" فئران أمّي حصة رواية مكتوبة بقسوة، ولكنّها قسوة المحبّ.. قسوة كلّها حنوّ.
الرواية تحذيرية بامتياز، وسؤال "وين رايحين" لم يعد سؤالاً ترفيًا.
الرواية تضعك في مواجهةٍ صريحة ومباشرة مع نفسك، ولأنّها حقيقية جدًا، تشبهنا جدًا، فهي رواية لا تحتمل.
النّص كتب بحرفية عالية، ولكنّها ليست الحرفية الساطعة التي تأخذك بعيدًا عن عفوية الحكاية. في قراءتي الثانية، الأكثر تأنيًا، استطعت أن أتلمّس أكثر الجهد المبذول في سبكِ البناء وحبكِ القصة. أحببتُ التفاصيل التي يفضي بعضها إلى بعض، والكلمات التي ترتجع في الحكاية بما يعمّق سؤالها، وأحببت الرمزية متعددة الدلالات للفئران.
أقول؛ النّص مكتوب ببراعة أستاذ، ولكنّ ليس هذا ما أريدُ الحديث عنه، إذ سيتصدّى لهذه المهمة نقادٌ أكثر مقدرة مني، ولكنني أريدُ الحديث عن الموضوع. عن رواية تضمُّ مخزونًا بصريًا وسمعيًا هائلاً لتاريخ وطن؛ عن الكويت منذ 1985 وحتى الزمن الافتراضي الذي تتحرّك فيه الرواية في 2020.
جزءٌ كبير من القيمة الموضوعية لهذا العمل يجيء من خصوصية البيئة المكانية. الرواية تتلمّس بوادر خطابات الكراهية في بيوتنا التي كانت، للأسف الشديد، محاضن راعية لها منذ أكثر من عشرين عامًا. الرواية تتطرّق لذاكرة الاحتلال سنة الـ 90 وكيف تحوّل الإنسان الكويتي من إنسان عروبي إلى إنسان مستغرب، وكيف صار السوبرمان الأمريكي هو بطله المحرّر الوحيد. الرواية تحكي غصة وطن ذهب ضحية الشعارات، وطن رغم ضآلة حجمه كان له موقفٌ وثقل. من يصدق أن وزير الخارجية الكويتي يقول "للأمريكان".. اغربوا عن سمائنا وبحرنا؟ كيف أصبح المانشيت في جرائدنا يمجد "بو عبدالله" و "بو حسين" في إشارة إلى جورج بوش وباراك أوباما؟ الرواية أيضًا تتطرّق للعلاقة القديمة والمتجذرة بين الإنسان الفلسطيني والإنسان الكويتي.. الرواية، باختصارٍ شديد، تجيبُ على أكثر أسئلتنا إلحاحًا؛ كيف أصبحنا على ما نحن عليه؟
ولكنّ الأهم، بعد أن نفهم الكيفية، أن نطرح سؤالاً استشرافيًا؛ ما العمل الآن؟ ما هي الخيارات المطروحة أمامنا للتصدي للطاعون؟
أعتقد بأن السنيّ سيجد نفسه مخيّرًا بين ثلاثة نماذج (صالح، فهد، والراوي)، والشيعي أيضًا سيجدُ نفسه مخيّرًا بين ثلاثة نماذج (عباس، صادق، أيوب).. وسيكون على كل واحدٍ منا، بعد الانتهاء من العمل، أن يعرف؛ أيهم أقرب إليه، وأيّهم يريد؟
من المخيف أن يتحوّل الدين من تجربة روحية تنظم علاقة الإنسان بالإله، إلى أيديولوجيا سياسية تستخدم لتفتيت الأوطان إلى دويلات طائفية دموية. الرواية، بناءً عليه، ورغم محليّتها الواضحة، ليست للقارئ الكويتي فقط، إنها للقارئ العربي الذي يرزح تحت تهديد الخريف الطائفيّ منذ أربع سنوات.
كلمة أخيرة أحبّ أن أقولها عن هذا العمل.
لو خرج هولاكو من صفحات التاريخ لكي يضرم نارًا ضخمة في كل ما أنتجه الأدب الكويتي. تخيّل الآن هذا الهولوكوست الثقافي المؤلم الذي سيقضي على كلّ شيء. لو طلبَ مني أن أختار كتابًا واحدًا لأنقذه، كتاب واحدٌ فقط أنقله إلى أجيالنا القادمة، لاخترتُ "فئران أمّي حصّة"..
طبعًا أنا أذكر هولاكو هنا تحيّة للرقيب، ومحرقته."