نصري الصايغ تاريخ المقال: 10-07-2014
كتب محمد الماغوط ما يلي:
«يشعر (العربي) انه محاصر كالقلم في المبراة، وانه عار من كل شيء في أقصى صقيع عرفه القدر، ولا يملك سوى راحتيه، يستر بهما وسطه. وهو في وقفته الضالة والمخجلة تلك على رصيف المئة مليون أو أشبه (تعداد العرب في الستينيات) لا ينقصه إلا إطار في قاعة محاضرات، وبحاثة في علم «بقاء الأنواع»، يشير بطرف عصاه أمام طلابه ويقول: كنا ندرس يا أولادي من قبل كيف يتطوّر المخلوق البشري في مناطق كثيرة من قرد إلى إنسان. والآن، سندرس كيف يتطوّر المخلوق البشري في هذه المنطقة (العربية طبعاً) من إنسان إلى قرد. وأهله وحكامه يتفرجون عليه من النافذة ويضحكون».
تعليق: شعب محاصر كالقلم في مبراة رهيبة. يسلخ جسده عن جسده. يبقى بلا روح. يهيم على وجهه عارياً معذباً مشرداً. لا يملك غير أمل النجاة المستحيل. محاصر بآلة متعددة الشفرات، تفرمه الديكتاتوريات، تروّسه الديانات، تفترسه الطوائفيات، تنحره المذهبيات... ليته يتحوّل من إنسان إلى قرد فقط، بل يصير حشرة تسحق بنعل. يُغطّى ببصقة. يحدث كل ذلك، فيما حكامه وأمراؤه ورجال دينه يتفرجون عليه، ويستزيدون من دمه، ويضعون اللوم عليه.
تعليق آخر: يتعرض العربي إلى عملية تحويل. المسألة ليست حرباً عسكرية، أو عنفا طائشاً. انها عملية إعدام لفكر وثقافة وقيم ومكتسبات، وعملية إحياء أصنام دينية، بأشكال وثنية متوحشة، «ذات رسالة خالدة»، تقضي بكتابة التاريخ مقلوبا، بأشباه إنسان، أو، بلا إنسان بالمرة. التاريخ مع حركات الإسلام السياسي، يسير فقط إلى الخلف، وخلفنا في النهاية، القرد، أصلنا المفترض. مع الاعتذار الشديد من القرد، لأنه حيوان جدير بالاحترام، أكثر من ورثته.
II ـ آخرة النمر.. حمار
كتب زكريا تامر ما يلي:
«قال المروض للنمر (بعد تجويعه وتطويعه): قلد صوت الحمار. قال النمر باستياء، أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أقلّد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك».
جاع النمر كثيراً. وعندما قدم المروض في اليوم التالي، قال للنمر: «ألا تريد أن تأكل؟» قال النمر: «أريد أن آكل». قال المروض: «اللحم الذي ستأكله له ثمن، إنهق كالحمار تحصل على الطعام».
حاول النمر أن يتذكّر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين. قال المروض: «نهيقك ليس ناجحاً، ولكنني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك». وفي ما بعد انتهى الترويض بأن ألقى المروّض أمام النمر حزمة من الحشائش: «منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش. (طعام الحمار). ولما اشتد جوع النمر، حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، لكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً».
«ثم اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر (الحمار) مواطناً، والقفص مدينة».
تعليق
إذا أردت أن تقبض على الرأس، فتصيّد المعدة. اللقمة أساس الفكرة. الطعام أولاً والعقل ثانياً. ووفق هذه المعادلات، يتم إخضاع الإنسان لشروط تأمين الطعام، ثم يتم تحويل الإنسان، في مجتمعات الفاقة الديموقراطية والعوز إلى الحرية، إلى لا إنسان. تفقده الحاجة والتلبية الممتنعة أو الممنوعة، إلى طالب رزق وطعام. يتنازل عن قيم ومبادئ وأخلاق وكرامة وقضايا وحقوق. تصبح الحياة النباتية هي الهدف. هنا، يتحول الإنسان إلى مخلوق مطيع، مبرمج وفق نمط السلطة... أخضع العرب عقوداً، كشعب، إلى عملية تحويل تامة. السلطة أخضعته فانكسر وأطاع. أغرته بالنفط والثروة والمكانة، فتذيَّل (من ذيل).
تحول من إنسان نبيل، حالم، مؤمن بالحياة، متفائل بالمستقبل، عامل من أجل وطنه ونفسه، إلى لا إنسان، يدافع عن محتقره، يقدس قاتل أحلامه، مؤمن بأن السلامة غنيمة. قاعد عن «الجهاد» في سبيل الحياة. ومن خرج من القطيع، تحوّل إلى صعلوك، المواصفات إنسانية راقية، مطارد من جلاوزة السلطة. والسلطة الدينية أشد فتكاً من الديكتاتوريات والممالك. فكيف إذا استحوذت السلطة الدينية على نفط غزير ومتدفق، وعلى سلطة سياسية... عندها يتكاثر «المؤمنون» كالقطعان. سيتدفقون تأييداً، ويستأسدون هياجا، ويتفوقون وحشية وبربرية.
آلات قتل الإنسان، في الكائن العربي، ثالوث من الطاغوت، «رأسمال نفطي، ورأسمال ديني، ورأسمال سلطوي». هذا الثالوث حوّل الإنسان العربي، إلى... ما ورد أعلاه. والناجون منه كفرة، مارقون. معارضون، نبلاء، حلال قتلهم وسجنهم وسحلهم.
III ـ آينشتاين.. وغباء الإنسان
نصحني الصديق نايف سعاده بأن أقرأ ما يلي:
وضع مجموعة من العلماء خمسة قردة في قفص كبير، يتوسطه سلم، عُلّق في أعلاه، قرط موز. وفي كل مرة تسلق فيها قرد السلم ليطال موزة، تعرض «إخوته» فوراً، إلى حمام من مياه شديدة البرودة.
تعلم القردة الدرس. ففي كل مرة كان قرد ما يحاول إحضار الموز، يشرع «إخوته» بضربه، خوفا من الحمام البارد.
بعد وقت، لم يعد أحد من تلك القردة يخاطر بتسلق السلم، برغم الإغراء الذي يوحيه الموز والشهية المرافقة.
انتهى الفعل الأول من التجربة. قرر العلماء استبدال أحد القردة بآخر. وأول ما ارتكبه القرد الجديد، هو محاولة تسلق السلّم، فتعرض لضرب مبرح من القردة. وبعد تكرار الضرب، تعلّم القرد الجديد في المجموعة أن يمتنع عن تسلق السلم، من دون أن يعرف السبب. بين الموزة والسلامة اختار القرد السلامة. وهذا منطقي.
وبعد وقت آخر، استبدل قرد بآخر. فحاول القرد الجديد التصرف وفق المنطق الطبيعي. فانضم القرد الذي سبقه إلى الآخرين، وأوسعوه ضرباً، عندما همّ بالتوجه إلى السلم، تم استبدال قرد ثالث... وتكررت العملية.
المجموعة التي ظلت حتى نهاية الاختبار، لم تتعرض لحمام مياه بارد، ولا عرفت به، ومع ذلك فقد استمرت في ضرب أي قرد جديد يفكر بتسلق السلم. أصبح الضرب بلا سبب سلوكاً طبيعياً موروثاً.
لماذا؟ ولا قرد كان يعرف لماذا. لكن الضرب بات قانون المجموعة.
ينهي آينشتاين:
«لو كان ممكناً التكلم مع القردة وسؤالها عن سبب ضربها لكل من يفكر بتسلق السلم، أراهن أن جوابها سيكون التالي: لا ندري، ولكن الحال هنا كذلك».
لماذا نستمر في التصرف على ما اعتدنا عليه، إن كان هناك بدائل؟ الجواب عندنا سهل. لا يشبه جواب آينشتاين، لا حدود لهما، الكون وغباء الإنسان، مع أنني لست متأكداً بخصوص الكون...».
جوابنا مرئي، لا يحتاج إلى عمق القراءة والتحليل وإلى تنبه في الاستدلال. نحن ورثنا قوالب تأديبية، على ما لم نرتكبه أبداً. نولد في قفص الموز العربي هذا، وأمامنا العقاب. والآخر، عليه أن يكون في القطيع، إن خرج، والخروج شأن طبيعي من غريزة الحرية في الإنسان، تعرض للعقاب.
هذا التفسير له في المشاهدات والوقائع تعبيرات وتجارب. يولد العربي، وتحديداً بعد الستينيات، وفي عز الديكتاتوريات، وهو معرض للعقوبة بلا سبب. يجب أن يكون لا موجوداً طبيعياً. أي يلزم أن يكون بلا هيئة وبلا طموح وبلا سلّم يرتقي فيه إلى...
الموجود الأول، هو الوجود العام. القائد هو الشعب والدولة والأمة والقضية، ويطبق ذلك، بكل الظلم المعهود، على ما عرفت عليه تجربة آينشتاين ويبرز الديكتاتور في هذا التنميط، الحضن الديني الطائفي والمذهبي.
يولد الطائفي أو المذهبي فيكتسب تدريباً طبيعياً، على أن من هو من غير طائفته، قد يكون عدواً، أو قد يصبح عدواً... أن نقول إن الطائفي يولد ويولد عدوّه معه، فهذا أمر مبتوت، وإلا فكيف نفسر الاصطفافات المذهبية والدينية، وكيف نفسر جاذبيتها لجموعها المحتشدة فيها بسهولة التوريث، وكيف نفسر تبنيها لقضايا، ثم الانقلاب عليها؟ كيف نفهم أن تحتشد في الصفوف المذهبية، مجموعات أكاديمية ونخب فكرية وثقافية وعلمية، إلى جانب مجموعات لم يتيسر لها غير اليسير من المعارف والوعي والفرص؟ كيف تصير كل هذه المجموعات، عامة وتسلك كالغوغاء؟ كيف تصير تابعة بإرادتها؟
IV ـ الهلالان وما بينهما
المشهد العربي بين هلال سني، متعدد الجماعات، متنوع التوجهات، مختلط الأقوام والأوطان، تجمعه عدائية واحدة، للاصطفاف الشيعي، بأساليب مختلفة، منها ما هو «داعشي» ومنها ما هو أرق وأكثر لطفاً ولكن أشد لؤماً وخبثاً، وبين هلال شيعي، متعدد القوميات والأوطان والمرجعيات والمستويات والقضايا والتحالفات (مع أميركا في العراق، وعداء له في لبنان وإيران) يستحوذ حيث هو على سلطة يتسلط بها، أكان في سوريا أم في العراق... (المسيحيون، عرفوا اصطفافات شبيهة في الحرب اللبنانية، ومارسوا عنفاً مشهوداً).
يصعب على المتابع التدقيق في حجم التصنيع وقدرته على إنتاج هذه الملايين. كما تصعب معرفة البرامج التي تعتمد في صياغة هذا النمط من البشر. لكن يُشار إلى أن التبشير المنحاز دينياً، والتأكيد على «الفرقة الناجية»، والاستناد إلى التنكيل والجرائم التي حدثت في التاريخ، تمثل المحرك الأول لهذه الآلة التي دعمت بمال نفطي وفير، وقضايا وطنية وإقليمية وسياسية. وأسلمت الأمرة لرجال دين، يتصدرون وسائل إعلامية حديثة، لا يأتيها الباطل أو الخطأ من أي جانب، ولو أفتت بالقتل والتعامل مع الشيطان الأميركي أو عزرائيل الإسرائيلي.
إنه قفص الموز. إنها ولادة نموذج أو منظومة أو مثال يحتذى. والمنظومة (Para oligme) هي تصوّر للعالم، وهنا، هو تصور مسبق وملفق، وأسلوب للنظر إلى الأمور متناغم مع الصورة التي ترسم للعالم، يستند إلى قاعدة محددة: قالب تأديبي ونموذج نظري (ديني في واحتنا).
ثم يسألونك عن الإنسان فقل: هذا من بقايا الذاكرة. وإن سألوك عن الوحش فينا فقل: هذا من أمر «أولي الأمر».
فبئس ما آلت إليه أرواحنا.
ايمايل الكاتب
nsayegh@assafir.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.حقوق المقال تعود لجريدة السفير .http://goo.gl/2ilMTq