حياة جيه دى سالينجر.. كتاب لكينيث سلوينسكى
عرض ديفيد أولين
ترجمة: أمير زكى
يناير 2011
***
بعد عام على وفاته – فى 27 يناير 2010 – يظل من الصعب علينا أن نقيّم جيه دى سالنجر، فلا تزال هناك العديد من المعلومات الناقصة عنه.
كيف يمكن أن نفتقد كاتبا أبعد نفسه عن الحياة العامة لما يقرب من نصف قرن قبل موته، وبالإضافة إلى ذلك فلا شىء طوال الإثنا عشر شهرا الماضية يوحى باختراق الحظر الذى فرضه على كتاباته أثناء حياته. ومنذ روايته القصيرة (هابوورث 16،1924) التى نشرت فى مجلة النيويوركر عام 1965، تبقى كل الأعمال، التى ربما يكون قد كتبها سالنجر، بعيدة عن المتناول.
وبينما يظل كتاب كينيث سلوينسكى (جيه دى سالينجر: حياة) هو أول سيرة ذاتية شاملة عن الكاتب المنعزل، إلا أنه لا يكشف الكثير عن مسألة ميراث سالينجر. إنما هو أقرب لرسالة مطولة من أحد المعجبين.
من عام 2004 وسلوينسكى يدير موقع Deadcaulfields.com وهو موقع مكرس لكل شىء عن سالينجر، وهو يعمل فى هذا المشروع من فترة أطول من ذلك. والكتاب نشر أصلا بانجلترا فى مارس الماضى تحت عنوان (جيه دى سالينجر: حياة ترتفع لأعلى)، والكتاب يمزج اجتهاد الرجل العامل بقدر مبالغ فيه من النقد، بينما يحاول الإحاطة بشخصية سالينجر.
إلا أن مضمون أعمال سالينجر، وليس تفاصيل حياته، هى التى تحدد أهميته: (الحارس فى حقل الشوفان)، (تسع قصص)، (فرانى وزوى)، (ارفعوا عاليا عارضة السقف أيها النجارون، وسيمور: مقدمة)، فى هذه الأعمال نجد الأساس الغامض لأسطورته، ومن خلالها ظل القراء لمدة طويلة يعكسون اغترابهم ورغباتهم. كتب سالينجر فى آخر الكتب المذكورة: "إن كان لا يزال هناك قارئ هاو فى العالم، أو شخص يقرأ فقط بشكل عابر، فأنا أطلب منه أو منها بكل عاطفة وامتنان أن يتقاسم إهداء هذا الكتاب مع زوجتى وطفلاى." يقتبس سلوينسكى هذه الفقرة فى موضع متأخر من الكتاب وهى تعبر بالأحرى عن منطلقاته الشخصية.
ومن أهم مواضع عمل سلوينسكى هو الحديث عن تجربة سالينجر فى الحرب العالمية الثانية، عندما شارك – فى أقل من 11 شهرا – فى غزو نورماندى وتحرير باريس، وانتهى – إن كان تخمين سلوينسكى صحيحا – برؤية حطام البشر بمعسكرات الاعتقال بداخاو (ألمانيا)، حيث "يمكنك أن تشم رائحة الجثث من على بعد عشر أميال كما يقول أحد الشهود." ويعترف سلوينسكى أن المصدر الأساسى لهذه القصة هو التخمين: "مثل معظم من مروا بمثل هذه المشاهد أثناء الحرب، سالينجر لم يتحدث مباشرة عن تجربته، ولن نكون متأكدين منها أبدا.. هذا ما تطلبه الواجب منه." ومع ذلك فبسبب الشعبة التى تم توزيعه إليها، فقد عرف على أنه (وحدة محررة لمعسكرات الاعتقال النازية)، استدل سلوينسكى على أن جيه دى سالينجر استدعى ليأخذ دورا فى تحرير ضحايا معسكرات الاعتقال فى داخاو.
أوضحت مثل هذه الفقرة طبيعة التحديات والصعوبات فى الكتاب، لأنه يبقى الكثير غير معروف لنا، وليس فقط سنوات الحرب، وإن كانت الأخيرة قد تركت آثارها على الكاتب، ففى يوليو 1945 – وهو لا يزال فى ألمانيا – توجه إلى أحد مستشفيات الجيش للعلاج مما يمكن أن يكون (اضطراب ما بعد الصدمة)، فالحقيقة نحن لا نبالغ إن قلنا – مثل سلوينسكى – أن الوقت الذى قضاه سالينجر فى الحرب جعله قدريا وأثر بشكل كبير على توجهاته التى ظهرت فى أعماله اللاحقة.
وأيضا فلأن سالينجر كان حريصا جدا على خصوصيته – بأن يعدم رسائله، ويتجنب الحوارات الصحفية، ويحث أصدقاءه على الصمت – فكان على سلوينسكى أن يعتمد فى كتابه على العديد من المصادر الثانوية، ومن ضمنها كتابات المؤلف ليؤكد على تخميناته واستنتاجاته، فاعتمد على أرشيف جامعتى برينستون وتكساس وأماكن أخرى حيث حفظت بعض أوراق سالينجر. يكتب عن قصة مبكرة غير منشورة بعنوان (فتى عيد الميلاد): "ربما من الخطير أن نقرأ شخصياتها على أنها تعبر عن السيرة الذاتية." ولكن مع ذلك فليس لديه خيار سوى أن يستعين بهذه القراءات متحريا الدقة، فيقارن فى نقاط عديدة بين سالينجر وبين شخصياته؛ سيمور وبادى جلاس وأيضا هولدين كولفيلد، ويبحث فى العلاقات بين أدبه وبين نفسيته. وهذا سلاح ذو حدين خاصة للقراء المعتادين على أدب سالينجر. وتحليلات سلوينسكى غالبا غير كافية إن لم تكن غير صحيحة.
وحينما ناقش مسألة حظر رواية (الحارس فى حقل الشوفان) من قبل المدارس تعجب واستغرب صمت سالينجر، ثم اقتبس من خطاب له فى سبتمبر 1960 قال فيه الكاتب إنه قرر أن يتجاهل الجدل الدائر تماما، من أجل أن يركز فى عمله الجديد. وحين تحدث عن تأثيره على الأدب الأمريكى قال إن كاتبين مثل جون أبدايك وكيرت فونيجيت تأثرا بشكل كبير بسالينجر من وقت مبكر، متجاهلا كون فونيجيت – على الأقل – كاتبا معاصرا، ربما تجاوزت أعماله أعمال سالينجر تماما، مما يجعل فكرة التأثير معقدة، إن لم تكن مثيرة للشك.
أما النقاش الأكثر تأثيرا فكان عن القصص غير المنشورة أو غير المجموعة التى كتب معظمها فى الأربعينيات لمجلات مثل (ستورى)، و(كوزموبوليتان)، و(ساترداى إيفينينج بوست)، لأن هذه الأعمال المبتدئة ظلت غير معروفة لنا كليا حتى الآن بسبب توجس سالينجر، وهذه المواد المطروحة هنا زادت من فهمنا لأدبه. على كل فسلوينسكى بالغ فى تقدير أثر سالينجر أكثر من مرة، ووضع موضوع كتابه فى مكانة
لم يكن ليرغبها ولا حصل عليها كليا. هذا يأتى فى ذهننا عندما يتحدث عن إطلاق النار على جون لينون ورونالد ريجان الذى استلهم مهاجماهما شخصية هولدن كولفيلد (بطل الحارس فى حقل الشوفان)، يخبرنا سلوينسكى أن "تحقيق غريب ظهر من جراء الجريمتين، فالبعض اعتقد أن مقتل جون لينون وإطلاق النار على ريجان كان جزءا من مؤامرة معقدة، وهذا يذكرنا برواية (المرشح المنشورى)."
هذه هى المشكلة حينما تقرأ ملاحظات من معجب: الرغبة فى الارتفاع بموضوعك إلى مستوى رغبتك. فى مثل هذه اللحظات تفقد القدرة على رؤية الشخص الحقيقى؛ الزوج والأب غير الودود، المتوحد المهموم بالمسافة بينه وبين الأخرين، تلك التى لم يستطع تجاوزها أبدا. ولكن لنكن عادلين، سلوينسكى مر على ذلك فى نقطة عندما وصف الرؤيا التى خطرت لسالينجر عام 1960 فى إحدى قاعات الاحتفالات حين رأى "أن الموسيقى تخفت شيئا فشيئا، والراقصين يبتعدون شيئا فشيئا."
ولكنه أيضا لم يتحدث كثيرا عن العزلة التى يبدو أنها كانت المحركة للكاتب حتى النهاية.
الكتاب يبدو غير كاف بالنسبة للسنوات التى توقف سالينجر فيها عن النشر، ولكن لنكن عادلين مرة أخرى، ما الذى يمكن أن نقوله عن هذه الفترة؟ لهذا أعتقد أنه علينا أن ننتظر الوقت الذى يعلن فيه عن أرشيف سالينجر، أو أن نرضى أنفسنا بالغموض من كوننا لا نعرف، ويبدو أن هذا هو ما أراده الكاتب حتى النهاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق