المعروف عن السرياليين أنهم يكرهون الرواية ويحبون الشعر لأن عالم الرواية يحتاج إلى صبر بينما هم يريدون من خلال الإيماءة والإشارة أن يعبروا عن سريالية هذا العالم. لكن لماذا أقدم أب السريالية وصاحب «البيان السريالي» إلى كتابة تجربة الحب هذه على شكل رواية. إن هذا المنجز السريالي تم بناؤه على موضوعة «الحب» كمبدأ أساسي من مبادئ هذه الحركة لتغيير العالم وتغيير الحياة.
ونادجا، عمل خارق وساحر في آن، لا يمكن إنجازه إلا من خلال الحب بشكل طبيعي. وبصفتها بطلة أثارت أندريه بريتون لأنها تتمتع بكل المزايا والأعاجيب، ومع ذلك فإن الإغراءات التي استخدمتها بقي في ظل الإطار الثقافي ولولا ذلك لكانت قصة حب عابرة تملئ ملايين من روايات الحب التقليدية. إنه الحب البسيط والصافي الذي لا تصنع فيه.
ولطالما أكد أندريه بريتون بأن المصدر الإلهام السريالي هو الحب كما شهدنا ذلك في قصائد بول ايلوار. تزوج أندريه بريتون في عام 1922 من فتاة أسمها سيمون التقى بها صدفة في حديقة اللوكسمبورغ وعاشت معه مدة سبع سنوات وساهمت بشكل فعال في أول حلقة سريالية شكلها. وكانت الاجتماعات تتم في البيت تحت إشرافها وفي ضيافتها. ولكن قلب بريتون كان متقلباً جداً فأحب غيرها وأقنعها بالطلاق عام 1929. وانزعجت الجماعة السريالية كثيراً لأن سيمون كانت أحد الأعضاء المحبوبين في الحلقة، ولم يفهم السرياليون سبب هذا الطلاق الذي صدمهم وجرحهم.
وثاروا على الزعيم بسبب هذا التصرف غير الأخلاقي. وعندئذ انشقت الحركة السريالية إلى قسمين، قسم مع بريتون وقسم ضده. ثم تزوج بريتون مرتين بعدئذ، فقد كان مزواجاً مطلاقاً يبحث عن المتعة في الحياة قبل كل شيء. لقد كان سورياليا حقا.. ولكن لقاءه بـ «نادجا» لم يكن عادياً ولم يفضي على الزواج بطبيعة الحال.
ما هي هذه المرأة الشابة التي ألهمت بريتون واحدة من أروع الشخصيات النسائية في القرن العشرين عبر روايته «نادجا». ففي عصر يوم من أكتوبر من عام 1926، كان بريتون يتسكع بالقرب من نوتردام دي ليرت عندما قابل امرأة شابة يكتنفها الغموض.. وخلال عشرة أيام، ارتبط معها بعلاقة وثيقة وقضى معها أوقاتا سعيدة سحرت فيها الشابة الغامضة احد أهم أقطاب السريالية وكان يتأملها بشغف وكأنها «روح هائمة» لدرجة انه سجل في دفتر ملاحظاته كلماتها وتصرفاتها وهواجسها وكانت تفتنه كل خلجة من خلجاتها وتثير اضطرابه أفعالها الجنونية وانغماسها في الحب لدرجة الموت..
في تلك الأيام، ولدت شخصية نادجا التي ستتيح الفرصة لظهور واحدة من أعظم القصص في القرن العشرين وستصبح بطلتها شبيهة بآلهات الفن والجمال وربات الشعر الأسطوريات.. فمنذ صدور كتاب اندريه بريتون في عام 1928، أثارت نادجا أسئلة كثيرة أهمها: من هي نادجا؟ وهل هي شخصية حقيقية، بعد أن ترك الكاتب بضعة آثار تدل على وجودها والتي حاول النقاد البحث عنها. لم يلتق بها بريتون في باريس بل في مدينة «ليل» وكانت تدعى «ليونا ديلكور»، وان حياتها القصيرة انتهت في مستشفى للمجانين!
بعد انفصالهما، لم يلتق بريتون بليونا أو «نادجا» مجددا أبدا إذ لم يعد بحاجة إليها لذا بقي لغزها قائما. وقد كتبت الروائية الأيرلندية هيستر الباخ قصة حول بطلة السريالية، وأماطت فيها اللثام عن شخصية نادجا او ليونا الحقيقية التي ولدت في الشمال، في منطقة سان اندريه في إحدى ضواحي مدينة ليل في أيار من عام ,1902. ولدى بلوغها السادسة عشرة من عمرها، أنجبت طفلة صغيرة من أب غير شرعي فقررت الاستقرار في باريس وعاشت وحيدة واضطرت إلى ممارسة مهن مختلفة ومهينة مثل بيع الكوكائين وبيع جسدها.
وبعد تعرفها على بريتون وعلاقتهما القصيرة ثم انفصالهما المفاجئ، كتبت ليونا له أكثر من ثلاثين رسالة قصيرة ما بين نوفمبر 1926 ومارس 1927، تحمل تواريخ احتجازها في مصح للمجانين، وتضمنت تلك الرسائل هذيانات وتوسلات إلى الرجل الذي فتنها ثم هجرها فجأة فشعرت بعده بأنها فقدت حياتها.
كان بريتون قد كتب الى زوجته سيمون رسالة يحدثها فيها عن ليونا قائلاً: «لم أحبها قط، لقد كانت قادرة فقط على فعل كل ما أحبه وبطريقة رائعة».. وكان بريتون يعرف بأنها محتجزة في المصح دون أن يفكر في زيارتها حتى توفيت في يوم كئيب من عام 1941، وكانت آنذاك في التاسعة والثلاثين من عمرها.. وفي الوقت الذي احتجزت فيه، تفرغ بريتون لكتابة روايته «نادجا» المستوحاة من حكاية ليونا منعزلا عن الناس.. وكان الأطباء قد شخصوا في حالتها مرضا نفسيا قادها أخيراً إلى الموت.
قال عنها بريتون في روايته «نادجا»: «أما أن يكون الجمال ضربا من الجنون، أو لا يكون».