منذ سنين دراستي للقانون والاقتصاد في باريس، كنْتُ أتضايق كثيراً من النرجسية في الثقافة والعلوم الإنسانية الغربية ونظرة التعالي، بلْ والازدراء في كثير من الأحيان، بالنسبة إلى حضارات الشعوب الأخرى ومؤسساتها وعاداتها... كما بدأْتُ أشعر بمدى توغُّل الشعور بالتفوّق الغربي لدى العديد من المثقفين العرب وتبنّيهم الطروحات الفكرية والإشكاليات الغربية في النظر إلى تطوّر التاريخ الإنساني دون ممارسة النقد في الطروحات التي كانت تقدمها الثقافات الأوروبية المختلفة حول عبقريتها وتفوّقها....
مقتطفات من الكتاب
توطئة الطبعة العربية
يسرني أن أقدم الى القارئ العربي هذا العمل الجديد الذي وضعته باللغة الفرنسية وتم صدوره في باريس عام 2009 ذلك أن هذا المؤلف هو نتيجة تساؤل وسواسي منذ سنين طفولتي عندما وعيت بأن الدنيا مقسمة بين " نحن الشرقيون " و " هم الغربيون " وقد أزعجني هذا التقسيم الذي أخذ يتصاعد طوال حياتي حتى أصبح العالم يضج مؤخرا بطروحات صراع أو حوار الحضارات بالاضافة الى تعدد الحالات حيث يوظف الدين في زيادة التوترات السياسية والحروب والغزوات التي قامت بها كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وقد عالجت هذا الموضوع في مؤلفي السابق بعنوان " المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين " المنشور عام 2007 .
ومنذ سنين دراستي للقانون والاقتصاد في باريس كنت أتضايق كثيرا من النرجسية في الثقافة والعلوم الانسانية الغربية ونظرة التعالي بل والازدراء في كثير من الأحيان بالنسبة الى حضارات الشعوب الأخرى ومؤسساتها وعاداتها وقد زاد خلال حياتي المهنية هذا الشعور بالضيق في تقسيم العالم الى دول متقدمة ودول متأخرة أو نامية , كما بدأت أشعر بمدى توغل الشعور بالتفوق الغربي لدى العديد من المثقفين العرب وتبنيهم الكثير من الطروحات الفكرية والاشكاليات الغربية في النظر الى تطور التاريخ الانساني دون ممارسة النقد في الطروحات التي كانت تقدمها الثقافات الأوربية المختلفة حول عبقريتها وتفوقها .
وعندما قام صديقي العزيز ادوارد سعيد . رحمه الله بوضع مؤلفه الشهير حول الاستشراق قرأت هذا الكتاب الهام بنوع من الحيرة اذ ان صاحبه قام بهجوم شمولي وأحادي الجانب على نظرة الغرب للشرق مما ساهم بدوره في توسيع جو العداء الفكري بين هاتين الهويتين العابرتين للقوميات والحضارات والاثنيات أي الشرق والغرب وقد وضعت في ما بعد مؤلفي بعنوان " شرق و غرب " الشرخ الأسطوري الذي صدر عام 2002 .
اذ ونعيت حينذاك أن لعبة التصادم بين الشرق والغرب هذه هي لعبة تخيلية ولعبة مرايا خطيرة أطلقتها الثقافة الأوروبية الاستعمارية لتبرير سياسة القوة والسيطرة على مقدرات العالم فصممت الغوص في تاريخ أوروبا لفهم دينامية هذه القارة الصغيرة المتميزة بتنوع شعوبها ولغاتها والتي وقعت ضحية سلسلة متواصلة من الحروب الداخلية الفتاكة وبالرغم من ذلك تمكنت من السيطرة على القارات الأخرى .
وفي هذا المسعى شعرت بضرورة تحليل دينامية أوروبا انطلاقا من قراءة تاريخها قراءة منهجية ونقدية وليس قراءتها بطريقة تختصر لب الثقافة الأوروبية في الامبريالية والاستعلاء على الشعوب المستعمرة فالثقافة الأوروبية متنوعة للغاية والأهواء السياسية فيها غير موحدة بل في كثير من الأحيان متناقضة للغاية في تاريخها وأدت الى حروب شعواء ضمن هذه القارة الصغيرة وتبادر الى ذهني على أثر ذلك المفارقة الضخمة أن مثل هذه القارة الصغيرة المقسمة الى شعوب ولغات وثقافات وتباينات دينية " بين البروتستات والكاثوليك " مختلفة للغاية , قد تخيلت وحدتها الحضارية بما فيها نظام قيم موحد وذلك تحت راية مفهوم " الغرب " .
ولذلك قررت الغوص في أعماق تاريخ أوروبا لتبيان كيفية ظهور هذه المفارقة ولتعقب ظهور مقولة وحدة الغرب وانتشارها بالرغم من كل التناقضات الكائنة في مجموعة الشعوب الأوروبية .
بيانات الكتاب
تأليف : جورج قرم
الناشر : دار الفارابي
عدد الصفحات :439 صفحة
الحجم : 10 ميجا بايت