‏إظهار الرسائل ذات التسميات نجيب محفوظ. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نجيب محفوظ. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 28 أغسطس 2011

الأدباء الكبار بين المدونات وفيسبوك وتويتر


فى مقالها بالجارديان تميل شارلوت هيجينز لفكرة استخدام جيمس جويس لتويتر – إن كان معاصرا لنا بالطبع، محيلة إلى وجهة نظر كاتب سيرته الذاتية جوردون بوكر الذى أشار إلى أن جويس كان مولعا بالتقنيات الحديثة، كمثل ولعه بالسينما وتقنياتها، والتليفون حتى أنه قال عنه إنه لو عاصر ظهور الموبايل لما تركه.

أفكر بالتالى فى الأدباء الكبار – تحديدا بعض الأدباء الذين تهتم بهم هذه المدونة – وهل لو عاصروا وسائط الإنترنت الاجتماعية كانوا سيستخدمونها؟

أعتقد أن أوسكار وايلد كان سيهتم بشكل كبير بالفيسبوك وتويتر، ورغم احتقاره البين للمجتمع حوله الذى سيظهر فى ستاتوساته وتويتاته على الموقعين، إلا إنه سيمتلك عددا كبير من الأصدقاء على الفيسبوك والفولوورز على تويتر. سيستخدم وايلد الموقعين لوضع تعليقاته القصيرة اللاذعة التى ستتحول لمقالات وحوارات لمسرحياته فيما بعد، أو أحيانا سيستخدم الاقتباسات المنتقاة من مقالاته ومسرحياته الفعلية، وايلد المولع بنفسه سيختار بعناية الصورة الشخصية التى سيضعها فى بروفايله على الفيسبوك، التى ستظهر ملامحه الجميلة وشعره الناعم وربما قامته الجذابة. يقول أليكس روس فى المقال الذى كتبه عن أوسكار وايلد فى النيويوركر أن لورد هنرى، أحد الشخصيات الثلاث الرئيسية فى رواية صورة دوريان جراى، لو كان معاصرا لنا لكان يقضى وقتا طويلا على الإنترنت، لورد هنرى صاحب الأفكار السامة التى تظل بالنسبة له مجرد أفكار لا ينفذها فى الواقع، كما يقول عنه بازيل هالوارد "أنت لا تقول شيئا أخلاقيا، ولا تقوم بشىء خاطئ"، تاركا هذه المهمة لتلميذه دوريان جراى، كان سيقضى الوقت الآن على الفيسبوك وتويتر محللا نفسيات مستخدمى الموقعين. ولكن لورد هنرى الذى "يعتقد الناس أنه (وايلد)" كما يقول وايلد، ربما لا يتورط فى شرور العالم مثلما سيفعل أوسكار، فالوقت الطويل الذى سيقضيه وايلد على الإنترنت لن يمنعه من المشاركة الاجتماعية على أرض الواقع. وربما صورته وجاذبيته التى سيحاول تقديمهما بعناية على الفيسبوك سيساعدانه على صنع دائرة أصدقاء حميمة يمكنها أن ترضى ميوله الجنسية بشكل يسير وآمن.

فرناندو بيسوا لن يكون مولعا جدا بالفيسبوك وتويتر، ربما سيكون لديه حساب على الفيسبوك ولكن لن يتجاوز عدد أصدقاءه العشرات، نفوره من مظهره سيجعله يتحفظ على وضع صورة شخصية له، الأرجح أنه سيحتفظ بالصورة الباهتة التى يضعها الفيسبوك لمن يتكاسلون عن وضع صورة شخصية، ولن يضيف الكثير من المعلومات عن نفسه، أو يشارك فى تزويد حائطه بشكل مستمر مما سيجعله غير مثير للاهتمام لمستخدمى الفيسبوك. ولكن ولع بيسوا الأساسى سيكون بالمدونات، أعتقد أنه سيهتم بها سريعا ومن وقت مبكر، مجموعة من المدونات – أربعة أو أكثر – ستظهر وتؤثر فى الأوساط الأدبية، تتنوع من حيث كونها تحمل نثرا أو شعرا أو مقالات أو ترجمات أو حتى آراء سياسية وفلسفية، هذه المدونات ستُقدَم للجمهور على أنها نتاج شخصيات مختلفة ذات خلفيات تاريخية متنوعة تمثل كل ما يمكن أن تمثله الإنسانية فى عصرنا، ولكن هذه الشخصيات لن يكون لها أى أثر واقعى، ولن يعرف أحد أن فرناندو بيسوا هو القائم على هذه المدونات.

نجيب محفوظ سيتابع وسائط الإنترنت بحرص واهتمام، ولكنه سيتحفظ على عمل حساب له بالفيسبوك أو التويتر، رغم أن عددا من أصدقائه ومريديه سيقترح عليه ذلك، بل أن بعضهم سيصنع باسمه حسابات ويحاولون تسليمها له. محفوظ سيرفض كل ذلك، وسيكتفى بعمل مدونة إلكترونية (غير جذابة) تكتفى بإعادة نشر مقالاته التى تنشر فى الصحف، ويضع عليها قصصه القصيرة التى يكتبها كاستراحات من كتابة الروايات، المدونة من وجهة نظره سيكون هدفها التواجد والوصول للقراء الشباب. ولكن بعد وقت لا بأس به سيفاجأ الوسط الأدبى برواية لمحفوظ تدور أحداثها عن شخصيات تتعامل بشكل مباشر مع وسائط الإنترنت كالفيسبوك وتويتر، سيندهش الجميع من طابع الرواية ولغتها القريبة من لغة الشباب. سيتحفظ البعض ويقول إن محفوظ يتحرك فى عالم ليس خبيرا به، أو أن الرواية كانت تحتاج شابا متعايشا مع هذه الأوساط ليكتبها وتكون أفضل، ولكن فى النهاية ورغم كل الانتقادات ستثير الرواية الإعجاب مثلما ستثير الدهشة.

صمويل بيكيت شخصيته تنفر من الاجتماعيات بصفة عامة، وجل كتاباته تدور حول الفشل فى التواصل بين الناس، وربما تجعله مواقع التواصل الاجتماعى أكثر يقينا من هذه الفكرة. أما فكرة أن يكون لديه حساب على تويتر أو الفيسبوك أو حتى مدونة فسوف يقابلها بصمت وسخرية داخلية. ولكن فى وقت ما سيقنعه أكاديمى ومعجب أمريكى بأن يتعاون معه فى إنشاء موقع مختص بكتابات بيكيت والدراسات التى أجريت حولها. سيتعاون بيكيت مع الأمريكى بحرص فى البداية، ولكن فى لحظة ما سيقنعه الأمريكى بأن يضع نصوصه التى لا تصنف كأشكال تقليدية - كقصة أو قصيدة أو مسرحية - على مدونة ملحقة بالموقع، هذا الذى سيفعله بيكيت، لتُجمع هذه النصوص وتُصنف فى أعماله الكاملة – إلى جانب النصوص الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية – على أنها نصوص الإنترنت. ولكن بعد وفاته سيكشف الأكاديمى الأمريكى أن بيكيت تأثر بشكل كبير بوسائط الإنترنت وإن كان هذا لا يبدو للقارئ غير المتعمق، مبينا أن الحوارات التى تتكون من جمل قصيرة لا تفضى إلى شئ التى تتميز بها أعماله المسرحية الأخيرة هى أشبه بالحوارات التى يتبادلها مستخدمو التويتر.

أمير زكى
أغسطس 2011

الأحد، 26 يونيو 2011

ملاحظات على قصة (زعبلاوى) لنجيب محفوظ



***

"اقتنعت أخيرا بأن عليٌ أن أجد الشيخ زعبلاوي ."

نحن نبدأ من وسط حدث، نبدأ من احتياج الراوى لشيخ يدعى زعبلاوى، لا وقت لتضييعه فى مقدمات، هذه سمة عند محفوظ فى قصصه، لدينا فكرة نريد أن (نقصها)، لا فرصة لمقدمات، لا فرصة لنفس طويل فى الوصف، هذا لا يعنى ضعف فى الوصف، سنرى أنه سيستخدمه حينما يحتاجه، ولكن فقط حينما يحتاجه.

ننتقل الآن ونعرف أن الراوى عرف عن زعبلاوى:
-
فى طفولته
-
عن طريق أغنية(1)
-
وتأكد من أبيه

الطفولة عند محفوظ هى مرحلة أسطورية، نتلقى فيها معارف شبحية قد نتمرد عليها ولكننا لا نستطيع أن نتحرر منها بالكامل، نذكر هنا طفولة كمال عبد الجواد فى الثلاثية، ولكن نذكر بشكل أبرز طفولة جعفر الراوى فى قلب الليل. يضيف إلى هذا أنه عرف زعبلاوى، الذى سنكتشف رمزيته سريعا، عن طريق أغنية، هل هذا يضيف بعد غير يقينى لهذه المعرفة؟، أم أنه يحاول إثبات أهمية الفن فى المعرفة؟، هذا الذى سيتأكد مع منتصف القصة؟ ثم الأب، نحن نتلقى معارفنا من آباءنا، وأبرز ما نتلقاه هو معرفة شخص مثل زعبلاوى، الأب هو فى النهاية مصدر يقين الابن/ الراوى بأهمية زعبلاوى، يقول الأب: "إنه ولي صادق من أولياء الله، وشيال الهموم والمتاعب، ولولاه لمت غما"، وبعد سطرين يقول الراوى "وجرت الأيام فصادفتني أدواء كثيرة، وكنت أجد لكل داء دواءه بلا عناء وبنفقات في حدود الامكان، حتي أصابني الداء الذي لا دواء له عند أحد، وسدت في وجهي السبل وطوقني اليأس، فخطر ببالي ما سمعته علي عهد طفولتي، وتساءلت لم لا أبحث عن الشيخ زعبلاوي؟!.." هنا نحن نتأكد ماذا يقصد محفوظ من زعبلاوى، هنا يتكشف لنا الرمز بكل بساطة، هل تزعجنا تلك السهولة؟، ربما، ولكن جمال القصة ينفى عنا هذا، زعبلاوى – وربما هذا هو رأيى – يمثل المطلق، الإله الغائب، هو نفسه جودو عند صمويل بيكيت، وهو أيضا سيد الرحيمى عند محفوظ نفسه فى (الطريق).

وأيضا مثل (الطريق) تكون لدى الشخصية الرئيسية مهمة بحث عن الشخص الذى سيحقق له نوع من السلام، فتبدأ شخصيتنا فى البحث، يبدأ عند "الشيخ قمر بخان جعفر، وهو شيخ من رجال الدين المشتغلين بالمحاماة الشرعية". إذن فأول ما يمكن أن يتوجه إليه الشخص فى بحثه عن المطلق هو رجل الدين، هذا هو ما يفعله أى شخص مقتنع بالدين، ولكن المشاهد الممهدة لمقابلة رجل الدين تجعلنا نتوقع جميعا ما الذى يستطيع أن يقدمه لنا مثل هذا الشخص: فهو يقيم فى جاردن سيتى، فى عمارة بالغرفة التجارية، حجرته تخرج منها للتو سيدة حسناء، والرجل "يرتدي البدلة العصرية ويدخن السيجار".
لذلك نحن نتوقع رده على الراوى حينما يسأله عن زعبلاوى:
"
كان ذلك في الزمان الاول، وما أكاد أذكره اليوم."
فلم يعد الإله من اهتمامات رجل الدين، ولن تجد عنده إجابة على أسئلتك. وعندما أحاله إلى محل سكن زعبلاوى القديم بربع البرجاوى بالأزهر سيتلقى صدمة، فالربع "قد تآكل من القدم حتي لم يبق منه إلا واجهة أثرية وحوش استعمل رغم الحراسة الاسمية مزبلة". هذا غير أن "البعض سخر منه بلا حيطة ونعتوه بالدجل". ووصف زعبلاوى بالدجل سيتكرر عندما يقابل الشيخ جاد الملحن.

يتوجه الراوى لشيخ الحارة، رمزيته تتكشف حينما يسأله: "حتى أنت لا تستطيع أن تجده؟" فيجيب: "حتى أنا، إنه رجل يحيّر (العقل)".، على أية حال فالعقل/ شيخ الحارة يقول له إنه "حي لم يمت، ولكن لا مسكن له وهذا هو الخازوق، ربما صادفته وأنت خارج من هنا علي غير ميعاد، وربما قضيت الأيام والشهور بحثا عنه دون جدوى". وبغض النظر عن مدى اقتناعنا بإمكانية أن يقول لنا العقل مثل هذا الكلام، فشيخ الحارة كلامه يدل على الطبيعة المتهربة لزعبلاوى، يذكرنى هذا بحديث الفيلسوف الألمانى هايدجر عن الوجود/ الحقيقة، كشيء يتهرب منا، والذى نستطيع التقاطه -  وغالبا ما يحدث هذا عن طريق الفن - هو لحظة التهرب تلك.

ربما لا نزال نسير مع هايدجر، فالفنان الشيخ جاد الملحن المعروف والذى يذكرنى مشهده هنا بحلم لمحفوظ عن زكريا أحمد فى (أحلام فترة النقاهة) هو أكثر شخص سيقربه من الشيخ زعبلاوى بأن يخبره عن حانة النجمة التى يسهر فيها صديقه ونس الدمنهورى. حديث الشيخ جاد ثم تردد اسم (ونس) يعطينا أبعادا صوفية  واضحة من البداية لكن تزداد كثافة هنا، فالشيخ يقول إن العذاب فى البحث عن زعبلاوى هو نوع من العلاج، ثم يغنى (أدر ذكر من أهوى ولو بملامى فإن أحاديث الحبيب مدامى). مشهد الحانة قد يوحى باستمرار هذا البعد الصوفى، بتذكر رمزية الخمر فى كل الأدب الصوفى، ومن الممكن أن يكون بالنسبة لنا صدمة أخرى من حيث أننا لن نلتقى زعبلاوى إلا فى حانة.

فى النهاية فالراوى لا يلتقى بزعبلاوى إلا عندما يسكر، وهنا يطول نفس محفوظ قليلا فى الوصف لأنه بحاجة إليه، كل هذه الفقرة :
"
ودار بي كل شيء ونسيت ما جئت من أجله، أقبل عليّ الرجل مصغيا ولكني رأيته محض مساحات لونية لا معنى لها، وهكذا كل شيء بدا. ومر وقت لم أدره حتى مال رأسي إلى مسند الكرسي وغبت في نوم عميق، وفي أثناء نومي حلمت حلما جميلا لم أحلم بمثله من قبل. حلمت بأنني في حديقة لا حدود لها تنتشر في جنباتها الاشجار بوفرة سخية فلا ترى السماء إلا كالكواكب خلل أغصانها المتعانقة ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم.. وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني، وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي، وبيننا وبين الدنيا فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ، وليس في الدنيا كلها داع واحد للكلام أو الحركة، ونشوة طرب يضج بها الكون."
هذا له دلالة، فهذه الفقرة هى التى يتحقق فيها لقاء الراوى بزعبلاوى، فلا بد من أن تكون متميزة نسبيا عن كل سياق القصة.

يتأكد الراوى مع نهاية القصة من وجود زعبلاوى، ولكن وجوده لا معنى له لأنه غير قادر على لقاءه بالشكل الذى يرضيه، هل يستمر فى البحث؟، هل يكف عن المحاولة فـ "كم من متعبين في هذه الحياة لا يعرفونه أو يعتبرونه خرافة من الخرافات". لا نعرف إجابة لهذا السؤال، فمحفوظ ينهى القصة وموقف الراوى مساو لموقفه فى بدايتها، وربما كان الشخص الحقيقى الذى يملك الإجابة الآن هو القارئ.

قصة (زعبلاوى)
نجيب محفوظ
مجموعة (دنيا الله)
-----------------------
(1) "الدنيا مالها يا زعبلاوى شقلبوا حالها وخلوها ماوى" هذا ما ذكره محفوظ فى القصة. ولكن أشار إلىّ د. أحمد الخميسى أن المقطع ضمن أغنية قديمة ومعروفة، ووجدت أنها أغنية (القلل القناوى)، تأليف بديع خيرى وألحان سيد درويش، يقال فى الأغنية: "الدنيا مالها يا زعبلاوى.. شقلبوا حالها وين المداوى". أفترض أن مقطع (الدنيا مالها يا زعبلاوى) كان ترتيلة شعبية شائعة واستخدمها بديع وسيد فى الأغنية.

الأحد، 23 يناير 2011

اثنا عشر كتابا لنجيب محفوظ


هذه التدوينة هى مساهمة فى الاقتراح المطروح فى هذه الصفحة على الفيس بوك والداعى لقراءة 12 كتابا لنجيب محفوظ احتفالا بمئوية مولده هذا العام. وبالتالى فهذه التدوينة تحمل ترشيحاتى لـ12 كتابا لمحفوظ أعتبرهم أفضل ما قرأت له من جهة، وأفضل ما يمكن أن يعبر عن أدبه من جهة أخرى.

1- القاهرة الجديدة

          يفتتح محفوظ الرواية بأربع شخصيات، يعبرون عن التيارات الفكرية لهذا العصر، مأمون رضوان المسلم المتدين، على طه الاشتراكى الملحد، أحمد بدير الصحفى الوفدى، ومحجوب عبد الدايم، ولا يلبث محفوظ طويلا حتى تدور روايته كلها على شخصية محجوب عبد الدايم الذى يؤمن بفلسفة طظ، أو الذى يحثه فقره وظروفه الاجتماعية المتدنية بالنسبة لزملائه لاعتناق فلسفة ليس جاهزة كفلسفتى مأمون وعلى، أن يلفق فلسفة تفيده هو – بقدر الإمكان – على المستوى الشخصى، ويعلن التخلى عن كل المبادئ التى يمكن أن تعرقله عن تطلعه الطبقى، حتى أنه يضطرب لصدق وصف عابر أطلقه عليه أحد السكارى فى الحانة: "أنت كبش ذو قرنين.". وتمضى فلسفة طظ بنجاح باهر مع محجوب لبعض الوقت، ولكن يخونه ذكاؤه فى النهاية، ويسقط.
تحمل الرواية تساؤلا ظل مطروحا أثناءها حتى ذكر فى نهايتها: "ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟"، تلك الفترة المزدحمة بالأفكار، ما الذى يمكن أن تتمخض عنه.

2- الثلاثية

          كيف يمكن أن يقود الطموح أديب ما، أو كيف يكتب الأديب نوعية ما فيصل إلى الذروة من خلال عمل ضخم، ووصفى للثلاثية كعمل ضخم لا يتعلق بحجمها، وإنما بشئ عظيم تم فيها، بمجهود خرافى بذله الكاتب ليعكس ثقافة شخصيات هذا الزمان وهذا المكان، وحتى إن كنا منفصلين عنهما، فستظل الثلاثية تعبر عن المشاعر الإنسانية لشخصياتها، تلك المشاعر الثابتة التى تتماس معنا ومع أى شخص يقرأها. وسواء اعتبرت العمل تعبيرا عن السيد أحمد عبد الجواد التى تسرد الثلاثية تاريخ عائلته، أو عن زوجته أمينة التى تنتهى الرواية بانتظار موتها، أو عن كمال عبد الجواد التى تقتفى الرواية بأجزائها الثلاثة تكوينه الروحى، فسوف تجد دوما ما يجذبك لقراءتها. يتسارع إيقاع الرواية مع تطور الزمن فيها، فتجد كمال الذى يعانى من عذاب روحى ينظر باندهاش لولدى أخته أحمد وعبد المنعم شوكت الشيوعى والإخوانى. وتجد مشهد أفكار شخصيات القاهرة الجديدة تتناثر بشكل أشمل فى شخصيات السكرية.

3- أولاد حارتنا

          مستوى آخر من روايات محفوظ، بعد مرحلة الروايات الفرعونية محدودة المستوى، والروايات الواقعية التى وصلنا لذروتها فى الثلاثية، هنا نجد رواية فلسفية، نستطيع أن نضعها جنبا إلى جنب مع مجموعة الروايات الفلسفية العالمية المعروفة الغريب/ كامو، سيد هارتا/ هرمان هسه، الثلاثية/ بيكيت، وأيضا إلى جانب الروايات الفلسفية الأخرى لمحفوظ نفسه، مثل الطريق وقلب الليل. قد يضايق البعض أن المستوى الأدبى قد يكون أقل نسبيا من الثلاثية أو من الحرافيش بعد ذلك، ولكن علينا أن نعرف أن محفوظ كان يتحرك فى منطقة مختلفة تماما عن أدبه وعن الأدب المصرى عموما، فى منطقة أكثر خطرا وتستلزم الحرص مثلما تستلزم الجرأة، ولكن على أى حال، وبغض النظر عما يتحدث عن المثقفون الرسميون محاولة منهم للتصالح مع الأفكار الدينية، أو ما يمكن أن يكون قد قاله محفوظ نفسه، فإن هذه الرواية عن تاريخ الأديان، وعن الله الذى هو الجبلاوى، وعن الشخصيات الدينية (أدهم/آدم)، (جبل/موسى)، (رفاعة/المسيح)، (قاسم/محمد)، (عرفة/العلم). وهى محاولة لتقفى تاريخ البشرية وفقا للتراتب الدينى.

4- دنيا الله

          أجمل مجموعات محفوظ القصصية، تحتوى على قصة زعبلاوى الشهيرة والرائعة، بما فيها من تصوف ومراوغة من قبل المطلق. كذلك يمكنك متابعة قلق الإمام وحيرته فى اعتناق رأى يساعده على صياغة خطبته فى (الجامع فى الدرب) فى ظل الأوضاع السياسية المرتبكة التى أدت لأن لا يبقى من سعد زغلول سوى صورة باهتة معلقة فى حجرة عاهرة. وقصة (دنيا الله) التى قرر بطلها عم إبراهيم التمتع ببضعة لحظات من العمر على حساب مرتبات موظفى الإدارة التى يعمل بها بدافع من الله كما يقول فى آخر القصة. أو الموت المجهول الذى يحاول ضابط المباحث التقاطه بلا جدوى فى (مجهول). تصوف وأزمات وجودية ونقد سياسى واجتماعى متضمن فى قوالب قد لا يبدو لأول وهلة أنها من الممكن أن تتحمل هذه الأفكار، حيث تدور أكثر من قصة فى المجموعة عن جريمة، أو البحث عن مرتكب الجريمة.

5- الطريق

          محاولة أخرى للبحث عن المطلق، وعن المستقبل، عن الحرية والكرامة والسلام، بعد الاكتشاف المزرى لحقيقة الأم وحقيقة الماضى، لا يوجد أمام صابر الرحيمى سوى هدف غامض واحد، وهو البحث عن أبيه، لينقذه من أزمته، يرتفع التساؤل الذى يسيطر على الرواية كلها: "وهل أضيع عمرى فى البحث عن شئ من قبل التأكد من وجوده؟"
ينتقل صابر من الأسكندرية للقاهرة، يخايله حب إلهام وإغراء كريمة. مع نهاية الرواية تطالع أجواء دوستويفسكية من حيث التخطيط لجريمة وارتكابها ثم ما يتلوها من تحقيقات. الأجواء البوليسية فى النهاية لا تطمس الطابع الفلسفى البين للرواية. وينتهى صابر قائلا: "فليكن ما يكون."

6- المرايا

          أن تفتح الرواية كأنك تفتح قاموسا، شخصيات مرتبة أبجديا حسب أسماءها، هذا الذى يتكرر فى (حديث الصباح والمساء)، قطع بازل ترتبها فى ذهنك كما تريد، تنقل لك واقع مصر بداية من طفولة محفوظ وحتى ما بعد النكسة، سيرة ذاتية ملتوية، دورك أن تخمن أسماء الشخصيات الحقيقية. الخطوط السياسية واضحة حيث تتحرك داخلها الشخصيات، ولا يتجاهل محفوظ الأفكار والفلسفات التى تحركهم أيضا، ينقل محفوظ لك المجتمع المصرى المممتلئ بالفساد والسقطات، محاكمة متضمنة ولاذعة لما فعله بنفسه هذا الجيل، تمر خلال قراءتك بجملة لن تستطيع تجاهلها: "علينا اللعنة جميعا حتى يوم الدين."

7- قلب الليل

          يدهشك أن يلتفت المتدينون لأولاد حارتنا ويتجاهلون رواية تحمل نفس الهموم مثل قلب الليل، لا أبغى الإثارة، ولكن أبغى توضيح أن الرواية تحمل نفس المعانى التى تحملها الأولى ولكن مع ذلك فلأن الرمز هنا مخاتل قليلا فهذا يربك مثل هؤلاء القراء. عمل فلسفى آخر يقدمه نجيب محفوظ؛ رحلة جعفر الراوى التى يحكيها لموظف الأوقاف، بداية من عهد الأساطير حيث كان يعيش على قصص العفاريت والجان، مرورا بعهد الدين فى بيت جده سيد الراوى، قبل أن يتمرد عليه ويشق طريقه بنفسه مدفوعا بغرائزه تارة أو ملتمسا للعلم تارة أخرى، ينتهى جعفر بالجريمة والسجن مثله مثل صابر الرحيمى من قبل، ولكنه لا يزال يعتقد أنه استخلص من تجربته مذهبا يستطيع التبشير به.

8- حضرة المحترم

          عثمان بيومى، الموظف الذى يسير على الصراط المقدس، أشبه روايات محفوظ بقصصه القصيرة الموحية الغامضة، ستمضى مع عثمان إلى نهاية الرواية وأنت تتساءل إلى أين؟ فلن تجيبك سوى: إلى اللا نهاية التى ذكرها عثمان فى بداية رحلته بالرواية، رحلة ترقى صوفى، نحو هدف غير مفهوم، لا يستجيب عثمان بسهولة لمخايلات العالم، حتى مخايلات السعادة،  وكأنه استوعب الدرس من صابر الرحيمى وجعفر الراوى. يصل عثمان للوهن مع وصوله للدرجة الوظيفية الأعز، ولكن فى النهاية ما معنى كل هذا السعى؟

9- الحرافيش

            بعد مئات السنوات ربما تتلاشى كل أعمال محفوظ ومعاصريه وستظل هذه الرواية كأسطورة شعبية راسخة. عشر قصص تستطيع أن تتبين منها ملامح تراث الإنسانية كله، ما بين ملامح من سفر التكوين أو من الأساطير المصرية القديمة أو حتى الأدب العالمى الحديث كحلم دوريان جراى الذى يتكرر عند جلال صاحب الجلالة (بطل أكثر حكايات الملحمة جلالة) بالرغبة فى الشباب الدائم.
تكثيف اللغة يفصلك تماما عن أسلوب محفوظ فى بداية كتاباته، مع تناثر حكمة الحياة فى أرجاء الرواية، مع تجاهل متصوفة التكية الذى يذكرك بتجاهل الله لنا وبقاءه فى سماءه.

10- رحلة ابن فطومة

          رحلة أخرى تخوضها إحدى شخصيات محفوظ، قنديل ابن فطومة يقرر أن يصبح رحالة، ورغم أنه ينصح نفسه أن يرى ويسمع ويسجل ويتحاشى التجارب، إلا أنه يسقط فى التجارب، وتنازعه العلاقات الشخصية عن المعرفة البحتة. رحلة البحث هنا ليست دينية وصوفية فحسب كقلب الليل والطريق وجل أولاد حارتنا، ولكنها رحلة سياسية فى الأساس، يتابع فيها قنديل أنظمة الحكم فى العالم متحسرا – رغم كل المساوئ العالمية – على دار الإسلام التى خانت عهد الدين مثلما خانت عائلة الناجى عهد عاشور فى الحرافيش. النقد اللاذع ينصب بشكل أكبر على المجتمعات الإسلامية، ولكن هذا لا يمنع من إظهار كم هو مريع هذا العالم الذى نعيش فيه.

11- أصداء السيرة الذاتية

          لا طاقة الآن لكتابة قصص طويلة أو قصيرة، لا تبقى من الذكريات التى يصنع منها محفوظ أدبه سوى أصداء. سواء سيرة محفوظ نفسها أو سيرة من حوله كتكرار أكثر تكثيفا لمشروع المرايا. ستجد الكلمات المفتاحية لرجل عجوز كالموت والندم والذكريات والنسيان. النصف الثانى من الأصداء ينفرد بحكم الحياة (والموت) التى يقدمها الشيخ عبد ربه التائه، هذا الشيخ غريب الأطوار الذى يقدم نمطا مختلفا للمتدين أو المتصوف، تتناثر أقواله مثل الأحاديث المقدسة، جلها عن الاحتفاء بالحياة والتفاهم مع الموت.

12- أحلام فترة النقاهة

          لم يعد أمامه الآن سوى التقاط أحلامه، بعدما انفصل عن الواقع الذى استمد منه معظم أعماله الكبرى، عدد من الأحلام يصلح بالفعل كأعمال فنية جيدة، وعدد آخر من الأحلام يستمد قوته من كون محفوظ كتبها. أبرز ما فى المضمون هو التعبير عن مخاوف محفوظ التى راودته طوال حياته، حيث يخشى من حوادث السطو، أو أن تسوء سمعته أو أن ينفض الأصدقاء من حوله. ويستعيد رموز بارزة سياسية كسعد زغلول وفنية كزكريا أحمد، بالإضافة إلى أصدقاء شلة الحرافيش. ويبقى الكتاب اسهاما مصريا بارزا فى الأدب المتعلق بالأحلام، والذى أضاف محفوظ نفسه إليه فى فترة مبكرة بأحلامه المؤلفة (رأيت فيما يرى النائم).