‏إظهار الرسائل ذات التسميات صمويل بيكيت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات صمويل بيكيت. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 5 سبتمبر 2010

حوار جابرييل دوباريد مع بيكيت 1961



حوار جابرييل دوباريد* مع بيكيت، بمجلة نوفيل ليتيرير، 16 فبراير 1961

ترجمة أمير زكى
سبتمبر 2010

عن ترجمة كريستوفر ووترز للإنجليزية
من كتاب التراث النقدى المتعلق ببيكيت Samuel Beckett: The Critical Heritage

***
انتظرت مؤلف مسرحية (فى انتظار جودو) بمكتبه الذى خصصه له ناشره بباريس، وكنت أتساءل إن كان سيحضر حقا، فهو حتى اليوم يرفض إجراء حوارات صحفية، ربما بسبب الخجل والانطواء أو لأن هذا جزء من نظامه.

وكاتبنا، المعروف غالبا بنفوره، فى الخمسينيات من عمره الآن، وهو أيرلندى مثله مثل جيمس جويس، ويقال إن جويس كان يفضل بيكيت على العديد من مترجميه الآخرين. درّس بيكيت اللغة الإنجليزية بمدرسة المعلمين العليا بباريس، وبعد ذلك دّرس اللغة الفرنسية بكلية ترينيتى بدبلن. ونشر فى لندن عدة دواوين شعرية ودراسة عن بروست، أما روايته مورفى فقبل أن تنشر ألقيت قنبلة ألمانية على لندن لتدمر النسخة كلها.

فى عام 1938 جاء بيكيت إلى فرنسا ليقيم فيها، ومن ساعتها بدأ يكتب بالفرنسية، كتب ثلاثيته (مولوى- مالون يموت- اللا مسمى) التى استقبلت بشكل إيجابى من النقاد الذين يميلون للأدب الصعب، ولكن حتى أكثر المتحمسين من هؤلاء أحبطوا من عمله الأخير (كيف هذا؟)، فى حين تعتبر مسرحيته (فى انتظار جودو) هى أكثر أعماله قابلية للفهم، رغم أن شيئا لا يحدث فيها، وهى عرضت عشرات المرات بمسرح دى بابيلون ولاقت نجاحا كبيرا فى أنحاء أوروبا، وفى ألمانيا بشكل خاص.

ولكن يظل السؤال: هل سيحضر هذا الشخص المربك؟ نعم.. فها هو قد حضر.

إن قدما مولوى مشلولتان، ويعانى مالون من سكرات الموت، واللا مسمى شخص طريح شيء أشبه بالكفن، ولكن الشخص الذى بث الحياة فى هذه المسوخ يبدو وسيما وبصحة جيدة، طويل، أشقر الشعر، وذو سمرة خفيفة، ملامحه متناسقة ونبيلة، ينظر إليك من وراء نظارة سميكة، وأحيانا يلوى شفتيه بطريقة ساخرة وماكرة.

كان قد وصل للتو من قرية بمقاطعة سين دو مارن** حيث اشترى بيتا صغيرا هناك، والفضل للميراث الضئيل الذى حصل عليه.

وكنت أعرف أنه لا يحتمل مهازل الحياة الأدبية الرسمية، لذلك أخبرته كم أحسده لأنه قادر على العمل بعيدا وفى هدوء، فأكد على كلامى قائلا:

"أنت على حق، فالريف مكان ملائم للكتابة."

"إذن فقد كتبت الكثير مؤخرا؟"

"لا شىء.. اشتغلت بالحديقة وببعض الأعمال الصغيرة.. لم أكتب."

"هل هذه هى الحقيقة؟"

"فقط بعض المقاطع الصغيرة، قصص قصيرة نوعا ما." ثم نظر شاردا نحو الباب.

ولألطف الجو أخبرته أننى فى الماضى كنت على معرفة محدودة بأبناء أستاذه جيمس جويس، عندما كانوا يعيشون بالقرب من شان دى مارس***.

فسألنى بشكل ودى: "إذن فأنت كنت تعرف جورج والمسكينة الصغيرة لوشيا؟"

"لم هى مسكينة؟" فأوما بطريقة غير مفهومة.

"جويس كان يعتبرك واحدا من أفضل مترجميه، فهل يمكن أن نقول أيضا إنك تلميذه؟ أعنى مونولوجاتك الداخلية الطويلة.."

"أوه.. أنت تعرف. فقط ما ترجمته بشكل شخصى، أقصد ما ترجمته كله بنفسى كان آنا ليفيا بلورابيل****. ولكن هنا فى باريس قمت بعدة ترجمات – بدون وضع اسمى – لأكسب عيشى. بعد إذنك.."

جلس بيكيت على مكتبه وبدأ فى توقيع كتب له، إذن فهو يهدى كتبه مثل المؤلفين الآخرين. اتكأت على حافة المكتب وقلت:

"قراءة رواياتك عملية صعبة، فهل كتابتها عملية صعبة كذلك؟"

"نعم.. نعم، ولكنها نتاج لحماس متدفق وشديد."

"حماس؟"

"مالون نتجت عن مولوى، واللا مسمى نتجت عن مالون، ولكن بعد ذلك ولفترة طويلة لم أكن متأكدا إن كان لدىّ شىء متبق لأقوله، فأغلقت على نفسى محاولة منى للكتابة، فكتبت بعض النصوص القصيرة، أو القصص القصيرة لو أحببت تسميتها كذلك وهى (نصوص من أجل لا شىء)."

"هل للفلاسفة المعاصرين أى تأثير على أفكارك؟"

"أنا لا أقرأ الفلاسفة؟"

"ولم لا؟"

"أنا لا أفهم أى شىء مما يقولونه."

"ولكن مع ذلك فالناس يعتقدون أن مشكلة الوجود عند الفلاسفة الوجوديين من الممكن أن تكون مدخلا لفهم أعمالك."

"لا توجد هناك مشكلة ولا يوجد مدخل، لن يكون هناك أى مبرر لكتابة رواياتى لو كنت أستطيع أن أعبر عن مضمونها بمصطلحات فلسفية."

"ما المبرر إذن؟"

"ليس لدىّ أدنى فكرة. أنا لست عقلانيا، كل ما لدىّ هو المشاعر، مولوى والكتابات الأخرى جاءوا إلى ذهنى عندما أصبحت واعيا بحمقى، عندها فقط بدأت أكتب عما أشعر به."



*  كاتب وصحفى فرنسى
**  مقاطعة بشمال فرنسا
***  حديقة كبيرة بباريس
****  جزء من رواية جويس الأخيرة (يقظة فينيجان)

السبت، 28 أغسطس 2010

مولوى- صمويل بيكيت- اقتباسات



" ولكننى لا أعمل من أجل المال، من أجل ماذا إذن؟ لا أعرف، الحقيقة أننى لا أعرف العديد من الأشياء."
 ***
" كل ما أحتاجه الآن هو ابن، ربما كان لدىّ واحد فى مكان ما، ولكنى لا أعتقد ذلك، لو كان موجودا لكان كبيرا الآن، كبيرا فى مثل عمرى تقريبا."
 ***
" يبدو لى أحيانا أننى عرفت ابنى، وأننى ساعدته، ثم أقول لنفسى بعد ذلك إن هذا مستحيل، من المستحيل أن أكون قد ساعدت أى أحد على الإطلاق."
 ***
" أنا أتحدث بزمن المضارع، فمن السهل أن تتحدث بزمن المضارع حين تتحدث عن الماضى."
 ***
" القول هو ابتكار. هذا خاطئ، هذا خاطئ تماما، فأنت لا تبتكر شيئا، أنت تعتقد أنك تبتكر، أنت تعتقد أنك تتحرر، وكل ما تفعله هو أنك تردد الدرس الذى تعلمته."
 ***
" هذا هو أحد الأسباب التى تجعلنى اتجنب الكلام بقدر الإمكان؛ لأننى دائما ما أقول أكثر أو أقل من المطلوب، وهذا شيء بشع بالنسبة لشخص لديه ولع بالحقيقة مثلى."
 ***
" لأن بداخلى هناك دوما أحمقين، ضمن آخرين، أحدهما لا يطلب أكثر من أن يظل حيث هو، والآخر يتصور أن الحياة ربما تكون أقل بشاعة نسبيا لو تحرك قليلا."
 ***
" فالكلمات التى أنطقها بنفسى، والتى لا بد من أن تكون قد خرجت بمجهود عقلى، تبدو بالنسبة لى كطنين حشرة، وربما هذا هو أحد الأسباب التى تجعلنى قليل الكلام، أعنى أننى أعانى من مشكلة فى الفهم، ليس فقط فهم ما يقوله الآخرون لى، بل فيما أقوله للآخرين أيضا."
 ***
" لقد أسأت تقدير المسافة التى تفصلنى عن العالم. وكثيرا ما مددت يدى نحو أشياء بعيدة عن متناولى، وكثيرا ما اصطدمت بعقبات تكاد لا تكون واضحة فى الأفق."
 ***
" لديها ثقب بين فخذيها، لا.. ليس ثقبا كبيرا كما كنت أتخيل دوما، ولكنه شق صغير، بداخله وضعت، أو بالأحرى هى وضعت، ما يطلق عليه عضوى الذكرى، لم يكن هذا سهلا جدا. ثم اجتهدت وكدحت حتى انتهيت، أو حتى يئست من المحاولة، أو حتى توسلت هى إلىّ أن أتوقف."
 ***
" دخلت أول ملجأ وجدته، وبقيت هناك حتى الفجر. لأننى كنت أعرف أنه لا مفر من أن يوقفنى أول شرطى ويسألنى عما أفعله، هذا السؤال الذى لم أكن أبدا قادرا على إيجاد إجابة ملائمة له."
 ***
" مولوى، إن موطنك كبير جدا، فأنت لم تتركه أبدا ولن تتركه، ومهما ارتحلت فأنت بداخل حدوده، وسوف تظل دوما ترى الأشياء نفسها."
 ***
" إن النوم أيضا هو نوع من الملاذ."
 ***
" ولكن فكرة الانتحار لا تسيطر علىّ كثيرا، أنا لا أعرف لماذا."
 ***
" أنا كبير جدا لأخسر كل هذا وأبدأ من جديد، أنا كبير جدا.. اهدأ يا موران.. اهدأ.. لا مشاعر لو سمحت."
 ***
" لا أعتقد أن يودى لديه اهتمام كبير بهن. هذا يذكرنى بالنكتة القديمة عن روح المرأة؛ يسأل أحدهم: هل للمرأة روح؟ الإجابة: نعم. يسأل: لماذا؟ الإجابة: حتى نلعنها."
 ***
" صرخت فيه أننى لا أستطيع أن أتحرك، وأننى مريض، وأنه لا بد أن أُحمَل وأن ابنى هجرنى، وأننى لا أستطيع تحمل شيئا آخر."

صمويل بيكيت
مولوى
الاقتباسات من ترجمتى عن الترجمة الإنجليزية للرواية

الأحد، 8 أغسطس 2010

مالون يموت لصمويل بيكيت


مقال لوليام باريت
عن النيويورك تايمز، سبتمبر 1956

ترجمة أمير زكى
أغسطس 2010

وليام باريت (1913-1992) كان أستاذا للفلسفة بجامعة نيويورك، وله العديد من الإسهامات فى الفلسفة الوجودية.

***

فى الأغلب فالصخب الذى أحدثته مسرحية فى انتظار جودو هو الذى يجذب القراء السطحيين إلى روايات صمويل بيكيت، ولكن فى الأغلب أيضا فإن الكثيرين منهم سيشعرون بالإحباط، فعملية هدم الشكل الأدبى التقليدى التى تحققت جزئيا فى (جودو) تم تحقيقها بشكل أكبر هنا. فى (جودو) لا توجد حبكة بالمعنى المعروف، ولكن فيها ما يكفى من الحركة الدرامية التى تجعل المشاهد منجذبا لها، والشخصيات (من خلال شخصيات الممثلين) لديها هوية.

أما فى رواية (مالون يموت) فنحن تقريبا لا نعرف أكثر من أن مالون – بغض النظر عمن يكون – يحتضر، وأنه يموت فى النهاية، أما الباقى فهو كابوس. فأثناء احتضاره يتلو على نفسه بعض القصص؛ أسماء الشخصيات تتغير، الأشكال تغيم، ربما يكونون أشخاصا مختلفين، أو يكونون نفس الشخص، أو تنويعات على شخصية مالون نفسها (فعلى أى حال من على يقين بالهوية الشخصية؟)، وفى النهاية، بعدما يصبح الكابوس أكثر عنفا وازدحاما وهذيانا، تتوقف الكتابة ويموت مالون.

ربما يبدو المضمون غير مشجع بالنسبة لرواية، فقراءتها بسرعة كما نفعل مع معظم الروايات التى تحتوى على قصص سيجعل الكتاب رتيبا ومملا، بل ومثيرا للغثيان للقارئ الضجر، ولكن لا يمكن قراءة بيكيت بنفس طريقة الروايات العادية، فعليك أن تبتلعه على جرعات صغيرة، وأن تعود إليه مرارا وتكرارا، بهذه الطريقة تتأسس قوة الكتاب.

بيكيت يكتب مثل طائر مجروح، يقوم بتحليقات قصيرة، فلا يقضى وقتا فى الهواء حتى يسقط مرة أخرى، ولكن حركة هذا المنحنى تكون رائعة ، فبعد إعادة القراءة تحولت من إحباطى الأول إلى قناعة بأن الروايات الثلاث (مولوى)، (مالون يموت)، (اللا مسمى) أكثر قوة وأهمية من جودو.

فما يفعله الكاتب هنا هو محاولة تستدعى ما يفعله بعض الفنانين التجريديين؛ حين يفرغون اللوحة من كل الأشكال المألوفة على أن تكون اللوحة مثيرة بصريا مع ذلك. بيكيت يسعى لتفريغ الرواية من كل الموضوعات المألوفة- الحبكة، الموقف، الشخصيات، على أن يظل القارئ مع ذلك مأخوذا ومنجذبا للرواية، وكثيرا ما نجح فى ذلك، رغم أنه يسبح ضد التيار.

ولكن ربما يتساءل القارئ، ما فائدة هذا؟ لماذا يُدفع أى شكل فنى نحو حدود اللا شيء. حسنا، أولا فمن المثير للتحدى أن نرى إلى أى مدى يمكن للفرد أن يمضى بغض النظر عن الإتجاه. ثانيا فنوعية الخبرة التى يتعامل معها بيكيت تمثل مساحة كبيرة من الحياة، أكبر حتى من قدرتنا على الاعتراف بها لأنفسنا.

وإذا لم تكن كلمتا (إيجابى) و(سلبى) قد فقدتا معناهما تماما (مثل كلمتى يمينى ويسارى فى السياسة) فى عصرنا هذا، فعلىّ أن أقول إن بيكيت واحد من أكثر الكتاب الأحياء إيجابية، فهناك خلف تجديفه الحاد ضد الإنسان حب حقيقى، هذا غير أصالته التى تجعل من كل كلمة يكتبها تبدو وكأنه عاشها.

السبت، 17 يوليو 2010

حوار اسرائيل شنكر مع بيكيت 1956



حوار اسرائيل شنكر مع بيكيت، فى النيويورك تايمز، 5 مايو 1956

ترجمة أمير زكى
يوليو 2010
شكر خاص لـ ريس ترنتر
Special thanks to Rhys Tranter

اسرائيل شنكر (ولد عام 1925) صحفى أمريكى بالنيويورك تايمز، ينشر الحوار المهم الأول مع صمويل بيكيت.

***
أبواه أيرلنديان، ولد فى دبلن عام 1906، وبعد هذا التاريخ بخمسين عاما أصبح لدى صمويل بيكيت – رجل الأدب الكئيب البائس – مسرحية تعرض ببرودواى.

النقاد والجمهور وحتى الممثلين فى (فى انتظار جودو) يتساءلون عما يريد بيكيت قوله، هناك اتفاق عام على إنه غير مدعى ولكن هذا لا يخفف كثيرا من غموض رسالته.

بيكيت لا يميل لتقديم تفسيرات، وهو يصر على أنه لم يجر حوارات، ويحيل هؤلاء الذين يطلبون آراءه إلى أعماله المنشورة.

لقاء بيكيت أقل صعوبة نسبيا من لقاء جودو، الذى لا يظهر قط فى المسرحية* على الرغم من أن الجميع بانتظاره. عنوان بيكيت بباريس لا يزال سريا، ولا يوجد هناك أكثر من دزينة أفراد يعرفون مكان منزله الريفى.

بيكيت رفيع الجسد، وذو مظهر مهيب، وكأنه رسول حاد الطباع، ولكنه لا يهتم بشكله، فإذا بدت ملابسه وكأنه نام بها (وهى كذلك) فلا يبدو أنه يلاحظ.

شقته بباريس تقع بالطابق الثامن فى عمارة ليست أقل كثيرا من عمارات الطبقة المتوسطة بالمدينة. عدد من لوحات الكانفا معلق على الحوائط. منزله الريفى تم شراءه من مقابل حقوق (جودو). أرضية الحديقة مغطاة بالحصى، عمل بيكيت لساعات طويلة لينظف المكان وليشذب عشب الأرضية.. غرس هناك أشجارا، ولا يزال يعمل كبستانى بسيط ونشيط. هناك صديق علق على ذلك وقال: " بيكيت لديه ميل للانحطاط، ليبعد نفسه عن التفكير، كشخصية من شخصيات كتبه."

يتكلم بيكيت بتردد معذب، بالضبط مثل شخصياته، ولكنه يتكلم أيضا بذكاء، هو يخاف أن يستسلم لكلماته، فهو يعرف أن الكلام هو مجرد طريقة أخرى لإثارة الغبار. وإذا كان سيتخفف من موقفه تجاه الحوارات فهذا هو ما سيقوله (لقد قال الآتى كله، بنفس صياغة الجمل):

" جئت باريس لأول مرة كطالب بكلية ترينيتى عام 1926، وجئت أيضا كمحاضر بمدرسة المعلمين العليا عام 1928. ثم تم اختيارى كمساعد أستاذ للغة الفرنسية فى دبلن لفترة 3 سنوات، استقلت بعد أربعة فصول دراسية، لم أحب التدريس، ولم استطع الاستقرار للعمل، لذلك تركت أيرلندا."

" ذهبت إلى ألمانيا، إلى لندن، وعدت لدبلن، كنت أتنقل من هنا لهناك، هذه كانت فترة مربكة لعقلى."

" لدىّ أخ أكبر، يعمل مُسّعِر مبانى، مثل أبى، أخذ أخى عمل أبى على عاتقه بعدما توفى الأخير."

" لم أحب العيش فى أيرلندا، أنت تعرف هذا، الثيوقراطية، الرقابة على الكتب، هذه الأشياء.. أفضل العيش بالخارج، فى 1936 عدت لباريس وعشت فى فندق لبعض الوقت، ثم قررت أن أستقر وأعيش حياتى هنا."

" عندما كانت أمى حية كنت أذهب إليها لمدة شهر كل عام، توفت أمى عام 1950."

" أنا لم أكن أبدا سكرتيرا لجويس، ولكنى ساعدته مثل كل أصدقاءه. هو كان عاجزا بدرجة كبيرة بسبب عينيه.. قمت بأعمال صغيرة له، كترقيم الفقرات أو القراءة من أجله، ولكنى لم أكتب أبدا أيا من أعماله."

" لقد كنت فى أيرلندا عندما بدأت الحرب عام 1939، ثم عدت لفرنسا، لقد فضلت فرنسا فى الحرب على أيرلندا فى السلم.. لقد فعلت ذلك فى الوقت المناسب، لقد كنت هنا حتى عام 1942، وبعدها كان علىّ أن أرحل، لذا ذهبت إلى فوكليز** بسبب الألمان."

" أثناء الحرب، كتبت كتابى الأخير بالإنجليزية، والذى كان (وات)، وبعد الحرب عدت لأيرلندا عام 1945، وعدت مع الصليب الأحمر الأيرلندى كمترجم وأمين مخازن، ولكنى لم أبق طويلا مع الصليب الأحمر."

" على الرغم من أننى كنت مضطرا إلى أن أرحل عام 1942، إلا أننى كنت قادرا على الاحتفاظ بشقتى فعدت إليها وبدأت الكتابة مرة أخرى بالفرنسية، شعرت برغبتى فى هذا، الكتابة بالفرنسية كانت خبرة مختلفة عن الكتابة بالإنجليزية وأكثر إثارة بالنسبة لى."

" كتبت أعمالى سريعا جدا، ما بين 1946 و1950، لم أكتب شيئا من ساعتها، أو على الأقل ليس شيئا ذا قيمة بالنسبة لى. الأعمال التى كتبتها بالفرنسية أوصلتنى إلى نقطة إننى كنت أقول نفس الشيء مرارا وتكرارا. بالنسبة لبعض الكتاب تسهل الكتابة كلما كتبوا، بالنسبة لى تكون أكثر صعوبة، فالإمكانيات تضيق أكثر فأكثر."

" لقد قرأت كافكا بالألمانية، قراءة جادة، باستثناء بضعة أشياء بالفرنسية والإنجليزية، (القلعة) بالألمانية، علىّ أن أقول إنه من الصعب الوصول للنهاية. بطل كافكا لديه وحدة غرض، هو ضائع ولكنه غير مهتز روحيا، إنه غير محطم، شخصياتى تبدو محطمة. هناك اختلاف آخر، ستلاحظ أن شكل كافكا كلاسيكى، يمضى كعربة رصف، وهو خامد غالبا، يبدو وكأنه مهدد طوال الوقت، ولكن الذعر يكون فى الشكل. فى عملى، فالذعر يكون فيما وراء الشكل، لا الشكل."

" مع نهاية عملى لا يتبقى سوى الغبار، سوى المسمى. فى كتابى الأخير (اللا مسمى) هناك تفسخ كامل، ليس هناك (أنا)، ليس هناك (ملكية)، ليس هناك (وجود)، لا فاعل، لا مفعول، لا فعل، لا توجد طريقة للاستمرار."

" العمل الأخير الذى كتبته (نصوص من أجل لا شيء) كان محاولة للخروج من هذه الحالة ولكن المحاولة فشلت."

" بالنسبة لجويس فالاختلاف بيننا هو أنه متمكن تماما من أدواته، ربما يكون الأعظم، هو يستخدم الكلمات بحيث تقدم الحد الأقصى من المطلوب. لا يوجد مقطع زائد عن الحاجة. بالنسبة لعملى فأنا غير متمكن من مادتى. كلما عرف جويس كلما عمل، هو يميل لفكرة العلم والقدرة الكلية للفنان، أنا أعمل فى العجز والجهل. لا أعتقد أن العجز استغل فى الماضى. يبدو أن هناك نوع من البديهية الاستطيقية ترى أن التعبير هو إنجاز، أو لا بد أن يكون إنجازا. اكتشافى الضئيل هو لهذا المدى الكامل من الوجود الذى كان دوما يوضع جانبا من قبل الفنانين كشيء غير مفيد، كشيء بالضرورة متضارب مع الفن."

" اعتقد أن أى أحد فى هذه الأيام يلقى انتباها ولو ضئيلا لخبرته الذاتية، سيكتشف أنها خبرة عدم المعرفة، وعدم الاستطاعة (الشخص الذى لا يستطيع). النوع الآخر من الفنانين (الأبولونى) هو بالضرورة غريب عنى."

ولما سؤل بيكيت إن كان نسقه هو غياب النسق قال: " أنا لا أستطيع رؤية أى أثر لأى نسق فى أى مكان."

هل بيكيت غير مهتم بالاقتصاد؟، ألا يعالج أبدا قضايا مثل كيف تكسب شخصياته عيشها؟ قال بيكيت: " شخصياتى ليس لديها شيء." ثم ترك الموضوع.

سألته: لماذا اختار أن يكتب مسرحية بعد كتابة الروايات؟ أجاب: " أنا لم أختر أن أكتب مسرحية، الأمور حدثت هكذا."

النقاد قالوا إن بناء مسرحية (جودو) ومضمونها يجعلان المؤلف قادرا على أن يترك قلمه فى أى لحظة. يرفض بيكيت: " فصل واحد كان قليلا جدا، وثلاثة فصول كثيرة جدا."

يتحرك بيكيت كحيوان مجروح فى شقته بباريس. ويشكو قائلا: " رواية اللا مسمى وضعتنى فى موقف لا أستطيع أن أحرر نفسى منه."

ماذا ستفعل إذن عندما لا تجد شيئا تفعله، هل ستفعل مثل الآخرين، ستستمر فى المحاولة؟
أجاب بيكيت: " هناك آخرون، مثل نيكولاس دى ستيل***، ألقوا أنفسهم من النافذة بعد سنوات من الكفاح."


* فى انتظار جودو
** بجنوب فرنسا
*** 1914-1955 فنان تشكيلى فرنسى من أصل روسى، انتحر ملقيا نفسه من النافذة بعد معاناة مع الاكتئاب Nicolas de Staël

السبت، 10 يوليو 2010

مسرحية كارثة لصمويل بيكيت


كارثة
تأليف: صمويل بيكيت

إهداء المؤلف إلى فاتسلاف هافل*
كتبت بالفرنسية عام 1982، عرضت لأول مرة فى مهرجان أفينون عام 1982، نشرت بالإنجليزية لأول مرة عن دار فيبر آند فيبر، لندن 1984

ترجمة: أمير زكى
عن الإنجليزية، يوليو 2010

نشر فى جريدة مسرحنا 2/8/2010

* الشخصيات:
- المخرج (م)
- مساعدته (س)
- البطل (ب)
- لوقا: المسئول عن الإضاءة، لا يظهر على المسرح (ل)

بروفة مسرحية، اللمسات الأخيرة للمشهد الأخير، المسرح خال، م ول ضبطا الإضاءة للتو، م يصل فى الحال.
م يجلس بالأسفل على كرسى بذراعين، على يسار الجمهور، يرتدى معطفا من الفرو، وقبعة من الفرو أيضا، العمر والشكل غير مهمين.
س تقف بجانبه، ترتدى (أوفرول) أبيض، عارية الرأس، هناك قلم رصاص على أذنها، العمر والشكل غير مهمين.
ب فى منتصف المسرح، يقف على قاعدة سوداء بارتفاع 18 بوصة، يرتدى قبعة ذات حواف واسعة، يلبس رداء أسود يصل إلى قدميه، حافى القدمين، رأسه منحن، يديه فى جيوبه، العمر والشكل غير مهمين.

م وس يتأملان ب، صمت طويل.
س: [أخيرا] هل يعجبك مظهره؟
م: إلى حد ما [صمت] لم القاعدة؟
س: لتتيح للصفوف الأمامية رؤية القدمين.
[صمت]
م: لم الرداء؟
س: ليجعله كله أسود.
م: وماذا يرتدى وراءه؟ [م يتحرك تجاه ب] تكلمى.
[س تتردد]
س: ثيابه الليلية.
م: اللون؟
س: رماد.
[م يخرج سيجارا]
م: شعلة [س تعود، تشعل السيجار، تقف ساكنة، م يدخن] ماذا عن الرأس؟
س: لقد رأيته.
م: لقد نسيت [م يتجه نحو ب] تكلمى.
[س تتردد]
س: متساقط الشعر، شعيرات قليلة.
م: اللون؟
س: رماد.
[صمت]
م: لماذا يديه فى جيوبه؟
س: هذا يساعد على جعله كله أسود.
م: ليس من المفترض أن يكون هكذا.
س: سأدون ذلك. [تُخرج مفكرة، تتناول القلم، تدون] اليدان مكشوفتان.
[تعيد المفكرة والقلم]
م: ماذا عنهما [ س فى حيرة. بنفاد صبر] اليدين، ماذا عن اليدين؟
س: لقد رأيتهما؟
م: لقد نسيت.
س: معاقتان، تحلل فى الأنسجة.
م: كالمخالب؟
س: إذا كنت تحبهما كذلك.
م: مخلبان؟
س: إن لم يُحكِم قبضتيه.
م: ليس من المفترض أن يفعل هذا.
س: سأدون ذلك. [تُخرج المفكرة، تتناول القلم، تُدون] اليدان مرخيتان.
[تعيد المفكرة والقلم]
م: شعلة. [تعود س، تعيد إشعال السيجار، تقف ساكنة، م يدخن] حسنا، والآن دعينا نلقى نظرة. [ س فى حيرة. بنفاد صبر] إذهبى، إسقطى الرداء. [ينظر إلى ساعته] إسرعى، لدىّ اجتماع.
[س تذهب لـ ب، تُسقط رداءه، ب ينحنى قليلا، س تتراجع، رداءه على ذراعها.
ب يرتدى بيجامة رمادية قديمة، وجهه منحن، قبضتيه محكمتين، صمت]
س: هل يعجبك أكثر بدون رداء؟ [صمت] إنه يرتعش.
م: ليس كل هذا، القبعة.
[س تتقدم، تخلع من ب القبعة، تتراجع، القبعة فى يدها، صمت]
س: هل تعجبك الجمجمة؟
م: تحتاج للتبييض.
س: سأدون ذلك. [تخرج المفكرة، تتناول القلم، تدون] تبييض الجمجمة.
[تعيد المفكرة والقلم]
م: اليدان [س فى حيرة. بنفاد صبر] القبضتان، إذهبى. [س تتقدم، تفك إحكام القبضتين، تتراجع] وبيضيهما.
س: سأدون ذلك [تستخرج المفكرة، تتناول القلم، تدون] تبييض اليدين.
[تعيد المفكرة والقلم، يتأملان ب]
م: [أخيرا] هناك خطأ ما. [بانفعال] ما هو؟
س: [بخجل] ماذا لو.. لو.. ضممناهما؟
م: لا ضير من المحاولة [س تتقدم، تضم اليدين، تتراجع] أعلى. [س تتقدم، ترفع اليدين المضمومتين فوق الخصر، تتراجع] أعلى قليلا. [س تتقدم، ترفع اليدين المضمومتين أعلى الصدر] توقفى. [س تتراجع] هذا أفضل، نحن نقترب. شعلة.
[س تعود، تعيد إشعال السيجار، تقف ساكنة، م يدخن]
س: إنه يرتعش.
م: ليرحمه الله.
[صمت]
س: [بخجل] ماذا عن.. عن كمامة صغيرة؟
م: بحق الله، هذا الولع بالوضوح وكشف التفاصيل إلى النهاية، كمامة صغيرة.. بحق الله.
س: من المؤكد أنه لن ينطق؟
م: ولن يصرّ**. [ينظر إلى ساعته] لقد حان الوقت، سأذهب وأرى كيف يبدو من المقاعد الخلفية.
[يخرج م، ولا يظهر ثانية، س تسترخى على الكرسى، ولكن ما أن تفعل حتى تقوم على الفور، تخرج فوطة، تمسح بانفعال ظاهر وباطن الكرسى، ترمى الفوطة، تجلس مرة أخرى، صمت]
م: [من الخارج، بمرارة] أنا لا أستطيع رؤية أصابع القدمين. [بنفاد صبر] أجلس فى الصف الأمامى من الخلفية ولا أستطيع رؤية أصابع القدمين.
س: [تنهض] سأدون ذلك. [تخرج المفكرة، تتناول القلم، تدون] رفع القاعدة.
م: هناك أثر للوجه.
س: سأدون ذلك.
[تخرج المفكرة، تتناول القلم، تتهيأ للتدوين]
م: إخفضى الرأس. [ س فى حيرة. بنفاد صبر] إذهبى، إخفضى الرأس.
[س تعيد المفكرة والقلم، تذهب إلى ب، تخفض الرأس أكثر، تتراجع] إخفضيه مرة أخرى. [س تتقدم، تخفض الرأس أكثر] توقفى. [س تتراجع] رائع، نحن نقترب. [صمت] بإمكاننا أن نزيد من عريه.
س: سأدون ذلك.
[تخرج المفكرة، تتهيأ لتناول القلم]
م: إذهبى.. إذهبى. [ س تعيد المفكرة، تذهب لـ ب، تقف مترددة] عرّى الرقبة. [تفك س الأزرار العلوية، تباعد الياقتين، تتراجع] القدمين، الساقين. [س تتقدم، فردة بنطلون إحدى القدمين إلى ما تحت الركبة، تتراجع] الأخرى. [تفعل الشيء نفسه مع القدم الأخرى، تتراجع] أعلى، فوق الركبة. [س تتقدم وتثنى فردتى البنطلون إلى ما فوق الركبة، تتراجع] وبيضيهما.
س: سأدون ذلك. [تخرج المفكرة، تتناول القلم، تدون] تبييض كل الجلد.
م: نحن نقترب، هل لوقا هنا؟
س: [تصيح] لوقا. [صمت، بصوت أعلى] لوقا.
ل: [من الخارج، من مسافة بعيدة] أنا أسمعك. [صمت، أقرب] ما المشكلة الآن؟
س: لوقا هنا.
م: إظلم المسرح.
ل: ماذا؟
[س تنقل له بتعبيرات فنية، تنطفئ الإضاءة، إلا عن ب وحده، س تبدو كظل]
م: الرأس فحسب.
ل: ماذا؟
[س تنقل له بتعبيرات فنية، تنطفئ الإضاءة عن جسد ب إلا عن رأسه فقط. صمت طويل]
م: مدهش.
[صمت]
س: [بخجل] ماذا لو.. لو.. رفع رأسه.. للحظة.. ليظهر وجهه.. فقط للحظة.
م: بحق الله، وماذا بعد ذلك؟ يرفع رأسه؟ أين تظنينا نوجد؟ فى باتاجونيا؟*** يرفع رأسه؟ بحق الله.[صمت] جيد. هذه هى كارثتنا، فى المتناول. مرة أخرى وسأرحل.
س: [لـ ل] مرة أخرى وسيرحل.
[إضاءة تظهر على جسد ب، سكون، إضاءة عامة]
م: توقف [صمت] الآن، دعه يحصل عليه. [تنطفئ الإضاءة العامة، صمت. تنطفئ إضاءة الجسد. الإضاءة على الجسد فقط. الإضاءة على الرأس فقط. صمت طويل] مدهش، سيجعلهم يقفون على أقدامهم، أستطيع سماع تصفيقهم من هنا. [صمت. عاصفة بعيدة من التصفيق. ب يرفع رأسه، ينظر للجمهور، التصفيق يخفت، يتوقف. صمت طويل]
[تنطفئ الإضاءة من على الوجه]









* كاتب مسرحى وسياسى تشيكى، يعتبر آخر رئيس لتشيكوسلوفاكيا وأول رئيس للتشيك، وقت كتابة المسرحية كان هافل معتقلا لنشاطه السياسى ضد النظام الشيوعى بتشيكوسلوفاكيا.
** من صرير
*** باتاجونيا تقع فى جنوب أمريكا الجنوبية، حيث الأرجنيتن وشيلى