السبت، 3 نوفمبر 2012

ماكس فيبر وسوسيولوجيا التنمية



ترتبط التنمية من حيث أهدافها و تصوراتها بالإطار الإيديولوجي للمجتمع، و يظهر ذلك بوضوح من خلال الاتجاه العام الذي تنطلق منه نظريات التغير الاجتماعي و يمكن أن نذكر هنا الاتجاهات الثلاثة التي سيطرت على طبيعة التنمية منذ عدة عقود من الزمن و هي:
 الاتجاه المحافظ: الذي يرفض البعد التاريخي في دراسة الواقع، ومن ثمة لا يربط ربطا واضحا بين النمو الاقتصادي و التنظيم الاجتماعي.
 الاتجاه الراديكالي: ينطلق من تصورات تقوم أساسا على تغيير الأساس المادي للمجتمع، وبالتالي يكون طريق التنمية هو التغيير الشامل لبناء المجتمع الذي تفرضه حتمية التاريخ.
و يمكن القول أن فهم ظاهرة"التنمية" إن صح القول، لا يزال بحاجة إلى فهم جديد عبر نوع من الدراسات السوسيولوجية النقدية و تتجلى في توضيح الأهداف و المبررات السياسية الكامنة وراء معظم النماذج التنموية المطروحة في سوق التداول العلمي و النظري من أجل الوصول إلى نظرية تؤكد العناصر البنائية للتنمية مستندة في ذلك إلى فهم حقيقي لتاريخ وجود مجتمعات متقدمة ومصنعة وديمقراطية جنبا إلى جنب مجتمعات تتسم من جهة بالفشل و الارتباك في جل مشاريعها التنموية و تتسم من جهة أخرى إما بالاستبداد أو عدم الاستقرار السياسي. وهذه الفكرة تفسر لنا ربط مجموعة من الباحثين بين مفهوم التنمية و التخلف على اعتبار أن التنمية تعمل على نقل المجتمعات من وضع التخلف إلى وضع التقدم و هنا يظهر لنا أيضا الربط مفهوم التنمية و التقدم و التطور و النمو........لكون هذه المفاهيم تدل على نفس المعنى، دون أن ننسى مفهوم التحديث الذي اقترن بدوره بالتنمية في السنوات الأخيرة، وذلك من خلال الدراسات التي تعتبر التنمية عملية تحديث أو عملية ملازمة للتحديث و التصنيع الذي يعتبر أحد أوجه التحديث رغم وجود فروق واضحة بينهما.
بناءا على ما سبق ذكره يمكن القول أن التنمية هي تفعيل علمي و مخطط لمجموعة من العمليات الاجتماعية و الاقتصادية من خلال تصور معين لتحقيق الغير المستهدف من أجل الانتقال من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة مرغوب الوصول إليها، وهذا يعني أن عملية التنمية تستهدف تغييرا أساسيا في البناء الاجتماعي بما يتضمنه من تنظيمات مختلفة الأهداف تعديلا في الأدوار و المراكز الاجتماعية و ترشيد أو عقلنة rationalisation بالمعنى الفيبري.
- مـاكـس فـيـبــر:
إن أهم مسألة تثير انتباهنا و نحن بصدد الحديث عن ماكس فيبر هي كيفية نشأة النظام الرأسمالي الغربي، وذلك بتحليله للعلاقة بين البروتستانتية و الرأسمالية الحديثة التي تناولها كظاهرة تاريخية فريدة لا أقل و لا أكثر، عكس كارل ماركس الذي تناولها ضمن اللوحة الخماسية، حيث يرى فيبر أن الرأسمالية الحديثة و ما تضمنته من نمو ملحوظ في القدرة التنظيمية المضبوطة و التنظيم الرشيد الذي تمت إدارته وفقا للمبادئ العلمية و الثروات، والإنتاج من أجل السوق، والإنتاج للجماهير و من خلال الجماهير الذي وازاه حماس متزايد و روح معنوية عالية و كفاءة في العمل تتطلب تفرغا كاملا للفرد من أجل مزاولة العمل على الوجه الأصح، كما تستند الرأسمالية إلى عناصر ضرورية و هي العمل الشاق و الاقتصاد في الإنفاق "التقشف و الزهد" وضبط النفس و تجميع الثروات و الأموال، وهي قيم الديانة البروتستانتية التي أقيمت عليها الرأسمالية الغربية، وتختلف عن باقي أشكال الرأسمالية التي ظهرت في مجتمعات غير غربية و في مراحل تاريخية سابقة، وهاته الظاهرة الرأسمالية إن صح التعبير كانت تعتمد على أفراد يتميزون بخصائص سيكولوجية معينة، وظروف اجتماعية كذلك، فحسب فيبر لا يمكن أن تتحقق الرأسمالية في مجتمع يتسم أفراده بالكسل و تنعدم فيهم الكفاءة .
لقد سعى فيبر إلى تأكيد النتائج التي توصل إليها من خلال تحليله لتاريخ بعض الدول البروتستانتية حيث نجده يستهل مؤلفه"الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية" بتسجيل حقيقة إحصائية و ذلك أ ن أغلب كبار رجال الأعمال و العمال المهرة و أصحاب المهن التجارية و الفنية الهامة في أوروبا بالخصوص هم من البروتستانت، وهذه حقيقة صادقة تاريخيا حسب فيبر، وأن كل الدول التي عرفت ازدهارا اقتصاديا في أوروبا كانت تسود فيها الديانات البروتستانتية، بينما ظلت الدول الكاتوليكية متخلفة نسبيا لكونها تخلت عن العمل الشاق و تفرغت إلى الأمور الدينية الروحانية أو إلى الكسل و الخمول على حد تعبير فيبر .
يبدو واضحا أن الموضوع الرئيسي الذي استأثر اهتمام فيبر هو مشكلة نشأة الرأسمالية، ففي إطار الدين القيم يرى فيبر أن البروتستانتية وخاصة أفكارها الكالفينية المولد الأساسي و مصدر الإلهام الحقيقي لنشأة النظام الرأسمالي، إذ يؤكد أنها-البروتستانتية- قد شكلت نسقا ثيولوجيا احتوى العديد من القضايا التي شكلت في مجموعها نسقا قيميا يحكم أو يضبط حركة التفاعل في النسق الرأسمالي بمنصف سبر نطيقي دون أن ننسى المجال الاجتماعي الذي شهد هو الآخر عوامل ذات صلة بنشأة النظام الرأسمالي، ومن هذه العوامل أيضا سيادة النزعة التقشفية التي توجه الطاقات الدينية نحو الاتجاه الإيجابي التقشفي بدلا من الاتجاه الصوفي السلبي، لأن الله لا يمكن الاقتراب منه كلية وإنما يمكن خدمته فقط، لا عن طريق الاستغراق الكامل في المسائل الحسية، وإنما بالسيطرة على ما هو حي و في الخضوع للنظام من أجل مجد الله، وهذا ما يصفه فيبر بالنزعة إلى التقشف التي تقوم على العمل و التقشف و الادخار وجمع المال كقيمة كالفينية وعدم إنفاقه فيما هو دنيوي الشيء الذي يؤدي إلى التراكم العقلاني لرأس المال .
كما يعتبر العلم الحديث من العوامل الهامة لازدهار الرأسمالية الغربية، حيث يعتبر ذلك من نتائج الاعتقاد في صيغة الإله الترنسندنتالي المتعالي و الازدواجية المصاحبة لذلك بين العالم السماوي و العالم الحسي، ويستند إلى العلم كذلك نشأة التكنولوجيا الحديثة أو ما يسمى بالتكنولوجيا العقلانية التي سادت المجتمع الغربي، وأدت إلى تأسيس تشكيلات إنتاجية و اجتماعية عديدة أسهمت في مجموعها في تأسيس النظام الرأسمالي، وباعتبار التكنولوجيا إحدى نتائج العلم الحديث فهي تتضمن رفض المنطق التقليدي لإنجاز الأعمال و تنطوي على أداء أكثر كفاءة لتحقيق مجد الله كما تملي ذلك القيم البروتستانتية في مذهبها الكالفيني الذي نادى به ماكس فيبر .
و قد مثلت النزعة الرأسمالية انهيارا للنزعة التقليدية، فالرأسمالي لا يصاب أبدا بتخمة المال وإنما يظل ساعيا بدأب نحوه، كما نعتبر روح الرأسمالية مضادة للنزعة التقليدية من خلال علاقتهما بالعمليات الواقعية لمناشط الكسب، فالنسق الرأسمالي في كليته قد يحتوي على بعض العوامل التي يسرت تأسيسه و استمرار يته، فالرأسمالية الحديثة تختلف عن كافة الرأسماليات السابقة، وما يميزها هو وجود الطبقة البورجوازية التي تتسم بأخلاق ذات طابع عقلاني في إنجازها، كما شكل الاتجاه إلى تراكم رأس المال من أهم خصائص و عوامل استمرار الرأسمالية الحديثة، فما يشكل النظام الرأسمالي ليس هو فكرة الحد الأقصى للربح وإنما التراكم غير المحدود، وبذلك يصبح السعي لتراكم رأس المال .......مدعمة أخلاقيا في ذاتها، فكسب المال يعتبر التزاما أخلاقيا في حد ذاته .
كارل ماركس وماكس فيبر:
....لوا لبعض علماء الاجتماع أن يجتروا باستمرار فكرة التضاد الشائعة التي تعاكس ماركس بماكس فيبر، إلى جانب معارضتهم للمادية الماركسية و الروحانية الفيبرية، و الذي يعتبر خطأ كبيرا، لأن فيبر كان رائدا لما يمكن أن ندعوه بالماركسية الرمزيةLe marxisme symbolique وفي هذا الصدد نجد فيبر يقول:"إذا كانت الماركسية تعني أن القواعد الاقتصادية هي الحاسمة فإني أيضا ماركسي" .
و أول مسألة ينبغي أن نشير إليها هي أن الفكرة التي تنبني على أساس اختزال التنظير السوسيولوجي لماكس فيبر كونه قد تأسس بكامله من خلال المناقشة العميقة و المستمرة التي قادها فيبر مع شبح كارل ماركس.
غير أن الحقيقة أن فيبر قد تقابل مع ماركس على نفس الساحات التي تعرض لها هذا الأخير، ليس لمواجهة الأفكار أو النظريات الماركسية و إنما لكون القضايا التي عالجها أو تطرق لها ماركس كانت موضع اهتمام و حوار من قبل السياق الاجتماعي المحيط أو نسق التفكير العلمي، فقضايا الحوار بين ماركس و ماكس فيبر كانت مفروضة من الخارج أي من السياق المحيط أو نسق التفكير العلمي الذي حكم على كلا المفكرين(ماركس و فيبر)أن يتعرض لذات الظواهر، و من ثم فتعرض كل منهما لنفس الظواهر كان اقترابا علميا من ذات المواضيع و القضايا و إن كان من أوجه و مداخل متباينة و مختلفة وليس التعرض لذات الظواهر كموقف شخصي لأي منهما ضد الأخر .
غالبا ما يوصف ماكس فيبر بأنه ماركس البورجوازي لأنه اهتم بمعالجة نفس الظاهرة التي اهتم بمعالجتها ماركس وهي نشأة النظام الرأسمالي الغربي بوصفه أسلوبا للتنمية. وعلى الرغم من أنهما انطلقا من وجهتي نظر مختلفة و متعارضة إلا أنهما تطرقا لنفس الموضوع ألا وهو تفسير نشأة النظام الرأسمالي .
و الذي كان في واقع الأمر المسألة أو الواقعة الأساسية التي جذبت انتباه كل من ماركس وفيبر، فهذا الأخير قد انصب كل جهده و تفكيره على هذه القضية حيث اهتم بفهم الطبيعة الخاصة للحضارة الغربية و التناقضات الواضحة التي لها مع الحضارات الشرقية و في هذا الصدد نجد أن فيبر لم يرفض كارل ماركس كما يدعي البعض بحيث نجده قد وافق على المبادئ المنهجية الأكثر عمقا لكارل ماركس.
و في هذا الإطار نجد تالكوت بارسونز يؤكد أن ثمة صلة جوهرية بين المفكرين(ماكس و فيبر) و هذا قد أثبت علميا لأن هذا الأخير قد تأثر بالمدرسة التاريخية الألمانية بحيث كان لكتابات و مناقشات ماركس و المتعلقة بالرأسمالية و الاشتراكية صداها و تأثيرها الفعال في الفترة التي تشكلت فيها أفكار ماكس فيبر.
كما نجد أيضا بورديو يقول من خلال مقالة صدرت بعنوان"اقتصاد السلع الرمزية" بأن فيبر قد ذهب مسافة ابعد من ماركس في تحليله للأديان و كان أكثر جذرية منه أو أكثر مادية، فبورديو يعتبر أن النظرية المادية للدين كانت موجودة لدى فيبر أكثر مما هي موجودة لدى ماركس، لأن ماركس قد اكتفى بتحليل وظيفة الإيديولوجيا الدينية، أما فيبر فقد تجاوز ذلك و اتخذ موضوعا لدراسته سوسيولوجيا الفاعلين الدينيين.
يمكننا القول أن ماكس فيبر يتفق مع ماركس في كثير من المقولات الوضعية المتعلقة بالنظام الرأسمالي، فليس هناك تصور أكثر زيفا من أن نتخيل بأن فيبر أسس مشروعا يتناقض به مع المشروع الماركسي ففيبر يفسر الاقتصاد بالنظر إلى الدين و ماركس يفسر الدين بالنظر إلى الاقتصاد، رغم وجود نقط اتفاق بينها فهذا لا ينفي وجود بعض أوجه الاختلاف.

الانتقادات الموجهة لماكس فيبر:
لقد تعرضت وجهات نظر فيبر لانتقادات عدة بل و ما تزال حتى الآن موضعا لجدل لا ينتهي، ذلك أن نشأة الرأسمالية كانت قبل ظهور البروتستانتية في القرن 15،لذا فإن النشاط الاقتصادي الواحد له أسس أخرى غير العقيدة البروتستانتية بل إن ظهور البروتستانتية نفسها كان بمثابة رد فعل للمسيحية التي ظهرت قبلها ب15 قرنا، و عرفت فيما بعد بالكاثوليكية، و كلاهما لا يؤثران كثيرا في الحياة الاقتصادية لكون هذه الأخيرة تخضع لظروف معينة، ومن ثم يمكن القول أن البروتستانتية قد نشأت لكشف الزيف الديني و إثبات حرية الإيمان و رفض لكل سلطة تتوسط الإنسان و الله هي إذن دعوة إلى التحرر الديني و الاجتماعي على السواء و في نفس الوقت رفض الاستغلال و السيطرة دون أن ننسى أنها دعوة إلى سيطرة جديدة عنونت برأس المال و النشاط الحر للأفراد كما يضاف في هذا الصدد أن هناك دول اشتراكية استطاعت أن تحرز تقدما اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا دون أن تتبنى نزعة دينية معينة، وهنا يبدو لنا واضحا كل الوضوح كيف أن تأكيد فيبر لدور الدين قد جعله يغفل عوامل عديدة مثل: الاستعمار، التجارة، نشأة المدن الساحلية و الثورة التكنولوجية، وهذه أمور يجب وضعها في المحك إذا ما أردنا إقامة تفسير شامل لظهور الرأسمالية وصفها نمطا واضحا للتنمية في المجتمع الغربي لأنها استطاعت نقل الإنسانية الأوروبية أو المجتمع الأوروبي من حالة اجتماعية يمكن القول عنها تقليدية إلى أخرى حديثة.
و في إطار الانتقادات التي وجهت لفيبر انطلق بعضها من دلائل تشير إلى أن الكنفوثية مثلا لا تختلف كثيرا عن كل من المسيحية و اليهودية، فهي تدعو إلى النزعة العملية في الحياة، كما أن تعاليم كنفوش تضمن نظرية منظمة عقليا في تنشئة الفرد و هنا يمكن الاستعانة باليابان كخير نموذج يضحد وجهة نظر فيبر، فعلى الرغم من أن الديانة السائدة في اليابان ليست هي الديانة المسيحية أو اليهودية، أو أنها لم تشهد منذ منتصف القرن19م تغيرا في معتقداتها الدينية فرغم هذا كله استطاعت اليابان أن تحرز تقدما كبيرا و هائلا على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الثقافي بمعنى أنها حققت نظاما رأسماليا بامتياز هذا بالإضافة إلى اعتبار فيبر لم يعالج الجوانب المختلفة للدين و إنما اكتفى بدراسة:"الأخلاقيات الاقتصادية للدين" المتعلقة ب 6 ديانات عالمية وهي: الكنفوشية، الهندوكية، البوذية، اليهودية، المسيحية و الإسلام، وأثر هذه الأخلاقيات الاقتصادية على التنظيم الاقتصادي و الحياة الاجتماعية للشعوب التي تضم هذه الديانات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق