الحقيقة أن "بودلير" الذي نراه في هذه اليوميات هو "بودلير" نفسه الذي نعرف في القصائد والكتابات النقدية، بدأ نديّته المخاتلة، وروحه الجريحة وتمزقه بين قاع الحياة كما كان يراها، موحلة ضيقة باعثة على السأم، وآفاقها الروحية حيث الخلاص والنقاء، مع فارق وحيد أنه في قصائده يمارس هذا التمزق ويحوّله إلى شعر، مع ما في الشعر من تمنع واستقصاء، بينما هو في اليوميات يسائله ويحاوره ومن ثم، يكشف لنا عن أسراره بشكل غير معهود.
مقتطفات من الكتاب
يوميات الكائن الأوركسترالي
1 . لماذا " اليوميات " ؟
لماذا حدث الأمر بهذه الطريقة دون أي طريقة أخرى ؟
لأنه هكذا حدث ! والتاريخ يقول : الصدفة تخلق الموقف والعبقري يستغله .... "
ليون تولستوي : الحرب والسلام
كان بودلير قد توفي منذ سنة تقريبا حين صدرت رواية " الحرب والسلام " التي دار فيها هذا الحوار وكانت الصدفة وحدها هي التي أتاحت له بين سنة مولده " 1821 " وسنة رحيله " 1867 " أن يعيش لحظة جوهرية لنسمها " اللحظة الأم " تعرفها القرون مثلما يعرفها كل كائن حي يولد ويكبر ويترهل ويموت .
في رحم هذه اللحظة أفصحت معالم القرن التاسع عشر عن نفسها وأصبحت من ثم قابلة للمواجهة والتجاوز والاختراق حبلى بظلال التمرد والعقوق الخلاق .
ولنا أن نسأل ان لم يكن على النقد أن يولي عناية أكبر بمثل هذه الصدف " السعيدة " وأثرها في تمكين مبدع ما من الامساك بعصره من مكمن النبض فيه والاسهام في نحت ما هو كائن وما سيكون فلا هو يأتي مبكرا حين تكون ملامح العصر غائمة مائعة مستعصية على التحديد ولا هو يأتي متأخرا حين تكون ملامح هذا العصر قد ترهلت وبلغت من العمر أرذله فاذا هي تخرف كالعجائز طويلة الاحتضار .
كان القرن التاسع عشر كالمرجل يغلي باتجاهات فلسفية متنوعة : " ترانسندنتالية " كانت " 1724 – 1804 " " مثالية " هيغل " 1770 – 1831 " " مادية " فويرباخ " 1804 – 1872 " " تطورية " شارل داروين " 1809 – 1882 " .
وفي علاقة وسحب مع هؤلاء الأعلام الأربعة كان كارل ماركس " 1818 – 1883 " يضع اللبنة فوق الأخرى لبناء صرحه الفكري فها هو ينشره نقده لفلسفة هيغل سنة 1844 ثم أطروحاته حول فويرباخ سنة 1845 ف " بؤس الفلسفة " سنة 1847 ثم ها هو يوقع مع زميله أنجلز على " بيان الحزب الشيوعي " سنة 1848 .
واذا كان بودلير لم يفتك من الزمن ثلاث سنوات أخرى ليتاح له أن يقرأ الجزء الأول من كتاب " رأس المال " فلا شك أنه عايش صراعات الاتجاه الميكانيكي والاتجاه الذاتي ورأى كيف ظل العقل ضاربا في " المشهد " مستمدا سلطته من " عصر أنوار " لا يريد أن يخلي المكان فيما كانت " وضعية " أوغست كونت " 1798 – 1857 " تنادي بعجز العقل عن ادراك العلل والغايات وبضرورة اتخاذ العلوم التجريبية طريقا الى اليقين ولا شك أنه واكب وقوف الاتجاه الرومانسي ضد ما ترسب من مقولات القرن الثامن عشر وضد مقولات عصر الأنوار أساسا ورأى كيف برزت أفكار شوبنهاور " 1788 – 1860 " وكيف ظهر تيار الميتافيزيقا ..الخ
كان على بودلير أن يتخذ لنفسه موقفا من كل ذلك وأن يشق طريقه في زحمة من القامات الشعرية البارزة قل أن اجتمعت في مرحلة واحدة : لامارتين , هوغو , دي موسيه , تيوفيل غوتييه الخ
وقد تأثر هؤلاء الشعراء بالصراعات الفكرية التي عج بها عصرهم " ولعلهم أثروا فيها أيضا " وترجموا هذا التأثر وذاك التأثير الى مضامين وجماليات لم يكن من السهل على أي كان التقليل من شأنها أو التغاضي عنها .
بيانات الكتاب
تأليف : شارل بودلير
الترجمة : آدم فتحى
الناشر : منشورات الجمل
عدد الصفحات : 180 صفحة
الحجم : 4 ميجا بايت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق