نظريات التغير الاجتماعي:
أولاً: التغير الحتمي:
وهي تلك النظريات التي تركز في دراستها للتغير الاجتماعي على عامل واحد، ولذلك فإن هذه النظريات توصف بأنها نظريات اختزالية، أي أنها تختزل كل العوامل في عامل واحد، ويكمن هذا المعنى في مفهوم الحتمية (Determinism) فهذا المفهوم يشتق من الكلمة اللاتينية (Determinant) ومعناها يحدد، ولذلك فإن الحتمية تفترض أن الأمور محددة سلفاً، وأن المهمة الملقاة على عاتق الباحث هي اكتشاف جملة الشروط المسبقة التي تعين حدوث ظاهرة من الظواهر، وعندما استخدمت الكلمة في الفكرة الاجتماعي، فإنها أصبحت تعني البحث عن السبب الوحيد، الأصل الكامن خلف حدوث كل الظواهر، أو الذي ترتبط به كل المتغيرات كمتغيرات تابعة بالضرورة.
أ – الحتمية الجغرافية:
هناك اعتقاد قديم بأن ثمة علاقة بين طبيعة الطقس الذي يعيش فيه الإنسان وبين طابعه الاجتماعي ولقد تأثر المنظرون الاجتماعيون الأوائل بهذا الاعتقاد، وحاولوا من خلاله أن يميزوا أوجه التشابه والاختلاف بين البشر، وكانت النتيجة نظرية شاملة في الحتمية الجغرافية.
من أشهر علماء هذه النظرية هنتنجتون حيث استخدمها لا في تفسير تغير الاختلاف بين البشر فحسب بل في تفسير تغير المجتمعات، فقد ذهب إلى القول بأنه إذا كانت الظروف الجغرافية هي التي تحدد صفات الناس وسلوكهم، فإن هذه الصفات وذلك السلوك لن يتغير إلا إذا تغيرت الظروف الجغرافية.
ب – الحتمية البيولوجية:
تأسست على فرضية مؤداها أن الناس في العالم ينقسمون إلى أجناس، وجماعات متميزة بيولوجياً، وأن الأجناس تختلف في قدرتها على تطوير الحياة الاجتماعية وتنميتها، وأن نوعية الحياة لدى شعب من الشعوب هي مؤشر على قدراتها البيولوجية-العرقية، وفي ضوء ذلك تتبلور الفروق بين الشعوب، كما تفسر التغيرات الاجتماعية التي تظهر لدى هذه الشعوب، سواء التغيرات السلبية أو الإيجابية التي تفسر بظهور أشكال من التفوق الكامن في شعب من الشعوب.
وتقوم الحتمية البيولوجية على فرضية سادت في مجتمعات قديمة، وهي تلك الخاصة بتفوق طبقات داخل المجتمع على طبقات أخرى، وارتباط هذا التفوق بالخصائص البيولوجية، وظهرت هذه الفكرة في الحضارة اليونانية التي ظهر فيها الاعتقاد بأن هناك أناساً ولدوا ليحكموا وآخرين كرعية.
ولقد لعب دي جوبيون دوراً في ترويج هذه الفكرة من خلال بحثه عن تفاوت السلالات البشرية الذي ربط فيه بين تفوق شعب على آخر أو انحطاطه.
ومن المتغيرات البيولوجية التي يتم التركيز عليها:
1 – أثر التفاوت الوراثي على التغير الاجتماعي.
2 – أثر التفاوت بين الأفراد في الذكاء والإمكانات الجسمية والنفسية المختلفة (دور الزعامة الكاريزمية).
3 – أثر البيئة الصحية العامة على تطور الشعب ونموه الاقتصادي والاجتماعي.
4 – أثر الانتخاب الطبيعي والاصطناعي على الأشكال المختلفة لهرم السكان.
أوجه النقد الموجه للنظريات الحتمية:
1 – أنها نظريات اختزالية ذات نظرة أحادية.
2 – أنها نظريات متحيزة تميل إلى تبرير أفكار بعينها.
3 – أنها نظريات غير علمية لأنها تؤكد سبباً واحداً دون تمحيص علمي دقيق.
4 – أنها قد أدت إلى كثير من الصراعات بين الشعوب.
5 – أنها ولدت أشكالاً من العنصرية السياسية التي يعاني منها عالمنا المعاصر.
ثانياً: النظرية التطورية:
انتشرت في القرن التاسع عشر، وكانت متوازية مع النظريات الحتمية، وظهرت من خلال الاعتقاد بأن المجتمعات تسير في مسار واحد محدد سلفاً عبر مراحل يمكن التعرف عليها.
أ – النظريات الخطية:
توصف بأنها تهتم بالتحولات التقدمية المستمرة أو المطردة الموصلة في النهاية إلى هدف محدد ويمر المجتمع في حالة تحوله نحو تحقيق هذا الهدف بمراحل أو خطوات ثابتة، وتعتبر هذه الفكرة قديمة ظهرت في فلسفة الإغريق، وأعيد أحياؤها في عصر التنوير، وقويت هذه الفكرة في القرن التاسع عشر عندما انشغل المفكرون الاجتماعيون بالبحث عن الأصول الأولى لمجتمعاتهم.
سار الفكر التطوري المبكر في خطين رئيسيين في تحديده لمراحل التطور:
1 – التركيز على عنصر واحد من عناصر الحياة الاجتماعية أو الثقافية وتحديد المراحل الزمنية التي سارت فيها المجتمعات وفقاً لهذا العنصر.
2 – بدلاً من التركيز على عنصر واحد مال بعض التطوريين إلى النظر للتطور الكلي في البناء الاجتماعي أو الثقافي، وتحديد المراحل بشكل كلي دون التركيز على عنصر بعينه، ومن الأمثلة على ذلك نظرية أوجست كونت في تطور المجتمعات من المرحلة الوضعية، ونظرية ماركس في التحول من المجتمع المشاعي إلى الإقطاعي إلى الرأسمالي إلى الاشتراكي، ونظرية لويس مورجان عن التحول من المجتمع البدائي إلى البربري، إلى الحضارة، ونظرية سبنسر في التحول من المجتمع العسكري إلى الصناعي، ذلك التحول الذي يصاحبه تحول من حالة التجانس المطلق إلى حالة اللاتجانس غير المستقر.
وسواء ركزت النظرية على متغير واحد أو ركزت على المجتمع ككل، فإن التطورية الخطية تتميز بتحديد مراحل تقدمية تسير نحو هدف محدد.
ويكمن الخلاف بين المفكرين التطوريين في عنصرين أساسيين: الأول يرتبط بعدد مراحل التطور، والثاني يرتبط بطبيعة العامل المحرك للتغير.
فأوجست كونت يرى أن الإنسانية تسير سيراً تلقائياً تقدمياً، والتقدم في نظره سير اجتماعي نحو هدف معين، وهذا السير يخضع لقوانين ضرورية هي التي تحدد بالضبط مداه وسرعته، ويستدل كونت على خضوع الإنسانية لظاهرة التقدم والارتقاء المطرد، بأنها مرت بثلاث مراحل هي: الحياة الاجتماعية في العصور القديمة والحياة الاجتماعية في القرون الوسطى المسيحية، ثم التنظيم الاجتماعي الذي قام غداة الثورة الفرنسية.
والتقدم الاجتماعي في نظره مظهر من مظاهر التطور العقلي، وقوانينه مستمدة من قوانين تطور الفكر التي تصور انتقال التفكير الإنساني من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الفلسفية الميتافيزيقية، ثم المرحلة العلمية الوضعية، وهذا قانون ظاهر الخطأ ومن ثم فكل ما يقوم عليه من آراء وتصورات لا يعد صحيحاً بصورة قاطعة.
وعند هنري مورجان في كتابه (المجتمع القديم) يفترض أن مراحل التطور التكنولوجي ونظم القرابة ترتبط بمختلف المؤسسات الاجتماعية والسياسية.
ولقد وصف تقدم النوع الإنساني من خلال ثلاث مراحل رئيسية للتطور:
المرحلة البدائية والمرحلة البربرية ومرحلة المدنية، كما قسم كلاً من المرحلتين البدائية والبربرية إلى ثلاثة أقسام عليا ووسطى ودنيا:
1 – المرحلة الدنيا من المرحلة البدائية وهي تبدأ منذ نشأة الجذور الإنسانية وحتى بداية الفترة التالية.
2 – المرحلة الوسطى من البدائية وهي تبدأ من مرحلة صيد الأسماك للحصول على الغذاء ومعرفة استخدام النار حتى الفترة التالية.
3 – المرحلة العليا من البدائية وتبدأ من اختراع السهم والقوس وحتى المرحلة التالية.
4 – المرحلة الدنيا من البربرية وهي تبدأ من ابتكار صناعة الفخار إلى الفترة التالية.
5 – المرحلة الوسطى من البربرية وهي تبدأ منذ استئناس الحيوانات في نصف الكرة الشرقي، وفي الغرب منذ زراعة الذرة والنباتات بواسطة الري إلى المرحلة التالية.
6 – المرحلة العليا من البربرية وتبدأ منذ ابتكار عملية صهر الحديد الخام مع استخدام أدوات جديدة إلى المرحلة التالية.
7 – مرحلة المدنية وهي تبدأ منذ اختراع الحروف الأبجدية المنطوقة واستخدام الكتابة حتى وقتنا الحاضر.
ب – النظريات الدائرية:
يذهب أصاحب هذه النظريات إلى أن التغير صعوداً وهبوطاً في تموجات على شكل أنصاف دوائر متتابعة وبنظام مطرد، بحيث يعود المجتمع من حيث بدأ في دورة معينة، وتنقسم النظريات الدائرية إلى نوعين: بعضها يفسر جانباً محدوداً من جوانب الحياة الاجتماعية أو يشرح ظاهرة أو نظاماً اجتماعياً واحداً، وبعضها الآخر يهدف إلى تفسير المجرى العام للتاريخ، متناولاً جميع الظواهر والنظم والأنساق الاجتماعية دون أن يركز على ظاهرة واحدة أو نظام بذاته، ومن أصحاب النظريات الدائرية: ابن خلدون، وفيكو، وشبنجلر، وتوينبي.
يرى ابن خلدون أن المجتمع الإنساني كالفرد يمر بمراحل منذ ولادته حتى وفاته، وأن للدول أعماراً كالأشخاص سواء بسواء، وعمر الدولة في العادة ثلاثة أجيال، والجيل أربعون سنة، فعمر الدولة إذن مائة وعشرون سنة، وفي هذه الأجيال الثلاثة يمر المجتمع بمراحل ثلاث هي:
1 – مرحلة النشأة والتكوين: وهي مرحلة البداوة، ويقتصر الأفراد فيها على الضروري من المعيشة.
2 – مرحلة النضج والاكتمال: وهي مرحلة الملك، وفيها يتحول المجتمع إلى الحضارة.
3 – مرحلة الهرم والشيخوخة: وهي مرحلة الترف والنعيم أو الحضارة.
نظرية المفكر الإيطالي فيكو الدائرية لتطور المجتمعات:
1 – المرحلة الدينية أو الإلهية: وفيها يرجع الناس كل شيء إلى الآلهة.
2 – المرحلة البطولية: وفيها يرجعون كل شيء إلى العظماء والأبطال.
3 – المرحلة الإنسانية: وفيها أصبحت الجماهير هي المحرك الحقيقي لكل شيء.
ويؤدي منطق نظريته إلى أن الإنسانية لا تستقر ولكنها تسير سيراً دائرياً، فعندما تستقر فترة معينة في المرحلة الأخيرة فإنها سرعان ما تعود القهقرى إلى المرحلة الأولى ولكن بشكل مغاير وبصورة أكثر رقياً، أي أن آخر طور من هذه الأطوار إنما يمهد للطور الأول ولكن بشكل أرقى، ولذلك أطلق على نظريته قانون النكوص.
كما اهتم أوزفالد شبنجلر الذي يعد من أشهر أصحاب النظرية الدائرية في كتابه (سقوط الغرب أو انهيار الغرب بالحضارات) وشبهها بحياة الكائنات الحية التي تمر بمرحلة الشباب ثم الرشد فالشيخوخة المحتومة.
ويمثل الفيلسوف المعاصر أرنولد توينبي أفضل معرفة لتلك النظريات الدائرية، ويتضح ذلك بصورة جلية في كتابه الشهير (دراسة التاريخ) الذي حاول فيه البحث عن الأسباب العامة لارتقاء وانحدار الحضارات، ويؤكد أن فكرة التحدي والاستجابة تمثل سبب نقل القوى فيرى أن الاستجابات الناجحة للتحديات تنتج عنها عناصر النمو.
إن توينبي حصر نطاق التغير في ثلاث أحوال أساسية الأولى هي: حالة التوازن أو التكافؤ، والثانية هي: حالة الانتقال إلى حالة اللا توازن، ثم أخيراً حل الأزمة أو المشكلة أي الانتقال إلى حالة جديدة.
وقد أجمل توينبي طبيعة الانهيار الحضاري في ثلاث نقاط:
الأولى: إخفاق الطاقة الإبداعية في الأقلية المبدعة، وعندئذ تتحول تلك الأقلية إلى أقلية مسيطرة.
الثانية: ترد أغلبية المجتمع على طغيان الأقلية بسحب الولاء لهذه الأقلية وعدم محاكاتها.
الثالث: يستتبع الثقة بين أقلية المجتمع الحاكمة وأغلبيته المحكومة ضياع وحدة المجتمع الاجتماعية وانهياره.
أنماط الثقافة:
أولاً: الثقافة الحسية:
وتوجد عندما تتقبل عقلية الجماهير حقيقة الأشياء ونستطيع ملاحظتها بالأعضاء الحسية، ولذلك لا تهتم الحضارة الحسية بالبحث أو اكتشاف "المعرفة المطلقة" وإنما تتجه نحو استخدام "الامبيريقية" (الملاحظة) كمصدر للحقيقة.
ثانياً: أما وجهة نظر الثقافة الصورية:
فهي عبارة عن إحساس روحي، حيث تعتمد تلك الثقافة على اتجاه ديني إلى حد بعيد، ومن ثم تعتمد على الدين والوحي كمصادر للحقيقة ولا تهتم بالجوانب الامبيريقية، فإذا كان الشخص الحسي يكتسب المعرفة من الظواهر التي يمكن ملاحظتها ولذلك يستطيع أن يعالجها ببراعة، فإن الشخص الصوري هو ببساطة الذي يطابق بين الأنماط وأحوالها في مجموعة كلمات، ويضع تنبؤات خيالية، ومن ثم يكون صاحب تلك الثقافة أزلياً ومطلقاً.
ثالثا: جاءت الثقافة المثالية مزيجاً من الأنماط الحسية والصورية:
ومع ذلك فإن هذا النوع من الثقافة يرتقي فوق النوعين السابقين نظراً لإضافة "السبب" كمصدر للحقيقة، ولكي توجد هذه الثقافة المثالية فيجب أن تتعايش أو تتصاحب عناصر الثقافة الحسية والصورية في نمط متناسق، هذا الخلق يمثل مثلثاً أبستمولوجياً.
رابعاً: تكامل النسق الفكري "السوروكين" والذي يطلق عليه "الثقافة المختلطة":
وهو مركب من الثقافة الحسية والصورية بدون "سبب" كمصدر للحقيقة، ويجب أن تعتمد هذه الثقافة إلى حد ما على الامبيريقية والزهد أو التقشف (الولاء)، كما يجب أن توضح الخط الوسط لفصل الثقافة الحسية والصورية في أساس المثلث.
من الواضح أن أصحاب النظريات الدائرية يتفقون على فكرة أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الخبرات التاريخية للمجتمعات يمكن أن تتكرر، لكنهم يختلفون في رؤيتهم لهذه الحركة الدائرية للمجتمعات فبعضهم يحدد مراحل ثابتة تمر بها كل المجتمعات كما في نظرية شبنجلر أو نظرية سوروكين، بينما يميل البعض الآخر إلى الحديث عن دورات يمكن أن تتكرر هنا وهناك دون تحديد مراحل ثابتة، كما هو الحال في نظرية باريتو أو نظرية تويبتي.
1 – أنها تفرض مخططاً تطورياً ثابتاً على كل المجتمعات دون النظر إلى واقع هذه المجتمعات وسياق أبنيتها الداخلية.
2 – أنها تعتبر التطور عملية حتمية أو ضرورية في كل المجتمعات.
3 – أنها تهمل التطور متعدد الخطوط، فالتطور إما خطي وإما دائري.
4 – أنها تفترض أن التطور إما أن يكون تقدمياً أو رجعياً، وهي بذلك تهمل أشكال التطور الأخرى الوسيطة.
الصور الحديثة التطورية:
أ – نظرية مراحل النمو:
وهي التي قدمها والت روستو عام 1961م في كتابه مراحل النمو الاقتصادي وتقوم هذه النظرية على فرضية مؤداها أن النمو الاقتصادي في المجتمعات جميعاً يمر بمراحل محددة وأن الفرق بين مجتمع وآخر هو في الدرجة التي قطعها المجتمع على طريق النمو الاقتصادي، ويعني ذلك ضمنياً أن المجتمعات غير النامية سوف تمر بنفس خط التطور الذي مرت به المجتمعات المتقدمة وقد حدد روستو مراحل النمو بخمس:
1 – مرحلة المجتمع التقليدي، 2 – مرحلة شروط التهيؤ للانطلاق 3 – مرحلة الانطلاق 4 – مرحلة الاتجاه نحو النضج 5 – مرحلة الاستهلاك الوفير
ويرى روستو أن المجتمعات لابد أن تمر عبر هذه المراحل بالترتيب، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف المدة اللازمة لكل مرحلة ويربط روستو بين البناء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع.
ب – نظرية الالتقاء أو التقارب:
قدمها كلارك كير عام 1960م وقد عرفت بنظرية (التقارب أو الوفاق) وتتأسس هذه النظرية على فرضية أساسية، هي أن العالم قد دخل إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة التصنيع الكامل، ولا شك أن هناك من الأفكار ما يقترب من هذه المرحلة وبعضها الآخر ما يزال بعيداً عنها، وللتصنيع خاصية جوهرية هي أنه يجعل المجتمعات متشابهة ويخلق نظماً متشابهة، ويقوم التشابه على المظاهر الآتية:
1 – الإنتاج الواسع النطاق الذي يعتمد على المهارات والمنافسة وتقسيم العمل.
2 – الحراك الاجتماعي الرأسي والأفقي.
3 – تطور التعليم وتفرعه إلى التركيز على التعليم الفني المتخصص والتعليم الإداري.
4 – التحضر وزيادة سكان المدن.
5 – تحقيق درجة من الإنفاق على القيم.
6 – نمو الاعتماد المتبادل وتناقص فرص قيام الحرب.
ج – نظرية نهاية التاريخ:
قدمها فرنسيس فوكوياما عام 1989م بعد سقوط الاشتراكية وتتأسس هذه النظرية على آراء هيجل التطورية التي تنظر إلى التطور على أنه انطلاق نحو الكمال، العقل الكامل، والدولة الكاملة، والقيم المطلقة، واعتمد فوكوياما على فكرة هيجل حول الرغبة في الاعتراف والتقدير والتي اعتبرها هيجل فكرة محركة للتاريخ، وينظر فوكوياما إلى الديمقراطية الليبرالية المعاصرة على أنها ألغت فكرة العلاقة بين السادة والعبيد.
لقد كانت كل النظم تنشغل بالبحث عن الاعتراف، الذي يتمثل في صورته الملموسة في النزاع بين شخصين متحاربين، إن هذه الرغبة في الاعتراف هي التي تجعل أياً منهما يموت استسلاماً للآخر.
أما الليبرالية الديمقراطية فقد بدلت الرغبة غير العقلانية في الاعتراف بالدولة أو الفرد، وأحلت محلها رغبة عقلانية في الاعتراف بالدولة أو الفرد، على أساس من المساواة"، ويعني ذلك أن الليبرالية الديمقراطية قد حلت معضلة الصراع التاريخي من خلال قيمة المساواة، وهي بذلك تكون قد أوقفت التاريخ عن الحركة، فهي إذن نهاية التاريخ وسوف تتطور نفس المجتمعات لتصل إلى نفس هذه النهاية، وليس ثمة مجال آخر للتطور بعد الديمقراطية الليبرالية التي تحقق للفرد ذاته وكماله وتخلق إطاراً من المساواة، تختفي فيه السيطرة الامبريالية.
ثالثاً: النظريات البنائية-الوظيفية:
يشير مفهوم البناء إلى العلاقات المستمرة الثابتة بين الوحدات الاجتماعية، بينما يشير مفهوم الوظيفة إلى النتائج أو الآثار المترتبة على النشاط الاجتماعي.
فالبناء يكشف عن الجوانب الهيكلية الثابتة، بينما تشير الوظيفة إلى الجوانب الدينامية داخل البناء الاجتماعي.
1 – الوظيفية الكلاسيكية:
وهي أعمال هربرت سبنسر وإيميل دوركايم وماكس فيبر وباريتو، فالتغير الاجتماعي يظهر في شكل إضافات في الحجم وتباين في المكونات يصاحبه دائماً عمليات للتكامل والتوازن.
أ – يتغير المجتمع من وجهة نظر هربرت سبنسر في ضوء نفس القوانين التي يتحول بها عالم المادة التي تتحول من حالة اللاتجانس واللا تحدد إلى حالة من التجانس والتحدد والانتظام، لقد اعتقد سبنسر أن القاعدة يمكن أن تنطبق على تطور الكون، والأرض، والكائنات البيولوجية، والعقل البشري، والمجتمع البشري، فالعالم اللا عضوي (عالم المادة) والعالم العضوي (عالم الكائنات الحية) والعالم فوق العضوي (عالم المجتمع) جميعها تخضع لنفس قوانين الحركة والتطور، وفي ضوء هذه الفرضية، نظر سبنسر إلى المجتمع على أنه كيان كلي يتكون من وحدات متميزة تنتظم وفقاً لترتيبات معينة في مكان محدد، ويشبه المجتمع في تكوينه الكائن العضوي، ولذلك فإنه عندما يتغير يخضع لنفس منطق تطور الكائنات العضوية، فالمجتمع ينمو في حجمه وهو عندما ينمو تتباين مكوناته وتصبح غير متشابهة وهنا يظهر ضرب من التباين البنائي، ولكن هذا التباين لا يفقد المجتمع تكامله فهو يطور دائماً أشكالاً جديدة لتكامل أجزائه المتباينة، وهكذا فإن المجتمعات تبدأ بسيطة، وتتحول بالتدريج إلى مجتمعات مركبة، إلى أن يظهر المجتمع الصناعي الذي يتميز بتباينه وعدم تجانسه الشديدين، وإذا كان المجتمع البسيط (والذي أطلق عليه سبنسر المجتمع العسكري) يؤسس تكامله على القهر والتعاون الإجباري، فإن المجمع الصناعي يؤسس تكامله على التعاون الاختياري.
ب – قدم إيميل دوركايم نظرية في التغير الاجتماعي تشبه إلى حد كبير نظرية هربرت سبنسر، دون التزام بالمماثلة العضوية أو تشبيه التغير في المجتمع بالتغيرات في عالم المادة أو عالم الكائنات الحية، وانطلق في رؤيته للتغير من منظور وظيفي يتأسس على فكرتي التباين والتضامن، ويتضح ذلك من العلاقة التي أقامها بين مفهوم تقسيم العمل ومفهوم التضامن الاجتماعي.
فتقسيم العمل تصاحبه ضرورة مختلفة من التباين الاجتماعي تتمثل في زيادة السكان وزيادة الكثافة الأخلاقية، بل إن هذه التباينات الاجتماعية هي التي تجعل العمل ضرورة، وهو في جوهره تعبير عن هذا التباين ودالة على حدوثه، فالمجتمعات تميل في تغيرها إلى أن تتباين في مكوناتها، بل إن حدوث أشكال من التباين يؤدي إلى زيادة الكثافة الأخلاقية (تنوع القيم والاتجاهات والميول والمعتقدات) وهذه بدورها تؤدي إلى تقسيم العمل، وهكذا.
غير أن المجتمعات لا تتحول دون ضوابط، فتحولها منضبط بقواعد ومعايير قانونية، وهنا يأتي مفهوم التضامن، فإذا كانت المجتمعات البسيطة (وهي مجتمعات غير متباينة) فهي مجتمعات تحقق تضامنها وتكاملها من خلال القانون القهري (فرض أسلوب واحد في الحياة والتفكير والسلوك) فإن المجتمعات الحديثة (وهي مجتمعات متباينة) تحقق تكاملها وتضمانها من خلال القانون المدني أو التعويضي (الذي يتيح إمكانية تعدد أساليب السلوك وتباينها) ولقد أطلق دوركايم على النوع الأول المجتمعات مجتمعات التضامن الآلي وعلى النوع الثاني مجتمعات التضامن العضوي.
2 – نظرية التوازن الدينامي:
تطورت الوظيفية في القرن العشرين لتركز على فكرة التوازن الدينامي في عملية التغير الاجتماعي، ويعد عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز أشهر من طور الأفكار الوظيفية في هذا الاتجاه.
إن المجتمع عند بارسونز هو أحد الأنساق الأساسية للفعل التي حددها في أربعة أنساق: النسق العضوي، ونسق الشخصية، والمجتمع، والثقافة، والمجتمع بدوره ينقسم من الداخل إلى أربعة أنساق فرعية هي: الاقتصاد والسياسة، والروابط المجتمعية، ونظم التنشئة الاجتماعية، والمجتمع كنسق يعيش في حالة توازن (الكائن العضوي-الشخصية-الثقافة) وهو يتوازن من الداخل حيث يحقق انساق علاقات منتظمة ومتوازنة.
وعندما يتعرض المجتمع لحالة تغير، فإنه لا يفقد خاصية توازنه، فهذا التوازن دينامي ومستمر، لذلك فإنه يمكن للمجتمع دائماً من أن يتكيف مع التغيرات الجديدة ويدمجها داخل بنائه، ويمكن أن نميز نوعين من التغير الاجتماعي:
أ – التغيرات قصيرة المدى: وهي التي تظهر داخل المجتمع نتيجة عوامل داخلية (كالاختراعات والأفكار الجديدة) أو عوامل خارجية (كتغير الصفات الوراثية للسكان، وتغير أساليب استغلال الطبيعة أو الحروب) إن هذه التغيرات تحدث تأثيراً على حالة التوازن التي ينتظم فيها المجتمع، إنها تكسر التوازن أو تهدده من جراء ما تخلفه من توترات في بناء العلاقات الداخلية بين مكونات النسق الاجتماعي.
وإذا استمرت هذه التغيرات فقد تؤدي إلى القضاء على المجتمع أو إلى إحداث تغيرات بنائية عامة فيه (كما يحدث في حالة الثورات)، ولكن هذا لا يحدث إلا في ظروف نادرة، فالمجتمعات لديها قدرة تكيفية داخلية ناتجة من حالة التوازن الدينامي التي يتميز بها المجتمع، وعندما تحدث التوترات والضغوط المولدة للتغير داخل المجتمع فإنها تؤثر على حالة التوازن، ولكن المجتمع ما يلبث أن يمتص هذه التوترات والضغوط ويستعيد توازنه ويظل محتفظاً بهذه الحالة من التوازن، حتى تظهر توترات أخرى وهكذا يوصف التوازن بأنه دينامي، أي مستمر قابل لأن يستوعب كل ما هو جديد، وأن يعيد تكيف النسق معه بحيث تظهر التغيرات في أضيق الحدود، وفي ضوء هذه الرؤية فإن التغيرات قصيرة المدى داخل النسق الاجتماعي تتصف بعدة خصائص:
1 – تغيرات تدريجية لا تؤدي إلى انهيار النسق أو تغيره بشكل جذري.
2 – ترتبط بعمليتين ملازمتين هما التوازن-اللا توازن وتعتبر العملية الأولى دائمة، أما الثانية فعارضة.
3 – أن جوهر التغير هنا هو التباين البنائي الوظيفي، فمزيد من التغير داخل النسق الاجتماعي يعني تباين مكونات وتعدد وظائفه.
4 – أن الاتفاق العام على القيم وأدوات الضبط الاجتماعي هما اللذان يحفظان للنسق الاجتماعي توازنه الدائم وتغيره الوئيد.
ب – التغيرات بعيدة المدى: وهي تغيرات واسعة النطاق تحدث على فترات متباعدة، ولقد فسر بارسونز هذه التغيرات من خلال مفهوم العموميات التطورية، ويقصد بها التجديد البنائي الذي له قدرة على الاستمرار والبقاء، ويخلق بدوره تجديدات وتطويرات أخرى.
إن هذه العموميات التطورية هي التي خلقت كل التحولات بعيدة المدى في تطور المجتمعات، فظهور نسق الشرعية الثقافية وظهور نسق التدرج الاجتماعي قد أدى إلى أن تتحول المجتمعات البدائية إلى مجتمعات وسيطة، كما أن ظهور النقود والأسواق، والبيروقراطية، والقانون والديمقراطية هو الذي أدى إلى تحول المجتمعات الوسيطة إلى مجتمعات حديثة، وعندما تظهر العمومية التطورية، فإنها تخلق تبايناً اجتماعياً واسع النطاق، وتخلق بذلك تحولات بنائية ملموسة ولكن هذا التباين لا بد وأن يقابله عمليات تكامل تضبط هذا التحول وتقوده، إلى أن يصبح التحول الذي خلقته العمومية التطورية تحولاً عاماً أو طبيعياً أو يصبح تحولاً معمماً.
ج – نظرية التحديث الوظيفية:
إن الاتصال الثقافي بالحضارة الغربية يؤدي إلى نشر الثقافية الحديثة في شكل دوائر تتسع باستمرار إلى أن تشمل قطاعات المجتمع بأسره فعندما يحدث هذا الاتصال تبدأ الثقافة التقليدية في الخروج من جمودها وتشهد عمليات تباين واسعة النطاق تؤدي إلى تغيرها لكي تقترب من النموذج المثالي القائم في المجتمعات الغربية، ويطلق على هذه العملية عملية التنمية أو التحديث، وهي عملية تتمثل في اكتساب واستيعاب المجتمعات النامية لقيم العمومية والإنجاز والتخصص، وهي القيم التي تتأسس عليها الثقافة الحديثة.
إن التغير الاجتماعي المرتبط بعمليتي التنمية والتحديث ليس تغيراً جذرياً، بل هو تغير تدريجي (خطي وتقدمي) يتم بمقتضاه تحول الأبنية التقليدية إلى أبنية حديثة أي تحولها من أبنية متجانسة، ساكنة، وبسيطة إلى أبنية غير متجانسة ومتحركة ومعقدة، ويفرز التغير أثناء حدوثه بعض المشكلات كالتناقض بين القديم والجديد، وحدوث "هوة ثقافية" بين تغير العناصر المادية وتغير العناصر المعنوية، وتناقض الأدوار، غير كل هذه التوترات والتناقضات تكون طبيعية أثناء عملية الانتقال من التقليد إلى الحداثة، وسوف تختفي بالتدريج مع الاتساع في عملية التغير على اختلاف بين المجتمعات في درجة استيعاب هذه التناقضات والتغلب عليها، فالمجتمعات تختلف فيما بينها في درجة تطويرها لنظم وجماعات وميكانيزمات تساهم في وضع مبادئ التكامل الاجتماعي، وبناء على ذلك فإنها تختلف في درجة القابلية للتكيف الداخلي مع ظروف التغير، وفي درجة صياغة هذا التغير في نظم اجتماعية، وكلما كان المجتمع أكثر قدرة على التكيف الداخلي والمرونة كان أكثر قدرة على التغلب على مشكلات التحول، ومن الواضح أن نظرية التحديث تميل ميلاً وظيفياً شديداً، فتفترض وجود تغيرات تدريجية ترتبط بعمليات التباين والتكامل، كما تفترض أن خبرة التغير في المجتمعات الغربية يمكن أن تتكرر في المجتمعات النامية.
رابعاً: النظريات المادية التاريخية:
إذا كانت النظرية الوظيفية تركز على التغير التدريجي التوازني، فإن المادية التاريخية تركز على التغيرات الثورية التي تنقل المجتمع من حالة إلى حالة مناقضة، وإذا كانت الوظيفية تركز على التكامل والاتفاق، فإن المادية التاريخية تركز على الصراع والتناقض، فالصراع هو المحرك الأساسي للمجتمع، وتاريخ المجتمعات هو في التحليل الأخير تاريخ الصراع بين الطبقات.
أ – النظرية الماركسية:
تنظر الماركسية إلى الحياة الاجتماعية على أنها دائبة الحركة، وتمثل حركتها شكلاً خاصاً من أشكال حركة المادة، أنها تحتوي في داخلها على دوافع التغير، إن الماركسية هي نظرية للتغير الاجتماعي وأن مفهوم التغير يعد مفهوماً محورياً فيها.
يتأسس المجتمع على أساس اقتصادي ينحصر في علاقات الإنتاج وأنماط الإنتاج السائدة في المرحلة التاريخية، أي أن الاقتصاد هو الركيزة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وذلك فإنه يشكل كل عناصر البناء الاجتماعي الأخرى والتي أطلق عليها ماركس عناصر البناء الفوقي والدولة والأسرة والثقافة.
لقد ميز ماركس في تاريخ المجتمعات بين خمس مراحل تبدأ بالمرحلة البدائية أو المشاعية البدائي، ومرحلة الإنتاج الآسيوي، والمرحلة الإقطاعية، والمرحلة الرأسمالية، ثم المرحلة الشيوعية، وتتميز كل مرحلة بوجود نمط إنتاجي معين، ووجود طبقتين متعارضتين (فيما عدا المرحلة البدائية والمرحلة الشيوعية حيث يفترض ماركس خلوهما من الطبقات والملكية الخاصة)، وينظر ماركس إلى الصراع الطبقي على أنه حالة طبيعية في المجتمعات، بل إنه المحرك الأساسي للتاريخ، فإذا كان التناقض الاجتماعي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج هو الذي يحرك البناء نحو التغير، فإن الصراع الطبقي ينجز هذه المهمة، فالمجتمعات لا تتغير إلا بوعي أفرادها، ولذلك فإن مهمة التغير من المرحلة إلى أخرى تقع دائماً على كاهل طبقة معينة، فالطبقة البرجوازية هي التي قادت التغير من الإقطاعي إلى الرأسمالي، ويفترض ماركس أن الطبقة العاملة هي التي ستقود التحول إلى عالم الشيوعية.
ب – نظرية التنمية التابعة:
ترتبط هذه النظرية بتوصيف التغير الاجتماعي في دول العالم الثالث، وهي تختلف عن النظرية الوظيفية، فإذا كانت نظرية التحديث الوظيفية ترى أن التحول إلى دول العالم الثالث يسير بشكل منتظم نحو تحقيق النموذج المثالي للمجتمعات الغربية، فإن أنصار نظرية النسق الرأسمالي العالمي يرون أن حركة التغير في مجتمعات العالم الثالث تسير نحو مزيد من التخلف، وأنه إذا تحققت فيها جوانب التنمية فإنها تظل تنمية تابعة غير مستقلة.
إن البناء الاجتماعي في دول العالم الثالث هو بناء متخلف تابع محكوم بنمط معين لتقسيم العمل الدولي، وقد اكتسب هذا البناء المتخلف خصائصه من خلال العلاقات التاريخية التي دخل فيها مع الرأسمالية العالمية، ولم تؤد هذه العلاقات إلى تحويل الأبنية التقليدية في الدول الفقيرة إلى أبنية حديثة، وإنما أخضعتها لخدمة مصالحها، وحولتها إلى أبنية تابعة مختلفة، ولقد نتج التخلف هنا من خلال امتصاص الفائض من هذه المجتمعات ونقله إلى مراكز النظام الرأسمالي العالمي.
والنتيجة المنطقية لهذه العلاقات أن ينتج في دول العالم الثالث نمط خاص من التغير يصفه البعض بأنه تغير تابع أو تنمية تابعة أو تنمية رثه.
خامساً: النظريات السيكولوجية-الاجتماعية:
تركز هذه النظريات على دور الفرد في التغير الاجتماعي، وعلى دور الأفكار التي يحملها الأفراد في تغير أنماط الحياة ومسارها، وتتأسس هذه النظرية على فرضية أن التغير الذي يصيب المجتمع يحدث أساساً في الأفراد، فهم الذين يغيرون وهم الذين يتغيرون، ولهذا فإن هناك مكاناً للعوامل النفسية في حركة التغير الاجتماعي.
أ – الدور التغيري للأفكار: نظرية ماكس فيبر:
ظهرت أهمية الأفكار في إحداث التغير الاجتماعي من خلال دراسة ماكس فيبر عن الأخلاق البروتستنتية وروح الرأسمالية.
يؤكد ماكس فيبر على الدور الذي تلعبه نوعية خاصة من الأفكار في إحداث تغير اجتماعي معين، لقد ظهرت الأنشطة الرأسمالية في أرجاء مختلفة من الأرض وفي أوقات مختلفة عبر الزمن، ولكن أياً منها لم يكن مثل الرأسمالية يعتمد أساساً على المبادئ العلمية، وعلى نظام قانوني إداري متميز، والكفاءة الفنية والفضيلة والمنافسة الحرة والموازنة المستمرة بين التكلفة والعائد، العمل الحر الرشيد الذي يتحدد من خلال فضائل وقيم محددة تتمثل في الاقتصاد في الإنفاق وضبط النفس والابتكار والتجديد، وهذه كلها خصائص نموذجية للرأسمالية الغربية الحديثة التي تختلف في طبيعتها عن الرأسمالية التقليدية.
ب – نظرية الشخصية المحددة: إيفرت هاجن:
ركز هاجن على دور المجددين في إحداث التغير الاجتماعي، لقد نظر إلى المجتمعات التقليدية على أنها مجتمعات ساكنة راكدة تعرف نظماً جامدة للمكانة الاجتماعية (وجود جماهير من الفلاحين وصفوة حاكمة) تحكمها علاقات تسلطية غير مبدعة وغير دافعة للتجديد، وينعكس ذلك على الأفراد الذين يعيشون في هذه المجتمعات، حيث يتصفون بعدم القدرة على التجديد وعدم القدرة على ضبط وتحليل العالم الذي يعيشون فيه ومثل هذا المجتمع يعد مجتمعاً ساكناً وقد لا يعرف التغير لعدة قرون، ويفترض هاجن أن ثمة علاقة قوية بين طبيعة البناء الاجتماعي وبين نمط الشخصية، بحيث يمكن القول أن البناء الاجتماعي لن يتغير إلا إذا تغيرت الشخصية.
ومن هنا تبدأ نظرية هاجن في التغير الاجتماعي، فذلك التغير يرتبط بعوامل نفسية، أي يخلق أنماط الشخصية القادرة على التجديد، وتتسم مثل هذه الشخصية بالابتكارية والفضول والانفتاح على الخبرة، إن مثل هذه الشخصية تسعى إلى ابتكار حلول جديدة ولا تقبل ما هو قائم منها، كما أنها تنظر إلى العالم من حولها على أنه عالم يقوم على نظام معين قابل للفهم، وتكون قادرة على حل المشكلات التي تواجهها في العالم، ويفترض هاجن أن التغير في البناء التقليدي للمجتمعات يبدأ عندما تظهر مجتمعات من الأفراد لها هذه الخصائص تهدد بناء المكانة القائم وتسحب البساط من تحت أقدامه، ومثل هذه الجماعات تظهر بالتدريج، ومن خلال عمليات مستمرة من الانسحاب، ويرتبط ظهورها وتكاثرها بظهور ظروف اجتماعية (ترتبط بالأسرة والتنشئة الاجتماعية)، وهكذا يحدث التغير بشكل تدريجي فينتقل المجتمع من حالة التسلطية، إلى حالة الابتكارية مروراً بعمليات وسيطة ترتبط بتحدي نظم المكانة القائمة والانسحاب منها.
ج – نظرية المجتمع المنجز: ديفيد ماكليلاند:
اهتم ماكليلاند مثله مثل هاجن بنوع معين من التغير هو التغير الاقتصادي ومال ميلاً سيكولوجياً في تحليله لعملية التغير في المجتمعات التقليدية، وكانت نقطة الارتكاز عنده هي الدافعية للإنجاز، لقد أكد على أن عملية التنمية الاقتصادية –سواء في المجتمعات القديمة أو الحديثة- تظهر دائماً بناء على ظهور متغير سابق عليها هو الحاجة إلى الإنجاز، ومن ثم فإن المجتمع الذي تظهر فيها هذه الحاجة يكون أقدر على التغير من غيره لأنه ينمي القدرات الإبداعية وتخلق فيه دافعية قوية للإنجاز، وبناء على ذلك فقد رفع ماكليلاند شعاراً يقول فيه "استثمر في صناعة رجل ولا تستثمر في صناعة طائرة".
ويقصد بالحاجة إلى الإنجاز القدرة على الإنجاز الاقتصادي الفردي الذي ينتج النمو الاقتصادي، ويفترض أن الحاجة إلى الإنجاز تعد المحرك الأساسي لعملية التغير الاجتماعي.
لقد انتقد ماكليلاند لإسرافه في إبراز العوامل النفسية ونظرته إلى الدافعية للإنجاز على أنها العامل الوحيد المحرك للنمو الاقتصادي، حيث عدل من نظريته لتركز لا على التنشئة الاجتماعية فقط ولكن على التدريب وتغيير الاتجاهات.
فعمليات التدريب المستمرة يمكن أن تخلق في الأفراد ذوي الاتجاهات التقليدية اتجاهات جديدة تدفعهم نحو مزيد من تحقيق النمو الاقتصادي، وخلق فرص جديدة للعمل ورفع مستوى المعيشة، ومن ثم تخلق لديهم دافعية قوية للإنجاز.
نظريات التغير الثقافي:
أ – النظريات التطورية:
وتمثل مختلف المحاولات التي تبذل لتفسير وفهم التغير الثقافي من منظور "العملية الطورية" التي استعارت فكرتها من علم البيولوجيا، وتأثرت في تطبيقها بالنظرية التطورية التي قدمها دارون في كتابه "أصل الأنواع"، وتشتمل هذه النظريات بوجه عام على فكرتين أساسيتين:
- أن التغير الثقافي يحدث بمعدلات أكثر تباطؤاً.
- أنا لتغير الثقافي يسير بالضرورة في مجموعة محدود من المراحل التعاقبية
وتفسير ذلك أنه:
1 – فيما يتعلق بالفكرة الأولى نجد سمنر يعبر عنها في كتابه "الطرائق الشعبية" بقوله:
"تجبر الأجيال الجديدة على تقبل الأعراف، ومن ثم فهي لا تستحث الفكر، بل على العكس من ذلك نجد أن الفكر متضمن فيها من قبل كما أنها إلى جانب ذلك تمثل في الحقيقة إجابات أو حلولاً لمشكلات حياتنا، ولذلك فإن أي محاولة لإعادة التنظيم الكلي للثقافة هي في رأي سمنر محاولة صعبة".
ويقدم وليم أوجبرن بعض التعديلات الجوهرية لنظرة سمنر هذه والتي تؤكد فيها الطابع (المحافظ) للثقافة، حيث نجد أوجبرن في نظريته التخلف الثقافي يميز بين ما أسماه بالثقافة المادية واللا مادية، موضحاً كيف تتوافق كثيراً من عناصر الثقافة اللا مادية مع الظروف المادية، بمعنى أنها تتضمن انتظام السلوك الإنساني في علاقته بموضوعات مادية بحته، فالحكومة مثلاً تمثل جزءاً توافقياً من الثقافة اللا مادية تشرع وتدعم القوانين التي تجيز أو تسمح باستخدام الأرض، كعناصر مادية، غير أن المشكلة في نظره تتمثل في أن الظروف المادية للمجتمع قد تتغير بدرجة أسرع من قدرة المجتمع على تطوير صور أو أشكال جديدة من الثقافة اللا مادية التي تنظم هذه الظروف.
2 – فيما يتعلق بالفكرة الثانية التي تدور حول تحديد المراحل التطورية للتغير الثقافي، نجد أن علماء الأنثروبولوجيا الأوائل قد شغلوا بفكرة الأشكال "البدائية" و "الحديثة" للثقافة، كما قدم أوجست كونت نظرية تطورية في الثقافة البشرية تمثلت في ما عبر عنه بقانون الحالات أو المراحل الثلاث (المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية) التي يسير فيها التقدم التاريخي.
أما سير هنري مين وهو عالم انثروبولوجي فقد قدم في كتابه "القانون القديم" تمييزاً بين شكلين مختلفين للثقافة، شكل بدائي يستن على المكانة أو المركز وشكل حديث يستند على العقد، وهو في ذلك يتخذ من المقارنة بين الأشكال البدائية والحديثة للزواج أساساً للإشارة إلى ما بين شكلي الثقافة من اختلاف، ففي الزواج البدائي تعتبر الزوجة ملكية خاصة للزوج شأنها في ذلك شأن ممتلكاته الأخرى، بينما تتحرر الزوجة في الشكل الحديث من قيود الرجل.
ويتصور هربرت سبنسر المجتمع البدائي على أنه مجتمع يغلب عليه الطابع الأناني والعسكري في نفس الوقت، ليقدم قانوناً للتطور يؤكد اتجاه الحياة الاجتماعية نحو زيادة التباين والاختلاف أو اللا تجانس وبالتالي نحو الأخلاق الغيرية واتجاه اجتماعي وتنظيمي.
ويتفق دوركايم مع سبنسر على الاتجاه التطوري نحو زيادة اللا تجانس والاختلاف، ولكنه يختلف معه في تصوره لأنانية المجتمع البدائي ليقرر أن الرجل البدائي يتميز "بفرط الغيرية" أو بشعور وضمير جمعي قوي وعنيف يغلب على الضمائر الفردية، وأنه في مقابل ذلك يبتعد المجتمع الحديث تماماً عن صفات الغيرية، لأنه كما يقول دوركايم مجتمع يرفع من شأن "الفردية" إلى مستوى المبادئ الدينية بالدرجة التي تخلق ما يسميه دوركايم في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" عبادة الفرد.
ب – النظريات الشرطية:
تعتبر هذه النظريات في مجموعها عن وجهة نظر أو مدخل لتفسير التغير الثقافي يتعارض مع المدخل التطوري، والفكرة المحورية والمميزة لهذا المدخل هي أن الثقافة قد تتغير في اتجاه معين معتمدة في ذلك على وجود عوامل معينة ينظر إليها على عوامل (تسبب) التغير، ومن ثم فإن القضية الأساسية وفقاً لهذه النظرة ليست هي اكتشاف الاتجاه العام للتطور الثقافي، بل هي تحديد الوزن النسبي لعوامل التغير المختلفة في مجال إحداث هذه التغيرات، وقد عرفت هذه النظريات "الحتمية" لأنها وهي بصدد تفسير التغير بالرجوع إلى عوامله أو أسبابه تحدد عاملاً واحداً بعينه دون غيره.
وتواجه النظريات الحتمية نفس الصعوبات رغم اختلافها في تحديد أسباب التغير، وهي صعوبات منهجية في أساسها تتعلق بحدود التفسير العلمي للظواهر الاجتماعية والثقافية وتتمثل باختصار في أن الارتباط بين أي شكل من أشكال الثقافة وبين أي شكل من أشكال التكنولوجيا أو الاقتصاد أو أي علم آخر قد لا يكون ارتباطاً تاماً في كثير من الأحيان كما هو الحال بالنسبة لارتباط السبب أو العلة بالنتائج في العوم الطبيعية.
وإزاء هذه الصعوبات تقدم نظريات العوامل المتعددة مدخلاً لتفسير التغير الثقافي يتعارض مع مدخل النظريات الحتمية يعترف بتعقيد التفسير العلمي للتغير الثقافي، كما يؤكد أولاً أن التغير الثقافي ينبثق عن عدد كبير ومتنوع من المصادر ولا يرجع إلى مجرد التغيرات التي تطرأ على عامل واحد بعينه، وثانياً أنه سواء بقي التغير على ما هو عليه في مراحله المبكرة أو اتخذ أشكالاً أخرى من التطور فإنه يعتمد على عدد كبير ومتنوع من العوامل.
إذا كانت عزلة الشعوب تؤدي إلى خلق ثقافات مستقلة ومختلفة فإن اختلاطها سيؤدي بهذه الثقافات المختلفة وبالضرورة إلى ما يعرف باسم "التمثيل الثقافي" وبالتالي إلى اختفاء هذه الاختلافات الثقافية وبالطبع يلعب "الانتشار الثقافي" دوراً هاماً في هذا الصدد.
عن: موقع العلوم الاجتماعيه
أولاً: التغير الحتمي:
وهي تلك النظريات التي تركز في دراستها للتغير الاجتماعي على عامل واحد، ولذلك فإن هذه النظريات توصف بأنها نظريات اختزالية، أي أنها تختزل كل العوامل في عامل واحد، ويكمن هذا المعنى في مفهوم الحتمية (Determinism) فهذا المفهوم يشتق من الكلمة اللاتينية (Determinant) ومعناها يحدد، ولذلك فإن الحتمية تفترض أن الأمور محددة سلفاً، وأن المهمة الملقاة على عاتق الباحث هي اكتشاف جملة الشروط المسبقة التي تعين حدوث ظاهرة من الظواهر، وعندما استخدمت الكلمة في الفكرة الاجتماعي، فإنها أصبحت تعني البحث عن السبب الوحيد، الأصل الكامن خلف حدوث كل الظواهر، أو الذي ترتبط به كل المتغيرات كمتغيرات تابعة بالضرورة.
أ – الحتمية الجغرافية:
هناك اعتقاد قديم بأن ثمة علاقة بين طبيعة الطقس الذي يعيش فيه الإنسان وبين طابعه الاجتماعي ولقد تأثر المنظرون الاجتماعيون الأوائل بهذا الاعتقاد، وحاولوا من خلاله أن يميزوا أوجه التشابه والاختلاف بين البشر، وكانت النتيجة نظرية شاملة في الحتمية الجغرافية.
من أشهر علماء هذه النظرية هنتنجتون حيث استخدمها لا في تفسير تغير الاختلاف بين البشر فحسب بل في تفسير تغير المجتمعات، فقد ذهب إلى القول بأنه إذا كانت الظروف الجغرافية هي التي تحدد صفات الناس وسلوكهم، فإن هذه الصفات وذلك السلوك لن يتغير إلا إذا تغيرت الظروف الجغرافية.
ب – الحتمية البيولوجية:
تأسست على فرضية مؤداها أن الناس في العالم ينقسمون إلى أجناس، وجماعات متميزة بيولوجياً، وأن الأجناس تختلف في قدرتها على تطوير الحياة الاجتماعية وتنميتها، وأن نوعية الحياة لدى شعب من الشعوب هي مؤشر على قدراتها البيولوجية-العرقية، وفي ضوء ذلك تتبلور الفروق بين الشعوب، كما تفسر التغيرات الاجتماعية التي تظهر لدى هذه الشعوب، سواء التغيرات السلبية أو الإيجابية التي تفسر بظهور أشكال من التفوق الكامن في شعب من الشعوب.
وتقوم الحتمية البيولوجية على فرضية سادت في مجتمعات قديمة، وهي تلك الخاصة بتفوق طبقات داخل المجتمع على طبقات أخرى، وارتباط هذا التفوق بالخصائص البيولوجية، وظهرت هذه الفكرة في الحضارة اليونانية التي ظهر فيها الاعتقاد بأن هناك أناساً ولدوا ليحكموا وآخرين كرعية.
ولقد لعب دي جوبيون دوراً في ترويج هذه الفكرة من خلال بحثه عن تفاوت السلالات البشرية الذي ربط فيه بين تفوق شعب على آخر أو انحطاطه.
ومن المتغيرات البيولوجية التي يتم التركيز عليها:
1 – أثر التفاوت الوراثي على التغير الاجتماعي.
2 – أثر التفاوت بين الأفراد في الذكاء والإمكانات الجسمية والنفسية المختلفة (دور الزعامة الكاريزمية).
3 – أثر البيئة الصحية العامة على تطور الشعب ونموه الاقتصادي والاجتماعي.
4 – أثر الانتخاب الطبيعي والاصطناعي على الأشكال المختلفة لهرم السكان.
أوجه النقد الموجه للنظريات الحتمية:
1 – أنها نظريات اختزالية ذات نظرة أحادية.
2 – أنها نظريات متحيزة تميل إلى تبرير أفكار بعينها.
3 – أنها نظريات غير علمية لأنها تؤكد سبباً واحداً دون تمحيص علمي دقيق.
4 – أنها قد أدت إلى كثير من الصراعات بين الشعوب.
5 – أنها ولدت أشكالاً من العنصرية السياسية التي يعاني منها عالمنا المعاصر.
ثانياً: النظرية التطورية:
انتشرت في القرن التاسع عشر، وكانت متوازية مع النظريات الحتمية، وظهرت من خلال الاعتقاد بأن المجتمعات تسير في مسار واحد محدد سلفاً عبر مراحل يمكن التعرف عليها.
أ – النظريات الخطية:
توصف بأنها تهتم بالتحولات التقدمية المستمرة أو المطردة الموصلة في النهاية إلى هدف محدد ويمر المجتمع في حالة تحوله نحو تحقيق هذا الهدف بمراحل أو خطوات ثابتة، وتعتبر هذه الفكرة قديمة ظهرت في فلسفة الإغريق، وأعيد أحياؤها في عصر التنوير، وقويت هذه الفكرة في القرن التاسع عشر عندما انشغل المفكرون الاجتماعيون بالبحث عن الأصول الأولى لمجتمعاتهم.
سار الفكر التطوري المبكر في خطين رئيسيين في تحديده لمراحل التطور:
1 – التركيز على عنصر واحد من عناصر الحياة الاجتماعية أو الثقافية وتحديد المراحل الزمنية التي سارت فيها المجتمعات وفقاً لهذا العنصر.
2 – بدلاً من التركيز على عنصر واحد مال بعض التطوريين إلى النظر للتطور الكلي في البناء الاجتماعي أو الثقافي، وتحديد المراحل بشكل كلي دون التركيز على عنصر بعينه، ومن الأمثلة على ذلك نظرية أوجست كونت في تطور المجتمعات من المرحلة الوضعية، ونظرية ماركس في التحول من المجتمع المشاعي إلى الإقطاعي إلى الرأسمالي إلى الاشتراكي، ونظرية لويس مورجان عن التحول من المجتمع البدائي إلى البربري، إلى الحضارة، ونظرية سبنسر في التحول من المجتمع العسكري إلى الصناعي، ذلك التحول الذي يصاحبه تحول من حالة التجانس المطلق إلى حالة اللاتجانس غير المستقر.
وسواء ركزت النظرية على متغير واحد أو ركزت على المجتمع ككل، فإن التطورية الخطية تتميز بتحديد مراحل تقدمية تسير نحو هدف محدد.
ويكمن الخلاف بين المفكرين التطوريين في عنصرين أساسيين: الأول يرتبط بعدد مراحل التطور، والثاني يرتبط بطبيعة العامل المحرك للتغير.
فأوجست كونت يرى أن الإنسانية تسير سيراً تلقائياً تقدمياً، والتقدم في نظره سير اجتماعي نحو هدف معين، وهذا السير يخضع لقوانين ضرورية هي التي تحدد بالضبط مداه وسرعته، ويستدل كونت على خضوع الإنسانية لظاهرة التقدم والارتقاء المطرد، بأنها مرت بثلاث مراحل هي: الحياة الاجتماعية في العصور القديمة والحياة الاجتماعية في القرون الوسطى المسيحية، ثم التنظيم الاجتماعي الذي قام غداة الثورة الفرنسية.
والتقدم الاجتماعي في نظره مظهر من مظاهر التطور العقلي، وقوانينه مستمدة من قوانين تطور الفكر التي تصور انتقال التفكير الإنساني من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الفلسفية الميتافيزيقية، ثم المرحلة العلمية الوضعية، وهذا قانون ظاهر الخطأ ومن ثم فكل ما يقوم عليه من آراء وتصورات لا يعد صحيحاً بصورة قاطعة.
وعند هنري مورجان في كتابه (المجتمع القديم) يفترض أن مراحل التطور التكنولوجي ونظم القرابة ترتبط بمختلف المؤسسات الاجتماعية والسياسية.
ولقد وصف تقدم النوع الإنساني من خلال ثلاث مراحل رئيسية للتطور:
المرحلة البدائية والمرحلة البربرية ومرحلة المدنية، كما قسم كلاً من المرحلتين البدائية والبربرية إلى ثلاثة أقسام عليا ووسطى ودنيا:
1 – المرحلة الدنيا من المرحلة البدائية وهي تبدأ منذ نشأة الجذور الإنسانية وحتى بداية الفترة التالية.
2 – المرحلة الوسطى من البدائية وهي تبدأ من مرحلة صيد الأسماك للحصول على الغذاء ومعرفة استخدام النار حتى الفترة التالية.
3 – المرحلة العليا من البدائية وتبدأ من اختراع السهم والقوس وحتى المرحلة التالية.
4 – المرحلة الدنيا من البربرية وهي تبدأ من ابتكار صناعة الفخار إلى الفترة التالية.
5 – المرحلة الوسطى من البربرية وهي تبدأ منذ استئناس الحيوانات في نصف الكرة الشرقي، وفي الغرب منذ زراعة الذرة والنباتات بواسطة الري إلى المرحلة التالية.
6 – المرحلة العليا من البربرية وتبدأ منذ ابتكار عملية صهر الحديد الخام مع استخدام أدوات جديدة إلى المرحلة التالية.
7 – مرحلة المدنية وهي تبدأ منذ اختراع الحروف الأبجدية المنطوقة واستخدام الكتابة حتى وقتنا الحاضر.
ب – النظريات الدائرية:
يذهب أصاحب هذه النظريات إلى أن التغير صعوداً وهبوطاً في تموجات على شكل أنصاف دوائر متتابعة وبنظام مطرد، بحيث يعود المجتمع من حيث بدأ في دورة معينة، وتنقسم النظريات الدائرية إلى نوعين: بعضها يفسر جانباً محدوداً من جوانب الحياة الاجتماعية أو يشرح ظاهرة أو نظاماً اجتماعياً واحداً، وبعضها الآخر يهدف إلى تفسير المجرى العام للتاريخ، متناولاً جميع الظواهر والنظم والأنساق الاجتماعية دون أن يركز على ظاهرة واحدة أو نظام بذاته، ومن أصحاب النظريات الدائرية: ابن خلدون، وفيكو، وشبنجلر، وتوينبي.
يرى ابن خلدون أن المجتمع الإنساني كالفرد يمر بمراحل منذ ولادته حتى وفاته، وأن للدول أعماراً كالأشخاص سواء بسواء، وعمر الدولة في العادة ثلاثة أجيال، والجيل أربعون سنة، فعمر الدولة إذن مائة وعشرون سنة، وفي هذه الأجيال الثلاثة يمر المجتمع بمراحل ثلاث هي:
1 – مرحلة النشأة والتكوين: وهي مرحلة البداوة، ويقتصر الأفراد فيها على الضروري من المعيشة.
2 – مرحلة النضج والاكتمال: وهي مرحلة الملك، وفيها يتحول المجتمع إلى الحضارة.
3 – مرحلة الهرم والشيخوخة: وهي مرحلة الترف والنعيم أو الحضارة.
نظرية المفكر الإيطالي فيكو الدائرية لتطور المجتمعات:
1 – المرحلة الدينية أو الإلهية: وفيها يرجع الناس كل شيء إلى الآلهة.
2 – المرحلة البطولية: وفيها يرجعون كل شيء إلى العظماء والأبطال.
3 – المرحلة الإنسانية: وفيها أصبحت الجماهير هي المحرك الحقيقي لكل شيء.
ويؤدي منطق نظريته إلى أن الإنسانية لا تستقر ولكنها تسير سيراً دائرياً، فعندما تستقر فترة معينة في المرحلة الأخيرة فإنها سرعان ما تعود القهقرى إلى المرحلة الأولى ولكن بشكل مغاير وبصورة أكثر رقياً، أي أن آخر طور من هذه الأطوار إنما يمهد للطور الأول ولكن بشكل أرقى، ولذلك أطلق على نظريته قانون النكوص.
كما اهتم أوزفالد شبنجلر الذي يعد من أشهر أصحاب النظرية الدائرية في كتابه (سقوط الغرب أو انهيار الغرب بالحضارات) وشبهها بحياة الكائنات الحية التي تمر بمرحلة الشباب ثم الرشد فالشيخوخة المحتومة.
ويمثل الفيلسوف المعاصر أرنولد توينبي أفضل معرفة لتلك النظريات الدائرية، ويتضح ذلك بصورة جلية في كتابه الشهير (دراسة التاريخ) الذي حاول فيه البحث عن الأسباب العامة لارتقاء وانحدار الحضارات، ويؤكد أن فكرة التحدي والاستجابة تمثل سبب نقل القوى فيرى أن الاستجابات الناجحة للتحديات تنتج عنها عناصر النمو.
إن توينبي حصر نطاق التغير في ثلاث أحوال أساسية الأولى هي: حالة التوازن أو التكافؤ، والثانية هي: حالة الانتقال إلى حالة اللا توازن، ثم أخيراً حل الأزمة أو المشكلة أي الانتقال إلى حالة جديدة.
وقد أجمل توينبي طبيعة الانهيار الحضاري في ثلاث نقاط:
الأولى: إخفاق الطاقة الإبداعية في الأقلية المبدعة، وعندئذ تتحول تلك الأقلية إلى أقلية مسيطرة.
الثانية: ترد أغلبية المجتمع على طغيان الأقلية بسحب الولاء لهذه الأقلية وعدم محاكاتها.
الثالث: يستتبع الثقة بين أقلية المجتمع الحاكمة وأغلبيته المحكومة ضياع وحدة المجتمع الاجتماعية وانهياره.
أنماط الثقافة:
أولاً: الثقافة الحسية:
وتوجد عندما تتقبل عقلية الجماهير حقيقة الأشياء ونستطيع ملاحظتها بالأعضاء الحسية، ولذلك لا تهتم الحضارة الحسية بالبحث أو اكتشاف "المعرفة المطلقة" وإنما تتجه نحو استخدام "الامبيريقية" (الملاحظة) كمصدر للحقيقة.
ثانياً: أما وجهة نظر الثقافة الصورية:
فهي عبارة عن إحساس روحي، حيث تعتمد تلك الثقافة على اتجاه ديني إلى حد بعيد، ومن ثم تعتمد على الدين والوحي كمصادر للحقيقة ولا تهتم بالجوانب الامبيريقية، فإذا كان الشخص الحسي يكتسب المعرفة من الظواهر التي يمكن ملاحظتها ولذلك يستطيع أن يعالجها ببراعة، فإن الشخص الصوري هو ببساطة الذي يطابق بين الأنماط وأحوالها في مجموعة كلمات، ويضع تنبؤات خيالية، ومن ثم يكون صاحب تلك الثقافة أزلياً ومطلقاً.
ثالثا: جاءت الثقافة المثالية مزيجاً من الأنماط الحسية والصورية:
ومع ذلك فإن هذا النوع من الثقافة يرتقي فوق النوعين السابقين نظراً لإضافة "السبب" كمصدر للحقيقة، ولكي توجد هذه الثقافة المثالية فيجب أن تتعايش أو تتصاحب عناصر الثقافة الحسية والصورية في نمط متناسق، هذا الخلق يمثل مثلثاً أبستمولوجياً.
رابعاً: تكامل النسق الفكري "السوروكين" والذي يطلق عليه "الثقافة المختلطة":
وهو مركب من الثقافة الحسية والصورية بدون "سبب" كمصدر للحقيقة، ويجب أن تعتمد هذه الثقافة إلى حد ما على الامبيريقية والزهد أو التقشف (الولاء)، كما يجب أن توضح الخط الوسط لفصل الثقافة الحسية والصورية في أساس المثلث.
من الواضح أن أصحاب النظريات الدائرية يتفقون على فكرة أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الخبرات التاريخية للمجتمعات يمكن أن تتكرر، لكنهم يختلفون في رؤيتهم لهذه الحركة الدائرية للمجتمعات فبعضهم يحدد مراحل ثابتة تمر بها كل المجتمعات كما في نظرية شبنجلر أو نظرية سوروكين، بينما يميل البعض الآخر إلى الحديث عن دورات يمكن أن تتكرر هنا وهناك دون تحديد مراحل ثابتة، كما هو الحال في نظرية باريتو أو نظرية تويبتي.
1 – أنها تفرض مخططاً تطورياً ثابتاً على كل المجتمعات دون النظر إلى واقع هذه المجتمعات وسياق أبنيتها الداخلية.
2 – أنها تعتبر التطور عملية حتمية أو ضرورية في كل المجتمعات.
3 – أنها تهمل التطور متعدد الخطوط، فالتطور إما خطي وإما دائري.
4 – أنها تفترض أن التطور إما أن يكون تقدمياً أو رجعياً، وهي بذلك تهمل أشكال التطور الأخرى الوسيطة.
الصور الحديثة التطورية:
أ – نظرية مراحل النمو:
وهي التي قدمها والت روستو عام 1961م في كتابه مراحل النمو الاقتصادي وتقوم هذه النظرية على فرضية مؤداها أن النمو الاقتصادي في المجتمعات جميعاً يمر بمراحل محددة وأن الفرق بين مجتمع وآخر هو في الدرجة التي قطعها المجتمع على طريق النمو الاقتصادي، ويعني ذلك ضمنياً أن المجتمعات غير النامية سوف تمر بنفس خط التطور الذي مرت به المجتمعات المتقدمة وقد حدد روستو مراحل النمو بخمس:
1 – مرحلة المجتمع التقليدي، 2 – مرحلة شروط التهيؤ للانطلاق 3 – مرحلة الانطلاق 4 – مرحلة الاتجاه نحو النضج 5 – مرحلة الاستهلاك الوفير
ويرى روستو أن المجتمعات لابد أن تمر عبر هذه المراحل بالترتيب، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف المدة اللازمة لكل مرحلة ويربط روستو بين البناء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع.
ب – نظرية الالتقاء أو التقارب:
قدمها كلارك كير عام 1960م وقد عرفت بنظرية (التقارب أو الوفاق) وتتأسس هذه النظرية على فرضية أساسية، هي أن العالم قد دخل إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة التصنيع الكامل، ولا شك أن هناك من الأفكار ما يقترب من هذه المرحلة وبعضها الآخر ما يزال بعيداً عنها، وللتصنيع خاصية جوهرية هي أنه يجعل المجتمعات متشابهة ويخلق نظماً متشابهة، ويقوم التشابه على المظاهر الآتية:
1 – الإنتاج الواسع النطاق الذي يعتمد على المهارات والمنافسة وتقسيم العمل.
2 – الحراك الاجتماعي الرأسي والأفقي.
3 – تطور التعليم وتفرعه إلى التركيز على التعليم الفني المتخصص والتعليم الإداري.
4 – التحضر وزيادة سكان المدن.
5 – تحقيق درجة من الإنفاق على القيم.
6 – نمو الاعتماد المتبادل وتناقص فرص قيام الحرب.
ج – نظرية نهاية التاريخ:
قدمها فرنسيس فوكوياما عام 1989م بعد سقوط الاشتراكية وتتأسس هذه النظرية على آراء هيجل التطورية التي تنظر إلى التطور على أنه انطلاق نحو الكمال، العقل الكامل، والدولة الكاملة، والقيم المطلقة، واعتمد فوكوياما على فكرة هيجل حول الرغبة في الاعتراف والتقدير والتي اعتبرها هيجل فكرة محركة للتاريخ، وينظر فوكوياما إلى الديمقراطية الليبرالية المعاصرة على أنها ألغت فكرة العلاقة بين السادة والعبيد.
لقد كانت كل النظم تنشغل بالبحث عن الاعتراف، الذي يتمثل في صورته الملموسة في النزاع بين شخصين متحاربين، إن هذه الرغبة في الاعتراف هي التي تجعل أياً منهما يموت استسلاماً للآخر.
أما الليبرالية الديمقراطية فقد بدلت الرغبة غير العقلانية في الاعتراف بالدولة أو الفرد، وأحلت محلها رغبة عقلانية في الاعتراف بالدولة أو الفرد، على أساس من المساواة"، ويعني ذلك أن الليبرالية الديمقراطية قد حلت معضلة الصراع التاريخي من خلال قيمة المساواة، وهي بذلك تكون قد أوقفت التاريخ عن الحركة، فهي إذن نهاية التاريخ وسوف تتطور نفس المجتمعات لتصل إلى نفس هذه النهاية، وليس ثمة مجال آخر للتطور بعد الديمقراطية الليبرالية التي تحقق للفرد ذاته وكماله وتخلق إطاراً من المساواة، تختفي فيه السيطرة الامبريالية.
ثالثاً: النظريات البنائية-الوظيفية:
يشير مفهوم البناء إلى العلاقات المستمرة الثابتة بين الوحدات الاجتماعية، بينما يشير مفهوم الوظيفة إلى النتائج أو الآثار المترتبة على النشاط الاجتماعي.
فالبناء يكشف عن الجوانب الهيكلية الثابتة، بينما تشير الوظيفة إلى الجوانب الدينامية داخل البناء الاجتماعي.
1 – الوظيفية الكلاسيكية:
وهي أعمال هربرت سبنسر وإيميل دوركايم وماكس فيبر وباريتو، فالتغير الاجتماعي يظهر في شكل إضافات في الحجم وتباين في المكونات يصاحبه دائماً عمليات للتكامل والتوازن.
أ – يتغير المجتمع من وجهة نظر هربرت سبنسر في ضوء نفس القوانين التي يتحول بها عالم المادة التي تتحول من حالة اللاتجانس واللا تحدد إلى حالة من التجانس والتحدد والانتظام، لقد اعتقد سبنسر أن القاعدة يمكن أن تنطبق على تطور الكون، والأرض، والكائنات البيولوجية، والعقل البشري، والمجتمع البشري، فالعالم اللا عضوي (عالم المادة) والعالم العضوي (عالم الكائنات الحية) والعالم فوق العضوي (عالم المجتمع) جميعها تخضع لنفس قوانين الحركة والتطور، وفي ضوء هذه الفرضية، نظر سبنسر إلى المجتمع على أنه كيان كلي يتكون من وحدات متميزة تنتظم وفقاً لترتيبات معينة في مكان محدد، ويشبه المجتمع في تكوينه الكائن العضوي، ولذلك فإنه عندما يتغير يخضع لنفس منطق تطور الكائنات العضوية، فالمجتمع ينمو في حجمه وهو عندما ينمو تتباين مكوناته وتصبح غير متشابهة وهنا يظهر ضرب من التباين البنائي، ولكن هذا التباين لا يفقد المجتمع تكامله فهو يطور دائماً أشكالاً جديدة لتكامل أجزائه المتباينة، وهكذا فإن المجتمعات تبدأ بسيطة، وتتحول بالتدريج إلى مجتمعات مركبة، إلى أن يظهر المجتمع الصناعي الذي يتميز بتباينه وعدم تجانسه الشديدين، وإذا كان المجتمع البسيط (والذي أطلق عليه سبنسر المجتمع العسكري) يؤسس تكامله على القهر والتعاون الإجباري، فإن المجمع الصناعي يؤسس تكامله على التعاون الاختياري.
ب – قدم إيميل دوركايم نظرية في التغير الاجتماعي تشبه إلى حد كبير نظرية هربرت سبنسر، دون التزام بالمماثلة العضوية أو تشبيه التغير في المجتمع بالتغيرات في عالم المادة أو عالم الكائنات الحية، وانطلق في رؤيته للتغير من منظور وظيفي يتأسس على فكرتي التباين والتضامن، ويتضح ذلك من العلاقة التي أقامها بين مفهوم تقسيم العمل ومفهوم التضامن الاجتماعي.
فتقسيم العمل تصاحبه ضرورة مختلفة من التباين الاجتماعي تتمثل في زيادة السكان وزيادة الكثافة الأخلاقية، بل إن هذه التباينات الاجتماعية هي التي تجعل العمل ضرورة، وهو في جوهره تعبير عن هذا التباين ودالة على حدوثه، فالمجتمعات تميل في تغيرها إلى أن تتباين في مكوناتها، بل إن حدوث أشكال من التباين يؤدي إلى زيادة الكثافة الأخلاقية (تنوع القيم والاتجاهات والميول والمعتقدات) وهذه بدورها تؤدي إلى تقسيم العمل، وهكذا.
غير أن المجتمعات لا تتحول دون ضوابط، فتحولها منضبط بقواعد ومعايير قانونية، وهنا يأتي مفهوم التضامن، فإذا كانت المجتمعات البسيطة (وهي مجتمعات غير متباينة) فهي مجتمعات تحقق تضامنها وتكاملها من خلال القانون القهري (فرض أسلوب واحد في الحياة والتفكير والسلوك) فإن المجتمعات الحديثة (وهي مجتمعات متباينة) تحقق تكاملها وتضمانها من خلال القانون المدني أو التعويضي (الذي يتيح إمكانية تعدد أساليب السلوك وتباينها) ولقد أطلق دوركايم على النوع الأول المجتمعات مجتمعات التضامن الآلي وعلى النوع الثاني مجتمعات التضامن العضوي.
2 – نظرية التوازن الدينامي:
تطورت الوظيفية في القرن العشرين لتركز على فكرة التوازن الدينامي في عملية التغير الاجتماعي، ويعد عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز أشهر من طور الأفكار الوظيفية في هذا الاتجاه.
إن المجتمع عند بارسونز هو أحد الأنساق الأساسية للفعل التي حددها في أربعة أنساق: النسق العضوي، ونسق الشخصية، والمجتمع، والثقافة، والمجتمع بدوره ينقسم من الداخل إلى أربعة أنساق فرعية هي: الاقتصاد والسياسة، والروابط المجتمعية، ونظم التنشئة الاجتماعية، والمجتمع كنسق يعيش في حالة توازن (الكائن العضوي-الشخصية-الثقافة) وهو يتوازن من الداخل حيث يحقق انساق علاقات منتظمة ومتوازنة.
وعندما يتعرض المجتمع لحالة تغير، فإنه لا يفقد خاصية توازنه، فهذا التوازن دينامي ومستمر، لذلك فإنه يمكن للمجتمع دائماً من أن يتكيف مع التغيرات الجديدة ويدمجها داخل بنائه، ويمكن أن نميز نوعين من التغير الاجتماعي:
أ – التغيرات قصيرة المدى: وهي التي تظهر داخل المجتمع نتيجة عوامل داخلية (كالاختراعات والأفكار الجديدة) أو عوامل خارجية (كتغير الصفات الوراثية للسكان، وتغير أساليب استغلال الطبيعة أو الحروب) إن هذه التغيرات تحدث تأثيراً على حالة التوازن التي ينتظم فيها المجتمع، إنها تكسر التوازن أو تهدده من جراء ما تخلفه من توترات في بناء العلاقات الداخلية بين مكونات النسق الاجتماعي.
وإذا استمرت هذه التغيرات فقد تؤدي إلى القضاء على المجتمع أو إلى إحداث تغيرات بنائية عامة فيه (كما يحدث في حالة الثورات)، ولكن هذا لا يحدث إلا في ظروف نادرة، فالمجتمعات لديها قدرة تكيفية داخلية ناتجة من حالة التوازن الدينامي التي يتميز بها المجتمع، وعندما تحدث التوترات والضغوط المولدة للتغير داخل المجتمع فإنها تؤثر على حالة التوازن، ولكن المجتمع ما يلبث أن يمتص هذه التوترات والضغوط ويستعيد توازنه ويظل محتفظاً بهذه الحالة من التوازن، حتى تظهر توترات أخرى وهكذا يوصف التوازن بأنه دينامي، أي مستمر قابل لأن يستوعب كل ما هو جديد، وأن يعيد تكيف النسق معه بحيث تظهر التغيرات في أضيق الحدود، وفي ضوء هذه الرؤية فإن التغيرات قصيرة المدى داخل النسق الاجتماعي تتصف بعدة خصائص:
1 – تغيرات تدريجية لا تؤدي إلى انهيار النسق أو تغيره بشكل جذري.
2 – ترتبط بعمليتين ملازمتين هما التوازن-اللا توازن وتعتبر العملية الأولى دائمة، أما الثانية فعارضة.
3 – أن جوهر التغير هنا هو التباين البنائي الوظيفي، فمزيد من التغير داخل النسق الاجتماعي يعني تباين مكونات وتعدد وظائفه.
4 – أن الاتفاق العام على القيم وأدوات الضبط الاجتماعي هما اللذان يحفظان للنسق الاجتماعي توازنه الدائم وتغيره الوئيد.
ب – التغيرات بعيدة المدى: وهي تغيرات واسعة النطاق تحدث على فترات متباعدة، ولقد فسر بارسونز هذه التغيرات من خلال مفهوم العموميات التطورية، ويقصد بها التجديد البنائي الذي له قدرة على الاستمرار والبقاء، ويخلق بدوره تجديدات وتطويرات أخرى.
إن هذه العموميات التطورية هي التي خلقت كل التحولات بعيدة المدى في تطور المجتمعات، فظهور نسق الشرعية الثقافية وظهور نسق التدرج الاجتماعي قد أدى إلى أن تتحول المجتمعات البدائية إلى مجتمعات وسيطة، كما أن ظهور النقود والأسواق، والبيروقراطية، والقانون والديمقراطية هو الذي أدى إلى تحول المجتمعات الوسيطة إلى مجتمعات حديثة، وعندما تظهر العمومية التطورية، فإنها تخلق تبايناً اجتماعياً واسع النطاق، وتخلق بذلك تحولات بنائية ملموسة ولكن هذا التباين لا بد وأن يقابله عمليات تكامل تضبط هذا التحول وتقوده، إلى أن يصبح التحول الذي خلقته العمومية التطورية تحولاً عاماً أو طبيعياً أو يصبح تحولاً معمماً.
ج – نظرية التحديث الوظيفية:
إن الاتصال الثقافي بالحضارة الغربية يؤدي إلى نشر الثقافية الحديثة في شكل دوائر تتسع باستمرار إلى أن تشمل قطاعات المجتمع بأسره فعندما يحدث هذا الاتصال تبدأ الثقافة التقليدية في الخروج من جمودها وتشهد عمليات تباين واسعة النطاق تؤدي إلى تغيرها لكي تقترب من النموذج المثالي القائم في المجتمعات الغربية، ويطلق على هذه العملية عملية التنمية أو التحديث، وهي عملية تتمثل في اكتساب واستيعاب المجتمعات النامية لقيم العمومية والإنجاز والتخصص، وهي القيم التي تتأسس عليها الثقافة الحديثة.
إن التغير الاجتماعي المرتبط بعمليتي التنمية والتحديث ليس تغيراً جذرياً، بل هو تغير تدريجي (خطي وتقدمي) يتم بمقتضاه تحول الأبنية التقليدية إلى أبنية حديثة أي تحولها من أبنية متجانسة، ساكنة، وبسيطة إلى أبنية غير متجانسة ومتحركة ومعقدة، ويفرز التغير أثناء حدوثه بعض المشكلات كالتناقض بين القديم والجديد، وحدوث "هوة ثقافية" بين تغير العناصر المادية وتغير العناصر المعنوية، وتناقض الأدوار، غير كل هذه التوترات والتناقضات تكون طبيعية أثناء عملية الانتقال من التقليد إلى الحداثة، وسوف تختفي بالتدريج مع الاتساع في عملية التغير على اختلاف بين المجتمعات في درجة استيعاب هذه التناقضات والتغلب عليها، فالمجتمعات تختلف فيما بينها في درجة تطويرها لنظم وجماعات وميكانيزمات تساهم في وضع مبادئ التكامل الاجتماعي، وبناء على ذلك فإنها تختلف في درجة القابلية للتكيف الداخلي مع ظروف التغير، وفي درجة صياغة هذا التغير في نظم اجتماعية، وكلما كان المجتمع أكثر قدرة على التكيف الداخلي والمرونة كان أكثر قدرة على التغلب على مشكلات التحول، ومن الواضح أن نظرية التحديث تميل ميلاً وظيفياً شديداً، فتفترض وجود تغيرات تدريجية ترتبط بعمليات التباين والتكامل، كما تفترض أن خبرة التغير في المجتمعات الغربية يمكن أن تتكرر في المجتمعات النامية.
رابعاً: النظريات المادية التاريخية:
إذا كانت النظرية الوظيفية تركز على التغير التدريجي التوازني، فإن المادية التاريخية تركز على التغيرات الثورية التي تنقل المجتمع من حالة إلى حالة مناقضة، وإذا كانت الوظيفية تركز على التكامل والاتفاق، فإن المادية التاريخية تركز على الصراع والتناقض، فالصراع هو المحرك الأساسي للمجتمع، وتاريخ المجتمعات هو في التحليل الأخير تاريخ الصراع بين الطبقات.
أ – النظرية الماركسية:
تنظر الماركسية إلى الحياة الاجتماعية على أنها دائبة الحركة، وتمثل حركتها شكلاً خاصاً من أشكال حركة المادة، أنها تحتوي في داخلها على دوافع التغير، إن الماركسية هي نظرية للتغير الاجتماعي وأن مفهوم التغير يعد مفهوماً محورياً فيها.
يتأسس المجتمع على أساس اقتصادي ينحصر في علاقات الإنتاج وأنماط الإنتاج السائدة في المرحلة التاريخية، أي أن الاقتصاد هو الركيزة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وذلك فإنه يشكل كل عناصر البناء الاجتماعي الأخرى والتي أطلق عليها ماركس عناصر البناء الفوقي والدولة والأسرة والثقافة.
لقد ميز ماركس في تاريخ المجتمعات بين خمس مراحل تبدأ بالمرحلة البدائية أو المشاعية البدائي، ومرحلة الإنتاج الآسيوي، والمرحلة الإقطاعية، والمرحلة الرأسمالية، ثم المرحلة الشيوعية، وتتميز كل مرحلة بوجود نمط إنتاجي معين، ووجود طبقتين متعارضتين (فيما عدا المرحلة البدائية والمرحلة الشيوعية حيث يفترض ماركس خلوهما من الطبقات والملكية الخاصة)، وينظر ماركس إلى الصراع الطبقي على أنه حالة طبيعية في المجتمعات، بل إنه المحرك الأساسي للتاريخ، فإذا كان التناقض الاجتماعي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج هو الذي يحرك البناء نحو التغير، فإن الصراع الطبقي ينجز هذه المهمة، فالمجتمعات لا تتغير إلا بوعي أفرادها، ولذلك فإن مهمة التغير من المرحلة إلى أخرى تقع دائماً على كاهل طبقة معينة، فالطبقة البرجوازية هي التي قادت التغير من الإقطاعي إلى الرأسمالي، ويفترض ماركس أن الطبقة العاملة هي التي ستقود التحول إلى عالم الشيوعية.
ب – نظرية التنمية التابعة:
ترتبط هذه النظرية بتوصيف التغير الاجتماعي في دول العالم الثالث، وهي تختلف عن النظرية الوظيفية، فإذا كانت نظرية التحديث الوظيفية ترى أن التحول إلى دول العالم الثالث يسير بشكل منتظم نحو تحقيق النموذج المثالي للمجتمعات الغربية، فإن أنصار نظرية النسق الرأسمالي العالمي يرون أن حركة التغير في مجتمعات العالم الثالث تسير نحو مزيد من التخلف، وأنه إذا تحققت فيها جوانب التنمية فإنها تظل تنمية تابعة غير مستقلة.
إن البناء الاجتماعي في دول العالم الثالث هو بناء متخلف تابع محكوم بنمط معين لتقسيم العمل الدولي، وقد اكتسب هذا البناء المتخلف خصائصه من خلال العلاقات التاريخية التي دخل فيها مع الرأسمالية العالمية، ولم تؤد هذه العلاقات إلى تحويل الأبنية التقليدية في الدول الفقيرة إلى أبنية حديثة، وإنما أخضعتها لخدمة مصالحها، وحولتها إلى أبنية تابعة مختلفة، ولقد نتج التخلف هنا من خلال امتصاص الفائض من هذه المجتمعات ونقله إلى مراكز النظام الرأسمالي العالمي.
والنتيجة المنطقية لهذه العلاقات أن ينتج في دول العالم الثالث نمط خاص من التغير يصفه البعض بأنه تغير تابع أو تنمية تابعة أو تنمية رثه.
خامساً: النظريات السيكولوجية-الاجتماعية:
تركز هذه النظريات على دور الفرد في التغير الاجتماعي، وعلى دور الأفكار التي يحملها الأفراد في تغير أنماط الحياة ومسارها، وتتأسس هذه النظرية على فرضية أن التغير الذي يصيب المجتمع يحدث أساساً في الأفراد، فهم الذين يغيرون وهم الذين يتغيرون، ولهذا فإن هناك مكاناً للعوامل النفسية في حركة التغير الاجتماعي.
أ – الدور التغيري للأفكار: نظرية ماكس فيبر:
ظهرت أهمية الأفكار في إحداث التغير الاجتماعي من خلال دراسة ماكس فيبر عن الأخلاق البروتستنتية وروح الرأسمالية.
يؤكد ماكس فيبر على الدور الذي تلعبه نوعية خاصة من الأفكار في إحداث تغير اجتماعي معين، لقد ظهرت الأنشطة الرأسمالية في أرجاء مختلفة من الأرض وفي أوقات مختلفة عبر الزمن، ولكن أياً منها لم يكن مثل الرأسمالية يعتمد أساساً على المبادئ العلمية، وعلى نظام قانوني إداري متميز، والكفاءة الفنية والفضيلة والمنافسة الحرة والموازنة المستمرة بين التكلفة والعائد، العمل الحر الرشيد الذي يتحدد من خلال فضائل وقيم محددة تتمثل في الاقتصاد في الإنفاق وضبط النفس والابتكار والتجديد، وهذه كلها خصائص نموذجية للرأسمالية الغربية الحديثة التي تختلف في طبيعتها عن الرأسمالية التقليدية.
ب – نظرية الشخصية المحددة: إيفرت هاجن:
ركز هاجن على دور المجددين في إحداث التغير الاجتماعي، لقد نظر إلى المجتمعات التقليدية على أنها مجتمعات ساكنة راكدة تعرف نظماً جامدة للمكانة الاجتماعية (وجود جماهير من الفلاحين وصفوة حاكمة) تحكمها علاقات تسلطية غير مبدعة وغير دافعة للتجديد، وينعكس ذلك على الأفراد الذين يعيشون في هذه المجتمعات، حيث يتصفون بعدم القدرة على التجديد وعدم القدرة على ضبط وتحليل العالم الذي يعيشون فيه ومثل هذا المجتمع يعد مجتمعاً ساكناً وقد لا يعرف التغير لعدة قرون، ويفترض هاجن أن ثمة علاقة قوية بين طبيعة البناء الاجتماعي وبين نمط الشخصية، بحيث يمكن القول أن البناء الاجتماعي لن يتغير إلا إذا تغيرت الشخصية.
ومن هنا تبدأ نظرية هاجن في التغير الاجتماعي، فذلك التغير يرتبط بعوامل نفسية، أي يخلق أنماط الشخصية القادرة على التجديد، وتتسم مثل هذه الشخصية بالابتكارية والفضول والانفتاح على الخبرة، إن مثل هذه الشخصية تسعى إلى ابتكار حلول جديدة ولا تقبل ما هو قائم منها، كما أنها تنظر إلى العالم من حولها على أنه عالم يقوم على نظام معين قابل للفهم، وتكون قادرة على حل المشكلات التي تواجهها في العالم، ويفترض هاجن أن التغير في البناء التقليدي للمجتمعات يبدأ عندما تظهر مجتمعات من الأفراد لها هذه الخصائص تهدد بناء المكانة القائم وتسحب البساط من تحت أقدامه، ومثل هذه الجماعات تظهر بالتدريج، ومن خلال عمليات مستمرة من الانسحاب، ويرتبط ظهورها وتكاثرها بظهور ظروف اجتماعية (ترتبط بالأسرة والتنشئة الاجتماعية)، وهكذا يحدث التغير بشكل تدريجي فينتقل المجتمع من حالة التسلطية، إلى حالة الابتكارية مروراً بعمليات وسيطة ترتبط بتحدي نظم المكانة القائمة والانسحاب منها.
ج – نظرية المجتمع المنجز: ديفيد ماكليلاند:
اهتم ماكليلاند مثله مثل هاجن بنوع معين من التغير هو التغير الاقتصادي ومال ميلاً سيكولوجياً في تحليله لعملية التغير في المجتمعات التقليدية، وكانت نقطة الارتكاز عنده هي الدافعية للإنجاز، لقد أكد على أن عملية التنمية الاقتصادية –سواء في المجتمعات القديمة أو الحديثة- تظهر دائماً بناء على ظهور متغير سابق عليها هو الحاجة إلى الإنجاز، ومن ثم فإن المجتمع الذي تظهر فيها هذه الحاجة يكون أقدر على التغير من غيره لأنه ينمي القدرات الإبداعية وتخلق فيه دافعية قوية للإنجاز، وبناء على ذلك فقد رفع ماكليلاند شعاراً يقول فيه "استثمر في صناعة رجل ولا تستثمر في صناعة طائرة".
ويقصد بالحاجة إلى الإنجاز القدرة على الإنجاز الاقتصادي الفردي الذي ينتج النمو الاقتصادي، ويفترض أن الحاجة إلى الإنجاز تعد المحرك الأساسي لعملية التغير الاجتماعي.
لقد انتقد ماكليلاند لإسرافه في إبراز العوامل النفسية ونظرته إلى الدافعية للإنجاز على أنها العامل الوحيد المحرك للنمو الاقتصادي، حيث عدل من نظريته لتركز لا على التنشئة الاجتماعية فقط ولكن على التدريب وتغيير الاتجاهات.
فعمليات التدريب المستمرة يمكن أن تخلق في الأفراد ذوي الاتجاهات التقليدية اتجاهات جديدة تدفعهم نحو مزيد من تحقيق النمو الاقتصادي، وخلق فرص جديدة للعمل ورفع مستوى المعيشة، ومن ثم تخلق لديهم دافعية قوية للإنجاز.
نظريات التغير الثقافي:
أ – النظريات التطورية:
وتمثل مختلف المحاولات التي تبذل لتفسير وفهم التغير الثقافي من منظور "العملية الطورية" التي استعارت فكرتها من علم البيولوجيا، وتأثرت في تطبيقها بالنظرية التطورية التي قدمها دارون في كتابه "أصل الأنواع"، وتشتمل هذه النظريات بوجه عام على فكرتين أساسيتين:
- أن التغير الثقافي يحدث بمعدلات أكثر تباطؤاً.
- أنا لتغير الثقافي يسير بالضرورة في مجموعة محدود من المراحل التعاقبية
وتفسير ذلك أنه:
1 – فيما يتعلق بالفكرة الأولى نجد سمنر يعبر عنها في كتابه "الطرائق الشعبية" بقوله:
"تجبر الأجيال الجديدة على تقبل الأعراف، ومن ثم فهي لا تستحث الفكر، بل على العكس من ذلك نجد أن الفكر متضمن فيها من قبل كما أنها إلى جانب ذلك تمثل في الحقيقة إجابات أو حلولاً لمشكلات حياتنا، ولذلك فإن أي محاولة لإعادة التنظيم الكلي للثقافة هي في رأي سمنر محاولة صعبة".
ويقدم وليم أوجبرن بعض التعديلات الجوهرية لنظرة سمنر هذه والتي تؤكد فيها الطابع (المحافظ) للثقافة، حيث نجد أوجبرن في نظريته التخلف الثقافي يميز بين ما أسماه بالثقافة المادية واللا مادية، موضحاً كيف تتوافق كثيراً من عناصر الثقافة اللا مادية مع الظروف المادية، بمعنى أنها تتضمن انتظام السلوك الإنساني في علاقته بموضوعات مادية بحته، فالحكومة مثلاً تمثل جزءاً توافقياً من الثقافة اللا مادية تشرع وتدعم القوانين التي تجيز أو تسمح باستخدام الأرض، كعناصر مادية، غير أن المشكلة في نظره تتمثل في أن الظروف المادية للمجتمع قد تتغير بدرجة أسرع من قدرة المجتمع على تطوير صور أو أشكال جديدة من الثقافة اللا مادية التي تنظم هذه الظروف.
2 – فيما يتعلق بالفكرة الثانية التي تدور حول تحديد المراحل التطورية للتغير الثقافي، نجد أن علماء الأنثروبولوجيا الأوائل قد شغلوا بفكرة الأشكال "البدائية" و "الحديثة" للثقافة، كما قدم أوجست كونت نظرية تطورية في الثقافة البشرية تمثلت في ما عبر عنه بقانون الحالات أو المراحل الثلاث (المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية) التي يسير فيها التقدم التاريخي.
أما سير هنري مين وهو عالم انثروبولوجي فقد قدم في كتابه "القانون القديم" تمييزاً بين شكلين مختلفين للثقافة، شكل بدائي يستن على المكانة أو المركز وشكل حديث يستند على العقد، وهو في ذلك يتخذ من المقارنة بين الأشكال البدائية والحديثة للزواج أساساً للإشارة إلى ما بين شكلي الثقافة من اختلاف، ففي الزواج البدائي تعتبر الزوجة ملكية خاصة للزوج شأنها في ذلك شأن ممتلكاته الأخرى، بينما تتحرر الزوجة في الشكل الحديث من قيود الرجل.
ويتصور هربرت سبنسر المجتمع البدائي على أنه مجتمع يغلب عليه الطابع الأناني والعسكري في نفس الوقت، ليقدم قانوناً للتطور يؤكد اتجاه الحياة الاجتماعية نحو زيادة التباين والاختلاف أو اللا تجانس وبالتالي نحو الأخلاق الغيرية واتجاه اجتماعي وتنظيمي.
ويتفق دوركايم مع سبنسر على الاتجاه التطوري نحو زيادة اللا تجانس والاختلاف، ولكنه يختلف معه في تصوره لأنانية المجتمع البدائي ليقرر أن الرجل البدائي يتميز "بفرط الغيرية" أو بشعور وضمير جمعي قوي وعنيف يغلب على الضمائر الفردية، وأنه في مقابل ذلك يبتعد المجتمع الحديث تماماً عن صفات الغيرية، لأنه كما يقول دوركايم مجتمع يرفع من شأن "الفردية" إلى مستوى المبادئ الدينية بالدرجة التي تخلق ما يسميه دوركايم في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" عبادة الفرد.
ب – النظريات الشرطية:
تعتبر هذه النظريات في مجموعها عن وجهة نظر أو مدخل لتفسير التغير الثقافي يتعارض مع المدخل التطوري، والفكرة المحورية والمميزة لهذا المدخل هي أن الثقافة قد تتغير في اتجاه معين معتمدة في ذلك على وجود عوامل معينة ينظر إليها على عوامل (تسبب) التغير، ومن ثم فإن القضية الأساسية وفقاً لهذه النظرة ليست هي اكتشاف الاتجاه العام للتطور الثقافي، بل هي تحديد الوزن النسبي لعوامل التغير المختلفة في مجال إحداث هذه التغيرات، وقد عرفت هذه النظريات "الحتمية" لأنها وهي بصدد تفسير التغير بالرجوع إلى عوامله أو أسبابه تحدد عاملاً واحداً بعينه دون غيره.
وتواجه النظريات الحتمية نفس الصعوبات رغم اختلافها في تحديد أسباب التغير، وهي صعوبات منهجية في أساسها تتعلق بحدود التفسير العلمي للظواهر الاجتماعية والثقافية وتتمثل باختصار في أن الارتباط بين أي شكل من أشكال الثقافة وبين أي شكل من أشكال التكنولوجيا أو الاقتصاد أو أي علم آخر قد لا يكون ارتباطاً تاماً في كثير من الأحيان كما هو الحال بالنسبة لارتباط السبب أو العلة بالنتائج في العوم الطبيعية.
وإزاء هذه الصعوبات تقدم نظريات العوامل المتعددة مدخلاً لتفسير التغير الثقافي يتعارض مع مدخل النظريات الحتمية يعترف بتعقيد التفسير العلمي للتغير الثقافي، كما يؤكد أولاً أن التغير الثقافي ينبثق عن عدد كبير ومتنوع من المصادر ولا يرجع إلى مجرد التغيرات التي تطرأ على عامل واحد بعينه، وثانياً أنه سواء بقي التغير على ما هو عليه في مراحله المبكرة أو اتخذ أشكالاً أخرى من التطور فإنه يعتمد على عدد كبير ومتنوع من العوامل.
إذا كانت عزلة الشعوب تؤدي إلى خلق ثقافات مستقلة ومختلفة فإن اختلاطها سيؤدي بهذه الثقافات المختلفة وبالضرورة إلى ما يعرف باسم "التمثيل الثقافي" وبالتالي إلى اختفاء هذه الاختلافات الثقافية وبالطبع يلعب "الانتشار الثقافي" دوراً هاماً في هذا الصدد.
عن: موقع العلوم الاجتماعيه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق