«الحياة المسكونة» لملك جيل البيت جاك كيرواك يُنشر أخيراً
لا جويس ولا أودن ولا كافكا يملكون أي شيء يقولونه لأميركي حقيقي
إعداد وترجمة فوزي محيدلي
لا نغالي إذا قلنا، مع جاك ماك كلينتوك، الذي أجرى آخر مقابلة مع جاك كيرواك، نُشرت في 12 تشرين الأول عام 1969، وتوفي بعدها بتسعة أيام الروائي والشاعر عن 46 سنة، بأن كيرواك كان «ملك الهائمين الجوّالين، على الدرب المفتوحة». صحيح أن الشاعر ألين غينسبيرغ غدا يومها معلماً روحياً، يشق دربه من حرم جامعة إلى أخرى ومن تظاهرة إلى تظاهرة، لكن ملك جماعة «التينيك»، «ملكهم جميعاً»، كان ملك رواية «على الدرب» (أو «على الطريق») بنثرها العفوي. وإذا كان جون كليلان هولمز من جهته سمّى الجامعة «الجيل الضائع» فإن كيرواك، المتأثر بموسيقى الجاز، أسماها في الخمسينات «جيل البيت».
بعد 45 عاماً على وفاة كيرواك وُجِد أخيراً العمل الضائع، الذي من المفترض نشره هذه الأيام. العمل هو الرواية القصيرة «الحياة المسكونة»، التي اعتقد الرجل أنه نسيها في المقعد الخلفي لسيارة أجرة نيويوركية صفراء. الحقيقة هي أن كيرواك، الذي لم يكن لديه الصبر الكافي لتزويد كتابته بالنقاط والفواصل، ولا حتى البقاء في مكان واحد، نسي، على الأرجح، مخطوطة روايته هذه في خزانة الغرفة الجامعية لصديقه ألين غينسبرغ، الذي كان يدرس يومها في جامعة كولومبيا.
لعل فائدة ما نتجت عن ضياع المخطوطة. فهذا الذي كان يحمل دفتراً أو مفكرة للكتابة عليها في حلّه وترحاله، لم يستطع إقناع دور النشر بمخطوطة روايته الكبيرة «على الطريق»، حين أنجزها عام 1951، بسبب خوف الناشرين مما احتوته، من عدم سوية جنسية إلى الكثير من الممنوعات. وهنا لا بد من ذكر أن كيرواك هو أول من صاغ كلمة «بيت» مع أنه لاحقاً احتقر ما ألحق بها من معاني ودلالات.
قبل الدخول في عالم «الحياة المسكونة» لا بدى من التطرق إلى سبب استمرار ألق كيرواك حتى الألفية الثالثة، بعد 92 سنة على ولادته، فضلاً عن رحيله المبكر. يرى البعض ذلك في تأكيده على التململ أو الحراك، وتنقله الدائم. ويرى البعض الآخر أن السبب يعود لإضاءته على موضوعات غير عادية وغير مقبولة، ومن بينها حالات الوعي أو الشعور المتحوّلة. لكن الكل يتفق تقريباً على أن العامل الأكثر جذباً في كتابة كيرواك كان «صوته»، تلك الصفة المؤتمِنة على الأسرار الشخصية في نثره، والتي تولّد في القارئ إحساساً بالحميمية وحتى بالصداقة.
وكما يكتب جاك آتكينسون واضع كتاب «طريق الجنة: جادة جاك كيرواك المفقودة وبحثي عن أميركا» لم يكن كيرواك رجل اجوبة بل صاحب فورة بشرية من الأسئلة المروّسة»، ومن هنا فإن كتبه الفضولية تتحوّل إلى صديق مرافق للشباب والقرّاء القلقين. لكن كيف تشكّل صوته على الدرب؟ ما القوى التي «تآمرت» داخل كيرواك الشاب العمل الذي أنجزه كيرواك في يفاعته مثل «الحياة المسكونة» يمكنه إلقاء بعض الضوء على هذه المسألة.
قبل الولوج إلى حيثيات وحبكة هذا العمل لا بد من الإشارة إلى ولع جاك بالكتابة منذ الصغر. عرف الصبي جاك باكراً أنه أراد أن يصبح كاتباً وقصد كاهن في بلدته «لويل» لاستشارته بخصوص ميله هذا. كان الأب آرمان موريسيت في الخدمة ليلتها في كنيسة سان جان المعمدانية حين قدم له المراهق نفسه. قام الكاهن لاحقاً بنشر نسخته عن محادثتهما:
جاك: الكل يضحك ساخراً مني.
الأب: موريسيت: لماذا؟
جاك: لأني أريد أن أصبح كاتباً.
الأب: أنا لا أسخر منك.
جاك: ألا تسخر مني لذلك الخيار؟
الأب: لا، أعتقد أن الأمر بديع.
جاك: حسناً سأكون كاتباً. سأكتب العديد من الكتب.
الأب: ليمنحك الرب المزيد من الطاقة. الكتّاب بأشخاص مثلنا. لكن دعني أحذرك. ستعرف العديد من الخيبات.
جاك: لا يهمني.
الأب: مبروك لك. سأعمل على مساعدتك، إذا استطعت. يمكن للكتّاب أن يكونوا مهمين جداً. يمكنهم التأثير على أعداد لا تحصى من الناس.
(أخبر الأب موريسيت جاك أن عليه الذهاب إلى نيويورك إذا أراد أن يصبح حقاً كاتباً، ولأن جاك فقير اقترح عليه طلب منحة دراسية عند الانتساب إلى الجامعة. وتحقق له المنحة بانتساب إلى فريق كرة القدم الأميركية في الجامعة).
ما هي «الحياة المسكونة»
تتمحور أحاديث الشبان في هذا العمل حول بعض المسائل التي شغلت بال المثقفين الأميركيين في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين: نهاية فترة الكساد الكبير، دخول الولايات المتحدة الحرب الكونية الثانية، واستغلال الطبقات العاملة وإمكانية وجود هروب رومانسي من تلك المعضلات.
يطلق تود تيتشين، الذي حرر «الحياة المسكونة»، على ذاك العمل صفة «عمل سردي مرضٍ مفتوح النهاية». يرى البعض أن إطلاق تسمية رواية على هذا العمل ينطوي على كرم غير قليل، لأن القسم الأساسي من النص يتوزع على خمسة فصول من سبعين صفحة وهو أقرب إلى سلسلة من رسم تخطيطي، أو «إسكتشات» لشخصيات متميزة بقدر من التجريب الروائي.
كتب كيرواك عمله هذا في عمر الثانية والعشرين، في سنة 1944 المضطربة من حياته، سجن لتورط غير مباشر في عملية قتل أقدم عليها صديق له بداعي التحرش الجنسي به، وكذلك في السنة ذاتها التي تزوّج فيها زوجته الأولى إدي باركر لتدفع عنه كفالة إطلاق. كتب كيرواك في مفكرته يومها «يجب أن أكون قد حظيت الآن بمادة لكتاب بديع... حب، جريمة، مناقشات شيطانية.. «لكن أياً من هذه المواضيع الواعدة لم تجد دربها كما يجب إلى «الحياة المسكونة» بل جل ما ظهر هو تمرين على استكشاف أشبه بالسيرة الذي سيشكل قاعدة عمل كيرواك الأول الرئيسي «البلدة والمدينة».
تتمحور فصول العمل المكتوبة حول بيتر مارتن الذي يعود إلى بلدته غالواي (تمثل بلدة كيرواك الحقيقية لويل) بعد سنته الأولى في جامعة بوسطن. غدا الشاب نجماً رياضياً، لكنه غير راض عن التصنيفات التقليدية للنجاح الملقاة عليه من قِبَل والده، جو مارتن، وعمّته ماري. هو يتشوّق ليكون كاتباً كبيراً، فيتخلص من الاهتمامات المحلية للحياة في غالواي بحثاً عن تحفيز فكري أنضج وأسلم.
يتشارك بيتر سأمه مع غارابيد توريان وديك شفيلد، وهما يمثلان صديقين له من حياته الحقيقية وطفولته، سابستيان سامباس وبيلي تشاندلر اللذان قضيا في الحرب العالمية الثانية قبل وقت قليل من كتابته «الحياة المسكونة». يتحادث الثلاثة بخصوص طموحاتهم المغامراتية، حالمين أنهم ربما سينضمون ذات يوم إلى بحارة السفن التجارية أو الجيش لرؤية العالم. لكنهم الآن عالقون في بلدتهم غالواي مكتفين بحياة غافلة ووجود بلا أحداث. يتعارض عالم الشباب المتخيل هذا مع عالم الجيل الأكبر ممثلاً بوالد بيتر، جو مارتن، الشاكي دائماً من تدهور القيم الأميركية. ويبقى عالما والده وهو متنازعين حتى نهاية العمل. واقعاً، لا يحصل الكثير من الأحداث في هذه الحبكة. ويرى البعض أن ذلك قد يكون بسبب عدم اكتمال هذا العمل السردي وضياعه، لأن كيرواك أراد مدّه إلى ثلاثة أجزاء. ويتساءل البعض لماذا الاهتمام الآن بهذه «الرواية» مع أن شخصيات ومواضيع مشابهة جرى توسيعها في رواية كيرواك التالية «البلدة والمدينة». على هذا التساؤل يرد الباحث في أعمال كيرواك تودتيتشين: «يقدم هذا العمل، الحياة المسكونة، لمحة كاشفة على الحياة المبدعة والقدرات التخييلية لكيرواك في لحظة دقيقة من نموه الفني». لكن هذا لا يعدم من ضم العمل شذرات من أسطر تنطوي على «أسلوب كيرواك النثري العفوي». مهما يكن يقول تروي بوزيروكايدس: «يشكل هذا العمل مثالاً على كمية العمل المترنّح التي يستلزمها كاتب ليعثر على صوته، هو شهادة على سنوات كيرواك التي جاهد فيها الرجل قبل أن يبتكر أسلوباً خاصاً به»، مدافعاً رغم حداثته عن «الشعور الأميركي» تجاهه رأيه «لا جويس، ولا أودن، ولا كافكا يملكون أي شيء ليقولونه لأميركي حقيقي».
مقتطف من الرواية مترجم للعربية هنا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق