الجمعة، 9 يناير 2015

تقديس الكتب /محمد أيت لعميم


إن الحديث عن الكتاب، حديث قديم جديد، وفعل الكتابة فعل أزلي وأبدي. وإذا ما توسعنا في مفهوم الكتابة نرى أن أول كاتب هو الإله. فكثيرة هي الإحالات في الكتب السماوية إلى فعل الكتابة الإلهية.
لنسجل في البداية أن هناك كتبا سماوي وأخرى أرضية. ورد في الحديث النبوي الشريف، أن ثلاثة أشياء خلقها الله بيده، وهي جنة عدن وآدم وألواح موسى. إن الدلالة التي تستلزمها هذه المباشرة الإلهية هي دلالة الاعتناء.
إن فعل الكتابة الإلهية هو الذي أضفى الطابع القدسي على الكتاب والمكتوب. من هذا المدخل سندلف إلى عالم الكتابة الأرضية باعتبارها محاكاة لفعل إلهي مقدس.
لقد أحس الإنسان منذ القديم بأهمية المكتوب، هذا الإحساس جعله يبحث عن صيغ للحفاظ عليه أمام دواعي الاندثار والنسيان؛ فابتكر الحرف، والنقش على الحجر، والكتابة فوق الألواح الطينية، وعلى الرق ولحاء الشجر والعظام والبردي إلى أن اكتشف الورق والشاشة الإلكترونية.
إن هذا البحث الدؤوب لصيانة المعرفة كتابة دليل على أن الإنسان وعى مبكرا أن ذاكرته منذورة للنسيان، وأن الكتابة هي مضاعفه في الزمن. وأن الكتاب هو امتداد ذاكرته. ومجذر كينونته. وإن كان هناك من استثناء لهذه القاعدة فهو رأي سقراط، الذي انتصر للشفوية تنتشر بانتشار حامليها؛ وإن يكن، فالناس مع الكتابة نوعان: صنف يؤلف الكتب. وصنف آخر يؤلف الرجال. لقد سئل ذات مرة العارف بالله أبو الحسن الشاذلي قيل له: لم لا تكتب؟ فأجاب تلامذتي كتبي.
لا ريب أن الكتاب قطع أشواطا حتى استقر على ما هو عليه الآن، ولا يهمنا أن نعرض هنا لتاريخ الكتاب، فقد كفتنا هذه المهمة مجموعة من المؤلفات أرخت لمسار الكتاب، مثل الدراسة الشاملة لألكسندر ستبتشفتش تحت عنوان "تاريخ الكتاب". وأيضا كتاب "ألبير لبار" الذي عرض لأصول الكتاب، وأرخ له فوصفه كما كان عند اليونان، والرومان، وفي العصور الوسطى حتى ظهور الطباعة، لقد قام بجرد للكتاب من المخطوط الوسيطي إلى الكتاب المعاصر وفي عصر الأنوار متوقفا عند الكتاب الحديث.
سنكتفي هنا، بالحديث عن الكتاب كمادة وكجسد تلمسه اليد وتتمعن فيه العين، وعن قدرته على الصمود والبقاء، وعن تحوله من البعد الدنيوي إلى المستوى التقديسي، وعن العوامل الثاوية وراء الالتفاف حول كتب بعينها وجعلها كتاب تتعالى على الزمن والتاريخ. لتصير بذلك في عداد المقدس، حيث تلعب أدوارا تغييرية لدى الأمم والشعوب، سواء على المستوى الاجتماعي أو العقائدي أو الإبداعي.
قبل معالجة موضوعة الكتاب وتحولاته، لا ضير أن نتحدث عن تحديد مفهوم الكتاب. فما هو الكتاب؟
نجد المعاجم العربية القديمة تشير في تعريفها للكتابة والكتاب إلى معنى الجمع والضم. ورد في معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس ما يلي:
كتب يدل على جمع شيء إلى شيء، ومن ذلك الكتاب والكتابة؛ ويقال للقدر: الكتاب والكاتب عند العرب هو العالم.
وورد في معجم "أساس البلاغة" للزمخشري ما يلي:
كتب: نسخ، وتقول اكتبني هذه القصيدة: أملاها علي، ومن المجاز تقول كتب عليه كذا، أي قضي عليه. وقد سأله بعض المغاربة في طواف الحج عن القدر، فأجابه: هو في السماء مكتوب وفي الأرض مكسوب. وتقول أحصيت الشيء وكتبته إذا حصرته.
أما إذا سألنا رجلا في الشارع عن معنى الكتاب، فسيكون جوابه من غير شك إحالة إلى الطباعة، وسيكون قريبا من التحديدات الإمبريقية التي قد نجدها في المعاجم الغربية، فمعجم Littré (1882) يحدد الكتاب كالتالي: "هو رصف مجموعة من الأوراق تكون سندا لمخطوط أو مطبوع" وفي كتاب "فن الكتاب" لمالو غينو (1931) يعرفه بقوله هو "جمع لدفاتر مطبوعة، مخيطة منضوية تحت دفتي كتاب"، وفي الموسوعة الكبيرة للاروس (1962) ورد التعريف كالتالي "هو مجموع أوراق مطبوعة ومضمومة في مجلد".
إن هذه التعريفات جد ضيقة، فالكتاب عرف أشكالا أخرى لا يشكل فيها المطبوع واكتشاف غوتنبرغ سوى تحول عبر تاريخ الكتاب؛ فلكي نحدد الكتاب ينبغي أن نستدعي ثلاثة أشياء أساسية هي: مسند الكتابة ونشر النص والحفاظ عليه ثم سهولة الاستعمال. فالكتاب أولا هو سند الكتابة؛ مثل ألواح الطين السومرية والبردي المصري ولفائف روما القديمة والمخطوطات في العصر الوسيط. والطباعة الحديثة وكذلك الأفلام الصغيرة يمكن اعتبارها كتبا بالرغم من الاختلاف الكبير في المسند والشكل، وفي هذا السياق التطوري يمكن إدراج ما اصطلح عليه بالكتاب الإلكتروني فهو فقط لحظة من لحظات تطور الكتاب.
إن فكرة الكتاب مرتبطة ارتباطا وثيقا بفكرة نشره، أي إرادة نشر النص والرغبة في الحفاظ عليه، وأخيرا فالكتاب ينبغي أن يكون سهل الاستعمال، في حين أنه قديما أغلب مساند الكتابة لم تكن كذلك. فنصوص كثيرة نقشت على الحجر، والحالة هذه لا يخطر على بال أحد أن يعتبر مثلا النقوش الكتابية في ساحة لا كونكورد كتابا.
من خلال هذه المظاهر الثلاثة صاغ معجم الموسوعة الكبيرة التعريف التالي (1895): الكتاب: "كتابة نص منذور للانتشار في شكل قابل لأن يحمل". تبقى هذه التعريفات تلامس فقط الجانب الخارجي للكتاب، ويبقى الكتاب قبل كل شيء نصا وهو على وجوده. لقد ظل النص ولمدة طويلة هو الأساس، إن لم نقل الوسيلة الوحيدة لنشر وحفظ المعرفة، وأيضا ساهم بشكل عميق في تاريخ الثقافة والحضارة.
لقد ولد هذا الارتباط الوثيق بعالم الكتابة والكتاب –عبر التاريخ- مظاهر عديدة ساهمت في تطوير الوعي الإدراكي الإنساني منذ القديم. إذ يمكننا أن نؤرخ للماضي من خلال علاقته بالكتاب؛ فقد كان رقي الأمم يقاس بطبيعة هذه العلاقة. لقد كان السومريون هم الأوائل الذين خصوا "الكتاب بالدور الذي ارتبط به حتى هذه الأيام، أي أن يكون الحافظ للإنجازات الإنسانية الثقافية والتكنولوجية، وإن يخدم أيضا الأهداف الرسمية والتعليمية وغير ذلك من الأهداف اليومية"
[1]، ويعد الملك الآشوري المثقف آشور بانيبال من الذين اهتموا بالكتاب أيما اهتمام، حيث سعى إلى تأسيس أهم مكتبة في المشرق الأوسط، وبالرغم مما ترويه كتب التاريخ عن جبروته وشدته وحملاته الدموية ضد جيرانه فقد كان في الوقت ذاته عالما كبيرا ومحبا للكتب، وفي الواقع "لقد كان هذا الملك هو أول من توصل إلى فكرة أن يجمع في مكان واحد كل ما أبدعته الأجيال السابقة في الشرق الأوسط في حقل الأدب والمعرفة، وهي المبادرة التي لا مثيل لها في التاريخ"[2]. لتأتي فيما بعد أي في العصر الهليني مكتبة الإسكندرية المحروقة، أكبر المكتبات التي شهدها التاريخ، فالحضارة المصرية القديمة حظيت فيها الكلمة المكتوبة بمكانة خاصة. "فقد كانت معرفة القراءة والكتابة تعني لكل مصري تأمين مركز ممتاز في المجتمع، وفي هذه المرحلة نصح أحد العجزة ابنه بحكمة حين وجهه إلى المدرسة بأن يحب الكتابة كأمه لأنه لا يوجد ما هو اثمن من الكتاب"[3].
إن كل أمة ابتدعت طريقة خاصة بها للتعامل مع الكتاب، من حيث مواد الكتابة وطرق نشرها، وقد تشكلت عبر هذا التاريخ الممتد تصورات حول الكتابة والكتاب، هذه التصورات ستمنح لبعض الكتب قدسية أو شبه قدسية. لا مراء في أن الكتب السماوية تكتسب قدسيتها من قائلها. فكيف السبيل إلى تحديد قدسية هذه الكتب؟ يشير شبينغلر في فصل له عن الثقافة السحرية في كتابه "أفول وانحدار الغرب" إلى أن "النموذج الأصلي للكتاب الخارق والسحري هو القرآن، فبالنسبة للعلماء والفقهاء، فإن القرآن الكريم ليس كتابا كالكتب الأخرى. إنه كتاب أقدم من اللغة العربية، فلا يمكن للمرء أن يدرسه تاريخيا أو فلسفيا لأنه أقدم من العرب، أقدم من اللغة التي وجد فيها وأقدم من الكون نفسه. كما أن العلماء لا يعترفون بأن القرآن فعل لله، إنه شيء أكثر حميمية وغموضا. فبالنسبة للمسلمين السنيين فالقرآن صفة من صفات الله، مثل غضبه وشفقته أو عدالته. والقرآن نفسه يتحدث عن كتاب غامض هوام الكتاب، وهو النموذج النوراني الأصلي للقرآن. إنه في السماء تسبح له الملائكة"[4].
يبرز بورخيس في مقال له حول القبالا، تمييزا أساسيا بين الكتاب المقدس والكتاب الكلاسيكي، فيذهب إلى أن الكتاب المقدس يكون مقدسا في حروفه وكلماته ولا شيء يمكن أن يكون فيه عرضيا في حين أنه في الكتابة الإنسانية ثمة دائما شيء عرضي، فكل شيء في الكتب المقدسة يجب أن يكون قد حدد بشكل مسبق بما في ذلك عدد الحروف في كل آية يقول: "لقد اخترع القبلانيون مرادفات للحروف، وتعاملوا مع الكتاب المقدس وكأنه كتابة مشفرة، وابتدعوا قواعد مختلفة لفك طلاسمه. إذ يمكن للمرء أن يتناول على سبيل المثال، كل حرف على حدة من كل كلمة ويقرأه كحرف أول من كلمة أخرى، كاشفا بذلك عن نص مخبوء"[5]، وشبيه ما فعله القبالا مع التوراة ما قام به الباطنيون وأصحاب التفسير الإشاري من المتصوفة مع القرآن.
إن هذه الهندسة الخارقة للكتب الإلهية، والتي أعجزت المؤلفين، ومنحت للقراء عبر العصور مجالا خصبا للتأويل وتعدد القراءات، هي المحدد لقدسية الكتب السماوية، ولكننا سنجد عند أغلب الأمم فيما بعد كتبا منحت قدسية خاصة ككتاب الموتى عند المصريين، فكتب الموتى من بين الكتب التي تنسخ بكميات وافرة وتطرح للبيع، وقد كانت عبارة عن مجموعات تتألف من نصوص مختلفة، وينتظر منها أن تأمن للمدفون الراحة في الحياة البرزخية، وإن أجمل النماذج من هذه الكتب هي تلك التي زينت برسوم ملونة تمثل مشاهد من حياة القبر للإنسان المدفون. إنها من أقدم الكتب المصورة في العالم.
ونبين بهذه الكتب ما روي عن مجموعة من الكتاب في القديم أوصوا أن تدفن معهم كتبهم، فابن ناقيا البغدادي الشاعر، أمر أن يدفن معه نص شعري يعلن فيه توبته، وكذا الأمر بالنسبة لأبي نواس الذي وجد تحت وسادته وهو على فراش الموت قصيدة غفرانية، ورسالة الغفران التي كتبها المعري تحمل في عنوانها الغاية والهدف، وكأن مصير الكتابة في نهايته يرتبط بالمصير النهائي للإنسان، إنها جواز مرور للعالم الآخر.
لقد أضحى الكتاب في العصر الوسيط مادة للتقديس، فمع الذين فقدوا صلتهم بالتعليم لم يعد الكتاب يعني الكثير كمصدر للمعلومات بل أصبح له مغزى آخر، مغزى التقديس والسحر، إذ كانت تنسب للكتاب صفات خارقة، حيث كان لهذه الكتب القدرة على الشفاء من الأمراض الخطيرة، وجلب الحظ. وفي ثقافتنا العربية الإسلامية حظيت بعض النصوص والكتب بالتقدير والإجلال، فبردة البوصيري، وعينية الإمام السهيلي ودلائل الخيرات للإمام الجزولي مؤلفات نالت شهرة واسعة وعناية بالغة حتى أنها أثرت في طوائف دينية معينة. وأبعد من هذا ما ذكره عبد الغني الملاح في كتابه "المتنبي يسترد أباه بعد ألف عام أن ديوان المتنبي تقدسه بعض الطوائف الشيعية النصيرية، وتقرأه وتحفظه عن ظهر قلب وتنشده في حفلاتها الدينية وشعائرها وطقوسها.
وفي أوروبا العصر الوسيط، انتشرت ثقافة الأديرة، فكان الرهبان ينسخونها والقانون يزينون هذه الكتب بالرسوم. وكان من الطبيعي أن تكون لكل دير مكتبه كما هو الشأن عندنا في الزوايا، حتى انتهى الأمر إلى انتشار القول "الدير دون مكتبة كالمائدة دون طعام". ولم يكن عمل الرهبان مقصورا على الكتب الدينية كالأناجيل وسير القدسين بل عمدوا إلى نسخ المؤلفات العلمية والأدبية، ولقد وصف أمبرتو إيكو في رائعته "اسم الوردة مشاهد الثقافة في الدير، حيث تضمنت روايته عملية بحث عن المخطوط المزعوم لكتاب الكوميديا لأرسطو حيث إن بطل الرواية اعتقد أنه انتهى في أيدي هؤلاء الرهبان.
لقد ارتبط الكتاب في مختلف مراحله بالأماكن القدسية، وحتى الأمم التي نسبت لكتاب ظلت تحس بتميز عن باقي الأمم التي لم تعرف كتابا، فاليهود يفتخرون لأنهم "أهل كتاب" والمسلمون يعتزون بأنهم آخر الأمم التي تمتلك كتابا مقدسا.
نصل إلى نتيجة وهي أن تطور الإنسانية كان من ورائه الكتاب. لقد ظل الكتاب وسيظل يفتن البشرية، ففي كثير من النصوص الإبداعية العالمية لم يستطع أصحابها أن يتصورا العالم الآخر بلا كتاب ولا مكتبة، ففي قصة الكاتب الكوبي "خوصي ليتا ماليما" (الشيء) يتصور البطل الفردوس كمكتبة. وهذه الموضوعة متواترة بشدة وأثيرة لدى الكاتب الأرجنتيني الضرير بورخيس، والذي خص للكتاب والمكتبة مجموعة من الأعمال، "ككتاب الرمل" و"مكتبة بابل" معتبرا أن الكتاب والمكتبة يمثلان العالم اللانهائي وأن الكتاب والمكتبة عبارة عن متاهة يضل فيها كل من دخلها. وتعد رواية الكاتب الإيطالي إيطالو كالفينو Par une nuit d'hiver un voyageur أروع عمل اتخذ الكتاب موضوعا له.
إن هذه الرؤى تقفز بالكتاب نحو عوالم قدسية، خصوصا وأن الكتاب يحقق للإنسان الرغبة في تجاوز الموت والتعالي على الزمن، فأن تكتب ما سوف يقرأ في المستقبل البعيد، هذا يعني حضورك في الغياب، مخترقا زمنيتك الصغرى على الزمنية الكبرى. من هنا سحر الكتاب وفتنته.
إن ولع الانتساب إلى الكتاب، جعل الأمم تختار كتابا يمثلها، ومن المفارقات العجيبة –كما يرى بورخيس- أن هذه الكتب التمثيلية لا تشبه مختاريها. فالإنجليز مثلا اختاروا شكسبير وهو لا يشبههم، فالإنجليز على العموم مقلون في الحديث، في حين أن شكسبير يندفع نهر عظيم بمبالغاته واستعاراته، والألمان ذوو النزعة العنصرية اخاروا جوته الذي يختلف عنهم بالمرة لما يتسم به من تسامح وانفتاح على الشعوب. وكذلك الشأن بالنسبة لإسبانيا العنصرية التي اختارت سرفاتس الرجل البشوش والمتسامح، يا لها من مفارقة، وكأن كل أمة تبحث عن كتاب هو بمثابة ترياق، عن كتاب يكتب ضدها.
وأخيرا نقول إن الإنسان في رحلته يجري بين كتابين، كتاب سابق وآخر لاحق، ما كتب في الأزلية وما سيكتب في الأبدية، وإن وضعا كهذا لن يساهم سوى في تعميق العلاقة بالكتابة في أي شكل تشكل وفي أي صورة ظهر. واعتقد أن ما أوصلتنا له التكنولوجية الحديثة التي بشرتنا بالكتاب الإلكتروني لن يزيد سوى على جعل الكتاب الذي نعرفه الآن يطور ذاته من حيث الجودة والإخراج، الأمر شبيه بالتجاوزات التقنية التي عرفناها في العصر الحديث فبعد ظهور الفيديو مثلا قيل إن السينما ستختفي، لكن ما حصل خلاف ذلك، ازدهرت السينما وطورت منتوجاتها، فالتكنولوجيا لا ينسخ بعضها بعضا. وبخصوص الكتاب فتوته يكتسبها من ماضيه، ألسنا اليوم بصدد خدمة المنقوشات على الحجر ندرسها ونخصص لها ميادين للبحث ونرصد لها أموالا طائلة؛ أليس المخطوط اليوم يغري بالتملك لقيمته التاريخية والقيمة المادية التي يدرها.
كلما تجاوز الكتاب مرحلة من مراحله إلا وازدادت أهمية بالنسبة للأجيال القادمة. ومن هذا المنطلق لا نخشى شيئا على الكتاب. إما أن يقرأ أو لا يقرأ فتلك قصة أخرى.
[1] - تاريخ الكتاب، ألكسندر ستبتشفتين، ص16.
[2] - نفسه، ص25.
[3] - نفسه، ص35.
[4] - بورخيص، سبع ليال، ص127.
[5] - نفسه، ص130.



الحقوق الفكرية
http://www.aljabriabed.net/n58_02laamime.htm


[ - ]. : http://www.awassim.ma

لم يعد أحد يحتفي بالقصة القصيرة. قلة باتت تهتم بالسرد أصلا. هل يحتفي أحد بالكتاب نفسه؟
في حقب تمتد من الستينيات وحتى التسعينيات، كانت القصة القصيرة تخلق "الأضواء" و"النجومية". كان كتاب القصة القصيرة نجوماً بالفعل.
هذا الجنس الأدبي هو الذي خلق هالة لكتاب مثل عبدالجبار السحيمي، وإبراهيم بوعلو، وإدريس الخوري، ومحمد شكري، ومحمد زفزاف، ومبارك الدريبي، ومحمد الهرادي. كان الروائيون يضعون جانباً أعمالهم الروائية ليكتبون "القصة القصيرة"، وقتها كانت علامة التميز والتفرد والانتشار.
الآن لا شيء سوى "الكساد".
من يكتب قصة قصيرة، يكتب في أغلب الوقت لنفسه كما يقول المهتمون.
لا أحد يبحث عن "مجموعة قصصية" على أرفف الكتب في المكتبات. إذ الكتاب نفسه يعاني.
ما بين واحد إلى اثنين في المائة فقط في المغرب يقرؤون، كما أشار التقرير الصادم الذي نشرته المندوبية السامية للتخطيط، كم يا ترى نصيب القصة القصيرة من هذه النسبة المخجلة؟ القصاصون هم ضمير المجتمع. كيف أصبح المجتمع بدون ضمير؟ سؤال موجع، لكن في السؤال نفسه تكمن الإجابة. في هذا الملف نحاول أن نجد إجابة عن سبب "اندثار" القصة القصيرة.

< هل يمكن أن تسمي بعض كتاب القصة في المغرب يشدون الانتباه؟ ‬
> هناك العديد من الأسماء الجديرة بالاحترام منهم من قضى نحبه وترك بصماته واضحة على المنجز القصصى بالمغرب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التطرق لتاريخ القصة المغربية وازدهارها دون ذكر أسماء ممن رحلوا إلى دار البقاء من الرواد محمد زفزاف، محمد شكري، مبارك الدريبي، محمد بيدي، عبد الجبار السحيمي، ومنهم ما يزال يواظب بشكل جميل وفعال على إثراء هذا المشهد الأدبي الرائع ومنهم على الخصوص عبد الكريم غلاب، أحمد بوزفور، محمد برادة، محمد أنقار، أبو يوسف طه. دون أن ننسى طبعا أسماء الجيل الجديد من الغبن أن نذكر بعضهم ونترك جلهم.
< القارئ يتجه نحو الرواية أكثر من المجموعات القصصية، أو الدواوين الشعرية، كيف تفسر هذه الظاهرة؟
> منطقيا قد تكون القصة القصيرة محطة عبور نحو الكتابة الروائية، فأغلب الروائيين بدأوا مشوارهم كقصاصين، باعتبار القصة القصيرة رافدا من روافد الرواية، لكن لا نستطيع الجزم برأي في غياب إحصائيات دقيقة عن الموضوع، في بلد يصنف كإحدى الدول الأضعف تداولا ومقروئية للكتاب في العالم، واندثار المكتبات، وتحويلها لمتاجر ومقاهي ومطاعم وبازارات، والقارئ الحالي قليل الصبر على متابعة الكتاب والرواية، ويلجأ في الغالب إلى الأخبار المختصرة والمواد القصيرة والنصوص المختزلة، خاصة في ظل اكتساح تقنيات الاتصال الحديثة، ولا أدل على ذلك من تفشي ظاهرة ما يسمى بالقصة القصيرة جدا بين عموم المتأدبين، والتي كان الانترنيت أحد الأسباب وراء انتشارها، مع ضرورة الإقرار بتفاوت القيمة الفنية لهذا الصنف القصصي الذي أصبح مغريا لسهولته وفراغه من السمات الجمالية والفنية، حيث امتدت نية التخريب لدى جيل هذه المرحلة الذي استهوته المغامرة.
< هل تعتقد أن للملتقيات الأدبية دوراً في تطوير القصة أم أنها مجرد مناسبات للعلاقات العامة والاجتماعية؟
> مجمل اللقاءات الأدبية ظاهرة صحية، وتقوم بما تعجز عنه أو تتقاعس عنه الوزارة الوصية ودوائرها التابعة لها بكل عدتها وعتادها وميزانياتها وأطقمها البشرية واللوجيستيكية، وقد لعبت هذه الملتقيات الثقافية دورا أساسيا في تطوير وإثراء المشهد الأدبي بتشجيعها للمبدعين، وإقامة المسابقات الثقافية، وطبع المؤلفات، وإنجاز دراسات أكاديمية حول القصة، ومواكبة ما ينشر من المجموعات القصصية بالنقد والتحليل، هذا دون أن ننسى دورها في ربط العلاقات الوطيدة بين الأدباء ومد جسور التعارف بين مختلف الحساسيات.
< إلى أي مدى نجح الناقد المغربي في ترقية التجربة القصصية، وما مدى تأثيره فيها؟
> الناقد ليس دوما كاتبا فاشلا كما يدعي الأدباء، النقد كتابة ثانية للنصوص، وبدونه لا تستقيم، والنصوص الإبداعية منبع للتأويلات والقراءات، لذا على الكاتب أن يموت حتى لا يفسد على القارئ لذة النص، في زمن مضى يرجع إلى عقد السبعينات ظهرت في المغرب موجة من النقد الجاد، الشيء الذي أهله ليكون مصدر إشعاع وانبعاث لنقد أدبي حداثي وعلمي على المستوى العربي، بحكم اطلاع الأدباء المغاربة على مختلف النقود الغربية المكتوبة خاصة بالفرنسية لرولان بارث، ولوسيان غولدمان، ألان روب غرييه، غاستون باشلار، جان جينيت، جاك دريدا، بروب، جريماس، تودوروف، ونظمت بالمناسبة ملتقيات عربية على مستوى عال بمباركة اتحاد كتاب المغرب، مبادرات لم نعد نسمع عنها شيئا، بعد أن اضطلعت بالمهمة الجمعيات الثقافية، وأصبح هذا الاتحاد الذي كان من أهم وأقوى اتحادات الكتاب العرب إلى تجمع شبه رسمي يخضع لإملاءات حزبية وخلافات وحسابات ضيقة، وغير بعيد عن الثقافة المؤسساتية عرفت الساحة الأدبية إصدارات تهتم بالنقد تأليفا وترجمة، الشيء الذي كان له الأثر الكبير على النقد المغربي، دون أن ننسى الدراسات النقدية المتنوعة على صفحات مجلات أنفاس، أقلام، آفاق، الثقافة الجديدة، الزمان المغربي،عيون المقالات، البديل، والملحق الثقافي لجريدتي العلم والاتحاد الاشتراكي، والتي كان للقصة الحظ الأوفر من هذه النقود، قبل أن يطولها قانون المنع الجائر، وكان للدراسات النقدية التي أنجزها أحمد اليبوري، محمد برادة، عبد الرحيم العلام، البشير الوادنوني، عبد الفتاح كيليطو، نجيب العوفي، حميد الحميداني في التقعيد لنقد قصصي غير مجامل وواعد.
< ثمة عدد من المسابقات القصصية هل يجد فيها القاص جدوى وإضافة؟
> تسعى المسابقات القصصية المحكمة التي تنظم بين الفينة والأخرى من طرف هيئات وطنية أو عربية إلى خلخلة المشهد القصصي الوطني والعربي، وتحريك الركود الثقافي، وقد يجد القاص بالتالي في هذه المسابقات ذات الحس التنافسي فرصة سانحة لاختبار قدراته الإبداعية والاحتكاك بحساسيات أخرى مغايرة، مثل أفراس الرهان، حقيقة هناك العديد من مثل هكذا مبادرات حسنة يضطلع بها بعض ذوي النوايا الطيبة والغيورين على الشأن الثقافي وواقع اللغة العربية، بإجراء هذه المسابقات القصصية، وطبع بعض المجموعات على نفقتهم، وهذه سنة حميدة من شأنها تشجيع الطاقات الشابة، وانتشالها من الظل، والدفع بها إلى الأمام.
< لماذا لا يهتم الكاتب والقاص المغربي بالفضاءات المكانية، كما هو الشأن لقصاصين وروائين عرب وأجانب؟
> أعتقد أن السؤال يدعو للحديث عن علاقة القاص بالأمكنة، ومدى تطابق هذه الفرضية مع القصة القصيرة المغربية، إسوة بما نلمسه في العديد من الأعمال العربية والغربية، التي تعالقت فيها أسماء أدباء بمدن وأمكنة وفضاءات معينة بدءا من جيمس جويس ووفائه لدبلن، ولورنس داريل وكفافيس وادوار الخراط بالإسكندرية، ونجيب محفوظ بالقاهرة وحواريها ومقاهيها، وحنا مينا باللاذقية، ومحمد خضير بالبصرة، وأخرى ببيروت وبغداد وغيرها، هكذا يأخذك الكاتب من يديك ويتجول بك بحذاقة الدليل السياحي، وتعرفنا بالصدفة على أماكن دون أن نزورها أو نعقد موعدا مع أهلها، في القصة المغربية القصيرة نادرا ما نجد طيف الأمكنة بين النصوص قلة قليلة لا تتعدى أصابع اليد نسجوا جسورا بينهم وبين مدنهم محمد شكري أول هؤلاء حيث ارتبط بمدينته طنجة، وعبد المجيد بن جلون وأحمد بناني بفاس، أحمد شماعو بمدينة سلا، مبارك الدريبي بأحياء القنيطرة، محمد الخضر الريسوني بتطوان، غير هذا لا نكاد نعثر في مجمل القصص المغربية على أثر واضح لمؤلف حافظ على الحبل السري الذي يربط بينه وبين مدينته، وضعف هذا الوفاء يعود إلى الحياة غير القارة لهؤلاء، وتنقلهم الدائم بين مدن كثيرة بحكم العمل مما يتعذر عليهم نسج علاقة حميمية بالأمكنة، والكتاب المذكورون على سبيل التمثيل قضوا جل حياتهم بمدنهم دون أن يفارقوها، وقد ألف الباحث مصطفى يعلى كتابا فريدا ومتميزا يعالج " ظاهرة المحلية بالسرد المغربي خصوصيات المجتمع المحلي في نصوص القصاصين المغاربة الرواد."
< البعض يقول إن القاصات المغربيات تتسم أعمالهن بالغموض والسريالية، ما مدى دقة هذا التوصيف؟
> القاصات كشأن المبدعات المغربيات عموما يكتبن بتحد ظاهر، وكتاباتهن لا تُعبر عن إحساسهن في ما يكتبنه بسبب التسلط المجتمعي والعنف والقهر الذي يعانينه في مجتمع منغلق ومتخلف، ولا تكاد كتاباتهن تخرج عن مطارحة قضايا الدفاع عن حرية وحقوق المرأة والتسلط الذكوري والطفولة، وتكريس للمسائل الأخلاقية والاجتماعية والهموم الصغيرة، أشياء بديهية غير ذات قيمة تكرر نفسها ولا تكاد تستهوي القارئ المتمرس، لهذا فالقليل منهن على وفرتهن، استطعن أن يرقين بنصوصهن القصصية إلى المستوى المطلوب من الجودة والجدة، بينما تتسم تلك النصوص بالغموض والعبثية وليس السوريالية، لأن السوريالية كمدرسة فنية راقية لها رموزها وأدواتها وعوالمها وفضاءاتها ولغتها وتاريخها المجيد، هناك أسماء قليلة لكاتبات يكتبن بجدية وعمق، مثل ربيعة ريحان، لطيفة باقا، مريم بن بخثة، حنان درقاوي، زهرة زيراوي، زهور كرام، رجاء الطالبي، الزهرة رميج، لكن هناك أقلام تافهة تتسم بالضحالة مما ساهم في محدودية انتشارهن عربيا، بالرغم من أن عمر التجربة القصصية النسوية، يحسب بتاريخ صدور أول مجموعة قصصية نسوية لخناتة بنونة في مجموعتها الرائدة "ليسقط الصمت" سنة 1967 ، بمقابل أول إصدار رجالي الذي بدأ حوالي 1945.
*******************
المهدي نقوس
من مواليد قرية سيدي أحمد باليوسفية عام 1953. قاص وشاعر. عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع اليوسفية. له العديد من المقالات منشورة في صحف ومجالات عربية ووطنية. شارك بعدة ملتقيات أدبية في مختلف مدن المغرب.
صدرت له مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان "صنائع من نوبة عراق العجب"، والثانية موسومة بـ"...إلخ"، في انتظار نشر عدة أعمال أخرى بين شعر وقصة ومقالات نقدية.


[ - ]. : http://www.awassim.ma


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق