حياة بيكيت
هذه هى ترجمة الفصل الأول من كتاب (مقدمة كامبريدج لصمويل بيكيت - The Cambridge Introduction to Samuel Beckett) للكاتب: رونان مكدونالد*
الكتاب صدر عام 2006
ترجمة: أمير زكى
يناير 2012
* رونان مكدونالد محاضر اللغة الإنجليزية بجامعة ريدينج ومدير سابق لمؤسسة بيكيت الدولية.
***
يعتبر صمويل بيكيت موضوعا صعبا لكاتب السيرة الذاتية، وعلى الرغم من أن أصدقاءه ومعارفه يتحدثون عنه كشخص طيب وكريم، إلا أنه كان يحيط خصوصيته بحرص شديد ونادرا ما كان يقبل إجراء الحوارات، ودائما ما يقول إن عمله يستطيع أن يتحدث عن نفسه. على أية حال فعندما أشار كاتب سيرته الذاتية الرسمى جيمس نولسون إلى تكرار ظهور أيرلندا فى زمن طفولته فى أعماله، وافق بيكيت وقال "إنها تستحوذ علىّ". ثم تحدث عن صور أخرى[1]. فى أعماله النثرية المبكرة مثل "نخسات أكثر منها رفسات" (1934)، و"مورفى" (1938)، العلاقة بين الشخصيات والأحداث وحياة بيكيت الشخصية واضحة جدا[2]. أما أعماله فيما بعد الحرب العالمية الثانية فقد أصبحت التلميحات الذاتية فيها أكثر اختفاء وأقل تحديدا، هذا لأن بناءها أصبح منفصلا عن الواقع المعروف. ولكن مخيلة بيكيت مشبعة بالخبرات الحياتية، حتى لو أصبحت المصادر المباشرة لهذه الخبرات أكثرة ندرة. والحقيقة فالتدقيق فى المسودات المتنوعة لدراما بيكيت تظهر ما أطلق عليه أحد النقاد: الرغبة فى التحلل من علاقات المعرفة الذاتية، فكلما امتدت المسودة كلما تقلص العالم[3]. أحداث حياة بيكيت تركت آثارا فى شكل عمله، وإن كنا لا نستطيع أن نقتفى أثر ذلك بالضبط من خلال مضمونه.
على أى حال فالنقد المتعلق بالسيرة الذاتية له خطورته، بيكيت واحد من أهم كتاب القرن العشرين تجريبا وأكثرهم صعوبة. إنه من المغرى - وإن كانت تواجهنا معان مراوغة فى عمله - أن نلجأ إلى حقائق مدققة بالإشارة إلى علاقتها بحياته. دارس أعماله بالتالى يستطيع أن يستبدل مهمة التفسير بحواش بسيطة؛ بأن يشرح أصوله ومصادره ودلالاته، سواء من جهة الشخصيات أو الأحداث، أكثر من السؤال عن إمكانيات المعانى داخل منطق النص. ولكن إيجاد مصدر النهر لن يُمكّننا من معرفة مخططه، حتى إن لم يكن هناك انفصال تام بين حياة بيكيت وأعماله فليس فيها أيضا تطابق تام، وعمله سيظل ينتج معان أعظم من الحواشى الخاصة بالذات والسياق، فلو استطعت إيجاد أى تماسك فى حياة بيكيت فليس من المسموح أن يكون هذا بديلا عن عدم تماسك وصعوبة نثره ومسرحه.
ربما يبدو من المبالغ فيه أن نعرف أن كاتب المسرح الذى اشتهر بكتاباته عن المعاناة والعزلة قد ولد فى اليوم الذى صلب فيه المسيح، ولكننا متأكدين بما يكفى أن صمويل باركلى بيكيت ولد فى يوم الجمعة العظيمة 13 أبريل 1906. كان الابن الثانى لوليام فرانك بيكيت المقاول الناجح، ولزوجته ماريا المعروفة باسم ماى (نى رو). وشب على المذهب البروتستانتى بقرية فوكسروك الثرية على بعد ثمانية أميال من دبلن. وكان بيل بيكيت رجلا طيبا ونشيطا أحبه بيكيت كثيرا، كانا غالبا ما يقومان بنزهات طويلة معا فى دبلن وويكلو هيلز، طبوغرافيا ومشاهد هذه المناطق يمكن إيجادها طوال أعمال بيكيت بداية من "نخسات أكثر منها رفسات" مرورا بالثلاثية وحتى أعماله المتأخرة مثل "ذلك الوقت" (1976) و"صحبة" (1980). ووفقا لصديقه وطبيبه دكتور جيفرى تومسون فمفتاح فهمنا لبيكيت يكمن فى علاقته بأمه[4]، فقد كانت محبة ومتسلطة، مهتمة وقاسية، وعلاقة الحب والكراهية بين بيكيت وبينها كانت جوهر مشاعره الكثيفة عن القلق والذنب. فى حياته المتأخرة كتب عن "حبها المتوحش"[5]، ويبدو أن قراره فيما بعد بأن يستقر تماما فى فرنسا كان هروبا من أمه بنفس القدر الذى كان يهرب فيه من وطنه الأم. وعلى الرغم من أن بيكيت ادعى أنه لا يحمل مشاعر دينية إلا أنه أكد على أن أمه كانت متدينة جدا[6]. وغالبا فالعديد من الإحالات الكتابية فى أعماله اشتقت من هذا التأثير. وعندما طُلب منه أن يصف طفولته قال بيكيت: "كانت بلا أحداث، يمكنك أن تقول إنها كانت طفولة سعيدة، على الرغم من أن موهبتى فى السعادة كانت ضعيفة. أبواى فعلا كل شىء يجعل الطفل سعيدا، ولكنى كنت وحيدا فى معظم الأحيان"[7]. الوحدة، العزلة، الاغتراب، كلها ستصبح ملامح متكررة فى أعماله اللاحقة.
كعضو فى الأقلية البروتستانتية الأيرلندية فى بلد ذي أغلبية كاثوليكية، وجد بيكيت نفسه كدخيل، هذه الخبرة غذت اهتمامه بالأحوال المضطربة والهامشية. وكما قال الناقد الأنجلو-أيرلندى فيفيان ميرسيه متأملا التشابه بين خلفيته الشخصية وخلفية بيكيت:
"مثال للصبى الأنجلو-أيرلندى الذى يتعلم أنه ليس أيرلنديا تماما حتى من قبل أن يتكلم، وبعد ذلك يتعلم أنه بعيد عن أن يكون إنجليزيا أيضا. والضغط عليه لكى يكون إنجليزيا تماما أو أيرلنديا تماما يمكن أن يمحو فرديته إلى الأبد. "من أنا؟" هو السؤال الذى ينبغى على كل أنجلو-أيرلندى أن يجيب عليه، حتى لو أخذ ذلك عمره كله كما حدث مع ييتس".[8]
ربما كان تراث الهوية المحبط هذا وهذا البحث عن الذات هو الذى ترك علامته على اهتمام بيكيت اللاحق بعدم التحدد المعذب للذاتية. "من أكون؟" هذا السؤال الذى تكرره وتفكر فيه كل شخصيات بيكيت، ولكن فى نفس الوقت فعلينا أن نحرص على أن نمتنع أو نحجم عن جعل بحث بيكيت المعقد والمتنوع فى طبيعة الذات مجرد بحث سيرة ذاتية تقليدى، وإن كانت البروتستانتية الأيرلندية قد أثرت على أعماله اللاحقة، فمضمون ومعنى هذه الأعمال ليس مقتصرا على هذا المصدر.
بالإضافة إلى ذلك فعلينا أن نكون حريصين تجاه توحيد الهوية الأيرلندية البروتستانتية فى مستنقع غير متمايز. فعلينا ألا نخلط بين خلفية بيكيت الثقافية وبين الطبقة البروتستانتية السائدة التى تملك الأراضى والتى كان ينتمى إلييها جى إم سنجى[i]وليدى جريجورى[ii]والتى تاق إليها ييتس، فعائلة بيكيت لم تكن على ألفة مع الوسط الأدبى، فرغم أنها عائلة ميسورة ومحترمة، تنتمى إلى الطبقة البرجوازية الرفيعة، إلا أنها لم تكن مثقفة ولا تتعامل مع الكتب، ولذلك فهم استغربوا وانزعجوا عندما لم يهتم بيكيت بالعمل الأكاديمى المحترم والواعد من أجل حياة بوهيمية غير آمنة، وظلت أمه تخفى كتابه الأول بعنوانه الفاضح "نخسات أكثر منها رفسات" بعيدا عن أعين الزوار.
إن الطبقة البروتستانتية المتوسطة التى تعيش فى أحياء دبلن الميسورة كانت منعزلة تاريخيا وسياسيا عن الطبقة البروتستانتية المهيمنة الأغنى. فبالنسبة لييتس ورفاقه فالفن والأدب مرتبطان ارتباطا وثيقا بالأمة، فعلى هذين الأساسين نشأت الهوية. أما طبقة الضواحى التى كانت تعيش فى فوكسروك فلم تكن مثقفة ولا مسيسة، فقد كانت طبقة من المهنيين وبرجوازيى الضواحى المنعزلين، ومعظم أعضاء تلك الطبقة يذهبون إلى وسط دبلن يوميا للعمل. وعلى الرغم من أن الغريزة قد تجعلهم يقدمون الولاء لفكرة الوحدة ولدعم بريطانيا، إلا أن النظام الجديد الذى تلا الحقبة الثورية بأيرلندا والدولة المستقلة الجديدة التى تلت معاهدة 1921 لم يؤثرا على حياتهم اليومية. فالمنازل الكبيرة التى يعيشون فيها والطرق الممتدة كانت بعيدة عن الاضطرابات والعنف فى عهد الثورة بأيرلندا. لم يكن لدى مجتمعهم دافعا كبيرا ليكوّنوا تصورا عن أنفسهم أو عن امتيازاتهم بالمعنى السياسى.
بدون خلفية عائلية واضحة أصبح بيكيت كاتبا ومثقفا عظيما، ولكن من الممكن أن نقول إن انعزال أسرته السياسى كان له تأثير كبير على مخيلته. عاش بيكيت أوقاتا عصيبة من البداية، فشاهد فى سنوات طفولته ومراهقته ظهور النزعة القومية الأيرلندية المسلحة وما تلاها من حرب الاستقلال والحرب الأهلية. وقد كان فى ألمانيا فى الثلاثينيات حيث تتزايد قوى النازية، وفى باريس أثناء الاحتلال حيث اشترك فى المقاومة. على أية حال فمن الواضح أنه حتى الحرب العالمية الثانية كان بيكيت مبتعدا عن تلك الأوقات العصيبة، فصورة بيكيت هو وأبوه على التل وهما يشاهدان على بعد أميال اللهب الصاعد من دبلن أثناء انتفاضة عيد القيامة 1916 يمكن أن يعبر عن علاقة بيكيت بالسياسة الأيرلندية فى هذا العصر. ويذكر أندرو كينيدى أن الطفل وأبيه "لم يتعرضا لاضطرابات الحرب والثورة". "هذا غير الاتجاه المحافظ والتربية على الطريقة القديمة فى طفولة بيكيت فيما قبل الحرب العالمية الأولى فى مكان هادئ نسبيا على حافة العالم الغربى"[9]. وعلى ذلك فواحد لديه خلفية بيكيت لا يكون عليه أن يفكر سياسيا، فلم يعد من الصعب عليه حينما أصبح كاتبا من أن ينضم لتيار الحداثة الكوزموبوليتانى الذى يزدرى الفن السياسى والقومية الثقافية، فموقفه المزدرى لأهداف وطموحات محيى الثقافة التقليدية الأيرلندية، على الرغم من أنها يمكن أن تظهر كأنها نزعة لا قومية، فهى مشتقة جزئيا من المناعة السياسية التى اتسمت بها خلفية الطبقة المتوسطة التى تنتمى إليها عائلته.
كشاب لديه "موهبة قليلة للسعادة" والذى مع ذلك استمتع بتربية محبة وعطوفة، لم يستطع أن يجد أسبابا لبؤسه من خلال الأحداث العابرة، لذلك فقد وجد أسبابا لشقائه فى نظرته المتشائمة للعالم وللوجود ذاته، فطالما أنه لا أسباب الشقاء ولا حلوله سياسية ولا اجتماعية، فبالتالى هو رفض كل النقاشات والمجادلات السياسية (حتى عندما كان فى ألمانيا النازية) ورأى أن مثل هذه المجادلات بلا جدوى. يقول فلاديمير فى "فى انتظار جودو": "هناك رجل يتحكم فيك؛ يلوم حذاءه على أخطاء قدميه".
التحق بيكيت بمدارس خاصة، أولا مدرسة "إيرلسفورت هاوس" بدبلن، ثم مدرسة "بورتورا رويال" الداخلية بإنسكلن؛ تلك التى التحق بها أوسكار وايلد. وإلى جانب مواهبه الأكاديمية فقد نال سمعة حسنة بسبب قدراته الرياضية خاصة فى لعبتى الرجبى والكريكيت. فى أكتوبر عام 1923 استكمل طريق وايلد والتحق بكلية "ترينيتى" بدبلن حيث تعلم الفرنسية والإيطالية. وبعد تخرجه عام 1927 قضى تسعة أشهر تعيسة يدرّس فى كلية "كامبل" الخاصة ببلفاست، ولما بدا امتعاضه للعيان، سأله مدير الكلية إن كان يعرف أنه يدرّس لصفوة (كريمة) مجتمع ألستر، فأجاب بيكيت: "نعم.. هم أغنياء ولزجون"[10]. فى نوفمبر 1928 ترك بيكيت أيرلندا وذهب لباريس، وعمل كمدرس للغة الإنجليزية في "إيكول نورمال سوبيريور" (مدرسة المعلمين العليا). هناك أقام صداقة مع الشاعر والناقد الأيرلندى توماس مكجريفى الذى أصبح صديقه الحميم لعدة سنوات، خطاباتهما توضح أن بيكيت رغم كل ما نعرفه عن خجله وحبه للعزلة إلا أنه أيضا كان بحاجة للصداقة والصحبة المثقفة. مكجريفى عرّف بيكيت الشاب بالمجتمع الأدبى بالعاصمة الفرنسية، خاصة جيمس جويس ودائرته، ومنها يوجين جولاى؛ محرر مجلة "ترانزيشن" الحداثية والطليعية والتى ستنشر بعض أعمال بيكيت المبكرة. بيكيت كان على معرفة مسبقة بأعمال رفيقه الدبلنى، كاتب "يوليسيس" العظيم، وعملاق الأدب الحديث، وعلى الرغم من أن جويس كان كاثوليكيا وتعلم فى الجيزويت إلا أن بيكيت شاركه فى العديد من الآراء الإستطيقية والاجتماعية. الأديبان جاءا من أسرتين متوسطتين، والإثنان ازدريا فكرة إحياء الثقافة الأيرلندية ضيقة الأفق، والإثنان التزما بحماس بالأدب الحداثى والتجريبى لأوروبا. تأثير جويس كان كبيرا وواضحا، ليس فقط فى الموضوعات والتقنيات الأدبية، لقد أصبح جويس هو صورة الفنان الكامل، الذى يؤدى عمله بإخلاص تام. مثال جويس علّم بيكيت الكسول أهمية المثابرة وبذل الجهد. ومن جويس يمكن أن نقتفى أثر مقاومة بيكيت الصلبة لكل أشكال الرقابة، سواء على عمله أو على أعمال الآخرين، وإيمانه بالاستقلال التام لمقاصد الفنان، ذلك الذى سيظهر فى رفضه القاطع لأى تغيير أو تدخل فى أعماله المنشورة. فن جويس كان دوما فى المقدمة، وهو لم يسمح لعوائق الأصدقاء والأسرة لمنعه من الاستعانة بمضمون ذاتى ليلهمه أدبيا. أعمال بيكيت النثرية المبكرة ممتئلة باستخدامات مشابهة فى الاعتماد على تجربته الشخصية، فعلى سبيل المثال يستخدم شخصية ابنة عمته - بيجى سينكلير التي أقام معها أول علاقة حب – بشكل غير محبب (هذا الذى ندم عليه بعد ذلك)، من خلال شخصية سميرالدينا بمجموعة "نخسات أكثر منها رفسات".
ولكن فى نفس الوقت الذى أظهر فيه جويس ملامح المستقبل، عرف بيكيت أيضا أن عليه أن يسير فى طريق مختلف. يقول بيكيت لجيمس نولسون: "أنا أتذكر الحديث عن منجز جويس البطولى، لقد كنت معجبا جدا به، فما وصل إليه كان ملحميا وبطوليا، ولكنى عرفت مع ذلك أنه لا يمكننى السير فى نفس الطريق"[11]. بالنسبة للعديد من الكتاب خاصة الأيرلنديين منهم، فتأثير جويس يكاد يكون طاغيا، كيف للمرء أن يتجاوز هذا الظل العظيم؟ كيف للمرء أن يجد صوته الخاص فى الوقت الذى يبدو فيه جويس وكأنه قد تجاوز حدود الإمكان الأدبى؟ بيكيت كان واعيا بالأخطار والإحباطات المتوقعة مع أستاذ متقارب معه إلى هذا الحد. فكتب لصديقه عام 1932: "أقسم أننى سأتجاوز جيمس جويس قبل أن أموت"[12].
أصبح بيكيت زائرا لمنزل جويس وساعد الرجل العجوز ذي العينين المتعبتين من آن لآخر في كتابه "عمل قيد التحقق" (والذى عرف بعد نشره كاملا باسم "يقظة فينيجان"). بعد ذلك دُعى ليساهم فى مجموعة مقالات تكتب عن جويس بواسطة أصدقاءه، لإعداد القراء وللدعاية للعمل الأصعب والأكثر تجريبية. مقال بيكيت "دانتى... برونو. فيكو.. جويس" ظهر أولا فى مجلة ترانزيشن، ولكنه وضع لاحقا ضمن مجموعة مقالات فى كتاب بعنوان “Our Exagmination round his factification for incamination for Work in Progress”[iii]. ولكن زيارات بيكيت لمنزل جويس كان لها آثارها الجانبية غير المتوقعة وغير المرحب بها، بعدما أثار اهتمام لوشيا ابنة جويس، التى كانت تعانى من بدايات اضطراب عقلى سيشخص بعد ذلك على أنه فصام، مشاعرها غير المتبادلة ستؤدى إلى قطيعة عابرة بين بيكيت وبين أسرة جويس.
لقد أصبح بيكيت الآن كاتبا ذا أعمال منشورة وعلى اتصال بالدوائر الأدبية الطليعية بباريس. "افتراض" قصته القصيرة الأولى المنشورة ظهرت فى مجلة "ترانزيشن" عام 1929. فى العام التالى كتب بسرعة قصيدته الغامضة "هوروسكوب" المستلهمة بشكل ساخر من حياة ديكارت (كتبها بسرعة لتشترك فى مسابقة أقامتها دار نشر أوارز وفازت بالجائزة الأولى). أما "بروست" التى نشرت مسلسلة بدار نشر دولفين عام 1931 فهى أول وآخر دراسة نقدية منشورة فعليا لبيكيت، ظاهريا فالكتاب هو شرح لعمل مارسيل بروست البارز "فى البحث عن الزمن المفقود"، ولكن الكتاب القصير مكتظ بالأفكار الفلسفية عن الزمان والعادة والذاكرة... إلخ، تلك الأفكار التى تحمل طابع بيكيت العقلى المتشاءم وانغماسه العميق فى كتب فيلسوف القرن التاسع عشر الألمانى آرثر شوبنهاور.
فى خريف 1930 عاد بيكيت ليعمل كمحاضر للغة الفرنسية بكلية ترينيتى، كانت هناك أسباب عديد توحى بمستقبل أكاديمى مشرق، وزود ذلك عائلته بالأمل ليكون مثقفا واعدا. على أى حال فعودة بيكيت لدبلن جعلته يعيش فى تعاسة شديدة، وفى حالة نفسية سيئة امتدت لدرجة أنها تحولت لمرض جسمانى، وبدا أن علاقته بأمه كانت جزئيا السبب فى هذا الانزعاج المستمر. ولكنه أيضا لم يكن سعيدا بالتدريس، جزئيا كان سبب هذا هو خجله الذى ابتلى به طوال حياته، ولكن كان سبب هذا أيضا هو نقده الذاتى، ورفضه للتشويه أو سوء التفسير أو عدم الأمانة فى نقل الحقيقة هذا الذى يظهر فى عمله الفنى، وكان كثيرا ما يقول إنه ترك العمل لأنه لم يستطع أن يتحمل "تدريس أشياء للآخرين لا يعرفها هو نفسه"[13]. ولكن بالإضافة لشكوكه واتضاعه الذاتى الذى يدل عليه تعبيره إلا أنه كان منزعجا أيضا من ضحالة وضآلة اهتمامات معظم من يدرّس لهم، بالإضافة إلى افتقادهم للحس الأدبى[14]. وربما هذا الشعور هو الذى غذّى تفضيله الفج لأن يستلقى ويضرط ويفكر فى دانتى.
مع نهاية خريف 1931 وأثناء زيارة لأقاربه بألمانيا، بعث بيكيت إلى ترينيتى بخطاب يعلن فيه استقالته، ثم بدأ سنوات التسكع؛ فترة ممتدة من الفقر والتجول حول أوروبا، كان يسعى لتأسيس نفسه ككاتب. شعر أصدقاؤه وعائلته بالقلق والخيانة، وهذا غذّى إحساس بيكيت بالذنب، ها هو رجل فى نهاية العشرينيات، هجر عمله الأكاديمى والآن يسير بلا وجهة. وبعد إقامة قصيرة فى ألمانيا مع عائلة بيجى سينكلير عاد إلى باريس لستة أشهر، حيث جدد علاقته بجيمس جويس وكتب جزءا كبيرا من روايته "حلم جميل لنساء عاديات"، وهى رواية استعراضية كثيرة الإحالات، مجزأة، غير تقليدية عن الحياة الداخلية والمغامرات الخارجية لطالب بترينيتى يدعى "بيلاكوا شوا"؛ هذا الاسم المقتبس عن الشخصية الكسولة التى تعيش تحت صخرة فى "الكوميديا الإلهية" لدانتى. لم تجد الرواية ناشرا، ولم تنشر إلا عام 1992 بعد وفاة بيكيت، ولكنه سيعيد استخدام معظمها فى "نخسات أكثر منها رفسات".
بعد إقامة كئيبة فى لندن فى صيف 1932 أجبره الفقر على أن يعود إلى دبلن"أجر ذيلى بين قدمىّ"[15]، وفى الحال بدأ فى شجار مع أمه، وأيضا بدأت المشاكل الصحية تبتليه، فأجرى عملية لاستئصال كيس دهنى من رقبته فى ديسمبر عام 1932، تلك العملية التى ستصبح المادة الخام لقصة "أصفر" إحدى قصص "نخسات أكثر منها رفسات". فى عام 1933 وفاتين غير متوقعتين فاقمتا من مشاعر الذنب والاكتئاب والإحباط عنده، ففى مايو 1933 حيث كان يتعافى من التقيح المتكرر برقبته عرف أن بيجى سينكلير ماتت من جراء السل، وفى 28 يونيو توفى أبوه بعد أزمة قلبية، وأثناء حزنه كتب لصديقه مكجريفى: "أنا لا أستطيع أن أكتب عنه، أستطيع فقط أن أمشى فى الحقول وأعبر القنوات وأقتفى أثره"[16].
وإلى جانب الأكياس والدمامل المصاب بها، تدهورت حالة بيكيت النفسية ووصلت إلى حد إصابته بنوبات ذعر واضطرابات فى القلب، ومن أجل مساعدته لتجاوز هذه الاضطرابات ذهب بيكيت للندن عام 1933، حيث خضع للعلاج النفسى تحت يد ويلفريد بيون بعيادة تافيستوك. فى هذه الفترة غمس بيكيت نفسه فى كتب علم النفس والتحليل النفسى، وزار أيضا مستشفى بيثليم رويال، حيث يعمل صديق له من مدرسة بورتورا هناك كطبيب. ومعظم بناء مشاهد المصحات فى روايتى "مورفى" و"وات" (1953) جاءت من هذه الخبرات، ومن الممكن أن نشعر بتأثير تجربته الشخصية مع العلاج النفسي وقراءاته فى التحليل النفسي في أعماله، ومعظم هذه الأعمال على شكل مونولوج حيث المتحدث مستلق على ظهره فى الظلام، يهذى أمام مستمع لا وجه له.
"نخسات أكثر منها رفسات" ظهرت عام 1934، ونشر له فى العام التالى كتابا شعريا قصيرا بعنوان "عظام الصدى ورواسب أخرى"، ولحاجته إلى المال وفى مقابل صمته النقدى اللاحق كتب عدة مقالات فى المجلات الأدبية انتقد فيها بحدة الرقابة وضيق الأفق فى أيرلندا. بدأ بيكيت فى كتابة مورفى فى أغسطس 1935 وأنهاها فى يونيو 1936، احتفظ بيكيت بقائمة تحتوى على عشرات الناشرين الذين رفضوا الرواية، ولم تنشر الرواية حتى قبلتها دار "روتليدج" عام 1938.
فى عامى 1936 و1937 سافر بييكيت إلى ألمانيا، وقضى وقتا طويلا فى المعارض الفنية هناك، فى هذه الأثناء كان يحتفظ بدفتر يوميات مفصل، لم يظهر إلى النور إلا مع سيرة نولسون الذاتية عنه[iv]. اليوميات تشهد على قراءاته المنتقاة فى الأدب والفلسفة فى فترة التكوين الثرية تلك، واهتمامه الكبير بالموسيقى والفنون البصرية. كتب العديد من الملاحظات عن المعارض التى زارها. اليوميات مثيرة للاهتمام لأنها تخبرنا عن تطور حس بيكيت السياسى؛ وبينما يظهر فى اليوميات احتقاره لمعاداة السامية المتزايدة فى ألمانيا وهجومه الطريف على خطابات هتلر التى لا تنتهى، هناك أيضا عدم صبر وضجر تجاه المظاهرات التى تهاجم النازية والتى ينظمها رفاقه من الفنانين، وغالبا فبيكيت لم يكن يتوقع بالمخاطر التى ستجلبها النازية إلى أوروبا. ولكن موقفه هنا يخون نفس الغريزة اللا سياسية التى اعتنقها فى نشأته، وفى تأكيده اللاحق على العقيدة الحداثية للأدب، هذا الذى يشى بتعالى على المشاغل السياسية. ما شغل بيكيت فى هذه المرحلة هو التعبير الفنى سواء فى الكتابة أو الموسيقى أو الرسم، لا الأيدولوجيات العابرة للقومية أو الاشتراكية، فتلك الأشياء رآها مثيرة للضحك والازدراء، وليست أشياء من الممكن أن يوليها اهتماما عميقا، ولكن بعد عدة سنوات سيكون من الوضح أن السياسة لا يمكن تجاوزها أو التعالى عليها بتلك السهولة.
عاد إلى موطنه ليتشاجر مع أمه، وتفاقم الشجار لاحقا إلى خصام عام 1937، وكان هذا بسبب قراره أن يترك فوكسروك وأيرلندا نهائيا، كتب لمكجريفى: "أنا نتاج ما فعله حبها المتوحش بى.. من الجيد أن أحدنا أخيرا قبل الانفصال"[17]. وبالإضافة إلى عدم تحديده لوجهة وإلى كآبته، فقد غضبت ماى بيكيت بسبب تورط ابنها فى قضية أدبية سيئة السمعة، إذ قاضى هارى سينكلير (عم بيجى) الكاتب والطبيب المعروف أوليفر جون جوجارتى (الذى خلده جيمس جويس بشكل هزلى باسم باك موليجان فى روايته يوليسيس) بتهمة السب والقذف. فجوجارتى وصف أسرة المشتكى أوصافا مهينة ومعادية للسامية فى مذكراته "أثناء ذهابى لشارع ساكفيل" (1937)، وعلى الرغم من نجاح قضية السب واختيار جوجارتى للمنفى فى أمريكا، فقد خرج بيكيت من هذه الأحداث فى حالة سيئة؛ فقد قام محامى الدفاع بمحاولة حاذقة ليشكك فى سمعة شاهد الادعاء، معتمدا على وصف بيكيت بأنه مثقف مجدّف وفاسد يعيش فى باريس، فهو مثال على الفساد وفقا لتقاليد أيرلندا الصارمة فى تلك الأيام، بيكيت ابتلع الطعم وفى البداية صحح للمحامى الذى يستجوبه نطقه الخاطئ المتعمد لاسم بروست عندما سأله "هل كتب كتابا عن براوست prowst؟" ولما سأله إن كان مسيحيا أم يهوديا أم ملحدا؟، أجاب بيكيت بشكل آثار الاهتمام أنه لا شىء من الثلاثة. الكارثة حدثت، أصيبت أمه بالخزى من هذا العار المعلن، فالقضية كانت تلقى تغطية واسعة من صحف دبلن. بيكيت بطبعه كان خجولا ومنعزلا فى كل الأحوال، ولكن ربما تكون هذه التجربة الأليمة مع صحف دبلن هى سبب عداءه اللاحق للظهور الإعلامى، وهذه التجربة لم تساعد بالطبع فى تبديل موقفه من القومية الأيرلندية والرياء الدينى.
فى 6 يناير 1938 طعن متشرد بيكيت فى شوارع باريس بدون سبب واضح، السكين كان قريبا جدا من قلبه. احتشد الأهل والأصدقاء حول سريره وتصالح ساعتها مع أمه. كتب لمكجريفى ساعتها: "لقد شعرت بدفعات قوية من العاطفة والحب والتقدير تجاهها.. يا لها من علاقة"[18]. وبينما كان يتعافى فى المستشفى زارته امرأة فرنسية لم يكن يعرفها جيدا ولكنه كان قد قابلها من عشر سنوات مضت، سوزان ديشوفو-دومينيل (1901-1989)، وعلى الرغم من أنه كان فى هذه الفترة على علاقة براعية الفن الأمركية بيبى جوجنهايم، إلا أن علاقته مع سوزان حلت بالتدريج محلا لهذا العبث، هو وسوزان بقيا معا حتى نهاية حياتيهما، وبدون تفانيها الكامل لعبقرية بيكيت، ومحاولاتها المستمرة لإيجاد ناشرين لأعماله، ربما لما كان بيكيت قد حقق هذا النجاح.
بعد سقوط باريس بدأ بيكيت يتعرض لتأثير الحرب والغزو لأول مرة، بدأ يلاحظ المعاملة التى يتلقاها أصدقاؤه اليهود تحت الاحتلال النازى، أما الترفع الذى كان سمة رحلته الأولى إلى ألمانيا فلم يعد ملائما، فكما علق لاحقا: "أنت لا يمكنك أن تقف مكتوف الأيدى"[19].، صديقه ألفريد بيرون عرّفه على خلية مقاومة فرنسية تدعى (جلوريا إس إم إتش)، وفى مخاطرة شخصية كبيرة انضم بيكيت للمقاومة الناشطة بباريس كناقل معلومات فى الأساس، وفى أغسطس عام 1942 وشى كاهن كاثوليكى يعمل مع المخابرات الألمانية بالخلية. أكثر من 50 عضوا بجلوريا إس إم إتش تم القبض عليه وإرساله إلى معسكرات الاعتقال، ولكن زوجة بيرون كانت قد حذرت بيكيت وسوزان اللذان هربا بالكاد وقاما برحلة غير آمنة إلى فرنسا غير المحتلة، حيث أقاما بقية وقت الحرب فى "روسيون" وهى قرية صغير بإقليم "فوكلوز"، بيكيت كان يقضى نهاره كعامل بمزرعة، وفى الليل كان يكتب روايته التجريبية الغامضة "وات"؛ رواية تحمل حسا ضجرا ومعذبا، وغالبا ما تعكس الأحوال العقلية الجافة التى كان يعانيها أثناء كتابتها، وكما هو متوقع فقد كانت هناك صعوبة بعد الحرب فى إيجاد ناشر يخاطر برواية ممتلئة بالتبديلات والتركيبات العشوائية للكلمات، فلم تجد الرواية ناشرا حتى عام 1953. بعد الحرب تلقى بيكيت التكريم لنشاطه بالمقاومة بنوط الحرب وميدالية الاستطلاع الفرنسية، ووفقا لطبعه فى الحط من ذاته، سيتجاهل بيكيت فترة نشاط المقاومة ويطلق عليها: "بعض أعمال الكشافة"[20]. لاحقا وفى عام 1945 وبعد قضاء وقت فى دبلن يعود إلى فرنسا ويعرض خدماته كمترجم وأمين مخازن على مستشفى الصليب الأحمر الأيرلندى فى سانت لو قبل أن يجتمع مع سوزان بباريس.
الإشارات الواضحة عن الحرب قليلة جدا فى أعماله نفسها، ولكن هناك دلائل عديدة على أن الحرب غمرت مخيلته، فالارتباك العميق وأجواء القمع التى سيطرت على أعماله اللاحقة، واحتشاد الشخصيات السلطوية التى لا تحمل أسماء، والعواقب المبهمة حيكت كلها بعقل اختبر الحرب فى المقام الأول، بل وفقد عددا من الأصدقاء فيها، ويبدو أيضا أن الحرب أسهمت بتغيير جذرى فى توجه أعماله؛ فأثناء زيارته لأمه فى دبلن، جاءته رؤيا، أو إلهام عن الغرض الأدبى، وهذه الرؤيا فصلت بين نثر الثلاثينيات – ضمير الغائب العليم المسيطر – وبين السارد المتكلم والمتضاءل فى الثلاثية وما بعدها: "مولوى والكتابات الأخرى جاءوا إلى ذهنى عندما أصبحت واعيا بحمقى، عندها فقط بدأت أكتب عما أشعر به.[21]" وعلى خلاف أعماله المبكرة التى تظهر تأثره بجويس عن طريق التلاعب بالألفاظ والإحالات لنصوص أخرى، فأعمال ما بعد الحرب يخف ثقلها الثقافى ويظهر فيها العجز والجهل كمفتاحان رئيسيان وانشغال أساسى، كما قال بيكيت لإسرائيل شنكر:
"كلما عرف جويس كلما عمل، هو يميل لفكرة العلم والقدرة الكليين للفنان، أنا أعمل فى العجز والجهل... اكتشافى الضئيل هو لهذا المدى الكامل من الوجود الذى كان دوما يوضع جانبا من قبل الفنانين كشيء غير مفيد، كشيء بالضرورة متضارب مع الفن"[22].
هجر بيكيت عمليات الدمج والتماهى والإحالات التى استخدمها جويس بشكل كبير، وجاهد بدلا من ذلك ليصل لفن التفكك والتحلل والجهل، وعندما تنحل القدرة على استيعاب وتمثيل العالم الخارجى، فما يتبقى هو عملية النظر الباطنى للعالم الداخلى. أسلوب بيكيت الناضج لا يحاصرنا بالأساليب أو بسعة العلم، وإنما هو صوت يصل إلينا من الظلمات، هو وعى مؤقت يتحدث عن ارتباكه وحيرته وآلامه الذاتيين.
نقلة مهمة أخرى فى عمله بعد تلك "الرؤيا" وهى قراره بالكتابة بالفرنسية (وإن كان قد كتب أشعارا بالفرنسية من نهاية الثلاثينيات، وترجم إليها "مورفى" بمساعدة بيرون) حتى يتخلص من الإضافات الأسلوبية العصبية التى كان يستخدمها فى الإنجليزية. روايته الأولى بالفرنسية كانت "ميرسيه وكاميه" تلك التى أنهاها عام 1946، ويبدو أن بيكيت كان يراها رواية غير ناضجة، فرفضه التام لنشرها حتى عام 1970 ربما كان سببه أنها لم تزل تحمل صفات "خارجية" تلك التى كان يتصف بها عمله المبكر، على أى حال فالمعالجة التى تتضمن شخصيتين فى رحلة واستخدامه للحوار والتلاعب بالألفاظ هو تشكيل مبكر للثنائية فى مسرحيتيه "فى انتظار جودو" و"لعبة النهاية". وفى نفس العام كتب أربع روايات قصيرة تشارك فى أفكارها الرئيسية أفكار ثلاثيته الروائية التى تعتبر الآن ضمن أفضل أعماله. هذه الأعمال تظهر انتقال بيكيت إلى المونولوج الداخلى كشكل يناسب رغبته الجديدة فى تفحص الذات. مسرحيته الأولى بالفرنسية كتبت فى بدايات عام 1947، ولكن مسرحية "إليوثيريا" لم تنشر إلا بعد وفاة بيكيت، وحتى الآن لم تقدم على المسرح بشكل محترف[v]، هو كان مصرا أثناء حياته على أن لا تعرض، ورغم تفكك المسرحية إلا أنها تحمل عناصر عديدة من سيرته الذاتية، والمعالجة تدور حول شاب يرفض الخروج من غرفته فى محاول مستميتة لفصل نفسه عن أسرته والوصول لنوع من الحرية السيكولوجية.
أما الأعمال التى حققت له المكانة ضمن الكتاب الكبار فقد كتبت بالفرنسية فى وقت غزارته الأدبية ما بين 1947 و1950، فى هذه السنوات حين لم يكن يملك الكثير من الأموال، وحين كانت صحته معتلة، أخذ يكتب وكأنه "يتحرر من الأشباح"[23]، فثلاثيته الروائية المحتفى به: مولوى (1951، والنسخة الإنجليزية 1955)، ومالون يموت (1951،1958)، واللا مسمى (1953،1959)، ومسرحيته الشهيرة فى انتظار جودو (1952، 1956)، كلها كتبت فى هذه الفترة. وعلى الرغم من أن الثلاثية أصبحت تعتبر من أهم أعمال القرن العشرين وأكثرها تجديدا إلا أن هناك حكاية شهيرة عن أنه لم يجد لها ناشرا، مرة أخرى فالتاريخ الأدبى مدين بالفضل لسوزان، فهى إلى جانب عملها كخياطة ومدرسة موسيقى لدعم بيكيت ونفسها فهى دارت بالمسودة الفرنسية على عشرات الناشرين قبل أن يقبل بها ناشره الفرنسى جيروم ليندون عن دار نشر "إيديسيون دى مينوى".
أما الذى حول بيكيت من روائى تجريبى وطليعى إلى نجم عالمى فكان مسرحية "فى انتظار جودو" التى كتبها فيما بين أكتوبر 1948 ويناير 1949، ليتخفف (على حد تعبيره) من ثقل الكتابة النثرية. وكما فعلت مع ليندون استطاعت سوزان أن تصل للمخرج والممثل روجر بلين وتم جمع ما يكفى من المال لعرض المسرحية فى مسرح باريسى صغير فى يناير1953. نجاح المسرحية فى باريس والجدل العالمى الذى ولدته أدى لاهتمام واسع بها. عرضت المسرحية فى جميع أنحاء أوروبا قبل أن تعرض فى لندن فى أغسطس 1955 (مترجمة إلى الإنجليزية بواسطته مثل كل أعماله تقريبا) فى نادى مسرح الفنون ومن إخراج بيتر هول، رد فعل جمهور لندن والنقد المبدئى عن العرض كان سيئا، وكما يتذكر بيتر بول الذى قام بدور بوتسو فـ"صيحات عدائية سيطرت على القاعة، والعديد من الناس غادروا، هذا بدأ بعد وقت قصير من رفع الستار، صيحات الجماهير كانت مُحبِطة"[24]. على أى حال فعندما كتب كل من الناقدين المهمين كينيث تينان وهارولد هوبسون عن المسرحية موضحين أهميتها الدرامية بدأ التعامل معها على أنها فتح فكرى، وعلى إثر الجدل الذى أحدثته أصبحت "فى انتظار جودو" واحدة من أكثر مسرحيات القرن العشرين ثورية وتأثيرا.
بعد سنوات الحرب كان بيكيت يزور أمه لمدة شهر على الأقل كل سنة، موتها عام 1955 بسبب مرض باركنسون أدى كما هو متوقع لأن يشعر بالألم والذنب، وببعض الأموال التى ورثها عنها اشترى بيكيت منزلا بـ"أوسى سو مارن" خارج باريس، سوف يصف هذا المنزل بـ"المنزل الذى بناه جودو". وسوف يصبح ملجأ له فى الأعوام اللاحقة[25]. ولكن على الرغم من تحقيقه للنجاح إلا أنه لم يتحرر من الشعور بالمعاناة والألم، فموت أخيه فرانك بعد معاناة مع السرطان فى صيف 1954 هذا الذى كان شاهدا عليه أدى لتفاقم مشاعره المضطربة بدورها. إحساسه بالفقد والألم، والتحلل والفزع سيطر على مسرحية "لعبة النهاية" التى كتبها فى نهاية هذا العام، عرضت المسرحية أولا بالفرنسية فى لندن فى 3 أبريل 1957، وهى أكثر قتامة من سابقتها المحتفى بها، فشعور الرفقة بين البطلين هذا الذى كان يخفف من وطأة "جودو" كان أقل وجودا هنا.
نثر بيكيت استمر بعد الثلاثية فى "قصص ونصوص من أجل لا شىء" (1955 وبالإنجليزية 1967) وهى مجموعة مكونة من ثلاث قصص قصيرة من عام 1964، وثلاثة عشر نصا قصيرا لم يكن يقدرها بيكيت كثيرا كما يدل العنوان على ذلك، فقد شعر بجفاف إبداعى شديد بعد كل ما كتبه فى نهاية الأربعينيات. وفى عام 1956 طلب منه البرنامج الثالث بالبى بى سى أن يكتب مسرحية إذاعية، ويبدو أن استكشاف وسيط إبداعى جديد قد استفز موهبته، وكان نتيجة ذلك مسرحية "كل الساقطين" وهى أكثر مسرحياته احتواء على ملامح ذاتية وأيرلندية، فكأنه عوّض هذا الوسيط الأثيرى وغير المادى بالعديد من الملامح الجغرافية والتاريخية، فمن الواضح أن أحداث المسرحية تدور فى فوكسروك حيث كانت طفولته. فى وقت لاحق كتب مسرحية "جمرات" (1959) وعلى الرغم من كونها أكثر شبحية ومكان أحداثها غير واضح على عكس "كل الساقطين" إلا أن مكانها غالبا هو جنوب دبلن، حيث استخدم بشكل ملفت أصوات الأمواج والرمال. عمله بالبى بى سى عرّفه على "باربارا برى" التى كانت محررة سيناريو هناك، فأصبح على علاقة بها – بالتوازى مع سوزان – لبقية حياته.
وعن أجواء الموت ونهاية العلاقات كتب بيكيت عمله المسرحى التالى "شريط كراب الأخير" (1958)، الذى كُتب أصلا من أجل ممثله المفضل باتريك ماجى (المسرحية كانت ستسمى بمونولوج ماجى)، واستخدامه للأصوات المسرحية يوضح كم هو مدين لتجربته مع الدراما الإذاعية. وفى مسرحية بيكيت الأولى فى الستينيات "الأيام السعيدة" (1961)، حفرت صورة مسرحية أخرى مكانا لها فى تاريخ الدراما؛ فى الفصل الأول نرى البطلة "وينى" (وهى أول بطلة امرأة فى مسرحيات بيكيت وإن كان هذا سيتكرر فيما بعد) مدفونة فى الأرض حتى وسطها، وفى الفصل الثانى حتى عنقها، فى حين أن طبيعة ملابسها وحديثها يتناقضان بشكل ساخر مع خطورة موقفها.
اتجاه بيكيت لأول مرة للدراما كان بسبب رغبته فى أن يشعر بالارتياح من عمليتى الانغماس الذاتى والتفريغ التام فى الكتابة النثرية، هذا الذى كان بالنسبة له الوسيط الإبداعى الأنسب. بعد ثلاثيته الروائية كان عمله النثرى البارز التالى هو "كيف هذا" (1961، و1964 بالإنجليزية) وهو يدور حول رجل يزحف فى الطين ويسحب وراءه كيسا ممتلئا بالطعام المعلب، هذه الرواية (لو جاز المصطلح) مركبة بطريقة اندفاعات للخطاب الذى لا يضم علامات ترقيم، وكان هذا آخر عمل نثرى طويل له، فى حين أن أعماله اللاحقة تستمر فى طريقة الأقوال الخالية من علامات الترقيم والتى تحمل مشاهد متناثرة ومفرّغة.
فى مارس 1961 تزوج بيكيت من سوزان سرا فى إنجلترا، ويبدو أن الزواج تم ترتيبه بسرعة غالبا لأسباب تتعلق بالميراث، ولكن بالرغم من زواجهما ظل بيكيت وسوزان على درجة كبيرة من الاستقلالية فانتقلا للعيش فى شقة كبيرة بباريس بحيث أتاحت لهما حجرتين مستقلتين للنوم وبابين مستقلين لحجرة الصالة، ولكن هذا الاستقلال لا يعنى أنه كان هناك نفور بينهما أو أن ذلك كان بداية انفصال، لكن الأحرى أن هذا كان يتيح لهما بعض الحرية الشخصية، فقد كتب بيكيت لصديقته مارى مانينج هو: "ببساطة كل منا بحاجة لغرفة شخصية، حيث يستطيع أن يغلق على نفسه"[26]. فقد كانا يسعيان لمسافة معقولة بينهما داخل الزواج لتتيح لهما الاستقلالية.
بعد "كيف هذا" أعمال بيكيت النثرية أخذت شكل أطلق عليه "البقايا" أو "الرؤوس الميتة" وأصبحت مثل المسرحيات مكثفة وتقليلية، هذه النصوص التى كتب أغلبها بالفرنسية أولا تتضمن "تخيل لقد ماتت المخيلة" (1965 وكذلك بالإنجليزية)؛ وفيها رجل وامرأة يستلقيان فى وضع جنينى بقاعة بيضاء أشبه بشكل الجمجمة فى انتظار الميلاد أو الفناء، "كفى" (1966، 1967)، "أزيز" (1966، 1967)، "المفقودون" (1971، 1972)، "نقصان" (1969، 1971)، فى هذه النصوص يترك بيكيت السرد بضمير المتكلم (باستثناء "كفى") من أجل نثر مجرد، شبه آلى، غير مشخصن، مصاغ بشكل حر وبلا علامات ترقيم.
مسرحياته فى الستينيات والسبعينيات مالت أيضا تجاه القصر والشكلانية، فى مسرحية "مسرحية" (1964) هناك ثلاثة متحدثين فى جرار، وهم مجبرون عن طريق الضوء على التحدث بسرعة عن قصة علاقاتهم المنحرفة، عدم ملائمة أوضاعهم تسخر من الرسمية العميقة والعلاقات البرجوازية التى تعبر عنها طريقة سردهم. تعليمات المسرح تقول إن اللغة يجب أن تكون بالكاد مسموعة، وكأن الموقف والشكل أهم من المضمون. فى "تعالي واذهبي" (1967) هناك ثلاث نساء تترك الواحدة منهن المسرح بترتيب صارم، لتعطى الفرصة للمرأتين الباقيتين لرثاء المرض المميت المصابة به المرأة التى خرجت، المسرحية عبارة عن بناء درمى مركز وتجريدى وغريب فى سيمتريته، يكشف الأسرار الكليشيهية والقلقة للنساء الثلاث، إنه عمل متميز يحمل سخرية مريرة، وحديث النساء مثل معظم أعمال بيكيت بالإنجليزية متلون بشكل كبير باللون الأيرلندى.
مكانة بيكيت والغموض المحاط به تزايدا أكثر فأكثر، وتضاعفا ولم يقلا بإصراره على تجنب الظهور، وعندما حصل على جائزة نوبل عام 1969 أرسل ليندون لاستوكهولم ليقبل الجائزة بدلا منه. خلال الستينيات والسبعينيات أصبح بيكيت منغمسا فى إخراج وإنتاج أعماله. فى عام 1965 عمل فى فيلمه (المعنون بـ"فيلم") والذى مثل فيه بوستر كيتون وأخرجه صديقه المخرج الأمريكى آلان شنايدر. هو كتب أيضا مسرحية للتلفزيون "إيه يا جو" (1967). وفى فصل مميز آخر فى علاقته بألمانيا أخرج بيكيت مجموعة من مسرحياته؛ أساسا فى مسرح شيلر فى برلين (إلى جانب كونه أخرج فى باريس ولندن)؛ فى هذه الأعمال أدخل بيكيت العديد من التحسينات والقليل من التعديلات على النصوص الأصلية، ومثلما أصبحت مسرحياته أكثر دقة وشكلانية وسيمترية خلال عمله، فهو كمخرج كان يصر على الحركة الدقيقة والمحددة للممثلين، هذه ليست دراما تقدم عن طريق تكثيف المشاعر وإنما بالأحرى عن طريق الخطوات والحركات المحددة والدقيقة. عمله الدرامى فى السبعينيات استمر فى استكشاف الصوت النسائى الذى ظهر لأول مرة فى "الأيام السعيدة"، مسرحية "ليس أنا" (1973) كتبت من أجل ممثلته المفضلة بيلى وايتلو، ومثلما سمع صوت باتريك ماجى أثناء كتابة "شريط كراب الأخير" سمع صوتها أثناء كتابة هذه المسرحية؛ فى صورة أخرى من صور بيكيت تنحصر المسرحية شكليا فى فم منفصل مضاء وسط الظلام على ارتفاع ثمانية أقدام من المسرح. أداء وايتلو تحت تعليمات بيكيت يعتبر واحدا من أعظم المشاركات المسرحية. ولكن بحثه عن الصرامة الشكلية وعن دراما خالية من الدفء والألوان ولكى تصف بشكل أفضل السياق البارد واللا إنسانى الذى حوصر الإنسان داخله عنى أن تكون إدارته لوايتلو إجبارية ومقيدة إلى حد كبير؛ مطالباته لها كانت مفرطة فى دقتها التامة، ولكنه كان يقول لها ذلك بأدب ولطف، أثناء البروقات كان يقول: "هذا تلون مفرط، هذا تلون مفرط". هذا الذى كانت تفسره كذلك: "من أجل الله لا تمثلى"[27].
بالإضافة إلى "إيه يا جو" فالمسرحيات التى قدمت فى التلفزيون تتضمن "... فقط السحب..." (1976) العمل البارز المبنى على قصيدة ييتس "البرج"، و"ثلاثية الشبح" (1976) التى استخدمت موسيقى بيتهوفن. وايتلو ستمثل أيضا فى مسرحية "وقع أقدام" (1976) وهى مسرحية أخرى بطلتها امرأة تفكر بألم فى الفقد بينما تخطو ذهابا وإيابا على المسرح. "ذلك الوقت" (1976) واحدة من أكثر أعمال بيكيت ذاتية بملامح تتعلق بالطفولة والذكريات، فى هذه المسرحية الذات منقسمة إلى ثلاثة أصوات فى مراحل مختلفة من الحياة. "ارتجالة أوهايو" (1981) أعطاها بيكيت لمؤتمر كان مخصصا له فى أوهايو. "كرسى هزاز" التى مثلت أول مرة عام 1981 تظهر فيها امرأة ترتدى الأسود تهتز للخلف والأمام على كرسى هزاز على وقع صوتها المسجل، بيلى وايتلو قامت بدور المرأة فى العرض الأول. فى 1982 كتب أكثر مسرحية له فيها وضوح سياسى وهى "كارثة" وأهداها للمعارض التشيكى فاتسلاف هافل.
وإن كانت "ذلك الوقت" هى أكثر مسرحياته ذاتية، فـ"صحبة" (1980) التى كتبت بالإنجليزية هى قطعة نثرية ممتلئة بذكريات الطفولة؛ القنفذ الذى أغلق الصندوق عليه، السباحة فى مكان بعمق 40 قدما، السقوط من على شجرة بالحديقة، هذا النص يعتمد على وصف ضمير الغائب لشخص يستلقى على ظهره فى الظلام، وصوت ضمير مخاطب يتذكر مشاهد من الماضى. "المرئى سيئا.. المُقال سيئا" (1981) كتبت بالفرنسية، تتضمن امرأة ساردة تُسحب تجاه صخرة بيضاء تشبه شاهد القبر، وذلك عن طريق 12 شكلا شبحيا، إنها تتضمن سيناريو تقليلى، صورة مرئية سيئة تقال عن طريق سارد يتكلم بسوء. "ووستوورد هو" (1983) كتبت بالإنجليزية؛ تستحضر صورا لامرأة ورجل عجوز وطفل وجمجمة، إنها تدور عن الانحلال وقلب القيم بكل الأشكال الممكنة. "يتحرك ساكنا" (1988) عمله النثرى الأخير، وإن كان عمله الأخير هو قصيدة "ما هى الكلمة" (1981).
صحة بيكيت بدأت تتدهور جدا عام 1986 مع بدايات انتفاخ الرئة، وتوفى فى مستشفى "سانت آن" بباريس من فشل رئوى فى 22 ديسمبر عام 1989، وذلك بعد موت سوزان بأقل من ستة أشهر. وبعد جنازة خاصة صغيرة دُفن بجانبها فى مقبرة "مونبارناس" بباريس فى 26 ديسمبر.
[iii] يتضح من العنوان أنه مستوحى من تركيب جيمس جويس الشهير لأكثر من كلمة فى تعبير واحد، لذلك فليس من السهل ترجمة العنوان لمعنى محدد، وقد وجدنا فى ترجمة عنوان الكتاب إلى لغات أوروبية أخرى أنه إما يعنون بنفس التعبيرات، أو يقال عن الكتاب أنه "مقدمة ليقظة فينيجان" (أ.ز)
[v] أنتجت المسرحية لأول مرة عام 2005 بمسرح "نقشنيه" بطهران (أ.ز)
[2]John Pilling’s Beckett Before Godot: The Formative Years, 1929–1946 (Cambridge: Cambridge University Press,1998) وهو يقدم تقييم أكاديمى للعديد من هذه التشابهات
[3]Stan Gontarski, The Intent of Undoing in Samuel Beckett’s Dramatic Texts (Bloomington: Indiana University Press, 1985).
[24] Quoted in Knowlson., p. 414.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق