانيا وتاريخيا، ويتجلى الطابع المعقول للدولة في وظيفتها التربوية بحيث أن دولة الحق تشرع قواعد تراقب بها عمل الحكومة وتحد من عشوائيتها مع حرصها الشديد على تربية الجميع على الحرية على طريق المناقشة. ويمثل الطابع التاريخي الوجه الآخر للدولة من حيث كونها قوة وسلطة وليست عنفا.
3. جاكلين روس :
ضدا على أطروحة شرعنة العنف وتبريره فإن جاكلين روس تعتبر دولة الحق تتمسك بكرامة الفرد ضد كل أنواع العنف والتخويف. وتمثل دولة الحق نموذجا للدولة المعاصرة والتي حددتها بقولها " إنها دولة فيها حق وقانون يخضعان معا لمبدأ احترام الشخص، وهي صيغة قانونية تضمن الحريات الفردية وتتمسك بالكرامة الإنسانية وذلك ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف" فدولة الحق تؤدي إلى ممارسة معقلنة للسلطة مما يجعلها عملية إبداع دائم للحرية وفضاء لاحترام الشخص ومعاملته كغاية لا كوسيلة واعتباره معيار أسمى لصياغة القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع الاستعباد والاضطهاد التي قد يتعرض لها. إن دولة الحق لا تقوم على العنف ولا تشرعن القوة ولا تسمح بمصادرة الحرية، وإنما هي دولة يخضع عملها لقواعد سليمة وصريحة وتتشبث بالقانون والحق واحترام الحريات وتفصل بين السلط باعتباره الآلية الفعالة لحماية الحقوق ومنع العنف.
← إن مشروعية العنف وتبرير ممارسته واحتكاره من طرف الدولة تواجه عدة صعوبات تعود إلى طبيعة العنف والآثار التي يمكن أن تترتب عنه، ورغم ما يمكن تقديمه من تبريرات للعنف الصادر عن الدولة سواء كانت هذه التبريرات سياسية أو قانونية، فإن العنف يبقى دائما بدون مشروعية لأنه يوجد خارج نطاق العقل. ولهذا يبغي فهم بنية العنف ومواجهته بخطاب عقلي متماسك و يؤسس اللاعنف ويثبته.
السياسة
تقديم:
يعتبر حقل السياسة ممارسة جماعية وعمومية، وهي علم تدبير شؤون المجتمع تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات. وتستند السياسة على مبادئ موجهة وعلاقات فعلية. وهنا تطرح الواقعية السياسية مشكلة المعايير التي تتحكم في توجيه العلاقات داخل المجتمع ومشكلة المواقع التي تحدد فعليا تلك العلاقات. وهذا التقابل بين المعايير والعلاقات الفعلية يرجع إلى وجود تصورين في السياسة، تصور مثالي يعتقد بإمكانية بناء نظرية مثالية وتشييد دولة خالية من العنف أساسها العدل والعقل. وهناك تصور عملي ينظر إلى السياسة كممارسة مجردة عن كل قيم العدالة والحق وتقدم تصورا تقنيا للسياسة غايته تحقيق المصالح وامتلاك السلطة والمحافظة عليها. ومن هذه الزاوية يتم التساؤل حول الدولة بوصفها مؤسسة قائمة بالفعل، وفي نفس الوقت تستند على مشروعية تمكنها من تنظيم المجتمع واحتكار العنف وتوجيهه. كما يتيح هذا التناول التفكير في القيم والمعايير التي تؤسس المعايير والعلاقات الاجتماعية.
الدولة
تقديم:
تمثل الدولة تنظيما مستقلا وظيفته تسيير حياة المجتمع وضمان انسجامه وسلامته، ويتجلى هذا التنظيم في عدد المؤسسات الإدارية والقانونية والسياسية والاقتصادية التي تتطابق مع إنتظارات المجتمع ومتطلبات الأفراد. وتعبر الدولة مبدئيا عن مجموع المواطنين وتوحي ضرورة وجود الدولة بأن المجتمع غير قادر على تنظيم نفسه وضمان استمراره، وإذا كانت السلطة ملازمة للمجتمع فلابد من وجود دولة تنظم هذه السلطة وتدبر شؤون المجتمع.
ماهي الدولة ؟ :
إن أول ما يثيره مفهوم الدولة في الذهن هو السلطة والنظام، غير أنه لم يظهر المفهوم الحديث للدولة إلا في القرن السادس عشر، والدولة بهذا المعنى شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي تكفل الأمن وتدير شؤون المجتمع وتسعى إلى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة كحقوق طبيعية للمواطنين. فالدولة عموما هي مجموع المؤسسات السياسية والقانونية العسكرية والإدارية والاقتصادية تنظم حياة الأفراد والمجتمع داخل مجال ترابي محدد. ولا تقوم الدولة إلا حين تصبح السلطة مؤسسة قانونية وترتبط بالشأن العام وتنظم العلاقات بين أفراده.
الإشكالية:
ماهي طبيعة الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وما الأساس الذي تقوم ع ليه الدولة؟ وما الغاية منها؟ وهل تتعارض الدولة مع حرية الأفراد؟
I . مشروعية الدولة وغاياتها:
1 . نظرية الحق الإلهي:
تعد هذه النظرية أقدم نظرية في تفسير أصل الدولة، ويطلق عليه أحيانا حق الملوك المقدس. ومضمون هذه النظرية هو اعتبار الحاكم خليفة لله في الأرض، فهو يحكم باسم الله الذي فوض له السلطة، ولهذا سميت هذه النظرية بنظرية التفويض الإلهي، وبمقتضى هذه النظرية فإن للحاكم الحق في حكم رعاياه حكما مطلقا استبداديا دون أن يكون لأحد الحق في الاعتراض عليه. غير أن هذه الدولة فقدت مشروعيتها التقليدية فاسحة المجال أمام دولة تستمد مشروعيتها من الإرادة الجماعية.
2 . نظرية العقد الاجتماعي:.
بناء على هذه النظرية فإن الدولة لا تستمد أساسها من التعاقد بين الأفراد على تنظيم حياتهم الاجتماعية،ومضمون هذا التعاقد هو أن هولاء الأفراد اتفقوا على أن يتنازل كل وتحد منهم عن بعض حقوقه وأن يعيش مع غيره في ظل سلطة توفق بين مصالح الجميع، وبامتثالهم للقوانين والتشريعات التي تعاقدوا عليها تضمن لهم الدولة العيش في سلام وحرية مدنية، وهذا ما ساهم في بلورة مفهوم دولة الحق.
وإذا كان فلاسفة العقد الاجتماعي قد اتفقوا على إطار قانوني مشترك لمفهوم دولة الحق فقد اختلفوا حول معنى الحرية التي يتمتع بها الفرد في المجتمع ، وفي هذا السياق يعتبر جون لوك أن الدولة حل لضمان الحياة الاجتماعية وأن سلطة الحاكم مقيدة وان مجال عمل الدولة هو المجال العمومي المشترك بينما لا يجب عليه التدخل في المجال الخصوصي للناس اقتصاديا ودينيا. وفي مقابل ذلك يمنح طوماس هوبز صلاحية أوسع وسلطة مطلقة وحق التدخل في جميع المجالات لضمان السلم وحماية الممتلكات، كما أن روسو يعتبر أن أساس الدولة هو العقد الاجتماعي ، ولكنه عقد لا يقوم على القوة والعنف والسلطة المطلقة وإنما يقوم على المشاركة والتعاون والاتحاد، والسيادة للشعب وهذا ما قصده روسو بقوله " عن من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد" وغايته من ذلك الحد من الحكم المطلق الذي يشكل تهديدا لحرية الفرد. إن دولة الحق هي دولة ديمقراطية تعبر عن الإرادة العامة وبالنظر إليها كمجال يحقق فيه الإنسان بعده الكوني ويحمي حقوقه، وتضمن المصلحة المشتركة. وكل هذا يطرح السؤال: ما هي الغاية من الدولة؟
3 . جون لوك:
يقدر جون لوك بأن الدولة تستمد مشروعيتها من الإرادة الجماعية، وأن غايتها المحافظة على الخيرات المدنية لمواطنيها وتنميتها. ومن مظاهر هذه الخيرات الحق في الحياة والحرية وسلامة البدن وحمايته من كل أشكال الألم والعنف والخوف والترهيب والحق في الملكية. وتتجسد مسؤولية الحاكم في التعبير عن القوة المجتمعية المخولة له من طرف كل الأفراد، وعلى أساس أن يكون عمل الحاكم موافق للقوانين المفروضة على الجميع بالتساوي، كما أن السلطة الممنوحة له مقيدة تقف عند جدود تدبير المجال العمومي ولا تتجاوزه إلى التدخل في الحياة الخاصة للناس.
4 . باروخ اسبينوزا:
ووفق التصور السياسي لاسبينوزا فإن الدولة تستمد مشروعيتها من الإرادة الجماعية للناس وتعاقدهم على تنظيم على تنظيم حياتهم بإخضاع شؤونهم لتوجيهات العقل والامتثال للقوانين، بالتالي ليس من حق الفرد أن يسلك وفق قراره الشخصي أو أن يسلك ضد مشيئة السلطة العليا، كما ليس من حق الدولة أن تسيطر على الناس وتسلبهم حريتهم أو تهضم حقوقهم. تستطيع الدولة المحافظة على مشروعيتها من الغايات التي ستحققها، ومن أسمى هذه الغايات الحرية التي تمثل الغاية الحقيقية من قيام الدولة. فعمل الدولة من خلا كل مؤسساتها هو تحرير الفرد من كل أشكال الخوف والترهيب والقهر والظلم والحفاظ على إنسانية الإنسان وتحقيق آمنه، والشرط في ذلك أن تك ون ممارسة الدولة مقننة بتوجيهات العقل وموافقة للقوانين وتحقيق الحرية والحفاظ على الحقوق الطبيعية للمواطنين. وإن دولة التعاقد كما يتصورها سبينوزا لا تتناقض مع حرية الفرد بل تتكفل بصيانتها.
5 . فريدريك هيجل:
يقيم هيجل تمايزا بين مفهومي المجتمع المدني والدولة،لأن الدولة ليست هي المجتمع بل هي أكثر من ذلك. ويشير إلى أن غاية المجتمع المدني هي تحقيق مصلحة الأفراد الذاتية والمرتبطة بحياتهم اليومية وحماية ممتلكاتهم وحرياتهم الشخصية، في حين أن الدولة هي التحقق الفعلي للفكرة الأخلاقية الموضوعية، وإنها إرادة جوهرية وهي تجسيد للمطلق والروح الموضعي والتي تحقق فيها الحرية قيمتها العليا، وإنها الغاية المطلقة والنهائية للوعي الفردي وضمن هذه الدولة يتم التحية بالمصلحة الفردية من أجل المصلحة الكلية، وأن الحرية تتجاوز ما هو فردي لتأخذ طابعا كونيا. إن دولة هيجل هي دولة العقل وهي دولة مستقلة عن وعي الأفراد لأن الدولة فكرة تسمو على الأفراد الذين يعيشون في مجتمع مدني يلبي حاجاتهم ومصالحهم كالأسرة والمدرسة بينما الدولة هي مجال تحقق فكرة أخلاقية وحياة الناس جزء من مسيرة هذه الفكرة.
II. طبيعة السلطة السياسية:
لكي تحق ال دولة الغايات التي تنشدها فلابد من أن تتوفر على جهاز إداري ومؤسسات قانونية وتنظيم عقلاني ، كما أن ممارسة عمل الدولة تحتاج إلى وسائل تقنية وآليات اشتغال للوصول إلى السلطة واحتكار استعمالها.ومادام مجال السياسة هو مجال صراع بين المعايير الأخلاقية والعلاقات الفعلية، فهذا ما يحدد طبيعة السلطة السياسية.
1. مونتسكيو :
إن البنية المؤسساتية للدولة تلعب دورا أساسيا في تحديد طبيعة سلطتها السياسية، وفي هذا الاتجاه يميز مونتسكيو بين ثلاثة أنواع من السلط ويحدد لكل سلطة اختصاصاتها. وأول هذه السلط السلطة التشريعية ومجال اختصاصها تشريع القوانين وتعديلها، وثانيها السلطة التنفيذية المتعلقة بحقوق الناس وتختص بإقرار السلم أو الحرب واستقبال السفراء واستتباب الأمن وصد الاعتداءات، ثالثها السلطة التنفيذية المتعلقة بالحق المدني وتقوم بإصدار الأحكام وحل النزاعات ومعاقبة مرتكبي الجرائم. وهذا التمايز الذي أقامه مونتسكيو بين هذه السلط لا يمنع تكامل اختصاصاتها من أجل تحقيق الحرية السياسية للمواطن وحماية أمنه الخاص وطمأنينة نفسه. وإن الضامن عند مونتسكيو لتحقيق الحرية ومنع الاستبداد هو الفصل بين السلط ومنع اجتماعها بين يدي شخص واحد أو في هيئة واحدة أو في يد الشعب وحده، وإن اجتماع هذه السلط سيجعل الحرية مستحيلة والحكم اعتباطيا والعدالة حلما بعيد المنال، إن الفصل بينها هو الطريق لبناء دولة عادلة وديمقراطية في حين أن الجمع بينها يقود إلى دولة مستبدة وإلى نظام شمولي.
2. جون لوك:
يندرج تصور جون لوك ضمن التصور التعاقدي بحيث أنه ينظر إلى حالة الطبيعة التي عاشها فيها الإنسان قبل ظهور المجتمع أنها كانت تتميز بخاصتين أساسيتين هما الحرية والمساواة. فالناس كانوا يعيشون في ظل الحرية والمساواة المطلقة ولا يحكمهم إلا القانون الفطري الذي يتلخص في أن لكل فرد حقوق في الحياة والحرية والملكية الخاصة، وأنه يجب ألا يتعدى أي فرد على حقوق غيره من الناس أثناء ممارسة حقوقه الشخصية. غير أن الأفراد كثيرا ما يميلون إلى انتهاك هذه الحقوق الطبيعية ويعتدون على ملكية غيرهم، وهذا ما جعل حالة الطبيعة أو الطور الطبيعي يتحول إلى حالة عنف وصراع، وهكذا أصبح من غير الممكن للإنسان أن يمارس حقوقه، الشيء الذي جعله أن ينتقل إلى حالة مجتمع سياسي مدني والتضامن مع غيره من الأفراد من أجل تكوين مجتمع منظم وقيام دولة تحمي حقوق الأفراد الطبيعية من كل اعتداء. وبالتالي فإن الدول ة هي حل لضمان الحياة الاجتماعية وطبيعة السلطة السياسية ناتجة عن التعاقد على تأليف هيئة سياسية واحدة والالتزام لقرارات الأكثرية والقوانين والتشريعات المتعاقد عليها.
3. ألن تورين :
في إطار نقده للحداثة في بعدها السياسي قد ركز ألان تورين على البحث في طبيعة وأسس السلطة السياسية موظفا عُدة مفاهيمية قوامها الديمقراطية والحرية والمواطنة وحقوق الإنسان، وذلك بالنظر إليها كمبادئ ومعايير للتمييز بين أنواع من الدول وأشكال ممارستها للسلطة السياسية. وفي هذا السياق دافع على النموذج الديمقراطي الذي يتمثل في احترام السلطة السياسية للحقوق الإنسان في أبعادها المدنية والثقافية والاجتماعية. ومن تتجلى مركزية فكرة حقوق الإنسان في الدولة الديمقراطية والتي تهدف ضرب السلطة التقليدية والاحتماء من نموذج السلطة السياسية الحديثة التي تضيق المجال المعرضة والمبادرة. وإن انخراط السلطة السياسية الديمقراطية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان جعلها تصارع على جبهتين، فمن ناحية تصارع ضد السلطة السياسية المطلقة الاستبدادية والكليانية كما أنها من جهة أخرى تعمل على وضع حدود للتصور الفرداني المطلق. وكنتيجة لهذا الصراع فإن النموذج الديمقراطي ينبن ي على مبادئ الحرية والوعي بالحقوق الشخصية والحقوق الجماعية والقدرة على تدبير الاختلاف والتعدد والاعتراف بتعدد المصالح والأفكار. وعليه فإن طبيعة السلطة السياسية الديمقراطية تتحدد في الاعتراف بالحقوق الأساسية والشرعية المبنية على التمثيل الاجتماعي للقادة وسياساتهم بالإضافة إلى المواطنة أو الانتماء إلى المجتمع على أساس الحقوق.
III. الدولة بين الحق والعنف:
حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف، فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع، وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا تأسست هذه العلاقة على احترام المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
يتمثل العنف في كل العلاقات الفعلية والممارسات التي تتخذ من القوة وسيلة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، أوهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق. في حين يتمثل الحق في القواعد الأخلاقية والقانونية المشروعة. وتبين من خلال ذلك التناقض بين الحق الذي يمارس بإرادة الأفراد ويضمن لهم حرياتهم المشروعة، في حين يمارس العنف ضد إرادتهم ويغتصبهم حرياتهم. فما الذي يضمن للدولة وجودها؟
1. ماكس فيبر:
من منظور ماكس فيبر إن الدولة سواء كانت تقليدية أو حديثة، ديمقراطية أو استبدادية لا يمكنها أن تستغني عن العنف الذي لجأت له كل التجمعات السياسية، وإن وظيفة الدولة الأساسية هي ممارسة العنف واحتكار استعماله وتنظيمه بقوانين وإجراءات ولهذا فالدولة هي المخولة باستعماله وبتفويض من يستعمله. وإن سلطة الدولة هي علاقة هيمنة وسيادة الإنسان على الإنسان مبنية على العنف المادي المشروع. فلكي تمارس الدولة وظائفها واختصاصاتها فإنها تلجأ بالإضافة على الوسائل القانونية إلى العنف المادي الذي تحتكره. والأطروحة المركزية لماكس فيبر هي أن الدولة تتأسس على العنف وأن اختفاء العنف هو اختفاء للدولة، وباختفاء هذه الأخيرة تعم الفوضى بين مختلف المكونات الاجتماعية. وبالتالي لا توجد إلا بالعنف ولا تقبل التعريف إلا بالعنف الذي هو وسيلتها الخاصة والعادية لممارسة السلطة. والسؤال الذي تثيره أطروحة ماكس فيبر : هل يوجد عنف مشروع؟ وهل يمكن تبرير استعمال الد ولة للعنف إلى حد جعله حق من الحقوق التي تتمتع بها الدولة؟ فرغم كل ما يمكن تقديمه من تبريرات للعنف الصادر عن الدولة، سواء كانت هذه التبريرات سياسية أو قانونية أو اجتماعية فإن العنف يبقى دائما بدون شرعية لأنه يوجد خارج العقل وأن دولة الحق تتعارض مع دولة العنف.
2. بول ريكور :
إذا كان ماكس فيبر يربط وجود الدولة بنوع خاص من العنف يسميه العنف المشروع، وهو عنف تحتكره الدولة وتخول لنفسها ممارسته بشكل شرعي وقانوني لحماية النظام العام، فإن بول ريكور يميل إلى ربط الدولة بالسلطة عوض عن العنف المشروع ،لأن فكرة السلطة لا تختزل إلى مجرد فكرة العنف كما أن منح الدولة امتياز العنف لا يعني تعريفها انطلاقا منه وإنما تعريفها انطلاقا من السلطة. والفارق بينهما هو أن العنف يحيل على استعمال القوة لإخضاع الآخرين، بينما تدل السلطة على الإمكانية والقدرة التي يتوفر عليها فرد أو جماعة فتمارس تأثيرها على الآخرين وتوجه تصرفاتهم بدون إكراه أو قوة. ولهذا فإن بول ريكور يضفي على الدولة طابعا مزدوجا عقلانيا وتاريخيا، ويتجلى الطابع المعقول للدولة في وظيفتها التربوية بحيث أن دولة الحق تشرع قواعد تراقب بها عمل الحكومة وتحد من عشوائيتها مع حرصها الشديد على تربية الجميع على الحرية على طريق المناقشة. ويمثل الطابع التاريخي الوجه الآخر للدولة من حيث كونها قوة وسلطة وليست عنفا.
3. جاكلين روس :
ضدا على أطروحة شرعنة العنف وتبريره فإن جاكلين روس تعتبر دولة الحق تتمسك بكرامة الفرد ضد كل أنواع العنف والتخويف. وتمثل دولة الحق نموذجا للدولة المعاصرة والتي حددتها بقولها " إنها دولة فيها حق وقانون يخضعان معا لمبدأ احترام الشخص، وهي صيغة قانونية تضمن الحريات الفردية وتتمسك بالكرامة الإنسانية وذلك ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف" فدولة الحق تؤدي إلى ممارسة معقلنة للسلطة مما يجعلها عملية إبداع دائم للحرية وفضاء لاحترام الشخص ومعاملته كغاية لا كوسيلة واعتباره معيار أسمى لصياغة القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع الاستعباد والاضطهاد التي قد يتعرض لها. إن دولة الحق لا تقوم على العنف ولا تشرعن القوة ولا تسمح بمصادرة الحرية، وإنما هي دولة يخضع عملها لقواعد سليمة وصريحة وتتشبث بالقانون والحق واحترام الحريات وتفصل بين السلط باعتباره الآلية الفعالة لحماية الحقوق ومنع العنف.
← إن مشروعية العنف وتبرير ممارسته واحتكاره من طرف الدولة تواجه عدة صعوبات تعود إلى طبيعة العنف والآثار التي يمكن أن تترتب عنه، ورغم ما يمكن تقديمه من تبريرات للعنف الصادر عن الدولة سواء كانت هذه التبريرات سياسية أو قانونية، فإن العنف يبقى دائما بدون مشروعية لأنه يوجد خارج نطاق العقل. ولهذا يبغي فهم بنية العنف ومواجهته بخطاب عقلي متماسك و يؤسس اللاعنف ويثبته.