الخميس، 22 مايو 2014

الأحادية الأمريكية بعد الحرب الباردة

كان انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة أهم تغير طرأ على البيئة الدولية في بداية التسعينات من القرن الماضي، فلقد سبب صدمة عالمية ما لبثت أن أحدثت تغيرات راديكالية في السياسة العالمية، بحيث أدى ضعف الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي السابق (روسيا)، السياسي والاقتصادي إلى تعاظم اعتمادها على المساعدات الغربية، وتقلص تواجدها ونفوذها في العالم الثالث وتوجه اهتمامها إلى تأييد إجراءات التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في حل الخلافات العالمية والإقليمية، ونتيجة لذلك بدا في الأفق نظام عالمي جديد يتسم بالأحادية القطبية بدل الثنائية في إدارة العلاقات الدولية التي كانت سائدة في العقود السابقة، وبرزت الولايات المتحدة بمثابة القوة العظمى الوحيدة في العالم.
فقد انتهت أخيرا المنافسة الطويلة على السيطرة العالمية في القرن العشرين ، ولم يشر إنزال العلم الأحمر عن برج الكريملين في أواخر ديسمبر 1991 إلى انحلال الاتحاد السوفيتي فحسب، وإنما إلى أن الإيديولوجية المعاكسة التي سعت كذلك إلى السيطرة العالمية لفظت أنفاسها الأخيرة، وكان هذا التاريخ الفاصل "تتويجا لسلسلة من الأحداث والنكسات والأخطاء والأعمال من داخل الاتحاد السوفيتي وخارجه أدى تراكمها إلى إزالة الواجهة "العفنة" للمنعة العقدية المزعومة والحتمية التاريخية. ولم يتمكن العالم من تفهم المعنى الجغرافي والسياسي والإيديولوجي لهذا الاضطراب الزلزالي بشكل تام إلا في وقت لاحق"[1]

أعطى هذا التحول الكبير للولايات المتحدة الأمريكية فرصة للولاية على العرش العالمي  لم يكن يتوقعها حتى أكثر الزعماء الأمريكيين تفاؤلا، فالولايات المتحدة –عشية نهاية الحرب الباردة-لم تكن تواجه أي نظير ، أو منافس، لا على الجبهة الشرقية ولا على الغربية، ولا على الجبهة الجنوبية للحرب الباردة التي خيضت عدة عقود على لوحة الشطرنج الأوراسية الكبيرة، في سنة 1991 كانت أوروبا منهكة في أطلسة نفسها، مع أنها لا تزال شبه منقسمة، وكان قسمها الغربي مرتبطا بقوة بالولايات المتحدة الأمريكية عبر حلف الناتو، في حين أن قسمها الشرقي المتحرر حديثا من سيطرة الإتحاد السوفيتي، والذي أعيدت تسميته بأوروبا الوسطى، يتوق شوقا للانضمام إلى المجموعة الأوروبية الأطلسية المميزة والمثالية... وكان بروز أسيا لا يزال يعتقد أنه احتمال بعيد، والمرشح الأسيوي للعب دور كبير هو اليابان التي يتزايد تعريفها بأنها ديمقراطية غربية وعضو مشارك في النادي 'الثلاثي الأطراف' مع أمريكا وأوروبا،...وكان الاتحاد الإمبراطوري السوفيتي السابق يشهد وخزات الانفصالية القومية التي تفاقمت بسرعة إلى عنف إثني مرير ...أما الصين فكانت "لا تزال في المراحل الأولى للتحول الاجتماعي الحكيم الموجه سياسيا، وتقوم بتوسيع نطاق المبادرة الفردية من الزراعة إلى التجارة والصناعة الصغيرة ثم إلى النشاط الصناعي الواسع النطاق ولم يكن لديها إدراك عالمي واسع بأنه سينظر إليها خلال عقد ونصف بأنها القوة العظمى التالية المحتملة في العالم...وعلى الصعيد الجيوسياسي كانت الصين لا تزال تتذوق بهدوء طعم نجاح تعاونها الاستراتيجي شبه المستتر مع أمريكا في إلحاق الهزيمة النهائية بالغزو السوفيتي لأفغانستان، وكانت العلاقة الصينية الأمريكية قابلة للتكيف ومثمرة استراتيجيا من وجهة النظر الأمريكية"[2]
لقد جاء هذا الحدث (المفاجئ) في وقت كانت تحتاج فيه مشاكل الولايات المتحدة الأمريكية إلى المزيد من الاهتمام والموارد، خاصة الأوضاع الاقتصادية، حيث عرفت هذه الأخيرة صعوبات عديدة، منذ نهاية السبعينات، وهذا أدى إلى جدل واسع في الولايات المتحدة الأمريكية، بين العديد من المفكرين الأمريكيين وقد تمحور هذا النقاش حول ما إذا كان هذا التحول (المفاجئ) على الساحة الدولية هو عامل إيجابي لقوة الولايات المتحدة ومكانتها على الساحة الدولية أم على العكس هو بداية لأفول القوة الأمريكية [3]، فقد رأى فيه البعض علامات الأفول والانهيار وعلى رأسهم المؤرخ البريطاني بول كينيدي في كتابه «صعود وهبوط القوى العظمى» الذي ألفه في عام 1987، وبيتر تارنوف الذي عمل مساعدا لوزير الخارجية في إدارة كلينتون... وكانت الردود المضادة قوية وسريعة من قبل الكثير من المفكرين أمثال جوزيف ناي (مستشار الرئيس الأمريكي السابق  كلينتون)، وصاحب نظرية القوة الناعمة أو اللينة (Soft power) وفرانسيس فوكوياما الذي أعلن عن نهاية التاريخ وفوز الليبرالية الرأسمالية إلى الأبد، ووليام كريستول (صاحب مشروع القرن الأمريكي الجديد)، وهنري كيسنجر وبيتر رودهان وفريد زكرياء وتوماس فريدمان...وغيرهم.  
لقد أجمع الديمقراطيون والجمهوريون ، على حد سواء أنه "لا يوجد أي بديل عن القيادة الأمريكية ، والشيء الوحيد الذي يمكن أن يزعزع -حسبهم- التوقعات لإيجاد السلام والازدهار في عصر العولمة هو أن يستسلم الشعب الأمريكي لإغراءات الانعزالية ووفقا لبرنت سكوكروفت (Brent Scowcroft) الذي شغل مستشار الأمن القومي لرئيسيين جمهوريين "بقيت القيادة الأمريكية العنصر الذي لا غنى عنه من أجل تشكيل عالم مستقر.. لا توجد أي أمة أخرى، مجموعة أمم أو مؤسسة دولية، تستطيع أن تقوم بهذه المهمة، كانوا جميعهم غير كفوئين، ضعيفين جدا أو محدودين جدا...(ومن ثم) فإن فشل الأمريكيين في التزامهم بالقيادة، كان يعني كارثة،...وكما رأى جورج بوش الأب إذا لم تقد الولايات المتحدة فلن يكون هناك أي قيادة .[4]
إن هذه الردود القوية والسريعة على نظرية المشككين في القيادة الأمريكية بينت قوة الاتجاه الذي يدعم ويريد أن تلعب الولايات المتحدة الأمريكية مركز القيادة في العالم في المستقبل، في الإدارة ومراكز البحوث وحتى في  المجتمع الأمريكي ذاته، وقد مثل انهيار الإتحاد السوفييتي حسب هؤلاء دليلا إضافيا على قوة الولايات المتحدة الأمريكية وليس بالضرورة نتيجة لضعف الإتحاد السوفيتي نفسه، "انه دليلا على التفرد الأمريكي غير المرتبط بالسياق التاريخي، وبداية حقيقية للسيادة الأمريكية من خلال تحقق رسالتها، أي أنه في الوقت الذي كان فيه كينيدي يرى أن الولايات المتحدة تتدهور مكانتها كقوة عظمى تقليدية، كان سقوط حائط برلين يعني –حسب هؤلاء- التجسيد الواقعي لظهور الهيمنة الأمريكية بصورة قاطعة، أو لحلول عهد السلام العالمي الذي تنبأ به أوائل المهاجرين إلى العالم الجديد"[5]. وقد عبر عن هذا الانتصار بوضوح العالم السياسي، ورئيس الأكاديمية الدولية للفنون في بداية التسعينات، السيد هارلان كليفلاند، في مقدمة كتابه "ميلاد عالم جديد، فرصة متاحة لقيادة عالمية" الذي ألفه سنة 1993، وشبه الوضع الجديد بما قاله توماس بين (Thomas Paine) عام 1775 حينما قال: "إن لدينا من القوة ما يمكننا من أن نعيد بناء العالم مرة أخرى، فلم يحدث منذ عهد نوح وحتى الآن، موقف مشابه لما  هو عليه الحال في الحاضر، إن ميلاد عالم جديد أصبح الآن بأيدينا"[6]
ودعى هارلان كليفلاند إلى تشكيل ما أطلق عليه "نادي الديمقراطيات" أو "تحالف الراغبين"، تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على أساس التحالف الذي جرى ضدّ النظام العراقي في حرب الخليج الثانية، لحفظ السلم والأمن الدوليين، لأن الولايات المتحدة الأمريكية حسب ما يعتقد "الدولة العالمية الوحيدة ذات الإمكانيات العالمية بشكل حقيقي، ليس بالتحديد في المجال العسكري أو مجالات الفضاء، ولكن كذلك أيضا في العلم، والتقنية، والقوة الاقتصادية، والثقافية، والقيم الإعلانية (مثل حقوق الإنسان)، والإيديولوجيات الديمقراطية المؤسساتية"[7]ويضيف قائلا: "سواء رغب بعض الأمريكان في ذلك أم لا،  لا تزل الولايات المتحدة الدولة الوحيدة المؤهلة لقيادة اللجنة التنفيذية لنادي الديمقراطيات، حيث يمكنها أن تستخدم القوة اللازمة لحفظ النظام العالمي، والازدهار، والتنميةّ"[8] مع أنه أقل تحمسا للأحادية المتطرفة، فهو يدعو إلى أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة من خلال "الخيال والتشاور والإقناع".
في البداية ولفترة وجيزة فقط، كان الخطاب الرسمي بشأن الإطار العالمي الجديد والفرص التي أتاحها محدودا إلى حد كبير بشعار مبهم "النظام العالمي الجديد" وكان لهذا الشعار ميزة انه يعني الكثير من الأشياء لكثير من الأشخاص، لكن إدارة بوش الأب التي روجت كثيرا لهذا الشعار سرعان ما سقطت، ليبرزا فيما بعد "شكلان تاريخيان للماضي لا يقبلان المصالحة، ورؤيتان للمستقبل تمثلان وجهتي النظر الأمريكيتين المسيطرتين على الشؤون العالمية، ...أفضل ما توصف به هاتين الرؤيتين العقديتين للعالم هو الكلمة المرتبطة ارتباطا وثيقا بمضمونهما: العولمة . والثانية تسمى تبعا لمصدرها العقدي: النزعة المحافظة الجديدة.
يركز دعاة الرؤية الأولى على التأثير العالمي للتكنولوجيا والاتصالات والتجارة فضلا عن التدفقات النقدية، واستمدوا من ذلك دروسا أساسية لموقف أمريكا ودورها في العالم، وأضفى الإدعاء بأن الاعتماد المتبادل والانفتاح هو الواقع الجديد للحياة الدولية الشرعية على العولمة باعتبارها سياسة القرن الجديد .كما أن العولمة تقتضي وجود مصدر مركزي –مركز للنشوء والإلهام والدفع- وأن أمريكا هي المرشح الوحيد المعقول لذلك فهي مركز الطاقة والدفع لعملية عالمية تفاعلية بحق، ويرى أصحاب هذا المشروع أن سقوط الاتحاد السوفيتي لم يكن ناتجا عن الجرائم الستالينية أو مفعول مقاومة الشيوعية بقدر ما كانت نتيجة فشل الاتحاد السوفيتي في الاستجابة بالسرعة الكافية لمتطلبات العصر الجديد الاقتصادية والتكنولوجية.
تبنى الحزب الديمقراطي ممثلا في الرئيس كلينتون هذه الرؤية بحماسة  "وكان مستشارو السياسة الخارجية لبيل كلينتون مقتنعين بأن نهاية الحرب الباردة نظفت الأسطح لإصلاحية عالمية أكثر عسكرية...وأعلن (أنتوني) ليك مبدأ التوسع، وبموجبه ستحاول الولايات المتحدة نشر الديمقراطية واقتصاديات السوق حول العالم بوسائل "ملائمة" متعددة الأطراف أو أحادية"[9]. والفكرة الكبيرة التي تقود إستراتيجية الولايات المتحدة في الانفتاح: إزالة الحواجز لحركة البضائع، رأس المال، البشر، الأفكار، وبذلك يعزز النظام الدولي المتكامل الذي يؤدي إلى مصلحة أمريكية، ويحكم بمعايير أمريكية، وينظم بقوة أمريكية، وفوق كل هذا يلبي حاجة الشعب الأمريكي لوفرة دائمة الاتساع.[10]
وقد عملت إدارة الرئيس كلينتون على الحفاظ على الهيمنة الأمريكية على العالم ومحاصرة القوى المنافسة، عبر العديد من الطرق والوسائل المختلفة، من خلال الحلف الأطلسي، حيث حاولت توسيعه إلى الشرق، وهدفت من ذلك تطويق روسيا ومحاصرتها كما مكنها من توطيد السيطرة الأمريكية على كل من فرنسا وألمانيا، وقد ساهم في ذلك فشل الإتحاد الأوربي بحل الأزمة البلقانية واستنجاده بالولايات المتحدة الأمريكية كما مكنها من كسب حلفاء جدد في أوربا الشرقية في وجه تنامي النزعة الاستقلالية لأوربا الغريبة، خاصة ألمانيا وفرنسا، وقد ساعد ازدهار الاقتصاد الأمريكي الإدارة الأمريكية في مواجه منافسيها. فقد شهد الاقتصاد الأمريكي، طوال القسم الأكبر من سنوات 1990، ازدهارا متسارعا بينما ركد الاقتصاد الألماني، وكان اقتصاد اليابان يجتاز أخطر انكماش شهده بلد رأسمالي كبير منذ سنوات 1930. "و كانت إدارة كلينتون تسعى إلى أهداف سيطرتها مع بناء تحالفات مع قوى أخرى. وقد أوضح بريجنسكي، مستشار جيمي كارتر سابقا، على نحو جديد دوافع الإدارة الأمريكية. فقد أوضح في كتابه "رقعة الشطرنج الكبيرة" آن الولايات المتحدة تنهج سياسة " فرق تسد" قائلا: "على المدى القصير، من مصلحة أمريكا توطيد وتأبيد التعددية الجغرافية الراهنة بالقارة الأوربية-الآسيوية. فذلك يتيح المناورة والتلاعب من أجل منع انبثاق تحالف معاد للولايات المتحدة … وفي المدى المتوسط ( زهاء 20سنة) يجب أن يعوض ذلك تدريجيا بمحاولة إبراز شركاء أهم…من شأنهم أن يشكلوا عند الاقتضاء، وبقيادة أمريكية، نظاما أمنيا أكثر تعاونا في المنطقة الأوربية-الآسيوية".[11] وقد أكدت الإدارة الأمريكية قدرتها على القيادة والسلوك الأحادي خاصة عندما هاجمت العراق في سنة 1998بدعم من بريطانيا والكويت وحدهما، والحرب على صربيا عام 1999 دون الرجوع إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة.
أما المذهب الثاني  فتمثل في أصحاب النزعة المحافظة الجديدة، الذي يعود إلى عهد الرئيس رونالد ريغان ، وقد نظر أصحاب هذه الرؤية إلى الهزيمة السوفيتية بأنها خلاص وطني حققه قائد كاريزمي –أي الرئيس رونالد ريغان- بإرشاد لفيف من المؤمنين الحقيقيين ، وبناء عليه فقد كان لهذه المدرسة رؤية خاصة تجاه الموقع الذي يمكن والذي ينبغي على أمريكا أن تتموضع فيه كقوة عظمى وحيدة في العالم مستفيدة من غياب النظير المنافس ، ويعبر تشارلز كراوثمر كأحد المحافظين الجدد ، عن رؤية تياره لهذه المرحلة التاريخية التي بدأت مع الانهيار الكبير للاتحاد السوفيتي: "كان انتهاء لكل شيء : انتهاء للشيوعية، للاشتراكية للحرب الباردة، للحروب الأوروبية، لكن نهاية كل شيء هي أيضا بداية...في 26 ديسمبر 1991 انهار الاتحاد السوفيتي وولد شيئا جديدا تماما، عالم أحادي القطب تسوده قوة عظمى غير مهددة من قبل أي منافس، وذات نفوذ حاسم في أي بقعة من الأرض، إنه انعطاف حاسم في التاريخ، لم يشهد له مثيل منذ انهيار روما، إنه تحول جديد، غريب تماما إلى حد أننا لا نملك أية فكرة عن كيفية التعامل معه"[12]
وقد اعتنق الرئيس الأمريكي جورج بوش الثاني الرؤية المحافظة فقد أصبحت مواقف الحكومة الأمريكية أحادية الجانب مركزية أكثر فأكثر. فقد أتاحت هجمات 11 سبتمبر لبوش السير بعيدا في استراتيجية التدخل الأمريكي أحادى الجانب. وبرز احتقاره بجلاء بموقفه إزاء حلف الأطلسي. صرح هذا الأخير، يوم 12 سبتمبر 2001، لأول مرة في تاريخه، أن الهجمات ضد الولايات المتحدة تشكل هجوما ضد كل الدول الأعضاء". ومع ذلك لم يستعمله بوش في حربه ضد أفغانستان. وبدا مع الوقت أن إدارة بوش تستعمل "الحرب ضد الإرهاب" لتبرير إستراتيجية جيوسياسية أكثر عدوانية بقصد القضاء على بعض الأخطار وإفزاع العالم برمته. وقد دلت على ذلك مختلف الوثائق والتقارير الإستراتيجية الأمريكية التي حررت في عهد بوش وكمثال على ذلك تبدأ إستراتيجية الأمن القومي (2002) بعبارة: "تملك الولايات المتحدة اليوم قوة ونفوذا غير مسبوقين في العالم"، وتنتهي بما يلي:" ستكون قدراتنا قوية بما يكفي لردع خصومنا المحتملين عن محاولة مضاهاة أو تجاوز قوة الولايات المتحدة."[13]
إلا أنه يجب الإشارة إلى أن السياسة الأحادية الأمريكية ليست شيئا جديدا في الاستراتيجية الأمريكية، فهي تضرب بجذورها في تاريخ تأسيس هذه الدولة "فمنذ قيام أمريكا كجمهورية امتنع الآباء المؤسسون عن دخول تحالفات يمكن أن تضر ببلد هش في عالم خطر زاحم بالصراعات وتلطخ هوية الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها أمة استثنائية، فمن خلال التصرفات الأحادية تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تحقق مصالحها وأن تنشر قيمها الأساسية وأن تميز نفسها في مواجهة آباءها الأوربيين".[14] إلا أن الظروف الدولية في حقبة الحرب الباردة وظهور الإتحاد السوفييتي كمنافس للولايات المتحدة الأمريكية حتم على هذه الأخيرة بأن تعود إلى التعددية والاعتماد المتبادل والتحالف مع الدول الأخرى لمواجهة الخطر الشيوعي المتفاقم. أما وقد زال الخطر السوفييتي ولم يظهر مكانه بديل بإمكانه منافسة الولايات المتحدة الأمريكية، وإرغامها على الاعتراف به كما فعل الاتحاد السوفيتي، فإن الباب بات مفتوحا أمام هذه القوة العظمى الوحيدة للعودة إلى سياستها القديمة في تبني التوجه الأحادي.
فالأحادية القطبية أتت قبل كل شيء نتيجة طبيعية لإيمان الأمة الأمريكية بدورها المتميز الذي يمكِّنها من التصرف وحيدة ضد الجميع، ولقومية متصلبة، ولقدرات ذاتية تسمح لها بالقيام بمهمات فردية في كلِّ مكان من العالم. وجدت النخبة الحاكمة أن المعطيات الأمريكية تسمح للولايات المتحدة بأن تتحول إلى "نيوإمبراطورية"، فحددت مبادئها القائمة على تأمين القوة العسكرية والمراجعة الدائمة للتهديدات انطلاقًا من أخطار محتملة، بما يسمح بقيام عمليات "استباقية" و"وقائية" في أيِّ مكان من العالم. كما تهدف هذه المبادئ إلى مراجعة المعايير الدولية لجهة خفض سقفها، بما لا يعوق التدخلَ الأمريكي الأحادي الجانب، وأخيرًا اعتماد مبدأ المهمة هي التي تملي التحالفات، وليس العكس.
فالولايات المتحدة الأمريكية وجدت نفسها –بعد سقوط الإتحاد السوفييتي –في وضع فريد لم يتح لأي قوة غالبة في التاريخ  حيث انهارت الإمبراطورية السوفييتية أمامها إلى أجزاء وأشلاء متفرقة وأحيانا متخاصمة، لم يعد هناك تحدي للقوة الأمريكية، كما أن القوى والتحديات المحتملة مؤجلة الآن إلى سنين وحقب، " الصين تحد محتمل لكن أمامه وقتا طويلا، واليابان تحدي محتمل لكن الفرصة أفلتت منه، وسوف تظل فالتة إلا إذا استطاعت اليابان في المستقبل إنشاء  علاقة خاصة من نوع يصعب التنبؤ به مع الصين كما أن أوروبا الغربية تحد محتمل شريطة أن تتمكن من تحقيق وحدتها كاملة وذلك الآن في مجال الأحلام، ويترتب عليه أن الولايات المتحدة الأمريكية الآن متفوقة بمراحل، وهذا التفوق مضمون في المستقبل المرئي، ومسؤوليتها الحقيقية أن تعمل بكل الوسائل على الاحتفاظ به وتدعيمه وتلك هي المهمة الأولى للسياسة الأمريكية وللقدرة الأمريكية في كل مجال » [15].




-[1] زبيغنيو بريجينسكي، الفرصة الثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمى الأمريكية، تر: عمر الأيوبي، (بيروت: دار الكتاب العربي،2007) ص:27.

[2] - نفس المرجع السابق ص: 30-31.

[3] - دانيال وارنر، السياسة الخارجية بعد انتهاء الحرب الباردة، (أبو ضبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، سلسلة دراسات عالمية، العدد: 15 د.ت.ن)، ص 15.

[4] - أندرو باسيفيتش، الإمبراطورية الأمريكية: حقائق وعواقب الدبلوماسية الأمريكية،ط 1(بيروت، الدار العربية للعلوم، 2004) ص 75.

[5] - دانيال وارنر، مرجع سبق ذكره ، ص 25.

[6] - هارلان كليفلاند، ميلاد عالم جديد (فرصة متاحة لقيادة عالمية)، تر: جمال علي زهران، ط1 (القاهرة:المكتبة الأكاديمية، 2000).ص19

[7] - المرجع السابق، ص 320-321.

[8] - المرجع السابق، ص 323.

[9] والتر أ. مكدوجال، أرض الميعاد والدولة الصليبية: أمريكا في مواجهة العالم منذ 1776، ، تر: رضا هلال، ط1( القاهرة: دار الشروق 2000) ، ص283-284

[10] - اندرو باسيفيتش، مرجع سبق ذكره، ص121.

[11] - Alex Callinicos, the Grand Strategy of the American Empire, (International Socialism Journal, Issue: 97, Winter 2002).

[12]- هادي قبيسي، السياسة الخارجية الأمريكية بين مدرستين: المحافظية الجديدة والواقعية، ط 1،(بيروت:الدار العربية للعلوم ناشرون،2008) ، ص: 25

[13]- The National Security Strategy of the United States of America , (White House), September 17,2002, WashingtonDC, p3-4

[14]-  Melvyn P. Leffler,  Think Again: Bush’s Foreign Policy, (Foreign Policy Magazine September  1, 2004).

[15] - محمد حسنين هيكل،  الزمن الأمريكي: من نيويورك إلى كابل، (القاهرة: المصرية للنشر العربي والدولي، د.ت.ن)، ص70. 


الكاتب: محفوظ بورابة



تحميل النص على شكل pdf
 
http://adf.ly/nrQ3M








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق