"أين الآن؟ مَن الآن؟"
مقال موريس بلانشو عن ثلاثية بيكيت
عن مجلة نوفيل ريفو فرانسيس*
أكتوبر 1953
ت: أمير زكى
ديسمبر 2011
عن ترجمة ريتشارد هوارد إلى الإنجليزية
من كتاب التراث النقدى المتعلق ببيكيت Samuel Beckett- The Critical heritage
موريس بلانشو (1907-2003)، روائى وناقد فرنسى، نشر عدة روايات، أشهرها (توماس الغامض)-1941، ولكنه مؤثر بشكل خاص بسبب أعماله النقدية كـ (عمل النار)-1949، (مساحة الأدب)-1955، (الكتاب القادم)-1959، و(الحوار اللامتناهى)-1960.
مجلة (العروض الفرنسية الجديدة) تأسست عام 1911، وتصدر حاليا بشكل فصلى.
اقتباسات بلانشوت من ثلاثية بيكيت (مولوى، مالون يموت، اللا مسمى)
***
من الذى يقوم بالحديث فى روايات صمويل بيكيت، من هو هذا "الأنا" الذى يستمر فى تكرار ما يبدو دائما على أنه نفس الشىء؟ ما الذى يحاول أن يقوله؟ ما الذى يبحث عنه الكاتب – الموجود حتما فى مكان ما بالكتب؟ ما الذى نبحث نحن عنه – نحن الذين نقرأها؟ أم هل هو فقط يدور فى دوائر، يدور بغموض، مدفوعا بزخم الصوت الشارد، يفتقد إلى حد ما حس المركزية، ينتج أقوالا بدون بداية أو نهاية محددتين، إلا أنه شره، ومتطلب، لغة لن تتوقف، وتجد أنه من غير المسموح أن تتوقف، وبالتالى ستأتى لحظة الاكتشاف البشع: فعندما يتوقف الحديث، يظل هناك حديث، عندما تتوقف اللغة فهى تستمر، لا يوجد صمت، لأنه بداخل هذا الصوت، يتحدث الصمت للأبد.
تجربة بلا نتائج، إلا أنها مستمرة مع نقاء متزايد من كتاب لكتاب عن طريق رفض كل المصادر، الواهنة فى ذاتها، والتى كان يمكنها أن تبرر الاستمرار.
إنها الحركة الروتينية التى تصدمنا فى البداية. نحن لا نجد هنا شخصا يكتب من أجل غرض الجمال (مهما كان من شرف هذه اللذة)، ولا هو بشخص مدفوع بالرغبة النبيلة التى يميل الكثيرون لتسميتها الإلهام (التعبير عن الجديد والمهم بدافع الواجب أو الرغبة فى استباق المجهول). إذن فلم يكتب؟ لأنه يريد الهروب من الروتين عن طريق إقناع نفسه إنه لا يزال مسيطرا عليه، أنه فى اللحظة التى يعلى فيها صوته قادر على أن يتوقف عن الكلام. ولكن هل هو يتكلم؟ ما هذا الفراغ الذى يصبح صوتا لرجل يختفى بداخله؟ أين سقط. "أين الآن؟ من الآن؟ متى الآن؟"
إنه يكافح- هذا بَيّن، أحيانا يكافح خلسة، كأنه يحاول إخفاء شىء عنا، وعن نفسه أيضا، بمكر أولا، ثم عن طريق هذا المكر العميق يكشف سره. الخدعة الأولى هى أن يضع بين نفسه وبين اللغة أقنعة محددة، وجوه محددة: "مولوى" هو كتاب لا تزال تظهر فيه شخصيات، حيث ما يقال يحاول افتراض الشكل المعروف للقصة، وبالطبع فهى ليست قصة ناجحة، ليس فقط بسبب ما تريد أن تقوله، وهو بائس بطريقة لا نهائية، ولكن بسبب أنها غير ناجحة فى قوله، ولأنها لن تقوله ولا تستطيع قوله. نحن مقتنعون بأن هذا المتجول الذى تعوزه وسائل التجوال (وإن كان لديه على الأقل قدمين، وإن كانتا تتحركان بشكل سىء- هو حتى لديه دراجة)، والذى يدور أبديا حول هدف غامض، مخفى، مكشوف، ومخفى مرة أخرى، هدف له علاقة بأمه الميتة والتى لا تزال تحتضر، شىء لا يمكن إدراكه، فى لحظة الوصول إلى هذا الشىء وهى بالضبط لحظة بداية الكتاب: ("أنا فى غرفة أمى. إنه أنا الذى يعيش هنا الآن")، يصبح مجبرا على التجول بدون توقف حوله، فى الغرابة الفارغة فيما هو مخفى والممتنع عن التكشف- نحن مقتنعون بأن هذا المتشرد هو لا يزال موضوعا لخطأ أعمق وأن توقفه وخطواته الخرقاء تحدث فى فضاء هو فضاء من الهواجس غير الشخصية، الهواجس التى تقوده إلى الأمام للأبد. ولكن لا يهم كم هو ممزق إحساسنا به. مولوى مع هذا لا يستسلم، يبقى كاسم، موضوعا داخل حدود محمية ضد الأخطار الأكثر إزعاجا. هناك بالتأكيد إشكالية فى مبدأ التفسخ بقصة "مولوى"، مبدأ لا يتقيد فقط بعدم استقرار المتجول، ولكنه يتطلب أكثر من ذلك بأن ينعكس مولوى، أن يتضاعف، أن يصبح آخر، المحقق موران، الذى يتبع مولوى بدون أن يقبض عليه على الإطلاق، والذى فى تتبعه يبدأ (هو الآخر) فى الدخول إلى طريق الخطأ غير المتناهى؛ الطريق الذى ما أن يسير فيه أى أحد لا يستطيع أن يظل نفسه، ولكنه ينقسم ببطء إلى أجزاء. موران، بدون معرفة ذلك، يتحول إلى مولوى، بالتالى يتحول إلى شخصية مختلفة تماما، مسخ يهدد أمن العنصر السردى وفى الوقت نفسه يقدم حسا مجازيا، وربما كان حسا مُحبِطا، لأننا لا نشعر أنه ملائم للأعماق المخفية هنا.
تظل "مالون يموت" تسير قُدُما بوضوح: فالمتشرد هنا ليس أكثر من محتضر، والمساحة المتاحة له لم تعد تقدم لنا جوانب المدينة بشوارعها الألف، ولا الهواء المفتوح بأفقه الذى يُظهِر الغابات والبحر، هذه الأشياء التى يظل "مولوى" يقدمها لنا؛ فلا يوجد شىء أكثر من حجرة، وسرير، وعصا يجلب بها الرجل المحتضر الأشياء إليه ويدفعها بعيدا، من أجل أن يوسّع دائرة عدم حركته، وفوق كل هذا هناك القلم الذى يوسّع ذلك أكثر إلى مساحة لا متناهية من الكلمات والقصص. مالون، مثل مولوى، هو اسم ووجه، وهو أيضا مجموعة من المسرودات، ولكن تلك المسرودات ليست مكتفية بذاتها، وهى ليست مسرودة لتنال قناعة القارئ؛ ولكن على العكس، فالاصطناع يظهر بشكل مباشر- القصص مُختَرعة. مالون يقول لنفسه: "هذه المرة أنا أعرف إلى أين أتجه... إنها لعبة. أنا سألعب... أعقتد أننى سأستطيع أن أحكى لنفسى أربع قصص، كل واحدة عن موضوع مختلف". لأى غرض؟ لسد الفراغ الذى يشعر مالون أنه يسقط فيه؛ لجعل الزمن الفارغ يصمت (هذا الذى سيصبح زمن الموت غير المتناهى)، والطريقة الوحيدة لجعله يصمت هو قول شىء بأى ثمن، أن تحكى قصة. بالتالى فالعنصر السردى ليس أكثر من وسيلة من أجل الخداع العام، ليصنع تسوية مزعجة تٌفقد توازن الكتاب، صراع الاصطناعات التى تفسد التجربة، من أجل أن تظل القصص قصصا بدرجة تامة. تألقها، وسخريتها الحاذقة، كل شىء يجعلها ذات شكل ومثيرة للاهتمام يفصلنا عن مالون، الرجل المحتضر، ويفصلها عن زمن موته، من أجل استعادة زمن السرد التقليدى ذلك الذى لا نصدقه والذى لا يعنى شيئا لنا هنا، لأننا ننتظر شيئا أكثر أهمية.
من الصحيح أن "اللا مسمى" هى قصص تحاول أن تظل حية: المحتضر مالون لا يزال لديه سرير، وغرفة- ماهود ليس سوى حطام إنسان موضوع فى جرة للتزيين إلى جانب مصابيح صينية. وهناك أيضا دودة، والذى لم يولد بعد؛ والذى وجوده هو لا شىء سوى قمع عجزه عن الوجود. وجوه مألوفة عديدة تمر، أشباح بلا أجساد، صور فارغة تدور بآلية حول مركز فارغ مشغول بالذات اللا مسماة. ولكن الآن تغير كل شىء، والتجربة، المستمرة من كتاب لكتاب، تصل لعمقها الحقيقى. لم يعد هناك أى سؤال عن الشخصيات الموجودة تحت الحماية المطمئة لوجود اسم شخصى، ولا أى سؤال عن السرد، ولا حتى الموضوع غير المُشكّل للمونولوج الداخلى؛ الذى أصبح عليه السرد هو كونه صراع، فما افترض أنه وجه، حتى لو كان وجه مُجزّأ، تراجع الآن. من الذى يقوم بالحديث هنا؟ من هو الذى حُكم عليه بأنه يتحدث بدون تأجيل. الوجود الذى يقول: "أنا مجبر على الحديث، أنا لن أكون صامتا، أبدا". باقتناع مطمئن، نجيب على ذلك بأنه: صمويل بيكيت. بالتالى يبدو أننا نقترب من أن نعرف أن المهم هنا هو موقف غير خيالى، هذا الذى يستدعى تمزق وجود حقيقى. تجربة الكلمة تحيل إلى ما تم اختباره حقا. وهنا أيضا نحن نحاول استعادة طمأنينة الاسم، وأن نضع "محتوى" الكتاب مرة أخرى فى المستوى المستقر، المستوى الإنسانى، حيث كل شىء يحدث يحدث تحت ضمانة الوعى، فى عالم يدخر لنا أسوأ انحطاط، المتجلى فى فقدان القدرة على قول "أنا".
ولكن "اللا مسمى" هى تجربة تُدار وتعيش تحت تهديد اللا شخصى، اقتراب من الصوت المحايد الذى ارتفع وفقا لذاته، والذى يخترق الرجل الذى يسمعه، هذا بدون حميمية، والذى ينفى أى حميمية، هذا الذى لا يُصنع من أجل أن يتوقف، هذا المستمر، الذى لا نهاية له.
إذن من الذى يقوم بالحديث هنا؟ ربما نحاول أن نقول إنه "الكاتب" إن كان هذا المسمى لا يحيل إلى القدرة والتحكم، ولكن على أى حال فالرجل الذى يكتب هو بالفعل لم يعد صمويل بيكيت بل الإلحاح الذى حل محله، سلبه وجرّده، وهزمه ليصبح ما هو خارج عن نفسه، وجعله وجودا بلا اسم، اللا مسمى، وجود بلا وجود، الذى لا يستطيع أن يحيا أو يموت، لا يستطيع أن يبدأ أو يتوقف، الموضع الفارغ الذى يرتفع منه الصوت الفارغ بلا صدى، مُقنّع، للأفضل أو للأسوأ عن طريق الذات المُفرّغة والمتألمة.
إنه المسخ الذى يكشف صفاته هنا، وفى عمق هذه العملية، يستمر البقاء الكلامى، الغامض، والآثار العنيدة، التشرد غير المتحرك، ويصرّون على الكفاح مع دوام لا يدل حتى على شكل من القوة، مجرد لعنة عدم القدرة على التوقف عن الكلام.
ربما هناك شىء مثير للإعجاب بكتاب يفصل نفسه بوعى عن كل المصادر، والذى يقبل بأن يبدأ من النقطة التى منها لا يمكن الاستمرار، إلا أنه يتقدم بعند بدون سفسطة ولا خداع على امتداد 179 صفحة، لتعرض نفس الحركة الخرقاء، نفس الحركة التى لا تتوقف، نفس الخطوة الجامدة. ولكن تظل هناك وجهة نظر القارئ الخارجى الذى يتأمل ما يعتبره تجربة فريدة. لا يوجد شىء مثير للإعجاب فى التمزق الذى لا مهرب منه عندما تكون ضحيته، لا شىء مثير للإعجاب فى كونك محكوم عليك بالروتين الذى لا يحررك منه الموت حتى، فأن تكون فى هذا الروتين من البداية فهذا يعنى أنه كان عليك أن تهجر الحياة. المشاعر الجمالية لا يتم البحث عنها هنا. ربما نحن لا نتعامل مع كتاب فى الأصل، بل مع شىء يتجاوز كونه كتابا. ربما نحن نقترب من الحركة التى تُستَخرَج منها كل الكتب، نقطة الأصل حيث العمل مفقود بلا شك، النقطة التى تدمر العمل باستمرار، نقطة عدم إمكانية التحقق الأبدية، التى على العمل أن يحافظ معها على علاقة مبدئية متنامية أو سيصير الخطر لا شىء على الإطلاق. ربما يقول المرء أن اللا مسمى محكوم عليه بأن يُجهد اللا متناهى. "ليس لدىّ شىء لأفعله، أو لأقوله، لا شىء على وجه الخصوص. علىّ أن أتكلم، بغض النظر عما يعنيه هذا. ليس لدىّ شىء لأقوله، لا توجد كلمات سوى كلمات الآخرين، علىّ أن أتكلم. لا أحد يجبرنى على ذلك، ليس هناك أحد، إنها مصادفة، حقيقة. لا شىء يمكنه أن يحررنى من ذلك، لا شىء، لا شىء يُكتشَف، لا شىء يُستَعاد، لا شىء بإمكانه تقليل ما تبقى لقوله، لدىّ محيط لأشربه، لهذا وُجد المحيط إذن".
إنه اقتراب من الأصل الذى يجعل الخبرة أكثر خطورة، خطرة بالنسبة للشخص الذى يحملها، وخطرة بالنسبة للعمل نفسه. ولكنه أيضا اقتراب يؤكد أصالة التجربة، ذلك الذى يجعل الفن بحثا أساسيا، هذا عن طريق تقديم هذا الاقتراب لدليل فى قمة الخشونة والتجريد أن "اللا مسمى" لها أهمية بالنسبة للأدب أكثر من أكثر الأعمال نجاحا فى نوعها. حاول الاستماع لـ "هذا الصوت الذى يتكلم، والعارف بأنه يكذب، اللا مبالى بما يقوله، كبير جدا ربما أو مذلول جدا ودوما لا يكون قادرا فى النهاية على قول الكلمات التى ربما تجعله يتوقف". ويحاول أن يهبط إلى الموقع المحايد حيث تحاول الذات الاستسلام من أجل الحديث، من الآن تقع الذات فى الكلمات، فى غياب الزمان حيث عليها أن تموت موتا لا متناهيا: "...الكلمات فى كل مكان، بداخلى، حسنا حسنا، من دقيقة مضت لم يكن لدىّ كثافة، أنا أسمعها، لا حاجة لسماعها، لا حاجة لرأس، غير قادر على إيقافها، غير قادر على الإيقاف، أنا مكوّن من كلمات، مصنوع من كلمات، كلمات الآخرين، أىّ آخرين، المكان أيضا، الهواء، الجدران، الأرضية، السقف، كلها كلمات، العالم كله هنا بداخلى، أنا الهواء، الجدران، الشخص المنغلق، كل شىء يتجرد، ينفتح، ينحسر، يتكسر، مهما ذهبت أجد نفسى، أترك نفسى، أتجه لنفسى، أعود لنفسى، لا شىء على الإطلاق سوى نفسى، جزء من نفسى، مُستعاد، مفقود، متشرد، أنا كل هذه الكلمات، كل هؤلاء الغرباء، غبار الكلمات، بلا أرضية لتستقر عليها، بلا سماء تنتثر فيها، تتجمع معا للحديث، تفر الواحدة منها بعد الأخرى للحديث، بأننى هن، كلهن، هؤلاء الممتزجات، المتفرقات، اللواتى لا يلتقين، ولا شىء آخر، لا.. هناك شىء آخر، أننى مختلف تماما، شىء مختلف تماما، شىء بلا كلمات فى مكان فارغ، مكان قاس مغلق وجاف، حيث لا شىء يتحرك، لا شىء يتحدث، وأنا أسمع، وأنا أبحث، كحيوان محبوس ولد من حيوانات محبوسة، ولدت من حيوانات ولدت من حيوانات محبوسة..."