مقال لوليام باريت
عن النيويورك تايمز، سبتمبر 1956
ترجمة أمير زكى
أغسطس 2010
وليام باريت (1913-1992) كان أستاذا للفلسفة بجامعة نيويورك، وله العديد من الإسهامات فى الفلسفة الوجودية.
***
فى الأغلب فالصخب الذى أحدثته مسرحية فى انتظار جودو هو الذى يجذب القراء السطحيين إلى روايات صمويل بيكيت، ولكن فى الأغلب أيضا فإن الكثيرين منهم سيشعرون بالإحباط، فعملية هدم الشكل الأدبى التقليدى التى تحققت جزئيا فى (جودو) تم تحقيقها بشكل أكبر هنا. فى (جودو) لا توجد حبكة بالمعنى المعروف، ولكن فيها ما يكفى من الحركة الدرامية التى تجعل المشاهد منجذبا لها، والشخصيات (من خلال شخصيات الممثلين) لديها هوية.
أما فى رواية (مالون يموت) فنحن تقريبا لا نعرف أكثر من أن مالون – بغض النظر عمن يكون – يحتضر، وأنه يموت فى النهاية، أما الباقى فهو كابوس. فأثناء احتضاره يتلو على نفسه بعض القصص؛ أسماء الشخصيات تتغير، الأشكال تغيم، ربما يكونون أشخاصا مختلفين، أو يكونون نفس الشخص، أو تنويعات على شخصية مالون نفسها (فعلى أى حال من على يقين بالهوية الشخصية؟)، وفى النهاية، بعدما يصبح الكابوس أكثر عنفا وازدحاما وهذيانا، تتوقف الكتابة ويموت مالون.
ربما يبدو المضمون غير مشجع بالنسبة لرواية، فقراءتها بسرعة كما نفعل مع معظم الروايات التى تحتوى على قصص سيجعل الكتاب رتيبا ومملا، بل ومثيرا للغثيان للقارئ الضجر، ولكن لا يمكن قراءة بيكيت بنفس طريقة الروايات العادية، فعليك أن تبتلعه على جرعات صغيرة، وأن تعود إليه مرارا وتكرارا، بهذه الطريقة تتأسس قوة الكتاب.
بيكيت يكتب مثل طائر مجروح، يقوم بتحليقات قصيرة، فلا يقضى وقتا فى الهواء حتى يسقط مرة أخرى، ولكن حركة هذا المنحنى تكون رائعة ، فبعد إعادة القراءة تحولت من إحباطى الأول إلى قناعة بأن الروايات الثلاث (مولوى)، (مالون يموت)، (اللا مسمى) أكثر قوة وأهمية من جودو.
فما يفعله الكاتب هنا هو محاولة تستدعى ما يفعله بعض الفنانين التجريديين؛ حين يفرغون اللوحة من كل الأشكال المألوفة على أن تكون اللوحة مثيرة بصريا مع ذلك. بيكيت يسعى لتفريغ الرواية من كل الموضوعات المألوفة- الحبكة، الموقف، الشخصيات، على أن يظل القارئ مع ذلك مأخوذا ومنجذبا للرواية، وكثيرا ما نجح فى ذلك، رغم أنه يسبح ضد التيار.
ولكن ربما يتساءل القارئ، ما فائدة هذا؟ لماذا يُدفع أى شكل فنى نحو حدود اللا شيء. حسنا، أولا فمن المثير للتحدى أن نرى إلى أى مدى يمكن للفرد أن يمضى بغض النظر عن الإتجاه. ثانيا فنوعية الخبرة التى يتعامل معها بيكيت تمثل مساحة كبيرة من الحياة، أكبر حتى من قدرتنا على الاعتراف بها لأنفسنا.
وإذا لم تكن كلمتا (إيجابى) و(سلبى) قد فقدتا معناهما تماما (مثل كلمتى يمينى ويسارى فى السياسة) فى عصرنا هذا، فعلىّ أن أقول إن بيكيت واحد من أكثر الكتاب الأحياء إيجابية، فهناك خلف تجديفه الحاد ضد الإنسان حب حقيقى، هذا غير أصالته التى تجعل من كل كلمة يكتبها تبدو وكأنه عاشها.