السبت، 14 يوليو 2012

اعترافات عارض للكتب – مقال لجورج أورويل




ت: أمير زكي
يوليو 2012

***

في غرفة نوم-جلوس باردة ولكنها خانقة، ممتلئة بأعقاب السجائر وأكواب شاي نصف ممتلئة، رجل برداء منزلي متآكل بفعل العث يجلس على طاولة مهزوزة، يحاول أن يجد مكانا لآلته الكاتبة وسط أكوام الأوراق المتربة التي تحيط بها. هو لا يستطيع أن يلقي بالأوراق، لأن سلة المهملات مفعمة بدورها، وإلى جانب ذلك، ففي مكان ما وسط الخطابات غير المردود عليها والفواتير غير المدفوعة من الممكن أن يكون هناك شيك أو إثنين ببعض الجنيهات هو أقرب للتأكد أنه نسي أن يصرفها من البنك. هناك أيضا خطابات بعناوين يجب أن توضع في فهرسه. لقد فقد فهرسه، وفكرة البحث عنه، أو الحقيقة فكرة البحث عن أي شيء تجعله يشعر بدوافع انتحارية حادة.

الرجل في الخامسة والثلاثين، ولكنه يبدو في الخمسين. عنده دوالي وريدية يرتدي نظارة أو كان سيرتديها لو لم تكن النظارة الوحيدة التي يملكها قد تلفت. إن كانت الأمور طبيعية معه فهو سيعاني من سوء التغذية، ولكن لو كان حظه جيدا سيعاني من الهبوط. حاليا الساعة الحادية عشر والنصف، ووفقا لجدوله فقد كان عليه أن يبدأ العمل من ساعتين؛ ولكن حتى لو صنع أي مجهود جاد ليبدأ سيكون متوترا بسبب الرنين الذي يكاد يكون مستمرا لجرس التليفون، صراخ الطفل، صوت الشنيور بالخارج في الشارع، وأحذية الدائنين الثقيلة تصعد وتهبط على السلالم. المعطل الأخير كان وصول بريد درجة ثانية جلب له منشورين ومطالبة بضريبة على الدخل مطبوعة باللون الأحمر.

لا نحتاج للقول إن هذا الشخص كاتب. ربما يكون شاعرا، روائيا، أو كاتب سيناريوهات أفلام أو حلقات للإذاعة، فكل رجال الأدب متشابهون إلى حد كبير، ولكن دعنا نقول إنه عارض كتب. طرد ضخم نصف مختف بين كومة من الكتب يحتوي على خمسة مجلدات كان قد أرسلها رئيسه مع رسالة تقترح أنه "من المفترض أن يكونوا مرتبطين ببعضهم البعض". كان قد وصل من أربعة أيام، ولكن لمدة 48 ساعة العارض كان ممتنعا بسبب التردد الأخلاقي عن فتح الطرد. بالأمس في لحظة حاسمة مزق الربطة ووجد خمسة مجلدات هم: "فلسطين في مفترق الطرق"، "صناعة الألبان بطريقة علمية"، "تاريخ مختصر للديمقراطية الأوروبية" (هذا الكتاب 680 صفحة ويزن أربعة أرطال)، "العادات القبلية في شرق أفريقيا البرتغالية"، ورواية؛ موضوعة بلطف بالأسفل، ربما وضعت بطريق الخطأ. عرضه – قل 800 كلمة – من المفترض أن يصل في ظهيرة الغد. 

ثلاثة من هذه الكتب تتعامل مع موضوعات يجهلها تماما لذا سيكون عليه أن يقرأ على الأقل 50 صفحة إن أراد أن يتجنب ارتكاب خطأ ما سيكشفه ليس فقط للكاتب (الذي يعلم بالطبع كل عادات عارض الكتب)، ولكن أيضا للقاريء العادي. عند الرابعة بعد الظهر سيكون قد أخرج الكتب من الورق الذي يلفها ولكنه لا يزال يعاني من عدم القدرة العصبية على فتحها. تصور قراءتها وحتى استنشاق رائحة الورق تؤثر فيه كتصور أن يأكل بودنج بارد بدقيق الأرز وبنكهة زيت الخروع. ولكن من الغريب بما يكفي أن عرضه سيصل إلى المكتب في الموعد. بطريقة ما فهو يصل هناك دوما في الموعد. نحو الساعة التاسعة مساء ذهنه سيصبح صافيا نسبيا، وحتى الساعات الأولى من الصباح سيجلس في غرفته التي ستصبح أكثر برودة، بينما دخان سجائره سيصبح أكثر كثافة، يثب بخبرة من كتاب إلى آخر، ينتهي من كل كتاب بتعليق أخير "يا الله، يا له من كتاب تافه!" في الصباح، بعينين غائمتين، ووجه مكفهر وذقن غير حليق، سيحدق لساعة أو اثنتين في الصفحة الخاوية حتى يخيفه إصبع الساعة المحذر ويجعله يتحرك. وفجأة سينغمس فيها. كل العبارات القديمة المبتذلة – "كتاب لا يجب أن يفوّته أحد"، "هناك شيء مميز في كل صفحة"، "شيء له قيمة خاصة في الفصول التي تناقش كذا وكذا وكذا". – كلها ستأخذ مواضعها كبرادة الحديد التي تتجه نحو المغناطيس، والعرض سينتهي بالحجم المطلوب بالضبط وسيكون لديه حوالي ثلاث دقائق ليرسله. أثناء ذلك كومة أخرى من الكتب المتنافرة غير الجذابة ستصل عن طريق البريد. ولكن كم كانت الآمال عظيمة لهذا المخلوق المقموع مضطرب الأعصاب عندما بدأ عمله، فقط من بضعة أعوام.

هل أبدو مبالغا؟ أنا أسأل أي عارض كتب منتظم – أي شخص يعرض، قل، مائة كتاب كحد أدنى في العام – إن كان يستطيع الإنكار بأمانة أن عاداته وصفاته هي كما وصفتها. كل كاتب، في أي حال، هو غالبا هذا النوع من الأشخاص، ولكن العرض الممتد والعشوائي للكتب هو عمل غير مقدر ومزعج ومنهك بشكل كبير واستثنائي. إنه لا يتضمن فقط مدح الرديء – وهو يتضمن ذلك، كما سأظهر بعد لحظات – ولكنه يخترع ردود فعل متواصلة تجاه كتب ليس للمرء مشاعر عفوية تجاهها. عارض الكتب، الذي ربما يكون ضَجِر، فهو مهتم باحترافية بالكتب، ومن ضمن آلاف الكتب التي تظهر سنويا، ربما يكون هناك 50 كتابا أو مائة سيستمتع بالكتابة عنها. إن كان مميزا جدا في مهنته ربما يضع يده على عشرة أو عشرين منها: وربما أكثر من ذلك يضع يده على إثنين أو ثلاثة. بقية عمله، مهما كان ملتزما في مدحه أو ذمه، هو ادعاء تام. هو يسكب روحه الخالدة في المزراب، نصف بينت[1]كل مرة.

الغالبية العظمى من العروض تقدم تقريرا غير مناسب أو مضلل للكتب التي تتعامل معها. بداية من الحرب الناشرون أصبحوا أقل قدرة من السابق على إثارة غضب المحررين الأدبيين، وهم يستدعون تسبحة المديح مع كل كتاب ينتجونه، ولكن من جهة أخرى فمعايير العرض انحدرت بسبب نقص المساحة والمضايقات الأخرى. برؤية النتائج، الناس يقترحون أحيانا أن الحل يقع في نزع عرض الكتب من أيدي المأجورين. الكتب ذات الموضوعات المتخصصة يجب أن يتم التعامل معها من قبل الخبراء، ومن جهة أخرى فكمية كبيرة من العرض، خاصة مع الروايات، ربما تتم جيدا عن طريق الهواة. تقريبا فكل كتاب قادر على إثارة مشاعر كبيرة، حتى لو كانت فقط مشاعر سلبية، في نفس قاريء أو آخر، التي ستكون أفكاره عنه بالتأكيد لها قيمة أكثر من المحترفين المضجرين. ولكن لسوء الحظ، وكما يعرف كل رئيس تحرير، فمثل هذا الأمر صعب جدا أن يتم تنظيمه. مع الممارسة كل رئيس تحرير دوما يجد نفسه يعود لفريقه من المأجورين – "المنتظمين لديه" كما يدعوهم. 

لا يوجد شيء مفيد في هذا طالما أصبح من المعتاد أن كل كتاب يستحق ان يُعرض. أقرب إلى المستحيل أن تذكر كتبا بكمية كبيرة بدون أن تبالغ في قيمة معظمها بوضوح. لو لم يكن هناك نوع من العلاقة المحترفة بين المرء وبين الكتب فالمرء لن يكتشف كم هي سيئة معظمها. في أكثر من تسع حالات من كل عشرة النقد الموضوعي الحقيقي الوحيد سيكون "هذا الكتاب لا قيمة له"، بينما الحقيقة هي أن رد فعل العارض على الأغلب هو "هذا الكتاب لا يعنيني على الإطلاق، ولم أكن لأكتب عنه لو لم يتم الدفع لي". ولكن العامة لن يدفعوا مقابل قراءة هذا النوع من الأشياء. لم عليهم ذلك؟ إنهم يحتاجون نوعا من الإرشاد إلى الكتاب المطلوب منهم أن يقرأوه، وهم يريدون نوعا من التقييم. ولكن طالما ذكر التقييم، انهارت المعايير. فإن قال أحدهم – وتقريبا كل عارض يقول مثل هذا الأشياء ولو لمرة أسبوعيا على الأقل – أن "الملك لير" مسرحية جيدة و"الرجال الأربعة العادلون" هي رواية إثارة جيدة، فما معنى كلمة "جيدة".

التدريب الأفضل، وكما بدا دائما لي، ببساطة أن يتم تجاهل الغالبية العظمى من الكتب وأن تقدم عروض طويلة جدا – ألف كلمة على الأقل – لكتب قليلة يبدو أنها مهمة. الملاحظات القصيرة المكونة من سطر أو إثنين للكتب القادمة من الممكن أن تكون مفيدة ولكن العرض المتوسط المعتاد الذي يتكون من حوالي 600 كلمة لا بد أن يكون بلا قيمة حتى لو كان العارض يريد بالفعل أن يكتب العرض. عادة هو لا يريد أن يكتبه. وأداء أسبوع بعد أسبوع من القصاصات ستحوله إلى هذا الشخص المقموع في الملابس المنزلية الذي وصفته في بداية المقال. على كل حال، فكل شخص في العالم لديه شخص آخر يستطيع أن يزدريه، وعليّ أن أقول، من خبرتي في العمل بالمهنتين، أن عارض الكتب أفضل من الناقد السينمائي، الذي لا يستطيع أن يقوم بعمله من المنزل، وعليه أن يحضر العروض التجارية في الحادية عشر صباحا، ومن المتوقع – مع استثناء أو إثنين ملحوظين – أن يبيع شرفه مقابل كأس من النبيذ الرديء.



[1]  البينت Pintحوالي نصف اللتر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق