‏إظهار الرسائل ذات التسميات صمويل بيكيت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات صمويل بيكيت. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 5 يناير 2012

موريس نادو يكتب عن صمويل بيكيت


موريس نادو يكتب عن صمويل بيكيت

عن جريدة "مقاومة" الفرنسية
12 إبريل 1951

ترجمة: أمير زكى
يناير 2012
عن ترجمة فرانسواز لونجرست إلى الإنجليزية
من كتاب التراث النقدى المتعلق ببيكيت Samuel Beckett- The Critical heritage

موريس نادو (ولد 1911)، ناقد ومحرر فرنسى، معروف كمكتشف للمواهب الجديدة، كان واحدا من الأوائل الذين كتبوا عن صمويل بيكيت فى فرنسا، وعرض معظم رواياته. ألف العديد من الكتب، ومن ضمنها "هذا الأدب" (1952)، "الرواية الفرنسية منذ الحرب" (1963)، "تاريخ السوريالية" (1964).

***

"وفى الحقيقة فلا يهم كثيرا ما أقوله، هذا أو ذاك أو أى شىء آخر. القول ابتكار. خطأ، هذا خاطئ تماما، أنت لا تبتكر شيئا، أنت تعتقد أنك تبتكر، أنت تعتقد أنك تهرب، وكل ما تفعله هو أنك تردد الدرس الذى تعلمته، بقايا المنهج الذى حفظته عن ظهر قلب ونسيته من مدة طويلة، حياة بلا دموع، وكأنها بكت. إلى الجحيم لها فى كل الأحوال".

هذا القول الصريح والقوى هو أفضل تعريف لمقاصد وأسلوب الكاتب الذى غالبا ما سيتم السماع عنه فى الأشهر القادمة: الأيرلندى صمويل بكيت، الذى لديه سمعة مستحقه بكونه صعب وغامض، ومربك.
ولد فى دبلن عام 1906. كان صديق جيمس جويس وتلميذه المفضل. هو عُرف غالبا على أنه مترجم، وإن كانت ترجماته غير معروفة جدا (ولكن الأشهر لم يضع عليها اسمه، مثل "آنا ليفيا بلورابيل"[1]المنسوبة له). سكن فى فرنسا منذ 1938، وأعيد كتابته فى لغتنا ونشر فى 1947، عمله الأول "مورفى" مر بدون أن تتم ملاحظته، ومع ذلك ففى العام نفسه، كانت هناك قصة أعطاها لـ "فونتين"[2](الطريد) جذبت إليه الشهرة. "مولوى" كتبت مباشرة بالفرنسية. نشرت بجرأة شديدة من دار إيدسيون دى مينوى التي تولت نشر أعماله الكاملة.

على المرء أن يقترب من بيكيت من خلال "الطريد" ، فهو لم يكن أوضح أو أكثر إثارة للقلق منه فى هذا العمل. هى قصة تُسرد بضمير المتكلم، عن شخص يُطرد بشكل وحشى من منزله من قبل صاحب البيت المهتاج. هو يجد نفسه مأخوذا فى رحلة بلا هدف خلال المدينة عن طريق سائق تاكسى صنع معه صداقة، ثم أعطاه فى النهاية ملجأ فى عليته. فى الفجر هرب وبدأ يتجول مرة أخرى، ذهب للشرق "الأسرع للوصول إلى النور". هذه المغامرة التى سردت بحيوية، والممتئلة بما يمكن أن ندعوه الحس الكافكاوى فى الفكاهة، إما أن يكون لها معنى محدود وإما أن تتضمن كل المعانى، على الرغم من أنه فى هذه الحالة فرحلتنا تجاه المناطق الرمزية يعيقها هذه الملاحظة الأخيرة ذات التفاهة الظاهرة: "أنا لا أعرف لم أسرد هذه القصة. كان بإمكانى بنفس الطريقة أن أسرد أخرى. ربما فى وقت آخر سأكون قادرا على سرد أخرى. أيتها الأرواح الحية، سترون كم هى متشابهة كلها". فى الحقيقة فـ "مورفى" التى هى فى حجم الرواية هذه المرة، هى أيضا قصة بحث. قصة بحث مزدوج، أما هدف البحث فيختفى عندما يبدو أن المرء يقترب منه؛ هذا يتركنا فى شك كالشك الذى ينتاب مقاصد المؤلف. من جهة هناك شاب، مورفى، والذى لديه هدف محدد جيدا وهو قضاء حياته بدون أن يفعل شيئا، والذى، من أجل الهروب من الإغواءات، ربط نفسه فى كرسى هزاز، حيث انغمس فى أحلام يقظة مفرطة، يجد نفسه مضطرا للبحث عن مكان من أجل أن يحصل على عاهرة أصبح مغرما بها. فى الجهة الأخرى فهناك على الأقل ثلاث شخصيات، لا يتضمنوا خطيبته غريبة الأطوار، أرادوا رعايته: عذرء عاطفية وحساسة، هي نفسها تلقت التودد وتم الضغط عليها من قبل صديقى مورفى: نيرى وويلى.

مثل هذه الحبكة تشبه مسرحية شنيتسلر "لا روند"[3]أو فيلم "المليون" لرينيه كلير[4]، ولكن بشكل أكثر تعقيدا، كل شخصية تتبع طريقها الغامض الخاص، ولكنها تتوه بشكل حتمى في متاهة الطرق المتبوعة من قبل الآخرين. فى النهاية، نحن داخل شبكة منيعة من المواقف الغريبة والفكاهية حيث الشخصيات نفسها، ورغم كل المحاولات، غير قادرة على الخروج منها، وبالطبع كلهم منزعجون. مورفى يقتل نفسه بعد أن يجد سلام العقل فى مصحة المجانين، حيث حصل على وظيفة، ويترك وراءه بنود غريبة فى وصيته. هو طلب أن يوضع رماده فى الحمام، بمسرح شهير بدبلن خلال عرض مسرحية، وسيفون الحمام يجب أن يُسحب أو "يتم إصلاحه عند الضرورة من أجل هذا الهدف". هم عانوا من قدر أسوأ قليلا من المرغوب: الرماد الملفوف، تم رميه على وجه زبون في حانة حيث ذهبت إحدى الشخصيات وسكرت، هم كنسوه فى الصباح التالي: "مع الرمل، والبيرة، وأعقاب السجائر، والزجاج، وأعواد الكبريت، والبصقات والقىء".

هذه النهاية المدنسة تعطى فكرة عن طابع العمل، حيث الفكاهة واللماحة العقلية والتعقيد الساخر يستطيعون بالكاد أن يخفوا المأساة. الإنسان عند بيكيت ليس فقط – وهذا لا يحتاج للقول – ملقى وحيدا فى عالم بلا معنى، ولكن بالإضافة إلى ذلك، فلا توجد محاولة من محاولاته ولا فكر من أفكاره ولا شعور من مشاعره غير مبن على التوهم والخطأ. ما أن تصاغ الخطط حتى تفسد من البداية وتتحول إلى نقيضها. مخونا من الحياة، الآخرين، من جسده، من أفكاره الشخصية، من أكثر مشاعره حميمية، نحن نتجول بلا هدف فى الليل، ونحن ملعونون لنتجول هناك، بلا أى إشارة للعظمة للتخلص من هذا الموقف البائس. ذلك فى صياغة تتحدى التهذيب، وعنها لا يستطيع قلمى أن يذكر كل المصطلحات، بيكيت يكتب، هذه المرة فى "مولوى"، أننا فى الخراء، ونحن لا نفعل أى شىء سوى أن نغير الخراء، حيث نخفق كالفراشات. فى غابة الرموز الغامضة التى يأخذنا الكاتب داخلها، هنا على الأقل طريق واضح.

مورفى كان يحاول أن يهرب من العالم، بجسده، وعقله، هل قتل نفسه لأنه أراد فعل ذلك، أم على العكس، لأنه فشل؟ لا أحد يعرف. يظل المرء لا يفهم أى شىء فى العمل التالى "مولوى" حيث على المرء أن يتجاهل الجغرافيا التى حددها مورفى فى عقله، والتى أراد داخلها أن ينسحب من البداية. المساحة الأولى هى المتعلقة بـ "النور" حيث "التجريد المشع لحياة كلب" يتشكل؛ المساحة الثانية هى "نصف الضوء"، مساحة "اللذة الجمالية" حيث يتم خلق "نظام ليس فيه أى حس آخر يمكن من خلاله الانفصال، وبالتالى لا يحتاج أن يكون له وضعا صحيحا"؛ المساحة الثالثة التى تستهدف "الظلام" هى"تدفق للأشكال، هو اجتماع دائم وسقوط يكسر الأشكال، لا شىء سوى الأشكال التى تصير وتتفتت إلى أجزاء لصيرورة جديدة، بدون حب أو كراهية أو أى مبدأ واضح للتغيير. هنا هو ليس حرا، ولكنه ذرة فى ظلام الحرية المطلقة، كالقذيفة بلا نقطة انطلاق ولا هدف، تُلتقط فى اضطراب الحركة اللا-نيوتونية". فى "مولوى" توجد مساحة الظلام، حيث البطل وخالقه يستكشفان.

العمل الغامض بالتالى، بالقراءة الثانية أو الثالثة تلك التى تجعل المعنى الذى يريد المرء أن يراه هو افتراض ويمكن أن نقول إنه غير ممكن، هو منتج لعقل مجنون أو ملهم (لا يجرؤ المرء على أن لا يقول ذلك)، إنه أثر يتم تدميره كما بنى تحت أعيننا ويختفى أخيرا فى الغبار أو الدخان. التحدى هنا ديناميكى ويتضمن كل شىء. هذا يمتد حتى إلى اللغة نفسها، التى إن أردنا أن نستخدم لفظ رائج، تذوب فى اللا شىء (تعدم نفسها) فى الوقت الذى تتأسس فيه، تمحو فى لحظتها آثارها الأكثر وهنا. بينما يكتب الكتاب الآخرون ببساطة "إنها تمطر"؛ يكتب بيكيت: "إنها تمطر. لا، إنها لا تمطر". كل واحد من تأكيداته تجده مقترنا بنقيض، ليس أقل قوة ولا أقل تأكيدا، لذلك ففى النهاية فالواحد لم يعد حتى فى مملكة الحمق، حيث يوجد للحظة الطريد أو "مورفى"، ولكن تجدهم فى الفراغ المميز بعلامة مضاعفة. بيكيت يضعنا فى عالم من اللا شىء حيث بعض اللا أشياء التى يدور حولها البشر تؤدى إلى لا شىء. عبثية العالم واللا معنى فى وضعنا يتم نقلهما بطريقة عبثية وبطابع تافه مقصود: أبدا لم يجرؤ أحد أن يهين بهذا الانفتاح كل شىء يعتنقه الإنسان كيقينى، حتى أنه يُضمّن فى ذلك اللغة التى يستطيع على الأقل أن يعتمد عليها ليصرخ بشكوكه ويأسه. بالنسبة للكاتب، كثير جدا حتى أن تتكلم وتحاول، مستخدما حركة الكلمات التى تُنكَر فى اللحظة التى توضح فيها شيئا. لا يوجد صوت إنسانى بإمكانه التعبير عن "هذه التبددات حيث الضوء الحقيقى لم يكن، أو أى شىء قائم، أو أى أساس حقيقى، وكلها فقط أشياء مائلة، تسقط وتتفتت دائما، تحت سماء بلا ذكرى النهار، أو أمل الليل".

بالتالى فليس من المهم جدا رصد تسلسل للقصة، أو بالأحرى القصتين اللتين بلا اتصال بينهما، حيث كل الأحداث جدلية، الشخصيات ليست متأكدة من كونها حية أو تنكر كلماتها. بالإضافة إلى ذلك فهذه القصص الغريبة المتوازية لا تؤدى إلى شىء.

فى القصة الأولى يتحدث مولوى. هو فقد ذاكرته، وواحدة من قدميه شلت قبل أن تشل الإثنتين؛ هو يريد أن يذهب ليرى أمه، على الرغم من أننا نراه بجانب سريرها، وهو نفسه لا يعرف إن كانت حية أم ميتة. ومن أجل أن يعبر مسافة مئات الياردات التى تفصله عنه، يركب دراجة، ويرحل ولا يصل أبدا. نحن نراه فى قسم البوليس حيث قاده ازدراءه لقواعد المرور، وعند أرملة هرب كلبها وأدخلته عندها. فى أعماق الريف بعيدا عن المدينة. فى غابة حيث يكون جائعا وفاقدا لدراجته، ولم يعد قادرا على المشى، يحرك نفسه فى دوائر على بطنه ومرفقيه. وعن طريق الصدفة البحتة يصل لحافة الغابة، ولكنه يترك نفسه يسقط فى خندق. ولن نسمع عنه بعد ذلك.

القصة الثانية تُسرَد من قبل جاك موران، الذى بُعث من قبل رسول غامض ليجد مولوى؟ كيف ولِم؟ موران لا يعرف. هو يرحل مع ابنه الصغير فى اتجاه نفس المدينة، ويجد نفسه أيضا مصاب بشلل فى إحدى قدميه. هو يبعث ابنه ليحضر له دراجة، ويقتل شخصا ما صادف وقابله، يرحل مرة أخرى على ظهر دراجته، التى تختفى ذات صباح مع ابنه. الرسول يطلب منه بعد ذلك أن يعود لبيته، حيث يعود أخيرا وبعد شهور، بعد معاناة كبيرة. إن كان قد فشل فى مهمته فهو على الأقل عاد إلى مينائه. ولكنه يجد بيته مهجورا، وبعد أن يجد نفسه وقد انحدر إلى المستويات التى تقود إلى اللا إنسانية. وفى طريقه كان قد نسى لغة البشر، ولم يعد، وهو الكاثوليكى المخلص سابقا، يؤمن بأى شىء. يقول بغموض: "لقد كنت رجلا لفترة كافية، أنا لن أتحمل ذلك فيما بعد، أنا لن أحاول فيما بعد". هل هذا يعنى أنه وجد فى موضع آخر نوع من الحكمة أو الحقيقة؟ هذا ليس مؤكدا. هو يظل يعبر عن نفسه مثل مولوى ومثل بيكيت: "إنه منتصف الليل. الأمطار تطرق على النوافذ. إنه ليس منتصف الليل. إنها لا تمطر". 

بعد ذلك هل على المرء أن يحاول الوصول لنتيجة؟، هل لدينا الجرأة بما يكفى لنعتقد أن ملخصاتنا تسمح لنا بذلك، أصغر جملة لبيكيت، ومقاربته المتميزة، وآلامه وبحثه الذى لا يهدأ يجب أن يمنعونا بالتأكيد من أن نمارس ذلك. بأى طريقة يبحث بها المرء عن تعريف للحدود التى يقدمها فى أدب اليوم، فسوف يخونه، وهذا سيكون أكثر خطورة بالتفسير منه بالتحليل. هذا العبقرى الساخر، والساحر الحاذق، وإلى جانب ذلك الفكاهى الذى يقف أمامه أكثر الفكاهيين سودواية عاجزين، بطل اللا شىء المتسامى فى أعالى الكل، ومن جهة أخرى، الفاتح العظيم للواقع المتهرب، الذى يأخذنا معه إلى غابته. نحن أيضا سنخرج من ذلك على مرفقينا وركبتينا، ولكن هذا سيستغرق سنوات.



[1]  جزء من رواية جويس الأخيرة (يقظة فينيجان)
[2]  لم أستطع الوصول بدقة للمقصود من "فونتين" Fontaine، ولكن الأرجح أنها مجلة أو جريدة أدبية فرنسية. (أ.ز)
[3]  La Rondeمسرحية كتبها النمساوى آرثر شنيتسلر Arthur Schnitzler (1862-1931) عام 1897.
[4]  The million فيلم للفرنسى رينيه كلير Rene Claire  (1898-1981)، إنتاج عام 1931

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

موريس بلانشو يكتب عن ثلاثية بيكيت

"أين الآن؟ مَن الآن؟"
مقال موريس بلانشو عن ثلاثية بيكيت

عن مجلة نوفيل ريفو فرانسيس*
أكتوبر 1953

ت: أمير زكى
ديسمبر 2011
عن ترجمة ريتشارد هوارد إلى الإنجليزية
من كتاب التراث النقدى المتعلق ببيكيت Samuel Beckett- The Critical heritage

موريس بلانشو (1907-2003)، روائى وناقد فرنسى، نشر عدة روايات، أشهرها (توماس الغامض)-1941، ولكنه مؤثر بشكل خاص بسبب أعماله النقدية كـ (عمل النار)-1949، (مساحة الأدب)-1955، (الكتاب القادم)-1959، و(الحوار اللامتناهى)-1960.

مجلة (العروض الفرنسية الجديدة) تأسست عام 1911، وتصدر حاليا بشكل فصلى. 
اقتباسات بلانشوت من ثلاثية بيكيت (مولوى، مالون يموت، اللا مسمى)

***

من الذى يقوم بالحديث فى روايات صمويل بيكيت، من هو هذا "الأنا" الذى يستمر فى تكرار ما يبدو دائما على أنه نفس الشىء؟ ما الذى يحاول أن يقوله؟ ما الذى يبحث عنه الكاتب – الموجود حتما فى مكان ما بالكتب؟ ما الذى نبحث نحن عنه – نحن الذين نقرأها؟ أم هل هو فقط يدور فى دوائر، يدور بغموض، مدفوعا بزخم الصوت الشارد، يفتقد إلى حد ما حس المركزية، ينتج أقوالا بدون بداية أو نهاية محددتين، إلا أنه شره، ومتطلب، لغة لن تتوقف، وتجد أنه من غير المسموح أن تتوقف، وبالتالى ستأتى لحظة الاكتشاف البشع: فعندما يتوقف الحديث، يظل هناك حديث، عندما تتوقف اللغة فهى تستمر، لا يوجد صمت، لأنه بداخل هذا الصوت، يتحدث الصمت للأبد. 

تجربة بلا نتائج، إلا أنها مستمرة مع نقاء متزايد من كتاب لكتاب عن طريق رفض كل المصادر، الواهنة فى ذاتها، والتى كان يمكنها أن تبرر الاستمرار.

إنها الحركة الروتينية التى تصدمنا فى البداية. نحن لا نجد هنا شخصا يكتب من أجل غرض الجمال (مهما كان من شرف هذه اللذة)، ولا هو بشخص مدفوع بالرغبة النبيلة التى يميل الكثيرون لتسميتها الإلهام (التعبير عن الجديد والمهم بدافع الواجب أو الرغبة فى استباق المجهول). إذن فلم يكتب؟ لأنه يريد الهروب من الروتين عن طريق إقناع نفسه إنه لا يزال مسيطرا عليه، أنه فى اللحظة التى يعلى فيها صوته قادر على أن يتوقف عن الكلام. ولكن هل هو يتكلم؟ ما هذا الفراغ الذى يصبح صوتا لرجل يختفى بداخله؟ أين سقط. "أين الآن؟ من الآن؟ متى الآن؟"

إنه يكافح- هذا بَيّن، أحيانا يكافح خلسة، كأنه يحاول إخفاء شىء عنا، وعن نفسه أيضا، بمكر أولا، ثم عن طريق هذا المكر العميق يكشف سره. الخدعة الأولى هى أن يضع بين نفسه وبين اللغة أقنعة محددة، وجوه محددة: "مولوى" هو كتاب لا تزال تظهر فيه شخصيات، حيث ما يقال يحاول افتراض الشكل المعروف للقصة، وبالطبع فهى ليست قصة ناجحة، ليس فقط بسبب ما تريد أن تقوله، وهو بائس بطريقة لا نهائية، ولكن بسبب أنها غير ناجحة فى قوله، ولأنها لن تقوله ولا تستطيع قوله. نحن مقتنعون بأن هذا المتجول الذى تعوزه وسائل التجوال (وإن كان لديه على الأقل قدمين، وإن كانتا تتحركان بشكل سىء- هو حتى لديه دراجة)، والذى يدور أبديا حول هدف غامض، مخفى، مكشوف، ومخفى مرة أخرى، هدف له علاقة بأمه الميتة والتى لا تزال تحتضر، شىء لا يمكن إدراكه، فى لحظة الوصول إلى هذا الشىء وهى بالضبط لحظة بداية الكتاب: ("أنا فى غرفة أمى. إنه أنا الذى يعيش هنا الآن")، يصبح مجبرا على التجول بدون توقف حوله، فى الغرابة الفارغة فيما هو مخفى والممتنع عن التكشف- نحن مقتنعون بأن هذا المتشرد هو لا يزال موضوعا لخطأ أعمق وأن توقفه وخطواته الخرقاء تحدث فى فضاء هو فضاء من الهواجس غير الشخصية، الهواجس التى تقوده إلى الأمام للأبد. ولكن لا يهم كم هو ممزق إحساسنا به. مولوى مع هذا لا يستسلم، يبقى كاسم، موضوعا داخل حدود محمية ضد الأخطار الأكثر إزعاجا. هناك بالتأكيد إشكالية فى مبدأ التفسخ بقصة "مولوى"، مبدأ لا يتقيد فقط بعدم استقرار المتجول، ولكنه يتطلب أكثر من ذلك بأن ينعكس مولوى، أن يتضاعف، أن يصبح آخر، المحقق موران، الذى يتبع مولوى بدون أن يقبض عليه على الإطلاق، والذى فى تتبعه يبدأ (هو الآخر) فى الدخول إلى طريق الخطأ غير المتناهى؛ الطريق الذى ما أن يسير فيه أى أحد لا يستطيع أن يظل نفسه، ولكنه ينقسم ببطء إلى أجزاء. موران، بدون معرفة ذلك، يتحول إلى مولوى، بالتالى يتحول إلى شخصية مختلفة تماما، مسخ يهدد أمن العنصر السردى وفى الوقت نفسه يقدم حسا مجازيا، وربما كان حسا مُحبِطا، لأننا لا نشعر أنه ملائم للأعماق المخفية هنا.

تظل "مالون يموت" تسير قُدُما بوضوح: فالمتشرد هنا ليس أكثر من محتضر، والمساحة المتاحة له لم تعد تقدم لنا جوانب المدينة بشوارعها الألف، ولا الهواء المفتوح بأفقه الذى يُظهِر الغابات والبحر، هذه الأشياء التى يظل "مولوى" يقدمها لنا؛ فلا يوجد شىء أكثر من حجرة، وسرير، وعصا يجلب بها الرجل المحتضر الأشياء إليه ويدفعها بعيدا، من أجل أن يوسّع دائرة عدم حركته، وفوق كل هذا هناك القلم الذى يوسّع ذلك أكثر إلى مساحة لا متناهية من الكلمات والقصص. مالون، مثل مولوى، هو اسم ووجه، وهو أيضا مجموعة من المسرودات، ولكن تلك المسرودات ليست مكتفية بذاتها، وهى ليست مسرودة لتنال قناعة القارئ؛ ولكن على العكس، فالاصطناع يظهر بشكل مباشر- القصص مُختَرعة. مالون يقول لنفسه: "هذه المرة أنا أعرف إلى أين أتجه... إنها لعبة. أنا سألعب... أعقتد أننى سأستطيع أن أحكى لنفسى أربع قصص، كل واحدة عن موضوع مختلف". لأى غرض؟ لسد الفراغ الذى يشعر مالون أنه يسقط فيه؛ لجعل الزمن الفارغ يصمت (هذا الذى سيصبح زمن الموت غير المتناهى)، والطريقة الوحيدة لجعله يصمت هو قول شىء بأى ثمن، أن تحكى قصة. بالتالى فالعنصر السردى ليس أكثر من وسيلة من أجل الخداع العام، ليصنع تسوية مزعجة تٌفقد توازن الكتاب، صراع الاصطناعات التى تفسد التجربة، من أجل أن تظل القصص قصصا بدرجة تامة. تألقها، وسخريتها الحاذقة، كل شىء يجعلها ذات شكل ومثيرة للاهتمام يفصلنا عن مالون، الرجل المحتضر، ويفصلها عن زمن موته، من أجل استعادة زمن السرد التقليدى ذلك الذى لا نصدقه والذى لا يعنى شيئا لنا هنا، لأننا ننتظر شيئا أكثر أهمية.

من الصحيح أن "اللا مسمى" هى قصص تحاول أن تظل حية: المحتضر مالون لا يزال لديه سرير، وغرفة- ماهود ليس سوى حطام إنسان موضوع فى جرة للتزيين إلى جانب مصابيح صينية. وهناك أيضا دودة، والذى لم يولد بعد؛ والذى وجوده هو لا شىء سوى قمع عجزه عن الوجود. وجوه مألوفة عديدة تمر، أشباح بلا أجساد، صور فارغة تدور بآلية حول مركز فارغ مشغول بالذات اللا مسماة. ولكن الآن تغير كل شىء، والتجربة، المستمرة من كتاب لكتاب، تصل لعمقها الحقيقى. لم يعد هناك أى سؤال عن الشخصيات الموجودة تحت الحماية المطمئة لوجود اسم شخصى، ولا أى سؤال عن السرد، ولا حتى الموضوع غير المُشكّل للمونولوج الداخلى؛ الذى أصبح عليه السرد هو كونه صراع، فما افترض أنه وجه، حتى لو كان وجه مُجزّأ، تراجع الآن. من الذى يقوم بالحديث هنا؟ من هو الذى حُكم عليه بأنه يتحدث بدون تأجيل. الوجود الذى يقول: "أنا مجبر على الحديث، أنا لن أكون صامتا، أبدا". باقتناع مطمئن، نجيب على ذلك بأنه: صمويل بيكيت. بالتالى يبدو أننا نقترب من أن نعرف أن المهم هنا هو موقف غير خيالى، هذا الذى يستدعى تمزق وجود حقيقى. تجربة الكلمة تحيل إلى ما تم اختباره حقا. وهنا أيضا نحن نحاول استعادة طمأنينة الاسم، وأن نضع "محتوى" الكتاب مرة أخرى فى المستوى المستقر، المستوى الإنسانى، حيث كل شىء يحدث يحدث تحت ضمانة الوعى، فى عالم يدخر لنا أسوأ انحطاط، المتجلى فى فقدان القدرة على قول "أنا". 

ولكن "اللا مسمى" هى تجربة تُدار وتعيش تحت  تهديد اللا شخصى، اقتراب من الصوت المحايد الذى ارتفع وفقا لذاته، والذى يخترق الرجل الذى يسمعه، هذا بدون حميمية، والذى ينفى أى حميمية، هذا الذى لا يُصنع من أجل أن يتوقف، هذا المستمر، الذى لا نهاية له.

إذن من الذى يقوم بالحديث هنا؟ ربما نحاول أن نقول إنه "الكاتب" إن كان هذا المسمى لا يحيل إلى القدرة والتحكم، ولكن على أى حال فالرجل الذى يكتب هو بالفعل لم يعد صمويل بيكيت بل الإلحاح الذى حل محله، سلبه وجرّده، وهزمه ليصبح ما هو خارج عن نفسه، وجعله وجودا بلا اسم، اللا مسمى، وجود بلا وجود، الذى لا يستطيع أن يحيا أو يموت، لا يستطيع أن يبدأ أو يتوقف، الموضع الفارغ الذى يرتفع منه الصوت الفارغ بلا صدى، مُقنّع، للأفضل أو للأسوأ عن طريق الذات المُفرّغة والمتألمة.

إنه المسخ الذى يكشف صفاته هنا، وفى عمق هذه العملية، يستمر البقاء الكلامى، الغامض، والآثار العنيدة، التشرد غير المتحرك، ويصرّون على الكفاح مع دوام لا يدل حتى على شكل من القوة، مجرد لعنة عدم القدرة على التوقف عن الكلام.

ربما هناك شىء مثير للإعجاب بكتاب يفصل نفسه بوعى عن كل المصادر، والذى يقبل بأن يبدأ من النقطة التى منها لا يمكن الاستمرار، إلا أنه يتقدم بعند بدون سفسطة ولا خداع على امتداد 179 صفحة، لتعرض نفس الحركة الخرقاء، نفس الحركة التى لا تتوقف، نفس الخطوة الجامدة. ولكن تظل هناك وجهة نظر القارئ الخارجى الذى يتأمل ما يعتبره تجربة فريدة. لا يوجد شىء مثير للإعجاب فى التمزق الذى لا مهرب منه عندما تكون ضحيته، لا شىء مثير للإعجاب فى كونك محكوم عليك بالروتين الذى لا يحررك منه الموت حتى، فأن تكون فى هذا الروتين من البداية فهذا يعنى أنه كان عليك أن تهجر الحياة. المشاعر الجمالية لا يتم البحث عنها هنا. ربما نحن لا نتعامل مع كتاب فى الأصل، بل مع شىء يتجاوز كونه كتابا. ربما نحن نقترب من الحركة التى تُستَخرَج منها كل الكتب، نقطة الأصل حيث العمل مفقود بلا شك، النقطة التى تدمر العمل باستمرار، نقطة عدم إمكانية التحقق الأبدية، التى على العمل أن يحافظ معها على علاقة مبدئية متنامية أو سيصير الخطر لا شىء على الإطلاق. ربما يقول المرء أن اللا مسمى محكوم عليه بأن يُجهد اللا متناهى. "ليس لدىّ شىء لأفعله، أو لأقوله، لا شىء على وجه الخصوص. علىّ أن أتكلم، بغض النظر عما يعنيه هذا. ليس لدىّ شىء لأقوله، لا توجد كلمات سوى كلمات الآخرين، علىّ أن أتكلم. لا أحد يجبرنى على ذلك، ليس هناك أحد، إنها مصادفة، حقيقة. لا شىء يمكنه أن يحررنى من ذلك، لا شىء، لا شىء يُكتشَف، لا شىء يُستَعاد، لا شىء بإمكانه تقليل ما تبقى لقوله، لدىّ محيط لأشربه، لهذا وُجد المحيط إذن". 

إنه اقتراب من الأصل الذى يجعل الخبرة أكثر خطورة، خطرة بالنسبة للشخص الذى يحملها، وخطرة بالنسبة للعمل نفسه. ولكنه أيضا اقتراب يؤكد أصالة التجربة، ذلك الذى يجعل الفن بحثا أساسيا، هذا عن طريق تقديم هذا الاقتراب لدليل فى قمة الخشونة والتجريد أن "اللا مسمى" لها أهمية بالنسبة للأدب أكثر من أكثر الأعمال نجاحا فى نوعها. حاول الاستماع لـ "هذا الصوت الذى يتكلم، والعارف بأنه يكذب، اللا مبالى بما يقوله، كبير جدا ربما أو مذلول جدا ودوما لا يكون قادرا فى النهاية على قول الكلمات التى ربما تجعله يتوقف". ويحاول أن يهبط إلى الموقع المحايد حيث تحاول الذات الاستسلام من أجل الحديث، من الآن تقع الذات فى الكلمات، فى غياب الزمان حيث عليها أن تموت موتا لا متناهيا: "...الكلمات فى كل مكان، بداخلى، حسنا حسنا، من دقيقة مضت لم يكن لدىّ كثافة، أنا أسمعها، لا حاجة لسماعها، لا حاجة لرأس، غير قادر على إيقافها، غير قادر على الإيقاف، أنا مكوّن من كلمات، مصنوع من كلمات، كلمات الآخرين، أىّ آخرين، المكان أيضا، الهواء، الجدران، الأرضية، السقف، كلها كلمات، العالم كله هنا بداخلى، أنا الهواء، الجدران، الشخص المنغلق، كل شىء يتجرد، ينفتح، ينحسر، يتكسر، مهما ذهبت أجد نفسى، أترك نفسى، أتجه لنفسى، أعود لنفسى، لا شىء على الإطلاق سوى نفسى، جزء من نفسى، مُستعاد، مفقود، متشرد، أنا كل هذه الكلمات، كل هؤلاء الغرباء، غبار الكلمات، بلا أرضية لتستقر عليها، بلا سماء تنتثر فيها، تتجمع معا للحديث، تفر الواحدة منها بعد الأخرى للحديث، بأننى هن، كلهن، هؤلاء الممتزجات، المتفرقات، اللواتى لا يلتقين، ولا شىء آخر، لا.. هناك شىء آخر، أننى مختلف تماما، شىء مختلف تماما، شىء بلا كلمات فى مكان فارغ، مكان قاس مغلق وجاف، حيث لا شىء يتحرك، لا شىء يتحدث، وأنا أسمع، وأنا أبحث، كحيوان محبوس ولد من حيوانات محبوسة، ولدت من حيوانات ولدت من حيوانات محبوسة..."

الأحد، 28 أغسطس 2011

الأدباء الكبار بين المدونات وفيسبوك وتويتر


فى مقالها بالجارديان تميل شارلوت هيجينز لفكرة استخدام جيمس جويس لتويتر – إن كان معاصرا لنا بالطبع، محيلة إلى وجهة نظر كاتب سيرته الذاتية جوردون بوكر الذى أشار إلى أن جويس كان مولعا بالتقنيات الحديثة، كمثل ولعه بالسينما وتقنياتها، والتليفون حتى أنه قال عنه إنه لو عاصر ظهور الموبايل لما تركه.

أفكر بالتالى فى الأدباء الكبار – تحديدا بعض الأدباء الذين تهتم بهم هذه المدونة – وهل لو عاصروا وسائط الإنترنت الاجتماعية كانوا سيستخدمونها؟

أعتقد أن أوسكار وايلد كان سيهتم بشكل كبير بالفيسبوك وتويتر، ورغم احتقاره البين للمجتمع حوله الذى سيظهر فى ستاتوساته وتويتاته على الموقعين، إلا إنه سيمتلك عددا كبير من الأصدقاء على الفيسبوك والفولوورز على تويتر. سيستخدم وايلد الموقعين لوضع تعليقاته القصيرة اللاذعة التى ستتحول لمقالات وحوارات لمسرحياته فيما بعد، أو أحيانا سيستخدم الاقتباسات المنتقاة من مقالاته ومسرحياته الفعلية، وايلد المولع بنفسه سيختار بعناية الصورة الشخصية التى سيضعها فى بروفايله على الفيسبوك، التى ستظهر ملامحه الجميلة وشعره الناعم وربما قامته الجذابة. يقول أليكس روس فى المقال الذى كتبه عن أوسكار وايلد فى النيويوركر أن لورد هنرى، أحد الشخصيات الثلاث الرئيسية فى رواية صورة دوريان جراى، لو كان معاصرا لنا لكان يقضى وقتا طويلا على الإنترنت، لورد هنرى صاحب الأفكار السامة التى تظل بالنسبة له مجرد أفكار لا ينفذها فى الواقع، كما يقول عنه بازيل هالوارد "أنت لا تقول شيئا أخلاقيا، ولا تقوم بشىء خاطئ"، تاركا هذه المهمة لتلميذه دوريان جراى، كان سيقضى الوقت الآن على الفيسبوك وتويتر محللا نفسيات مستخدمى الموقعين. ولكن لورد هنرى الذى "يعتقد الناس أنه (وايلد)" كما يقول وايلد، ربما لا يتورط فى شرور العالم مثلما سيفعل أوسكار، فالوقت الطويل الذى سيقضيه وايلد على الإنترنت لن يمنعه من المشاركة الاجتماعية على أرض الواقع. وربما صورته وجاذبيته التى سيحاول تقديمهما بعناية على الفيسبوك سيساعدانه على صنع دائرة أصدقاء حميمة يمكنها أن ترضى ميوله الجنسية بشكل يسير وآمن.

فرناندو بيسوا لن يكون مولعا جدا بالفيسبوك وتويتر، ربما سيكون لديه حساب على الفيسبوك ولكن لن يتجاوز عدد أصدقاءه العشرات، نفوره من مظهره سيجعله يتحفظ على وضع صورة شخصية له، الأرجح أنه سيحتفظ بالصورة الباهتة التى يضعها الفيسبوك لمن يتكاسلون عن وضع صورة شخصية، ولن يضيف الكثير من المعلومات عن نفسه، أو يشارك فى تزويد حائطه بشكل مستمر مما سيجعله غير مثير للاهتمام لمستخدمى الفيسبوك. ولكن ولع بيسوا الأساسى سيكون بالمدونات، أعتقد أنه سيهتم بها سريعا ومن وقت مبكر، مجموعة من المدونات – أربعة أو أكثر – ستظهر وتؤثر فى الأوساط الأدبية، تتنوع من حيث كونها تحمل نثرا أو شعرا أو مقالات أو ترجمات أو حتى آراء سياسية وفلسفية، هذه المدونات ستُقدَم للجمهور على أنها نتاج شخصيات مختلفة ذات خلفيات تاريخية متنوعة تمثل كل ما يمكن أن تمثله الإنسانية فى عصرنا، ولكن هذه الشخصيات لن يكون لها أى أثر واقعى، ولن يعرف أحد أن فرناندو بيسوا هو القائم على هذه المدونات.

نجيب محفوظ سيتابع وسائط الإنترنت بحرص واهتمام، ولكنه سيتحفظ على عمل حساب له بالفيسبوك أو التويتر، رغم أن عددا من أصدقائه ومريديه سيقترح عليه ذلك، بل أن بعضهم سيصنع باسمه حسابات ويحاولون تسليمها له. محفوظ سيرفض كل ذلك، وسيكتفى بعمل مدونة إلكترونية (غير جذابة) تكتفى بإعادة نشر مقالاته التى تنشر فى الصحف، ويضع عليها قصصه القصيرة التى يكتبها كاستراحات من كتابة الروايات، المدونة من وجهة نظره سيكون هدفها التواجد والوصول للقراء الشباب. ولكن بعد وقت لا بأس به سيفاجأ الوسط الأدبى برواية لمحفوظ تدور أحداثها عن شخصيات تتعامل بشكل مباشر مع وسائط الإنترنت كالفيسبوك وتويتر، سيندهش الجميع من طابع الرواية ولغتها القريبة من لغة الشباب. سيتحفظ البعض ويقول إن محفوظ يتحرك فى عالم ليس خبيرا به، أو أن الرواية كانت تحتاج شابا متعايشا مع هذه الأوساط ليكتبها وتكون أفضل، ولكن فى النهاية ورغم كل الانتقادات ستثير الرواية الإعجاب مثلما ستثير الدهشة.

صمويل بيكيت شخصيته تنفر من الاجتماعيات بصفة عامة، وجل كتاباته تدور حول الفشل فى التواصل بين الناس، وربما تجعله مواقع التواصل الاجتماعى أكثر يقينا من هذه الفكرة. أما فكرة أن يكون لديه حساب على تويتر أو الفيسبوك أو حتى مدونة فسوف يقابلها بصمت وسخرية داخلية. ولكن فى وقت ما سيقنعه أكاديمى ومعجب أمريكى بأن يتعاون معه فى إنشاء موقع مختص بكتابات بيكيت والدراسات التى أجريت حولها. سيتعاون بيكيت مع الأمريكى بحرص فى البداية، ولكن فى لحظة ما سيقنعه الأمريكى بأن يضع نصوصه التى لا تصنف كأشكال تقليدية - كقصة أو قصيدة أو مسرحية - على مدونة ملحقة بالموقع، هذا الذى سيفعله بيكيت، لتُجمع هذه النصوص وتُصنف فى أعماله الكاملة – إلى جانب النصوص الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية – على أنها نصوص الإنترنت. ولكن بعد وفاته سيكشف الأكاديمى الأمريكى أن بيكيت تأثر بشكل كبير بوسائط الإنترنت وإن كان هذا لا يبدو للقارئ غير المتعمق، مبينا أن الحوارات التى تتكون من جمل قصيرة لا تفضى إلى شئ التى تتميز بها أعماله المسرحية الأخيرة هى أشبه بالحوارات التى يتبادلها مستخدمو التويتر.

أمير زكى
أغسطس 2011

الأحد، 21 أغسطس 2011

مقابلة توم درايفر مع صمويل بيكيت 1961


مقابلة توم درايفر* مع صمويل بيكيت، صيف 1961
قدمت فى ملتقى جامعة كولومبيا
عن كتاب التراث النقدى المتعلق بصمويل بيكيت Samuel Beckett: The Critical Heritage

ترجمة: أمير زكى
أغسطس 2011

* توم درايفر (ولد عام 1925)، أستاذ الأدب واللاهوت فى معهد الاتحاد اللاهوتى، يهتم فى كتاباته بالمسرح الحديث.

***

ليس مثل جودو، فقد حضر قبل موعده، خطابه كان يقول إننا سنتقابل فى الفندق الذى أقيم به ظهر الأحد، وصلت الردهة عندما دقت الساعة الثانية عشر، وقد كان ينتظر.

رغبتى فى مقابلة صمويل بيكيت كان دافعها الفضول الشديد والاهتمام بأعماله. النقاد بالصحف الأمريكية يميلون لوصف أعماله بالعدمية. فهم يجدون تشاؤما عميقا فيها. حتى أن ناقد حاذق مثل هارولد كلورمان فى (ذا نيشن) قال عن (فى انتظار جودو) أنها "عصارة شعور اليأس فى أوروبا المعاصرة". ولكن بالنسبة لى فكتابات بيكيت تبدو ممتلئة بالحب للبشر وبحس من الفكاهة لا أستطيع أن أربطه باليأس أو بالعدمية. هل يمكن أن تكون عيناى وأذناى قد خدعتانى؟ هل أدبه هو أدب انهزامى غير ملائم للأزمات الاجتماعية التى نواجهها؟ أم أنه ملائم لأنه يعلمنا شيئا مفيدا لنعرفه عن أنفسنا؟

كنت أعرف أن الحوار مع الكاتب لن يجيب على مثل هذه الأسئلة، لأن الشخص يختلف عن كتاباته، وفى الحقيقة فهذه الأسئلة ينبغى أن يجاب عليها عن طريق الكتابات نفسها، ولكنى مع ذلك ظللت فضوليا.

فضولى احتد من يوم أو يومين قبل المقابلة عن طريق حوار دار بينى وبين مدرس مثقف للأدب، أب يسوعى، فى مؤتمر عن الدراما الدينية بالقرب من باريس. عندما ذُكر اسم بيكيت فى الحوار احتد القس وقال لى: "إن بيكيت يكره الحياة". فكرت بالتالى أن هذا، على الأقل، أمر يمكننى اكتشافه من المناقشة.

مظهر بيكيت أيرلندى قاس، ملامحه مميزة ولكنها ليست جميلة. تبدو وكأنها قد نحتت بإزميل غير حاد. شعر غير مهذب يرتفع من أعلى جبينه، ليقف عاليا، أما أقصاه فيسقط إلى الوراء بلطف وكأن ذلك ليظهر على أنه شعر حقا وليس فرشاة. ربما يمكن أن نقول إن مظهره يجمع بين غرور المرء واتضاعه، فلديه غرور نابع من قبوله لذاته، واتضاع ربما نابع من نفس المصدر، ولا يفرض نفسه على آخر. أما عيناه الزرقاوان الفاتحتان فتغوصان عميقا داخل وجهه، وهما ينظران بنشاط وبشكل دائم. ويبدو أنه أعطى لعينيه هذه الوظيفة وحدها دون غيرها، حيث قسم العمل بشكل لا شعورى، فترك لبقية وجهة مهمة التواصل. فمه كثيرا ما يعبر عن ابتسامة جذابة. الصوت حاد فى جرسه ولكنه ينتهى بغلظة ملائمة لملامح وجهه. اللهجة الأيرلندية مختلطة، كما يمكن أن تتوقع، بالتواء فرنسى خفيف. بدلته التويد واسعة رمادية وخضراء، وقميص رياضى منسوج وبنى اللون بلا رابطة عنق.

مشينا فى شارع دى لاركيد، بعدها مشينا إلى جانب كنيسة المادلين ثم اتجهنا للمقهى الموجود على الرصيف المقابل للكنيسة. الحوار الذى تم ربما يكون قد استغرقنى ولكنى بالكاد أستطيع أن أقول إنه نثار بالنسبة للعالم، لسبب وحيد هو أن العالم الذى يراه بيكيت هو أصلا متناثر. حديثه انتقل إلى ما يسميه "الفوضى"، أو أحيانا "هذا االتشوش الطنّان". أعدت تجميع جمله من الملاحظات التى كتبتها فورا بعد لقاءنا. ما يبدو هنا أقصر مما قاله بالفعل، ولكنه قريب جدا من كلماته.

"التشوش ليس من اختراعى. لا يمكننا متابعة حديث لخمس دقائق بدون أن نلاحظ التشوش بوضوح. إنه حولنا فى كل مكان وفرصتنا الوحيدة الآن هو أن نتقبله. فرصتنا الوحيدة للإصلاح هو أن نفتح أعيننا لنرى الفوضى. إنها ليست فوضى من الممكن أن نتعقلها". 

أشرت إلى أنه ينبغى أن نتقبلها لأنها الحقيقة، ولكن بيكيت لم يقبل بكلمة الحقيقة.

"ما هو الأكثر حقيقة من الآخر؟ أن تسبح هى حقيقة، وأن تغرق هى حقيقة. لا يوجد شىء أكثر حقيقية من الآخر. المرء لا يستطيع أن يتحدث مجددا عن الوجود، المرء عليه فقط أن يتحدث عن الفوضى. عندما يتحدث هايدجر وسارتر عن الفرق بين الوجود والكينونة ربما يكونان على حق، أنا لا أعرف، فلغتهم فلسفية جدا بالنسبة لى. أنا لست فيلسوفا. المرء يستطيع فقط أن يتحدث عما هو أمامه، وما أمامى الآن ببساطة هو الفوضى".

بعدها بدأ فى الحديث عن الصراع الذى ينشأ فى الفن بين الفوضى والشكل. حتى وقت متأخر، صمد الفن أمام ضغط الأشياء الفوضوية، حيث ظلت تحت السيطرة. كان الاعتقاد هو أن الاعتراف بها يعنى المخاطرة بالشكل. "كيف يُسمح بالاعتراف بالفوضى، خاصة وهى تظهر كمضادة للشكل وبالتالى فهى تهدم كل شىء يحاول الفن أن يكونه؟" ولكننا الآن لا نستطيع أن نهملها لأننا وصلنا للوقت الذى "تغزو فيه خبرتنا فى كل لحظة، إنها هنا ويجب أن نسمح لها بالدخول".

ربما يمكننى أن أسلم بذلك ولكننى أجد أن النتيجة تصبح هى الاهتمام بالشكل أكثر من الوضع السابق، ولم لا؟ سألته، كيف نسمح للفوضى أن تدخل إلى الفوضى؟ ألا يؤدى ذلك إلى نهاية التفكير ونهاية الفن؟ إذا نظرنا إلى الفن مؤخرا سنجد أنه مستغرق فى الشكل. أعمال بيكيت نفسها مثال، من الصعب أن تجد مسرحيات مشكّلة بحرص أكثر من (فى انتظار جودو) و(لعبة النهاية) و(شريط كراب الأخير).

"ما أقوله لا يعنى بالتالى ألا يكون هناك شكل فى الفن. إنه يعنى فحسب وجود شكل جديد، وهذا الشكل سيكون من النوع الذى يسمح بوجود الفوضى، ولا يحاول أن يقول إن الفوضى فى الحقيقة هى شىء آخر. الشكل والفوضى ما زالا منفصلين. والأخيرة ليست أقل من الأولى. السبب فى الاستغراق فى الشكل هو كونه موجود كمشكلة منفصلة عن المادة التى يتعامل معها. أن تجد شكلا ملائما للفوضى، هذه هى مهمة الفنان حاليا".

أجبت؛ ولكن أليست هناك أشياء متشابهة تقال عن الفن فى الماضى؟ أليست من صفات الفن العظيم أنه يواجهنا بشىء لا يمكن توضيحه، هذا الذى يتطلب من المتلقى أن يستجيب له بطريقة لا يمكن توقعها؟ ما هو تاريخ النقد إن لم يكن هو تاريخ البشر الذين يحاولون إدراك العناصر المتنوعة فى الفن بطريقة لا يسمحون لأنفسهم بها أن يختصروه فى فلسفة واحدة أو نظرية استطيقية بعينها؟ أليس الفن كله غامضا؟

"ليس هذا". قال ونظر نحو كنيسة المادلين.

تصميم الكنيسة الكلاسيكى، التى اعتبرها نابليون معبد المجد، كان مسيطرا على المشهد الذى كنا نجلس أمامه. شارع دى لا مادلين وشارع مالزيرب وشارع رويال زود المكان بإطراء جذاب، حاملا ملامح عصر العقل. "ليس هذا. هذا واضح. هذا لا يسمح للغوامض بأن تسيطر علينا. مع الفن الكلاسيكى، كل شىء مستقر. ولكن الأمر يختلف فى كاتدرائية شارتر[1]. هناك تجد غير المفسر، وتجد الفن الذى يطرح أسئلة لا يحاول الإجابة عليها".

سألته عن المعركة بين الحياة والموت فى مسرحياته. ديدى وجوجو[2] على حافة الانتحار. عالم هام هو الموت وكلوف ربما - وربما لا - يخرج ليشارك الطفل الحى بالخارج[3]. هل سؤال الحياة/الموت ذلك هو جزء من الفوضى؟

"نعم، إن لم تعرض الحياة والموت نفسيهما علينا لما كان هناك غموض. لو لم يكن هناك سوى الظلام لكان كل شىء واضحا، ولكن لأنه ليس الظلام الموجود فقط بل النور أيضا لذلك يبقى موقفنا غير مفهوم. خذ عندك نظرية أوغسطين عن العناية المعطاة والعناية الممتنعة، هل تأملت المميزات الدرامية فى هذه العقيدة؟ لصان صلبا مع المسيح، أحدهما تم له الخلاص وأحدهما لُعن، كيف يمكننا أن نعقلن هذه القسمة؟ فى الدراما الكلاسيكية لا تظهر هذه المشكلات، فمصير فيدرا عند راسين[4] محدد منذ البداية، سوف تتقدم نحو الظلمات، أثناء سيرها سيتضح الأمر لها هى نفسها، فى بداية المسرحية يكون لديها وضوح جزئى، ومع النهاية يتضح لها الأمر تماما، فلا يوجد هناك سؤال، فهى تتقدم نحو الظلمات، هذه هى المسرحية. داخل هذه الفكرة يصبح الوضوح ممكنا، ولكن بالنسبة لنا، ونحن لسنا يونانيين ولا جانسينيين[5] فلا يتوفر لنا مثل هذا الوضوح. السؤال سيتلاشى أيضا لو آمنا بالعكس – بالخلاص الكامل. ولكن طالما لدينا الظلمة والنور معا فلدينا أيضا غير المفهوم. الكلمة المفتاحية فى مسرحياتى هى (ربما)".

اتجاهه للحديث فى اللاهوت جعلنى أسأله عما يعتقده عن اللذين يجدون دلالات دينية فى مسرحياته.

"حسنا، فى الحقيقة فليست هناك دلالات دينية على الإطلاق. فليست لدىّ مشاعر دينية، كان لدىّ عاطفة دينية فى الماضى، كان ذلك عند تلقىّ الأول للمقدسات[6]، ولكن ليس بعد ذلك. أمى كانت متدينة جدا، وكذلك أخى؛ كان يركع بجانب سريره طالما كان يستطيع الركوع، أبى لم تكن لديه مشاعر دينية، الأسرة كانت بروتستانتية، ولكن بالنسبة لى كان هذا الأمر مثيرا للضيق وتركته يمضى. أمى وأخى لم يفدهم الدين حينما ماتوا. فى وقت الأزمات لا يكون للدين عمقا أكثر من رابطة للطلبة القدامى. الكاثوليكية الأيرلندية ليست جذابة ولكنها أعمق، عندما تمر بكنيسة وأنت فى أوتوبيس أيرلندى ترى كل الأيادى وهى ترسم علامة الصليب، فى يوم من الأيام ستفعل كلاب أيرلندا الشىء نفسه، وربما الخنازير أيضا".

ولكن هل المسرحيات تناقش حتما نفس أوجه الخبرة التى يناقشها الدين؟

"نعم، لأنهما يناقشان الأحزان، بعض الناس يعترضون على ذلك فى كتاباتى، فى حفلة ما كان هناك مثقف إنجليزى – يقال عنه كذلك – سألنى لماذا أكتب دوما عن الأحزان، كأنه من الضلال أن أفعل ذلك، كان يريد أن يعرف إن كان أبى قد اعتاد على ضربى أو أن أمى قد هربت لتتركنى لطفولة تعيسة، أخبرته أن لا، فقد عشت طفولة سعيدة جدا. ساعتها تضاعف شعوره بضلالى. تركت الحفل فى أقرب فرصة وركبت تاكسى، على الحاجز الزجاجى الذى كان يفصل بينى وبين السائق كانت هناك ثلاث لافتات: واحدة تطلب المساعدة للعميان، وأخرى للأيتام، وثالثة لمساعدة لاجئى الحرب. أنت لست بحاجة للبحث عن الأحزان، فهى تصرخ فى وجهك حتى فى تاكسيات لندن".

انتهى الغداء، عدنا للفندق وأضواء وظلمات باريس تصرخ فينا. الميزة الشخصية لصمويل بيكيت تشبه الميزات التى وجدتها فى مسرحياته، هو لا يقول شيئا يجعل الخبرة موضوعة داخل نموذج مغلق، (ربما) عنده توضع موضع الالتزام، وفى نفس الوقت من البين أنه متعاطف ومن البين أنه ودود، لو لم يكن هناك سوى الفوضى لكان كل شىء واضحا، ولكن هناك الشفقة أيضا.

كمسيحى أعرف أننى لا أقف موقف بيكيت، ولكننى أرى الكثير مما يراه. وككاتب للمسرح، اهتممت كثيرا بمسرحياته. هارولد كلورمان كان على حق عندما قال إن (فى انتظار جودو) هى تأمل (قال إنها تأمل مشوه) "لمأزق واضطراب سياسات وأخلاقيات وأسلوب حياة أوروبا المعاصرة". ولكن ليست أوروبا فقط التى تشير إليها المسرحية. (فى انتظار جودو) تبيع فى أمريكا أكثر من فرنسا. فالوعى الذى تعكسه تصل إليه كل المجتمعات (الناضجة) عندما توصلهم نجاحاتهم فى التنظيمات التكنولوجية والاقتصادية إلى الوقت الذى يسألون فيه عن النهايات غير المفيدة جدا للثقافة. أمريكا الآن تشارك أوروبا فى هذه المرحلة (الناضجة) من التطور. معرفة أيا منا سيظل فى هذه المرحلة لوقت أطول سوف يعتمد على ما سيحدث كنتيجة للثورات الاقتصادية والتكنولوجية التى تتم الآن فى بلاد آسيا وأفريقيا، وأيضا بالطبع ستعتمد على الوقت الذى ستظل الحرب الباردة فيه باردة. حاليا لا يبدو أنه يوجد حزب فى أوروبا الغربية أو أمريكا يملك فلسفة للتغيير الاجتماعى ملائمة لضغوط التاريخ الحالية.

فى مسرحيات بيكيت، الزمن لا يتحرك للأمام. نحن دائما عند النهاية، حيث تكرر الأحداث نفسها (فى انتظار جودو)، أو يتأرجحون على حافة اللا شىء (لعبة النهاية)، أو يعودون للحظة بعيدة حيث الحياة الفعالة (شريط كراب الأخير). التراجع عن الفعل ربما يحبط هؤلاء الذين يؤمنون أن أحداث العالم الواقعى ما زال يمكن التعامل معها. ولكن مع ذلك فمن الخاطئ أن نستنتج أن أعمال بيكيت (متشائمة)، فأن تقول (ربما) كما تقول المسرحيات يختلف عن أن تقول (لا). المسرحيات لا تقول إنه ليس هناك مستقبل، ولكنها تقول إننا لا نراه، ولا نثق فيه، ونقترب منه ونحن يائسين. بعيدا عن الماركسية بوعودها، أين نجد الآن عقيدة تؤكد أن العكس هو الذى سينجح فى تشكيل الثقافة؟

الجدران التى تحيط بشخصيات بيكيت ليست جدران بنتها الطبيعة والتاريخ بالرغم من قرارات البشر، إنها جدران التصرف الإنسانى تجاه موقفه. المسرحيات نفسها دليل على قدرة الإنسان على رؤية موقفه وعن طريق هذه الحقيقة أن يتعالى عليه. هذا هو السبب الذى يجعل بيكيت يقول إن السماح بدخول (الفوضى) من الممكن أن يجلب معه (فرصة الإصلاح). وهذا هو السبب فى كونه مخطئا من وجهة نظر الفلسفة لأنه يقول إنه لا يوجد سوى (الفوضى)، فلو لم يكن سواها لما استطاع أن يدركها كما هى، ولكن مسرحياته ورواياته تحتوى على ما هو أكثر، وهذا الأكثر يتعالى على الذات وعلى الموقف.

فى (فى انتظار جودو) بيكيت كان لديه وصف بسيط ومؤثر عن التعالى الإنسانى على الذات. فلاديمير واستراجون (ديدى وجوجو) يناقشان وضع الإنسان الذى يحمل (صليبه الصغير) حتى يموت ويُنسى. فى مقطع جميل وهو عبارة عن حوار ثنائى مكون من عبارات قصيرة تنتقل من شفتى الواحد إلى الآخر، يتحدث الصعلوكان عن عدم قدرتهما على البقاء صامتين. وكما يقول جوجو: "وهكذا لن نستطيع أن نسمع.. كل الأصوات الميتة". أصوات الموتى تصدر ضوضاء مثل الأجنحة والرمل وأوراق الشجر، كلها تتحدث فى نفس الوقت، كل صوت إلى نفسه، يصدرون الهمسات والحفيف والتمتمات.

فلاديمير: ماذا يقولون؟
إستراجون: يتحدثون عن حياتهم.
فلاديمير: كونهم عاشوا ليس كافيا بالنسبة لهم.
إستراجون: عليهم أن يتحدثوا عن ذلك.
فلاديمير: كونهم موتى ليس كافيا بالنسبة لهم.
إستراجون: ليس كافيا. (صمت)
فلاديمير: إنهم يصدرون ضوضاء كالريش.
إستراجون: كأوراق الشجر.
فلاديمير: كالرماد.
إستراجون: كأوراق الشجر.

فى هذا المقطع، ديدى وجوجو مثلهم مثل الموتى، والموتى مثلهم مثل الأحياء، لأنهم جميعا غير قادرين على البقاء صامتين، وصف أصوات الموتى هو نفسه وصف أصوات الأحياء، فى الحالتين لا الحياة ولا الموت كافيين. وعلى المرء أن يتكلم عن ذلك، الوضع الإنسانى عبارة عن تأمل للذات وتعالى على الذات. مسرحيات بيكيت هى همسات وحفيف وتمتمات إنسان رافض ببساطة لأن يوجد.

ليس حقيقيا أن التعالى على الذات يتضمن الحرية، والحرية هى إما أكثر الحقائق جلالة أو أكثرها رعبا، هذا يعتمد على قوة الروح التى تتأملها؟ من المهم أن نلاحظ أن نقد (اليأس) عند بيكيت يأتى غالبا من دوجماطيقيى الليبرالية الإنسانية، الذين نكتشف، كما يعبرون غالبا عن ذلك، أنهم يرغبون فى التأكيد على اليقينيات أكثر من حبهم للحرية. بإدراكهم أن الحياة ليست كافية، فهم يريدون تحديد دوجما على اعتبار أن هذه هى الحياة التى ينبغى أن تعاش. بيكيت يقدم شيئا أكثر حرية، هذه الحياة التى ينبغى أن نشاهدها ونتحدث عنها، والطريقة التى تعاش بها لا يمكن أن تُحدَد بدون غموض، ولكن يجب أن تأتى كرد فعل للقاء المرء بـ (الفوضى). هو كتب أعماله بطريقة تجعل هؤلاء من يعلقون عليها يعلقون فى الحقيقة على أنفسهم. لا يستطيع المرء أن يقول: "بيكيت قال هذا وذاك". لأن بيكيت قال: "ربما"، فإذا رأى النقاد والجمهور صور من اليأس، فيمكننا أن نستنتج بالتالى أنه يأسهم هم. 

بيكيت نفسه، أو هذا هو ما أعتقده، تخلى عن الرغبة فى إدراك اليقين. ولكن هناك ملامح إيجابية تجدها عنده، وتلك غالبا ما لا يدركها مفسروه. تلك الملامح التى تجعل الضحك فى مسرحياته دافئا، واهتمامه بالشخصيات متعاطف. فكاهته أو تعاطفه الدافئان لا يتعلقان بالانهزام، وإنما هما ناتجان عما يطلق عليه بول تيليتش "شجاعة أن توجد".



[1]  كاتدرائية شارتر بباريس ذات معمار قوطى.
[2]  فلاديمير واستراجون، بطلا مسرحية (فى انتظار جودو).
[3]  هام وكلوف بطلا مسرحية (لعبة النهاية)
[4]  مسرحية (فيدرا) للكاتب الفرنسى راسين (1639-1699) يستعيد فيه شخصية فيدرا من الميثولوجيا اليونانية، تدور المسرحية المأساوية عن حب فيدرا المحرم لهبوليتوس ابن زوجها ثيسيوس، الحب المحرم المحكوم عليه بالفشل، يؤدى فى النهاية لانتحار فيدرا.
[5]  الجانسينية حركة لاهوتية مسيحية ظهرت فى فرنسا فى القرن السابع عشر وكانت نابعة من أعمال اللاهوتى الهولندى كورنيليوس جانسن، تعتقد الحركة فى أفكار (الخطيئة الأصلية) و(فساد الإنسان) و(الجبرية) والحاجة إلى (العناية الإلهية)، ميل الجانسينية لفكر أوغسطين جعل أتباعها يعتقدون أن العناية الإلهية فقط هى التى يمكن أن تخلص جزء من البشر، وقد كان راسين من أتباع هذا الفكر.
[6]  The first communion وهو التلقى الأول للإفخارستيا الذى يتم فى الكنائس كرمز لعشاء المسيح الأخير، أو كرمز لتلقى جسد المسيح ودمه، ويتم بتلقى خبز غير مخمر ونبيذ أو عصير عنب.