الرواية للشاعر والروائي وصاحب المعالي الدكتور غازي القصيبي ، ليست إكباراً لقدره هذه الألقاب لكنه فعلا " كبير" ، المتأمل في كتابات غازي القصيبي يدرك كم هو موسوعة فكرية علمية واسعة وضخمة ، ورغم هذا لا يخلو أسلوبه من خفة الدم وطرافة الأسلوب ، إنك لتجد فيه كاتب فريد من نوعه استحق كل تلك الألقاب بجداره ، وأعتقد أن لديه المزيد ليقدمه للمجتمع العربي والإسلامي ولبلاده بالخصوص .
قد لا تُستساغ البداية بمديح الدكتور غازي ، لكنه حقٌ وجب ..
الرواية تحكي قصة شاب اسمه فؤاد من مملكة البحرين في ما بين الخمسينات والستينيات الميلادية تقريبا يقرر السفر إلى جمهورية مصر والتي كانت حينذاك قلب العالم العربي ومصدر العلوم ، ولربما كانت المقصد الوحيد للعرب للدراسات العليا .
أحداث الرواية لها أبعاد كثيرة متباينة العمق ، صعبة الفهم .. بسيطة جدا في أحيان ، تعطيك صورة واضحة للعالم العربي آنذاك ، وتلك الصراعات الفكرية التي خرقت جمجمة الدماغ العربي .
كانت هناك صورة واضحة جدا تحكي قصصا لا تكاد تنتهي عن عولمة العالم العربي ، بين الأسطر تجد إبراً تخز القلب وتدميه ، وعلقما تبصقه مرارة على الحال التي قعّست النهضة الإسلامية .
إنك لتبصر في ذاك الزمن عشرات الشعارات السياسية الحزبية القومية إلخ .. والتي تشترك معظمها إلى تهميش الدين ، أو جعلها على ركن قصي من الأهمية ، فتنطلق الهتافات " أمه واحدة " " شعب واحد " " لغة واحدة " " حقوق مشتركة " " لا للرأس مالية " " نعم للاشتراكية " " نعم للماركسية " " نعم للحرية " ...
شعارات لا تكاد تنتهي ، وأحزاب تتجزء وتتوالد ، بعضها ينشق ، وبعضها يذوي ويختفي ، ومنها من يواجه مصيره بين أروقه السجون .
هناك جنسيات عربية متعددة في الجامعات المصرية أتت للتعلم وانفتحت أمامها أبواب لم تكن لتطرق يوماً في بلادهم ، ومع حماسة الشباب ، تلقى في نفوسهم رغبة في إطلاق جماح التجديد والتغيير والإطلاع وتبني الأفكار والانتصار للذات ، بالضبط كما وجدها " يعقوب " في " الوجودية " رغبة في إثبات وجوده في المجتمع من منطلق حرية شخصية وتحررٌ من قيود البشرية الانقيادية ، يشق الصف لأنه مختلف ، ويؤمن أنه مُختلف ، بطله في ذلك المعّري وأبو نواس !!
ورغم أن " الوجودية " أتت من أوروبا إلا أنها أتت لتثبت أن الوجودية موجودة منذ الأزل وأن الوجوديون عاشوا أزمانا غابرة ، وأوجدوا من أبو نواس أنموذجا عربيا ً يقتدي به العرب بلا بصيرة إلى فكرة الوجودية !
نُدرك هنا أهمية وجود الشخصية البطولية في عقلية الشباب ، وأنها الدافع الأساسي للتحدي والبذل والعطاء ، يعقوب رغم إدراكه لعواقب انخراطه في تلك الأحزاب وتبنيه تلك النظريات المعقدة إلا أنه وجد في نفسه الرغبة والتحدي ، وصلت به الوجودية إلى البحث عن كل ما يخالف المجتمع – متناسيا جدا الدين أو بالأصح لا وجود له – واختلف مع أصحابه في " شقة الحرية " ومنهم فؤاد بطل الرواية ، لدرجة أنه عاشر جميع الخادمات التي في العمائر المجاورة مقابل مبلغ مادي من باب الرأفة بالمخلوق البشري المظلوم مكبوت الرغبات مسلوب الحاجات، فوق ظلم السيد ظلم لنزواتها ورغباتها !
أصبح أنموذج الإنسان وأنه من لحم ودم وله رغبات وحاجات هو الصفة التي يعتمد عليها لبذل كل ما يملك لتحقيق الحرية لها .
الأفكار في الوجودية معقدة أكثر من ذلك بكثير ، لكنها تصب في بحر واحد " أثبت وجودك " وبمعنى آخر " خالف تُعرف " !
فؤاد ويعقوب وقاسم ونشأت وعبدالرؤوف وعبدالكريم - وبعدهم التحق ماجد - أصحاب وزملاء في الجامعة ، بعد مضي سنة من وجودهم في مصر للدراسة قرروا أن يجتمعوا في شقة قرب الجامعة سويا ً ومنها ليمارسوا حرياتهم بعيدا عن أعين الأوصياء ، فقرروا تسميتها شقة الحرية ..
كل منهم لديه تصور في عقله عن مصر والحريات في مصر والأغلبية تتفق في نزعة البحث عن صديقة " جميلة " ل صدقات بريئة أو غير بريئة ..
تُعتبر نزعة طبيعية جدا ً لشباب عُزّاب اجتمعوا في شقة في مصر ، لكن ما لم يكن بالحسبان أن يتبنى كلاً منهم مذهبا فكريا أو يلتحق بحزب ، وينخرطوا في السياسة !
الزمن .. زمن ثورات وانقلابات ، أحزاب وفرق وجماعات ، وأفكار ومعتقدات ، اجتمعت كلها في زمن واحد في مكان واحد ، وإن تسرب لدول مجاورة ك سوريا والأردن والسعودية والكويت وبعض الدول بنسب متفاوتة..
حُلم الصديقة بدأ ك مسألة صعبة في بداية الأمر إذ كيف لواحد منهم أن يحصل على صديقة هكذا بمجرد التحديد والاختيار ، المسألة بدت صعبة استنادا إلى الأخلاق التي تربوا عليها والمعتقدات إضافة للحياء الفطري الذي لم يُنزع بعد ، لكنها عقدة لم تأخذ وقتاً طويلا لتنحل وتنبسط ..!
فؤاد .. الذي يأمل كثيرا بصديقة .. ولا يدري كيف سيحدث ذلك ، والذي لا يؤمن أن لديه الجراءة لاتخاذ خليلة له ، أثناء اصطفافه لشراء ملازم الدراسة –في كلية الحقوق التي يدرس بها – في طابور طويل ، سألته الفتاة التي خلفه سؤالاً بريئا ً ، أجابها ببراءة ٍ أكثر عفوية ، وتسلسلت بهدوء لمحادثة .. ف محادثات ، فصداقة ..
المصادفة أن سعاد ليست مصرية بل من سوريا ، وهي عضوه في حزب البعث وتوالي هذا الحزب ولاءً نابعاً من أعماقها ، ولطالما كان محور أحاديثها مع فؤاد ، الوحدة .. الحرية .. الاشتراكية ...
لم يكن يتصور فؤاد أن يتعلق بفتاة هذه اهتماماتها ، لطالما انتظر تلك المشاعر المتأججة بالحب بالحنان بالنشوة التي لطالما رآها على التلفاز وسمع بها وقرأها ، لطالما حلم بهمسة ولمسة ، أحلام وردية وعذاب حلو .. لكن هيهات !!
دون وعي ٍ منه وبعد القبلة الأولى ينخرط معها في الحزب ...
وكل ٌ من هؤلاء الأصدقاء تحزب وتمذهب بطريقة ما ، بدوافعه الشخصية ..
الرواية لا تخلو أبدا ً من الحوارات الساخنة والساخرة معا ً ، ولا المواقف التاريخية المؤثرة ولا المواقف الطريفة المضحكة ..
الرواية محبوكة جيدا ً تجيب على العديد من التساؤلات ، وتولد الكثير منها ، وتدفع المرء للبحث والتقصي ، وتضفي ثقافة كبيرة للقارئ والمهتم ..
الثلاثاء، 5 مارس 2013
شقه الحريه … غازى عبدالرحمن القصيبى
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق