الأحد، 8 يونيو 2014

الولايات المتحدة الأمريكية ومعضلة الإسلام السياسي

ارتبط موضوع الإسلام السياسي♣ وكيفية التعامل معه لدى الإدارة الأمريكية ارتباطا شديدا ببرنامج الولايات المتحدة للإصلاح السياسي في المنطقة العربية والتي اتسمت بجملة من التناقضات الصارخة.
فالكثير من المحللين يعتقدون أن الاستثناء الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية عن دعم الديمقراطية في العالم العربي نابع من تخوفها أن هذه العملية الديمقراطية يمكن أن تأتي إلى السلطة –خاصة في ظل الاستياء الشعبي من السياسات الأمريكية وطبيعة المجتمعات العربية التي يلعب العامل الديني دورا مهما في توجيهها– بجماعات إسلامية "متطرفة" من وجهة نظر واشنطن، تكون ندّا لمصالح الغرب والولايات المتحدة في العالم العربي .ويؤكد تقرير لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية هذه الحقيقة قائلا: "سواء شئنا أم أبينا، من المحتمل أن تلعب الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية دورا بارزا. ويجب أن تبقى الولايات المتحدة يقظة من معارضتها للمنظمات الإرهابية، ولكن يجب أن لا تسمح لقادة الشرق الأوسط بالتذرع بالأمن لقمع المنظمات الإسلامية غير العنيفة، بل يجب أن تدعم واشنطن المشاركة السياسية لأية مجموعة أو حزب ملتزم بالتقيد بقوانين ومعايير الديمقراطية، وللحد من إمكانية اكتساح الحركات الإسلامية المتطرفة لأنظمة سياسية شرق أوسطية أكثر انفتاحا"[1].

ويأتي هذا أيضا نتيجة الخلط الذي يبدو متعمدا بين العديد من المصطلحات الذي تتبناه الحكومات الأمريكية والغرب عموما في التعاطي مع الإسلام السياسي، بين الحركات الإسلامية التي تتبنى الإسلام كحل لمشاكل العالم العربي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... وتدعو إلى قيام حكم على أساس المبادئ الإسلامية السمحاء وبين الحركات الأخرى التي تتبنى العنف والإرهاب والقتل للوصول إلى أهداف معينة باسم الإسلام، والخلط بين هذه الأخيرة وحركات المقاومة الإسلامية التي تتبنى العنف المشروع للدفاع عن حقوقها المهضومة، وكرد على العنف الذي يمارس ضدّها. وهذا الخلط هو الذي رسم وحدد طبيعة الاستراتيجية الأمريكية في العالم العربي في التعامل مع الإسلام السياسي.
ومن منظور تاريخي، فإن السياسة الأمريكية تجاه المنظمات والحركات الإسلامية ذات الطابع السياسي، مرّت عبر مراحل مختلفة، فقد تلقت الحركات الإسلامية بعض الدعم المادي من قبل الولايات المتحدة في مراحل سابقة، عندما رأت هذه الأخيرة أن مصلحتها تتطلب ذلك، مرّة في مواجهة الحركات القومية العربية "الناصرية"، ومرة أخرى في مواجهة العدو الشيوعي المشترك، الذي كان يريد الوصول إلى المياه الدافئة في جنوب قارة آسيا، وقد كان التعاون (الأمريكي–الإسلامي) ضد الاتحاد السوفيتي حينما غزا أفغانستان المثال الأبرز لذلك.
غير أن هذا التعاون الثنائي سرعان ما بدأ في الاندثار والتراجع، فمع أفول نجم الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات، وقبل ذلك تراجع المد القومي العربي، بعد هزيمة جوان 1967 مع "إسرائيل"، من جهة وتصاعد الصحوة الإسلامية، نتيجة لهذا الفشل القومي. بدأ العديد من السياسيين الغربيين، كما وسائل الإعلام يثيرون مسألة الإسلام السياسي وخطورته على المصالح الغربية والأمريكية، وتركز هذا الاهتمام خاصة بعد زوال الخطر الشيوعي وحاجة الولايات المتحدة (والغرب) إلى شماعة جديدة يعلقون عليها سياساتهم الإمبريالية في العالم بعد زوال الشيوعية.
وهكذا أصبح الإسلام السياسي أو "التطرف الإسلامي" كما يصفه الأمريكيون، من أكبر المشاكل التي تواجه استراتيجية الزعامة والهيمنة الأمريكية، التي وضعتها الدوائر الأمريكية، لعالم ما بعد الحرب الباردة، لاسيما في الشرق الأوسط، وأنه يجب أن ترصد له إمكانيات ضخمة من القوة والمال والوقت لصده ودحره.
ويبرز في الولايات المتحدة اتجاهين مختلفين حول الإسلام السياسي في فترة ما بعد الحرب الباردة، وهذا لا يعني عدم وجود أراء أخرى:
الاتجاه الأول: يفرق بين الإسلام كدين وعقيدة والإسلام السياسي الذي يسعى للحكم والسلطة، حيث يرى هذا الاتجاه الواقعي "أن الإسلام نفسه ليس تهديدا للتطور السلمي للمنطقة وللغرب، فهذه التهديدات نشأت من التطرف، ومن الإيديولوجية غير القابلة للتطبيق والمعادية، ومن الجماعات التي تلصق نفسها اسم الإسلام، ولكن التطرف الإسلامي إيديولوجيا سياسة معادية للغرب ولكثير من الحكومات العربية، وينبغي التمييز بينه وبين الإسلام باعتباره عقيدة دينية، والمتطرفين الذين يستخدمون اسم الإسلام، يقترحون سياسات اجتماعية واقتصادية لا يمكن أن تؤدي إلاّ إلى زيادة مشكلات المنطقة سوءا".[2]
فهؤلاء يرون أن هناك تعددية في الفكر السياسي للحركات الإسلامية، ويميزون بين اتجاهات إسلامية "معتدلة غير حادة في عدائها لأمريكا وتحمل إمكانية لتقبل فكرة الديمقراطية والحداثة والتوافق مع الفكر الغربي السياسي في بعض جوانبه، حيث "يعتقد المعتدلون بتلاؤم الإسلام والديمقراطية" وبسبب امتداد جذور تلك الأكثرية السياسة في العالم المسلم، فإن المعتدلين من المسلمين يمكن أن يحتلوا مكانا على امتداد الطيف في النشاط السياسي الإسلامي مشابها لتلك الديمقراطيات المسيحية الأوروبية كمشاركين ذوي توجه ديني في العملية السياسية العلمانية وليس كمجموعات متسلطة على القرارات"[3]
أما الاتجاه الثاني من الساسة والمفكرين فلا يجدون غضاضة في الدمج بين الإسلام كدين وعقيدة و"التطرف الديني"، فهم يجدون توافق وتماثل بين الإسلام والجماعات السياسية المنبثقة عنه والحاملة لاسمه، ويأتي على رأس هؤلاء "برنارد لويس" (Bernard Lewis ) وهو أحد أهم رموز الاستشراق و يعمل كمستشار في البيت الأبيض حول شؤون الشرق الأوسط ، و "دانيال بايبس"* (Daniel Pipes)، الكاتب الصحفي، والرئيس السابق لمعهد البحوث السياسية الخارجي في فيلادلفيا في الولايات المتحدة. وهناك أيضا "مراتن كرامر" وهو خبير في الشرق الأوسط في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (والذي يعتبر من أهم المراكز تأثيرا على السياسة الأمريكية في العالم العربي والشرق الأوسط وأبرزها مولاة لإسرائيل) فهؤلاء يرون أن كل الإسلاميين أصوليون، وهم بالأساس مناهضين للديمقراطية ومناهضين للغرب، ويقول كرامر في مقال له "الإسلام ضد الديمقراطية" أن "الديمقراطية والتعددية والتسامح، رفضها الإسلاميون كلها، ولكي يجذبوا إليهم الجموع التي تملا مساجدهم، فهم يعدون بدلا من ذلك بإنشاء نظام الشريعة الإسلامية وجعل القضية مشتركة في كل مكان مع الإخوان المؤمنين بنفس المنطق وبأن يجاهدوا ضد عنجهية الغرب ووجود إسرائيل، لقد تمسك الأصوليون بهذه المبادئ خلال فترات طويلة من القمع ولن يتخلوا عنها الآن في لحظة توهجهم الشعبي العظيم"[4] ، ويرى "تشارلز كراوثمر" أحد المحافظين الجدد أن "الإطاحة بالأصولية وبداية نشر الديمقراطية لهما تأثير حاسم في حربنا العالمية على التهديد الجديد للحرية، والعدو الوجودي الجديد: التوتاليتارية العربية الإسلامية التي هددتنا، بكلا شكليها العلماني والديني، طوال ربع القرن الماضي منذ ثورة الخميني عام 1997[5]". وعلى الرغم من أنه لا يمكن الجزم أن مثل هذه الرؤى تسيطر على مراكز القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه يمكن القول أنها تشكل كما لا بأس به في الإدارة الأمريكية، وخاصة تلك التي تهتم بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي، كما أنها أيضا تشكل كما هائلا في المواد الإعلامية لا مجال لحصرها.
وقد بدأت هذه النظرة الأمريكية المتطرفة للإسلام السياسي تتبلور أكثر، منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران بقلب نظام الشاه الموالي للغرب، وإعلانها العداء المبكر لما أسمته "الشيطان الأكبر" أي الولايات المتحدة الأمريكية، وإعلانها أيضا عزمها على تصدير الثورة إلى البلدان العربية، وخاصة البلدان الحليفة للولايات المتحدة في الخليج العربي، وواكب ذلك صعود موجة من الصحوة الإسلامية ، تأسست في الجزيرة العربية وامتدت إلى المغرب العربي، معلنة عن هدفها في تقويض نظم الحكم العلمانية الموالية للغرب وإحلال محلها نظم حكم إسلامية، وقد زاد من مخاوف الأمريكيين عندما ترافقت هذه الموجة مع بعض الحالات من العنف والحروب الأهلية، بما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية الحديثة "بالإرهاب الإسلامي".
وبهذا الخصوص يشير تقرير للكونغرس أن ّ "الحكومات السابقة وحيث لم تكن الديمقراطية ينظر إليها على أنها من أولويات الأمن القومي، وحيث لم يكن ينظر للتطرف الإسلامي على أنه تهديد قوي، لم يكن المعضلة الإسلامية ينظر إليها على أنها من الأمور الهامة للسياسة الحالية بقدر ما كان ينظر نظرة أكاديمية. ومنذ عام 1979 حيث اندلعت الثورة الإيرانية، فقد أيقنت الحكومة الأمريكية تمام اليقين من أنه في حالة صعود الجماعات الإسلامية لتولي السلطة فإن هذه الجماعات سوف تعتمد سياستها الخارجية أسلوب المواجهة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وسوف تصبح المصالح الأمريكية العليا مهددة، بما فيها زيادة الاحتياطي من البترول والتعاون العسكري وأمن إسرائيل والعديد من المصالح الأخرى. كان ذلك لدرجة أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اندفعت لخلق إصلاح في المنطقة وكان التركيز الأكبر منصبا على الإصلاح الاقتصادي والتحرر التجاري، وكان الاهتمام بالديمقراطية وحقوق الإنسان مطلبا ثانيا".[6] 


هذه النظرة الغربية عموما والأمريكية خصوصا أدت إلى ربط الإسلام السياسي بالإرهاب والعنف في وقت مبكر من العقد الماضي وهو ما أصبح يعرف اليوم في الأوساط الغربية بـ"الإرهاب الإسلامي" فرغم أن هذا الأخير كثر تداوله في الآونة الأخير وخاصة بعد أحداث 11/09/2001 إلا أن حقيقة الربط بين المسلمين والإرهاب في الولايات المتحدة بدأت في وقت مبكر من النصف الثاني من القرن السابق، وحتى قبل زوال الحرب الباردة، وانتشرت حتى أصبح الإرهاب وصفا ملاصقا للعرب والمسلمين في الغرب، حيث أنه عندما وقع حادث تفجير أحد المباني الحكومية في مدينة أوكلاهوما الأمريكية في 1995 سارع جل الخبراء والمحللين، إلى نسب العمل الإرهابي إلى الإسلاميين، قبل أن تكشف التحقيقات، أن العملية قام بها مواطن أمريكي محلي ينتمي إلى جماعات التفوق العنصري، وفي هذا الصدد يقول الأكاديمي والكاتب البريطاني "فريد هاليداي" في كتابه "الإسلام وخرافة المواجهة...الدين والسياسة في الشرق الأوسط" أن الإرهاب أصبح "يرتبط في ذهن الجمهور الغربي عامة بالشرق الأوسط، ولاسيما في منحاه الإسلامي عبر خطف الطائرات واحتجاز الرهائن وتفجير المنشآت والمدنيين. لكننا إذا استحضرنا إلى الذهن أن المفهوم باعتباره أي عمل إرهابي تقوم به مجموعة سياسية مدنية ضد مدنيين غير محاربين، فإن الظاهرة الإرهابية ليست بأي حال خاصة بالشرق الأوسط أو مقصورة عليه. قد وقعت أعمال إرهابية على امتداد التاريخ المدون، وكانت شائعة في الكثير من الدول والحضارات في القرن 20 ولم يأت الإرهابيون الأوائل في السياسة الحديثة من الشرق الأوسط، بل كانوا من الفوضويين الروس والجمهوريين الإرلانديين، والقوميين الأرمن والهندوس والبنغاليين، وكذلك من اليهود الصهاينة والقبارصة الأتراك لذلك لم ينشأ الإرهاب الحديث من المسلمين في الشرق الأوسط، ولا كان طابعا مقصورا ومميزا لهذه المنطقة".[7]
ولا نغفل هنا الدور الذي لعبته الجماعات المؤيدة "لإسرائيل" في الولايات المتحدة الأمريكية، في رسم هذه الصورة عن الإسلام، فبعد الإطاحة "بالإرهاب "القومي العربي المعادي للمصالح الأمريكية –بواسطة "إسرائيل"-في حرب 1967 حظيت "الدولة" العبرية بأهمية كبيرة لدى الإدارات الأمريكية، وبعد زوال الخطر القومي والاتحاد السوفيتي، أحس "الإسرائيليون" وحلفاؤهم في الغرب بتضاؤل دور "إسرائيل"، بلعب دور الحامي للمصالح الأمريكية والغربية في منطقة الشرق الأوسط، والمزايا التي كانت تجنيها جراء ذلك، فاحتاجوا إلى "إرهاب" جديد يبنون عليه سياستهم، وعبر المنظمات ورجال السياسة والإعلام الذي يسيطرون عليه في الولايات المتحدة، أخذ "الإسرائيليون" يلعبون على وتر "الخطر الإسلامي فإسرائيل تحتاج للمساعدة الأمريكية، لأنها تعيش في خطر متواصل من الأصولية الإسلامية، وحسب أحد المسئولين الأمريكيين السابقين، فإن صورة الإرهابي الإسلامي، تظلّ في الإدارة الأمريكية "زر أحمر" يدوس عليه كل من يريد المساعدة الأمريكية، ويقول أن كلمة الإرهاب الإسلامي تستخدم بشكل منتظم لأنه ينتج عنها فعل ورد فعل ومساعدات ودعم مالي تستخدمها جماعات الضغط اليهودية، لأنها تعرف أنها الطريق للحصول على المليارات من أموال دافعي الضرائب".[8]
وجاء هجوم سبتمبر 2001 على معاقل القوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية ، والذي نسب إلى تنظيم القاعدة بقيادة السعودي أسامة بن لادن، ليزيد في هذا الوضع سوء، إذ تحولت حملة التشويه والخلط من مجرد النظريات والدراسات والاتهامات والشعارات الإعلامية والدعائية إلى عمل فعلي مضاد، ترجم في أعمال عسكرية وحروب أمريكية على "الإرهاب الإسلامي الدولي" مستمرة وبلا نهاية، خالطة بين منظمات "الإرهاب" وحركات التحرر الوطني والقومي، وبين الحركات التي تتبنى العمل السياسي السلمي والحركات التي تستعمل السلاح، حين أدرجت عشرات من المنظمات الإسلامية المقاومة في فلسطين ولبنان والصومال وكشمير والفلبين والشيشان وإندونيسيا والصين...الخ ضمن قائمة المنظمات الإرهابية بالإضافة إلى دول مثل سوريا والعراق وليبيا والسودان ...الخ كدول راعية لهذا الإرهاب ، تحت شعار "إما معنا وإما ضدّنا" مقسمة العالم إلى محورين "محور الخير ومحور الشر"، رغم أن الإدارة الأمريكية لم تورد أدلة قاطعة تثبت قيام جماعات إسلامية بهذه الأحداث، بما فيها منظمة القاعدة نفسها، خاصة وأن العديد من الشكوك والأسئلة التي لم تجد إجابة طرحت حول هذه الأحداث، ومنها ما هو من مصادر غربية وأمريكية، معتبرة أن "ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر كان حدثا مدّبرا، وفق رؤية تآمريه، هدفه تقديم ذريعة قانونية وسياسية وأخلاقية لصناع السياسة الأمريكيين في ظل إدارة بوش اليمينية المتشددة لكي يشنوا الحرب الأخيرة لفرض الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم بأسره".[9] خاصة وأن السياسة الأمريكية بعد هذه الأحداث دعمت هذه الشكوك وسارت في هذا الاتجاه.
وقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية أيضا "الجماعات الإسلامية السياسية" خاصة تلك التي تنحوا إلى العنف، في الفترة التي تلت نهاية الحرب الباردة، وبشكل أكثر بعد أحداث 11/09 في الإفادة منها في جانبين:[10]
- اتجاه استغلالها في الضغط على النظم العربية الحاكمة وترويضها وتخويفها بهذا الشبح المتصاعد.
- اتجاه استخدام بروز العنف الدامي والحملة العدائية التي تشنها التيارات الإسلامية، لإيقاظ روح المجابهة في المجتمعات الغربية عامة، وحشد طاقتها ووحدتها من جديد بعد ما تراخت هذه المجتمعات إثر سقوط العدو الأول – الشبح الأصلي- وهو الإيديولوجية الشيوعية والاتحاد السوفيتي، متصورة أن عصر المجابهات الساخنة على مستوى العالم قد انتهى بانتهاء الحرب الباردة.
إلا أن هجمات 11 سبتمبر 2001 والردود الشديدة اتجاه جماعات وحركات الإسلام السياسي، لم تقضي كليا على محاولة بعض القادة والمفكرين الأمريكيين التمييز بين نوعين من الإسلام، "الإسلام المتطرف" والذي يجب محاربته والقضاء عليه والإسلام المعتدل والذي يمكن التعامل معه، وبدأ الحديث في الإدارة الأمريكية عن ما يسمى بالتجديد الإسلامي (Islamic Renewal) ففي دراسة لمعهد الولايات المتحدة الأمريكية للسلام (United States Institute Of Peace) أشار إلى أن " أهم مبادرة تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تحارب بها التطرف الإسلامي هو تشجيع حركات التجديد المنتشرة على المستوى السياسي والاجتماعي والفكري، والتي تهدف إلى إصلاح مجتمعاتها، فالولايات المتحدة عليها أن تعمل على تحديث الإسلام، لأن هذا الأخير قابل للتطور والتحديث"[11] إلا أن كلمة التجديد تحمل العديد من الملابسات وتطرح العديد من الأسئلة، حول ما هو الإسلام الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية أن يحل محل ما تعتبره تطرف إسلامي؟ وهل المسلمون في حاجة إلى من يعلمهم ما هو الإسلام المعتدل؟ وما هو الإسلام المتطرف؟ العديد من الاسئلة طرحت بهذا الخصوص.
إلا أن التوجه العام للإدارة الأمريكية وخاصة في ظلّ سيطرة المحافظين الجدد والمسيحيين الموالين لإسرائيل، هو رفض الإسلام السياسي، ومحاربته إذا كان يتبنى العنف خيارا بقوة السلاح، والحيلولة دون أن يصل إلى السلطة إذا كان يتبنى العمل السياسي لأنه –في نظرهم سوف ينقلب على الديمقراطية- ومحاصرته وإضعافه إذا نال سلطة القرار وخير مثال على ذلك الحصار الذي تعرضت له الحكومة الفلسطينية بقيادة حركة "حماس" الفلسطينية، لأنها ترى -الولايات المتحدة- في الإسلام السياسي في كل الأحوال تهديدا لمصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل في المنطقة.
ولعلنا نختتم بالقول أن السياسة الأمريكية، اتجاه الجماعات الإسلامية السياسية مرت بثلاث مراحل أساسية:
المرحلة الأولى: مرحلة القبول الأمريكي بالتيارات الإسلامية ، ودعم وجودها ودورها على الساحة العربية، واستخدامها لتحقيق مصالحها ، ووصل الأمر إلى تزويدها بالأسلحة والمال ، كما حدث عند غزو الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في 1979 ، وكانت الولايات المتحدة في هذه الفترة تعتبر هذه الحركات حليفة لها ، أو بالأحرى وسيلة تستخدمها في مواجهة كل من الخطر الشيوعي الأكبر والحركات القومية العربية ذات الميول الاشتراكية، فالتقاء المصالح أدى إلى التعاون، وقد كانت هذه المرحلة عموما في خلال فترة الحرب الباردة.
المرحلة الثانية: تعود جذور هذه المرحلة إلى نهاية السبعينات عندما وقعت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني وأعلنت الجهاد ضد الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا أنها لم تبدأ فعليا إلا مع قدوم فترة التسعينات، حيث أحست الولايات المتحدة بخطر التيارات الإسلامية "السنية" الصاعدة بقوة في المشرق والمغرب العربيين، ورفضها للمناحي التي اتخذتها السياسة الأمريكية بعد حرب الخليج الثانية، وعلى رأسها محاولات الولايات المتحدة الأمريكية لتطبيع العلاقات بين العرب "وإسرائيل" والوجود العسكري الأمريكي في الخليج العربي، حيث أحست الولايات المتحدة بتهديد مصالحها من قبل هذه الحركات، خاصة وأن بعضها اتخذت من السلاح والعنف وسيلة لتحقيق أهدافها، كما هوا الحال مع منظمة "القاعدة" التي شرعت في الهجوم على المصالح الأمريكية في العالم (الهجوم الأول على مركز التجارة العالمي في عام 1993، الهجوم على السفارتين الأمريكيتين ي تنزانيا وكينيا(1998)، وهجوم الخبر في السعودية، والهجوم على المدمرة الأمريكية كول في اليمن...) غير أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقطع علاقاتها بصورة نهائية مع التيارات الإسلامية الأخرى في العالم العربي .
المرحلة الثالثة: بدأت هذه المرحلة مع وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على مراكز السلطة والهيبة الأمريكية ، واتهام منظمة القاعدة الإسلامية بها ، حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها المفتوحة على كل الجماعات الإسلامية التي تتخذ من السلاح كوسيلة لممارسه العمل السياسي بما فيها تلك التي تحارب من أجل التحرر والاستقلال ورفع الظلم عن شعوبها، بل ووصل الأمر إلى حد اتهام الأحزاب الإسلامية السياسية "غير المسلحة" بل والإسلام نفسه بالإرهاب الذي يلزم مواجهته ودحره ، رغم بروز نداءات ورؤى أخرى عديدة في الولايات المتحدة الأمريكية ومطالبتها بالتمييز بين الحركات الإسلامية التي تستخدم "الإرهاب" والعنف من جهة والإسلام كدين وعقيدة، والحركات الإسلامية "المعتدلة" من جهة ثانية .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- الإسلام السياسي هو مصطلح حديث يعني الإسلام الذي يدعو إلى المزج بين الدين والسياسة في الشؤون المحلية والعالمية, ويرى في مبدأ«دع ما لله لله”, وما لقيصر لقيصر» شذوذا عن طبيعة الإسلام كدين شامل للدين والدنيا. فالإسلام السياسي, أو دعنا نقول حركات الإسلام السياسي بمجملها لا تؤمن بفصل الدين عن الدولة وتسعى في إستراتيجيتها وبرامجها إلى إقامة دولة إسلامية تطبق الإسلام كدين ودولة ونظام حياة.
[1] - هادي قبيسي، السياسة الخارجية الأمريكية بين مدرستين: المحافظية الجديدة والواقعية، ط 1،(بيروت:الدار العربية للعلوم ناشرون،2008) ، ص 46.
[2]- زبيغنيو بريزنسكي، (وآخرون)، السياسة الخارجية الأمريكية: تحديات القيادة في القرن ال21" ، مرجع سبق ذكره ص 77 [3] - هادي قبيسي، مرجع سبق ذكره ص47.
* ينتمي برنارد لويس و دنيال بايبس (Daniel Pipes) إلى مجموعة من المفكرين من أمثال صامويل هنتنكتون وفرانسيس فوكوياما الذين لعبوا دور مهما في رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الباردة، وبخاصة في الشرق الأوسط ، وقد ساهما هذين الكاتببين في تفاقم الصورة السلبية أصلا عن المسلمين والعرب لدى الإدارة الأمريكية والمجتمع الأمريكي خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر على خلفية استشراء ثقافة الخوف من الإرهاب التي اجتاحت المجتمع الأمريكي.
[4]-. Martin Kramer, “Islam vs. Democracy,” Commentary magazine, January 1993.
[5] - هادي قبيسي، مرجع سبق ذكره ص40


[6]- Jeremy M. Sharp, U.S. Democracy Promotion Policy in the Middle East: The Islamist Dilemma, Congressional Research Service (Report for Congress), June 15, 2006.
[7]- صلاح الدين حافظ، كراهية تحت الجلد: إسرائيل عقدة العلاقات العربية الأمريكية، ط1، (القاهرة: دار الشروق، 2003) ص18.
[8]- نفس المرجع السابق، ص 300.
[9] - نفس المرجع السابق، ص 20.
[10]- نفس المرجع السابق، ص214.
[11]- Abdeslam M. Maghraoui, American Foreign Policy and Islamic Renewal, United States Institute of peace, Special Report 164 July 2006. 


 الكاتب: بورابة محفوظ (الجزائر)







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق