‏إظهار الرسائل ذات التسميات نجيب محفوظ. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نجيب محفوظ. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 9 يناير 2011

ثرثرة فوق النيل – محفوظ – اقتباسات


"ودبت حركة عجيبة فى رئيس القلم فشملت أعضاءه الظاهرة فوق المكتب. حركة تموجية بطيئة ولكنها ذات أثر حاسم. راح ينتفخ رويدا فيمتد الانتفاخ من الصدر إلى الرقبة فإلى الوجه ثم الرأس. حملق أنيس زكى فى رئيسه بعينين جامدتين. وإذا بالانتفاخ البادئ أصلا بالصدر يتضخم فيزدرد الرقبة والرأس، ماحيا جميع القسمات والملامح، مكونا من الرجل فى النهاية كرة ضخمة من اللحم، ويبدو أن وزنه خف بطريقة مذهلة فمضت الكرة تصعد ببطء أول الأمر ثم بسرعة متدرجة حتى طارت كمنطاد والتصقت بالسقف وهى تتأرجح. وسأله رئيس القلم:

- لم تنظر إلى السقف يا أنيس أفندى؟"
***
"عيناك تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية خلق الله."
***
"عيناى تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية عباد الله."
***
"- المنظر كما هو كل يوم، عم عبده جالس فى الحديقة كتمثال، وأنت هنا تعد الجوزة!
- ذلك أن على الإنسان أن يعمل."
***
وسألها دون جدية ما:
- لما لا تتخذين منى رفيقا؟
ولما ألح عليها بعينيه أجابت:
- إنك إذا استعملت الحب يوما كمبتدأ فى جملة مفيدة فستنسى حتما الخبر إلى الأبد!
***
"لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه إله."
***
"إن الدنيا لا تهمنا كما أننا لا نهم الدنيا فى شىء.."
***
"من يا ترى الرجل الذى قال إن الثورات يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها الجبناء؟"
***
"- ما آخر نكتة؟
- لم يعد هناك من نكات مذ أصبحت حياتنا نكتة سمجة."
***
"إن المتلفت لا يصل."
***
"لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن فقد انتهى بنا الأمر إلى ألا نخاف شيئا.."
***
".. يا أى شىء افعل شيئا فقد طحننا اللا شىء."
***
"الغيرة ليست غريزة كما يقول الجاهلون، ولكنها تراث إقطاعى."
***
"ونظر إلى النجوم وراح يحصى منها ما يستطيع عده. وأرهقه العد حتى جاءته نسمة عطرة من حديقة القصر. وهارون الرشيد جالس على أريكة تحت شجرة مشمش والجوارى يلعبن بين يديه. وأنت تصب له الخمر من إبريق من الذهب. ورق أمير المؤمنين حتى صار أصفى من الهواء وقال لك:
- هات ما عندك..
ولم يكن عندك شىء فقلت قد هلكت. ولكن الجارية ضربت أوتار العود وغنت:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثنى        على كبدى من خشية أن تصدعا
وليست عشيات الحمى برواجع  عليك ولكن خل عينيك تدمعا
فطرب الرشيد حتى ضرب بيديه ورجليه فقلت ها هى فرصة لتهرب وانسحبت بخفة ولكن الحارس العملاق لمحك فاتجه نحوك فجريت فجرى وراءك شاهرا سيفه فصرخت مستغيثا بآل رسول الله فأقسم ليرمين بك فى سجن بيتهم."
***

"ورأى على سطح الصينية عديدا من الهاموش الهالك فخطر له أن يسأل:
- إلى أى نوع من الكائنات ينتمى الهاموش؟
اعترض السؤال أفكارهم فى تطفل مزعج ولكن مصطفى راشد أجاب ساخرا:
- من الحيوانات الثديية."

***

"ثمة آلاف من الشهب تتناثر من الكواكب لتحترق وتتبدد منهالة على جو الأرض دون أن تمر بالأرشيف أو تسجل فى دفتر الوارد."

***

"إذا لم يكن فى النجوم من يعنى برصد كوكبنا ودراسة أحوالنا الغريبة فنحن ضائعون. وترى كيف يفسر الراصد مجلسنا الضاحك ما بين اجتماع شمله حتى تقوضه؟ سيقول ثمة تجمعات دقيقة تنفث غبارا مما يكثر فى الغلاف الجوى للكواكب وتصدر عنها أصوات مبهمة لا يمكن فهمهما ما دمنا لم نصل بعد إلى معرفة أى فكرة عن تكوينها. ويزيد حجم التجمعات بين مرة وأخرى مما يدل على أنها تتكاثر بطريقة ما، ذاتية أو خارجية، ولذلك فمن غير المستحيل أن يوجد نوع من الحياة البدائية فى ذلك الكوكب البارد خلافا للرأى القائل باستحالة وجود حياة فى غير الأجواء النارية، ومن العجيب أن هذه التجمعات الدقيقة تختفى لتعود من جديد ويتكرر الحال على ذلك المنوال دون هدف واضح مما يرجح معه الرأى القائل بعدم وجود حياة بالمعنى الصحيح على الأقل."

***

"- لا علاقة بين شىء وشىء..

- ولا حتى بين طلقة رصاصة وموت إنسان؟!

- ولا هذا، فالرصاصة اختراع معقول، أما الموت.."

***

".. شعارنا القديم: لو لم أكن لتمنيت أن أكون."

***

".. قد تجد قاتلا بلا سبب فى رواية مثل رواية الغريب أما فى الحياة الحقيقية فإن بيكيت نفسه أول من يسارع بإقامة الدعوى على ناشر إذا أخل بشرط من شروط العقد الخاص بأى كتاب من كتبه العبثية."

***
"يظن نفسه مركز الكون وأن الجوزة تدور من أجله. والحق أن الجوزة تدور لأن كل شىء يدور، ولو كانت الأفلاك تسير فى خط مستقيم لتغير نظام الغرزة. وليلة أمس اقتنعت تماما بالخلود ولكنى نسيت الأسباب وأنا ذاهب للأرشيف."
***
".. عندما نهاجر إلى القمر سنكون أول مهاجرين يهاجرون هربا من لا شىء إلى لا شىء."
***
".. جلس أمامى كتمثال فقلت:
- هل أنت تحتمس الثالث حقا؟
أجاب بصوت ذكرنى بصوت مصطفى راشد:
- نعم..
- ماذا تفعل؟
- أتقاسم العرش مع أختى حتشبثوت..
قلت باهتمام:
- يسأل كثيرون عن سر خمولك فى ظلها؟
- إنها الملكة..
- ولكنك الملك أيضا.
- إنها قوية وتحب أن تستأثر بكل شىء..
- ولكنك أكبر قواد مصر وأعظم حكامها..
- لم أخض حربا ولم أمارس الحكم بعد..
- إنى أحدثك عما ستصير إليه، ألا تفهم؟
- وكيف عرفت ذلك؟
- من التاريخ، كل الناس يعرفونه..
وضح وهو ينظر إلىّ كمن ينظر إلى معتوه، قلت بإصرار:
- إنه التاريخ، صدقنى..
- لكنك تتكلم عن مستقبل مجهول.
فقلت كمن يتكلم عن كابوس من شدة الحيرة:
- إنه التاريخ، صدقنى."
***
"جميع بنات الليل جادات... لا يعرفن العبث، يعملن حتى الهزيع الأخير من الليل، لا للهو أو للذة، ولكن لهدف تقدمى وهو أن يعشن حياة أفضل."
***
"وتساءل: لماذا لا توجد حركة؟
فالتفتوا نحوه متوقعين مفاجأة ما، وسأله مصطفى:
- أى حركة يا ولى الأمر؟
فتمتم وهو يواصل عمله:
- أى حركة.."
***
"ألم تعلم بأن سمارة نبية جديدة؟... وقد جندت منا جيشا سنحارب به العدم ثم نسير إلى الأمام.."
***
"نحن فوق الأرض لا على خشبة المسرح."
***
"- أصل المتاعب مهارة قرد!
- تعلم كيف يسير على قدميه فحرر يديه.
- وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة.
- وقالوا له عد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش.
- فقبض على غصن شجرة بيد وعلى حجر بيد وتقدم فى حذر وهو يمد بصره إلى طريق لا نهاية له."


نجيب محفوظ
ثرثرة فوق النيل

الأحد، 2 يناير 2011

حضرة المحترم – محفوظ – اقتباسات


"إنهم أناس لا يعرفون لأنفسهم هدفا محددا، وإيمانهم الدينى إيمان سطحى، ولم يفكروا بما فيه الكفاية فى معنى الحياة، ولا فيما خلقهم الله من أجله، وهكذا تتبدد أفكارهم وأعمارهم فى لهو وسفسطة، وتهدر قواهم الحقيقية بلا عمل. تستغفلهم الأوهام، ويمضى الزمن وهم لا يعلمون.."
***
"حتى أخطاء الإنسان يجب أن تكون مقدسة."
***
"إن الحياة أعظم من جميع آمالها."
***
"... المتطلعين إلى المجد فى طريق الله لا يحفلون بالسعادة."
***
"بالحزن يتقدس الإنسان ويعد نفسه للفرح الإلهى."
***
"وقال له حمزة السويفى يوما فى مناقشة على هامش العمل اليومى:
- السعادة هى غاية الإنسان فى هذه الحياة.
فقال عثمان بازدراء باطنى:
- لو كان الأمر كذلك لما سمح سبحانه بخروج أبينا من الجنة..
- إذن فما الهدف من الحياة فى نظرك؟
فأجاب باعتزاز:
- الطريق المقدس..
- وما الطريق المقدس؟
- هو طريق المجد، أو تحقيق الألوهية على الأرض!
فتساءل حمزة بدهشة:
- أتطمح حقا إلى سيادة الدنيا؟
- ليس ذلك بالدقة، ولكن فى كل موضع يوجد مركز إلهى.."
***
"إن أحدا لا يعلم الغيب، ولذلك يتعذر الحكم الشامل على أى فعل من فعالنا، بيد أن تحديد هدف للإنسان يعتبر هاديا فى الظلام وعذرا فى تضارب الحظوظ والأحداث، وهو مثال على ما يبدو أن الطبيعة تترسمه فى خطواتها اللا نهائية."
***
"إن الموظف مضمون غامض لم يفهم على وجهه الصحيح بعد. الوظيفة فى تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصرى أقدم موظف فى تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى فى البلدان الأخرى محاربا أو سياسيا أو تاجرا أو رجل صناعة أو بحارا فهو فى مصر الموظف. وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ. وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفا  معينا من قبل الآلهة فى السماء ليحكم الوادى من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية. ووادينا وادى فلاحين طيبين يحنون الهامات نحو أرض طيبة ولكن رءوسهم ترتفع لدى انتظامهم فى سلك الوظائف، حينذاك يتطلعون إلى فوق، إلى سلم الدرجات المتصاعد حتى أعتاب الآلهة فى السماء. الوظيفة خدمة للناس وحق للكفاءة وواجب للضمير الحى وكبرياء للذات البشرية وعبادة الله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء."
***
"خير تعريف للحياة أنها لا شىء..."
***
"- إنك سيدة محترمة، والسيدة المحترمة لا تسكر كل ليلة..
- إذن كيف تسكر السيدة المحترمة؟"
***
"الوظيفة حجر فى بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله مجسدة على الأرض!"


نجيب محفوظ
حضرة المحترم

السبت، 27 نوفمبر 2010

مختارات من أحلام فترة النقاهة - نجيب محفوظ


حلم 8

عندما أقبلت على مسكنى وجدت الباب مفتوحا على ضلفتيه على غير عادة، وجاءتنى من الداخل ضوضاء وأصداء كلام.
دق قلبى متوقعا شرا، ورأيت من أحبابى ابتسامات مشفقة، وسرعان ما عرفت كل شىء، خلت الشقة من الأثاث الذى كوم فى ناحية داخل المكان.. عمال من متفاوتى الأعمار، منهم من دهن الجدران ومنهم من يعجن المونة ومنهم من يحمل المياه.. وهكذا نفذت المكيدة فى أثناء غيابى وذهبت توسلاتى فى الهواء.
وهل أطيق هذا الانقلاب وأنا على تلك الحال من الإرهاق؟
وصحت بالعمال من أذن لكم ذلك، ولكنهم استمروا فى عملهم دون أن يعيرونى أى اهتمام، وقهرنى الغضب فغادرت الشقة وأنا أشعر بأننى لن أرجع إليها مدى عمرى وعند مدخل العمارة رأيت أمى مقبلة بعد رحيلها الطويل وبدت مستاءة وغاضبة وقالت لى:
أنت السبب فيما حصل!
فثار غضبى وصحت:
بل أنت السبب فيما حصل وما سوف يحصل..
وسرعان ما اختفت وأمضت فى الهرب.

***

حلم 15

بهو رصت على جوانبه المكاتب.. إنه مصلحة حكومية أو مؤسسة تجارية والموظفون بين السكون وراء مكاتبهم أو الحركة بين المكاتب.
وهم خليط بين الجنسين والتعاون فى العمل واضح والغزل الخفيف غير خاف وأنا فيما بدا من الموظفين الجدد ومرتبى على قد حاله وشعورى بذلك عميق ولكنه لم يمنعنى من طلب يد فتاة جميلة وهى كموظفة أقدم وأعلى. والحق أنها شكرتنى ولكنها اعتذرت عن عدم الاستجابة لطلبى قائلة:
لا نملك ما يهيئ لنا حياة سعيدة
وتلقيت بذلك طعنة نفذت إلى صميم وجدانى.
ومن يومها تحسبت مفاتحة أى زميلة فى هذا الشأن على الرغم من إعجابى بأكثر من واحدة وعانيت مر المعاناة من العزلة والكآبة.. وألحقت بالخدمة فتاة جديدة فوجدت نفسى فى مكانة أعلى لأول مرة فأنا مراجع وهى كاتبة على الآلة الكاتبة ومرتبى ضعف مرتبها إلا أنها لم تكن جميلة بل الأدهى من ذلك أنى سمعت همسا يدور حول سلوكها وبدافع من اليأس قررت الخروج من عزلتى فداعبتها فإذا بها تداعبنى، ومن شدة فرحى فقدت وعيى وطلبت يدها وقالت لى:
آسفة!
فلم أصدق أذنى وقلت وأنا أتهادى
مرتبى لا بأس به بالإضافة إلى مرتبك.
فقالت بجدية:
المال لا يهمنى
وهممت أن أسألها عما يهمها ولكنها ذهبت قبل أن أنطق..

***

حلم 24

قررت إصلاح شقتى بالأسكندرية بعد غياب ليس بالقصير، وجاء العمال وفى مقدمتهم المعلم وبدأ العمل بنشاط ملحوظ، وحانت منى التفاتة إلى شاب منهم فشعرت بأننى لا أراه لأول مرة، وسَرَت فى جسدى قشعريرة عندما تذكرت أننى رأيته يوما فى شارع جانبى يهاجم سيدة ويخطف حقيبتها ويلوذ بالفرار، ولكنى لم أكن على يقين وسألت المعلم عن مدى ثقته بالشاب دون أن أشعر الشاب بذلك فقال لى المعلم:  إنه مضمون كالجنيه الذهب فهو ابنى وتربية يدى.
 واستقر قلبى إلى حين، وكلما وقع بصرى على الشاب انقبض صدرى، وطلبا للأمان فتحت إحدى النوافذ المطلة على الشارع الذى يعمل فيه كثيرون مما أعرفهم ويعرفوننى ولكنى رأيت حارة الجراج التى تطل عليها شقتى بالقاهرة فعجبت لذلك وازداد انقباضى، وجرى الوقت واقترب المساء فطالبتهم بإنهاء عمل اليوم قبل المساء لعلمى بأن الكهرباء مقطوعة بسبب طول غيابى عن الشقة.
فقال الشاب: "لا تقلق.. معى شمعة".. فساورنى شك بأن الفرصة ستكون متاحة لنهب ما خف وزنه وبحثت عن المعلم فقيل لى إنه دخل الحمام وانتظرت خروجه وقلقى يتزايد، وتصورت أن غيابه فى الحمام مؤامرة وأننى وحيد وسط عصابة، وناديت على المعلم ونُذر المساء تتسلل إلى الشقة.

***

حلم 29

المكان جديد لم أره من قبل. لعله بهو فى فندق وقد جلس الحرافيش حول مائدة. وكانوا يناقشوننى حول اختيار أحسن كاتبة فى مسابقة ذات شأن. وبدا واضحا أن الكاتبة التى رشحتها لم تحز أى قبول. قالوا إن ثقافتها سطحية. وأن سلوكها غاية فى السوء. وعبثا حاولت الدفاع. ولاحظت أنهم ينظرون إلىّ بتجهم غير معهود وكأنهم نسوا عشرة العمر. وتحركت لمغادرة البهو فلم يتحرك منهم أحد وأعرضوا عنى بغضب شديد، سرت نحو المصعد ودخلت وأنا أكاد أبكى. وانتبهت إلى أنه توجد معى امرأة فى ملابس الرجال ذات وجه صارم. قالت إنها تسخر بما يسمونه صداقة وأن المعاملة بين البشر يجب أن تتغير من أساسها . وقبل أن أفكر فيما تعنيه استخرجَت مسدسا من جيبها ووجهته إلىّ مطالبة إياى بالنقود التى معى. وتم كل شيء بسرعة ولما وقف المصعد وفتح بابه أمرتنى بالخروج، وهبط المصعد ووجدتنى فى طرقة مظلمة وقهرنى شعور بأننى فقدت أصدقائى وأن حوادث كالتى وقعت لى فى المصعد تتربص بى هنا أو هناك .

***

حلم 50

كنت أتطلع إلى امرأة فاتنة تسير فى الطريق فاقترب منى بجرأة وهمس فى أذنى إنها تحت أمرى إذا أمرت. كان برّاق العينين منفَّرا ولكنى لم أصده. واتفقنا على مبلغ وأصرّ على أن يأخذ نصفه مقدما فأعطيته النصف. وضرب لى موعدا ولكن عند اللقاء كان بمفرده واعتذر بتوعك المرأة وكان على أتم استعداد لرد المقدم ولكنى صدقته وأبقيته معى. وكان يقابلنى فى حلى وترحالى ويطالبنى بالصبر. وخشيت أن تسئ هذه المقابلات سمعتى فأخبرته أننى عدلت عن رغبتى ولن أسترد المقدم ولكن عليه أن لا يقابلنى. ولم يعد يقابلنى ولكنه كان يلوّح بها فى أكثر الأماكن التى أذهب إليها.
وضقت به كما كرهته وقررت الانتقال إلى الإسكندرية. وفى محطة سيدى جابر رأيته واقفا وكأنه ينتظر.

***

حلم 75

أمى ترحب بجارة عزيزة وكريمتها الحسناء فى حجرة المعيشة بالدور الثالث فى بيتنا القديم. ودعيت للجلوس معهن ثقة فى الألفة بين الأسرتين.
وفى أثناء الحوار استرقت إلى الفتاة نظرة واسترقت إلىّ نظرة دون أن يغيب هذا عن أم الفتاة، فلما ذهبت فى الابتعاد عن الغرفة همست لنا الجارة أن انزلا إذا شئتما إلى الدور التحتانى الآن كعادة من أهل البيت، وتلقيت الدعوة بذهول وبفرح شامل. وما أن دخلنا الدور التحتانى حتى جذبتها إلى صدرى. ولكنى لم أخط الخطوة التالية لسماع ضجة غريبة واقتحم المكان نساء ورجال وشباب، وتفرقوا فى الحجرات؛ ثم جاء رجل من رجال الأمن ووقف عند الباب زاعما الحفاظ على القانون وكدت أفقد عقلى من الذهول وضاعف من ذهولى أنى رأيتهم يغنون فى حجرة، كما رأيتهم يرقصون فى حجرة أخرى. ونظرت إلى فتاتى مستغيثا بها فوجدتها هادئة باسمة.. وعند ذلك قررت الهرب، غير أنى رأيت رجل الأمن عند الباب فتسمرت فى وضعى فريسة للذهول وخيبة الأمل.

***

حلم 93

على سطح بيت قريب رأيت أثاثا يرتب وينمق فسألت قيل لى إن صاحب ذلك البيت حوّل بيته إلى معهد ثقافى بالمجان قانعا بالمعيشة فوق السطح فأعجبت به وأكبرته وعزمت على حضور بعض دروسه ووجدت المكان غاصا بالبشر وقال الرجل إن درس اليوم سيكون عن الثور الذى يحمل على قرنه الأرض وصدمنى قوله بشدة ففرت منى ضحكة ساخرة فاتجهت نحوى الوجوه شاخصة بالغضب. أما الرجل فرمانى بتظرة عابسة وهو يشير صامتا إلى باب الخروج.

***

حلم 100

هذه محكمة وهذه منضدة يجلس عليها قاض واحد وهذا موضع الاتهام يجلس فيه نفر من الزعماء وهذه قاعة الجلسة، حيث جلست أنا متشوقا لمعرفة المسئول عما حاق بنا، ولكنى أحبطت عندما دار الحديث بين القاضى والزعماء بلغة لم أسمعها من قبل حتى اعتدل القاضى فى جلسته استعدادا لإعلان الحكم باللغة العربية فاسترددت للأمام، ولكن القاضى أشار إلىّ أنا ونطق بحكم الإعدام فصرخت منبها إياه بأننى خارج القضية وإنى جئت بمحض اختيارى لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخى.

***

حلم 104

رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة عين فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل، وهناك رحبت بها بقلب مشوق واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأول، وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المرحوم المعلم القديم ورحب بنا غير أنه عتب على المرحومة طول غيابها، فقالت إن الذى منعها عن الحضور الموت فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة.

***

حلم 113

أخيرا حضر الوزير الجديد فقدمت له نفسى باعتبارى سكرتيره البرلمانى، ولكنه لم يفهم كلمة من كلامى فحاولت شرح عملى ولكنه نهرنى بحدة وأمر بنقلى من وظيفتى، وهكذا بدأت المعاناة فى حياتى، ثم شاء القدر أن يجمع بينى وبين الوزير فى مكان خير متوقع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولى أخذت أذكره بلقائنا الأول وما جرى فيه حتى تذكر وتأسف واعتذر، وانتهزت وجودنا فى مكان واحد كى أشرح له عمل السكرتير البرلمانى.


نجيب محفوظ
أحلام فترة النقاهة
دار الشروق 2005