مقتطفات من الكتاب
مقدمةهذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ لم أكن أريد أن يصدر في كتاب يقرؤه الناس , ولعلي لم أكن أريد أن أعيد قراءته بعد املائه وانما أمليته لأتخلص باملائه من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيرا ما تعتري الناس بين حين وحين .
وللناس مذاهبهم المختلفة في التخفف من الهموم والتخلص من الأحزان فمنهم من يتسلى عنها بالقراءة , ومنهم من يتسلى عنها بالرياضة ومنهم من يتسلى عنها بالاستماع للموسيقى والغناء , ومنهم من يذهب غير هذه المذاهب كلها لينسى نفسه ويفر من حياته الحاضرة وما تثقله به من الأعباء ولست أدري لماذا رجعت ذات يوم الى ذكريات الصبا أتحدث بها الى نفسي لأنسى بهذا الحديث أثقال الشباب ثم لم أكتف بالتحدث الى نفسي فيما بني وبينها وانما تحدثت اليها حديثا مسموعا فأمليت هذا الكلام على صاحبي في رحلة من رحلات الصيف ثم ألقيته جانيا ونسيته أو كدت أنساه .
ثم طلبت الى مجلة الهلال في عهدها الماضي طائفة من الأحاديث وألحت في الطلب حتى لم أجد بدا الى اجابتها ولم أكن أملك الوقت الذي يتيح لي أن أكتب اليها الأحاديث التي أرادتني عليها .
فعرضت هذا الكلام على بعض الصديق ليقرأه ويشير علي فيه , أيصلح للنشر أم لا يصلح فقرأه الصديق وأشار علي بألا ألقي اليه بالا . فاعتذرت الى " الهلال " ولكنها أبت الا الالحاح فدفعت اليها هذا الكلام على كره مني وقد نشرته فرضي عنه بعض الناس ثم جمعه بعض الأصدقاء في سفر واحد .
وأنا مع ذلك لم أقل الا الحق ومعها يكن من شيء فقد وجد كتاب الأيام وأضيف اليه جزء ثان كتب على نحو ما كتب الجزء الأول وليس أحب الى نفسي ولا أحسن موقعا في قلبي من أن يقدم هذا الكتاب الى زملائي وأصدقائي في هذه المحنة ولا أرى فيها قسوة أو شيئا يشبه القسوة وانما هي آفة من الآفات الكثيرة التي تعرض لبعض الناس في حياتهم فتؤثر فيها تأثيرا قويا أو ضعيفا .
والذين يقرؤون هذا الحديث من المكفوفين سيرون فيه حياة صديق لهم في أيام الصبا تأثر بمحنتهم هذه قليلا قليلا حين عرفها وهو لم يعرفها الا شيئا فشيئا حين لاحظ ما بينه وبين أخوته من فرق في تصور الأشياء وممارستها .
وقد تأثر بهذه المحنة تأثرا عميقا قاسيا , لا لشيء الا لأنه أحس من أهله رحمة له واشفاقا عليه , وأحس من بعض الناس سخرية منه وازدراء له ولو قد عرف أهله كيف يرعونه دون أن يظهروا له رحمة أو اشفاقا ولو قد كان الناس من رقي الحضارة وفهم الأشياء على حقائقها بحيث لا يسخرون من الذين تعتريهم بعض الآفات لا يرثون لهم ولا يظهرون لهم معاملة خاصة يتكلفونها تكلفا لو قد كان من هذا كله لعرف ذلك الصبي وأمثاله محنتهم في رفق ولاستقامت حياتهم بريئة من التعقيد كما تستقيم لكثير غيرهم من الناس .
والحمد لله على أن هذا الصبي لم يستسلم للحزن ولم تدفعه ظروفه الى اليأس وانما مضى في طريقه كما استطاع أن يمضي , محاولا الخير لنفسه وللناس ما أتيح له أن يحاول من الخير .
وما اكثر الذين قهروا هذه المحنة خيرا مما قهرها , وانتصروا عليها خيرا مما انتصر عليها وقدموا لأنفسهم وللناس أكثر وأنفع وأبقى مما قدم ولكن كل انسان ميسر لما خلق له , لا يبذل من الجهد الا ما تبلغه طاقته .
بيانات الكتاب
تأليف : طه حسين
الناشر : مركز الاهرام لطباعة والنشر
عدد الصفحات : 518 صفحة
الحجم : 7 ميجا بايت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق