نشرت الترجمة العربية لهذه الرواية في تاريخ أقصاه1938, وكانت الترجمة من عمل فخري أبو السعود الشاعر الشاب الذي مات منتحرا في تلك السنة. وفخري أبو السعود لم يكن مجهولا بالنسبة لطه حسين, علي الأقل لأن كليهما كانا من أوائل المساهمين في مجلة' الرسالة' التي أصدرها أحمد حسن الزيات بداية من.1933 ومن المحتمل تماما أن يكون مؤلف' دعاء الكروان' قد اطلع علي' تس' قبل أو أثناء تأليف روايته التي صدرت في1941, ومن غير الممكن الآن دعم هذا الاحتمال بقرائن أخري ترتفع به إلي مستوي اليقين. ولكن مما يقويه وجود أوجه شبه يعتد بها بين الروايتين, فهناك نواة أساسية مشتركة وهي قصة الفتاة الريفية الفقيرة التي تشاء ظروفها البائسة أن توقعها في براثن شاب عابث يغويها في مجتمع شديد المحافظة. وهناك انعدام التكافؤ الاجتماعي بين الطرفين. فالشاب العابث في رواية' تس' سليل أسرة غنية; وهو في' دعاء الكروان' مهندس زراعي في حين أن الفتاة التي غرر بها, أي' هنادي', تعمل عنده خادما. وفقدان البكارة يستدعي إراقة الدماء في الحالتين. فتس تنتقم ممن اعتدي عليها بقتله لكي تعاقب في النهاية بالإعدام شنقا. أما هنادي فيقتلها خالها, ويقع عبء الانتقام علي عاتق أختها آمنة.
ومن أوجه الشبه المهمة ذلك الجو المخيم علي الأحداث التي لا تقع علي مستوي عادي محدود, بل تشارك فيها قوي أخري غريبة. وهذا واضح في حالة هاردي. فللقدر دور بارز في رواياته بصفة عامة, وهو يظهر في' تس' منذ البداية عندما يلتقي والد الفتاة مصادفة بمن يخبره بأنه سليل أسرة أرستقراطية تسكن في الناحية, هي عائلة' دربرفيل'; وعندئذ يرسل الأب ابنته لتعمل عند' أقاربها' الأغنياء فتقع في براثن' قريبها'. ولا يكتفي هاردي بظهور نذير الشؤم وتسلسل الأحداث دون هوادة, بل يخبر القارئ أن' الآلهة' كانت تراقب ما يحدث لتس بما في ذلك إعدامها شنقا, وأصبحت تشعر بالراحة لأن' العدالة' تحققت( انظر تصدير د. ماهر شفيق فريد لطبعة الرواية في2009). وهو ما يذكر بالمآسي الإغريقية وبآلهة الأوليمب.
والمأساة الإغريقية لم تكن بعيدة عن ذهن مؤلف' دعاء الكروان'. فهناك ذلك الطائر الغريب الكروان الذي لا يكف عن الحضور والصياح, ويبدو أن له بعدا رمزيا. فهل يرمز للقدر؟ هناك ما يوحي بأنه يمثل قوة عليا إن لم تكن هي القدر, فهي شديدة الشبه به. فالكروان كما يقول المؤلف' مكلف' بإيقاظ آمنة وتنبيهها إلي ما وقع علي أختها من ظلم وضرورة القصاص من الجاني. فإذا قلنا إن الكروان يمثل صوت العدالة العليا, أصبحنا غير بعيدين عن فكرة القدر.
وفي رأيي أن الدكتور محمد مندور أخطأ عندما رأي أن موضوع الكروان يمثل وحدة قائمة بذاتها ويمكن حذفها دون اضطراب السياق( انظر مقالة مندور عن' دعاء الكروان' في كتاب' في الميزان الجديد'). وحقيقة الأمر أنه التزم بتعريف ضيق لوحدة العمل الفني لم يعبأ به الإغريق عندما أضافوا الكورس إلي أحداث المسرحية; ولم يعبأ به شكسبير عندما استهل مسرحية' هاملت' بشبح الملك الأب الذي يظهر لابنه الأمير ويخبره بأنه مات مقتولا ويطالبه بأخذ الثأر.
ولكن توجد في مقابل أوجه الشبه فوارق لا يستهان بها. ومنها فارق أساسي, وهو أن طه حسين يختتم روايته بطريقة تخصه وحده وتتعارض مع طريقة هاردي في اختتام روايته. فآمنة لا تثأر من الجاني كما فعلت' تس'. بل انها أي آمنة لا تواجهه إلا بعد أن قطعت شوطا طويلا من التعلم يؤهلها لأن تكون ندا له, وبعد أن يكون هو قد تحول فأصبح يقدر الصداقة وتعرف نفسه الحب. وعندئذ تقع المفاجأة الكبري التي تثير إعجاب النقاد, وهي انعقاد الصلح والوفاق بين الخصمين بفضل الحب المتبادل. وفي هذه المرحلة التي يتحقق فيها الصفح الجميل يكتب طه حسين فيما رأي مندور أجمل الصفحات في' دعاء الكروان'.
ولنعد قبل أن نتبين أسباب هذا الجمال إلي موضوع التأثير والتأثر. إن المقارنة بين الروايتين لا تدل بطريقة قاطعة علي أن طه حسين تأثر بهاردي. فأوجه الشبه التي ترجح احتمال هذا التأثر تقابلها أوجه اختلاف تقلل من شأنه. وفي ظل هذا التعادل يمكن أن يقال إن التشابه بين العملين كان حالة من توارد الخواطر نتيجة لتعرض الكاتبين لمؤثرات بيئية وثقافية متشابهة. فكيف نفسر جمال الصفحات الأخيرة من' دعاء الكروان'؟ علاقة الصداقة والحب التي قامت بين آمنة والرجل المعتدي بعيدة الاحتمال. إلا أن طه أراد للحب أن ينتصر, ويبدو أنه كسب الرهان. يشهد علي ذلك أن مندور وهو الواقعي وصف تلك الصفحات بأنها' من أجمل ما كتب كتابنا'.
أعتقد أن هناك عدة أسباب لذلك الجمال, وهي أسباب تدل علي أصالة طه حسين. أولا, أن النهاية السعيدة تأتي علي غير المتوقع, وذلك أمر حسن من الناحية الفنية الصرف. وثانيا, أن هذه النهاية المدهشة مقنعة لانها تكشف كما يقول مندور عن' حقائق النفوس' إذ ترينا أن نفس الإنسان أكثر تعقيدا مما نتوقع. وهي بهذا المعني أقرب إلي الواقع والصدق من مفهوم الواقع الجامد. وثالثا وأخيرا, أن تلك النهاية تريح القارئ وترضيه لانها تذكر بأن العدالة العليا لا تتحقق بالضرورة عن طريق القصاص, بل قد تتحقق عن طريق الصفح الجميل, وبأن القدر ليس قوة غاشمة, فقد يخفف من صرامته عنصر الرحمة واللطف في الكون.
ونحن نفضل هذا الحل علي الثأر, ونرفض أن تكون فتاة مسكينة مثل' هنادي' أو' تس' بطلا في مأساة بالمعني الدقيق. فالبطل التراجيدي عند اليونان شخص ممتاز يتصارع مع القدر فينهزم لنقص أو نقطة ضعف فيه. والقصة عندما تتخذ هذه الأبعاد الفائقة ترمز لمصير الإنسان في الكون, وترضينا كما يرضينا سقوط المقاتل المغوار لأنه جاء مشرفا.
ورواية هاردي ليس فيها صراع ولا بطولة ولا سقوط مشرف, ولا تثير إلا مشاعر السخط والضيق لأن' تس' تسحق سحقا كمن داسه قطار أعمي. وقد أحسن طه حسين صنعا عندما اتبع نموذجا فنيا آخر غير نموذج المأساة, نموذج المصالحة والسلوي. اقترب من المأساة في رواية' أديب', الرجل المتفوق الذي ارتكب أثناء إقامته في فرنسا خطأ قضي عليه دون رحمة. أما المصالحة والسلوي وبصيص النور, فنجدها في' دعاء الكروان' وفي' الأيام'. فبطل' الأيام' الضرير يشعر أن لعنة حلت به كما حلت بأوديب, ولكنه يتصالح مع القدر بفضل الحب الذي منحته أياه من أصبحت هي العينين اللتين بهما يبصر. والنموذج المستلهم هنا ليس يونانيا, بل هو قصة' أيوب' الصبور كما عرفها مؤلف' الأيام' في التراث الشعبي وقرأها في سفر أيوب في العهد القديم
المصدر الاهرام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق