هذه القراءة الانطباعة أقدمها لكل محبى أعمال الكاتب دان بروان و أعتقد أن أول شىء أفتتح بهذه القراءة الانطباعية هو ذكر ملامح سريعة عن حياة دان براون فلقد ولد فى العام 1964 في ايكسيتير،نيوهامشير، الولايات المتحدة الأمريكية, كان والد بروان يعمل أستاذاً لعلم الرياضيات أما والدته فكانت عازفة للموسيقى الدينية، وهكذا نشأ دان في بيئة تجمع بين العلم والدين. تزوج دان من بلايث وهي أستاذة في علم تاريخ الفن ورسامة وكثيراً ما ترافقه في رحلاته الاستكشافية.
تخرج دان من جامعة آمهيرست وأكاديمية فيلبس اكستير حيث عمل لبعض الوقت كمدرس للغة الإنجليزية قبل أن يتجه بعد ذلك إلى الكتابة. و استخدم حبه لفك الشفرات وأسرار المنظمات الحكومية فى تأليف أول رواية له بعنوان الحصن الرقمي والتي سرعان ما أصبحت رقم 1 في أكثر الكتب الإلكترونية مبيعاً على المستوى المحلي.
اعتبرته مجلة التايم بعد أن أصدر روايته الشهيرة شيفرة دا فينشي أنه واحداً من أكثر مائة شخص أثروا في العالم. ظهر دان براون على قناة سي إن إن وبرنامج توداي شو وراديو ناشونال وصوت أمريكا وتصدرت صوره صفحات الجرائد والمجلات, تم ترجمة رواياته ونشرها لأكثر من 40 لغة حول العالم.
و بسبب روايته شيفرة دافنشى ثار جدل فى الوسط المسيحى حول مدى ارتباط دان بروان بالمسيحية من عدمه و عندما سُئل عن كونه مسيحياً، أجاب : "نعم. فإذا سألت ثلاث أشخاص عن معنى كون المرء مسيحياً فستحصل على إجابة من ثلاث: بعضهم يعتقد أن المعمودية تكفي لأن يكون الشخص مسيحياً، والبعض يعتقد بحتمية قبول الكتاب المقدس على أنه حق مُسلم به، بينما يعتقد البعض الآخر بوجوب قبول المسيح كمخلص شخصي للحصول على الخلاص وإلا ذهبت إلى الجحيم. أنا أعتبر نفسي دارساً لعدد من الأديان وكلما تعلمت المزيد، زادت أسئلتي ", و كما هو واضح من إجابته فأنه لم يعطى إجابة شافية حول هذا الأمر و راوغ فى الإجابة و ذلك لأنه فى راويته شيفرة دافنشى أعلن صراحة أن المسيحية كذبة استمرت لألفين سنة.
يتميز أسلوب دان براون الروائى بأنه يعتنى جدا بالمشهدية, بشكل أكثر وضوحا يعطى للتفاصيل أهمية قصوى فى وصف المشاهد الموجودة بالرواية للدرجة أنه يهتم بوصف تفاصيل المكان الذى تدور فيه الأحداث سواء كان مبنى أو غرفة أو أى شىء من هذا القبيل, أسلوب كتابته أقرب إلى الأفلام السينمائية فهو يهتم بشكل خاص بكل حركات الأشخاص الانفعالية سواء فى نبرات الصوت أو لغة الجسد و التأكيد على نبرة الصوت و ارتباطها بالموقف أو الحدث الذى تعيشه الشخصية.
كذلك لغة الجسد تأخذ حيز مهم جدا فى أعمال دان بروان الروائية كما أنه لديه ولع شديد بالأغراق فى المعلومات التاريخية و خاصة الرموز الدينية و الإسهاب فى وصف نظريات المؤامرة سواء كانت دينية كما يظهر ذلك جليا فى روايتى ملائكة و شياطين و شيفرة دافنشى أو نظرية مؤامرة حكومية كما يظهر جليا فى روايته حقيقة الخديعة.
و أرى أن إسهابه المفرط فى ذكر المعلومات التاريخية داخل النص الأدبى قد يفقد متعة القارىء للنص الأدبى و تتحول الكثير من صفحات الرواية إلى ورقة بحثية بحتة و ذلك قد يخرج القارىء من الجو الأدبى الذى يحاول أن يصنعه الكاتب داخل عمله, أيضا إغراقه المفرط فى ذكر تفاصيل كثيرة و دقيقة للغاية تجعل روايته فى بعض أجزائها تجنح إلى الملل و تفقد القارىء قدرته على التواصل مع أحداث الرواية الشيقة و لكن كل ذلك لم يقف عائقا أمام إبداع أدبى واضح فى أعماله الأدبية.
بالإضافة إلى إتسام عمله الأدبى بالضخامة من حيث عدد الصحفات نتيجة لكمية المعلومات التى ترد فى عمله الأدبى و إغراقه فى التفاصيل و لكن كل ذلك لا يفقد القارىء متعته فى متابعة أحداث الرواية الشيقة و لا تسيطر على القارىء حالة ممل تؤثر فى رغبته لمواصلة القراءة , فمهارات دان بروان فى صياغة الأحداث و تلاحقها و غرز عناصر التشويق فيها تجعل القارىء يتغاضى عن كل هذه الشكليات لمواصلة قراءة العمل الأدبى بدون ملل و استمتاع.
من يجب هذا اللون الأدبى أتصور أنه إذا أقدم على قراءة رواية لدان براون لن يتوقف عن قراءتها حتى ينهيها بالكامل فى غضون يومين أو ثلاثة على الأكثر على الرغم من ضخامة العمل الأدبى.
كما أن دان بروان يهتم جيدا بالمعلومات التاريخية المثيرة للغاية و التى تكاد تكون حقيقة أغرب من الخيال و يدلل على مصداقية المعلومات التاريخية أو العلمية التى يثيرها فى عمله بحيث لا يتطرق الشك إلى القارىء فى مصداقية هذه المعلومات على الرغم من غرابتها الواضحة التى قد تصور للقارىء أنها من صنع خيال المؤلف و لا تمت للواقع بصلة و لكن براعته و قدرته على إذهال القارىء تتلخص فى أنه يدفع إليك بحقائق مثيرة قد تكون مستنكرة و لا تتصور أنها حدثت بالفعل و يبرهن على مصداقيته التامة و قد تجلى ذلك واضحا فى عمله الأكثر شهرة " شيفرة دافنشى" خاصة فى الأماكن التى أرتداها بطل القصة بصحبة المفتشة الفرنسية و التى قد يتصور القارىء للوهلة أنها أماكن متخيلة و لكن يعترى القارىء الشعور بالدهشة عندما يعلم أن الوثائق و الأماكن التى يعرض لها كاتب العمل الأدبى حقيقية بالفعل و موجودة على أرض الواقع.
نحن أمام ظاهرة فريدة فى العالم الأدبى قادرة على أن تدخل كل عناصر المفاجأة على القارىء بمعلومات حقيقية تماماً و أن قدرة الكاتب على أدهاش القارىء بمعلومات واقعية أقوى و أكبر بكثير من إبهاره بخياله البحت.
فضلا عن قدرته عن توظيف هذه المعلومات المثيرة فى قالب أدبى جيد, لأنى أتصور أنه من الصعب جدا و المرهق أن تحاول أن تضفر بحث تاريخى قائم على معلومات معقدة فى قالب أدبى و لا يخرج مملاً, فربما حاول أدباء غيره أن يفعلوا المثل و لكنهم تورطوا فى مأزق الملل الذى يسيطر على القارىء لدى قراءته للعمل و المباشرة الواضحة فى عرض المعلومات و التى لا تجد صدى لدى هذه العوامل السلبية فى الأعمال الأدبية لدان بروان.
مثلا روايته حقيقة الخديعة و هى تتناول موضوع مذنب من المريخ اكتشتفته وكالة ناسا فى العام 1994 فى ثلوج الألسكا و قدر عمره بملايين السنين و تدور أحداث الرواية حول مبارزة علمية بين علماء من خارج وكالة ناسا مع علماء من داخل وكالة ناسا حول إثبات تزويير علماء ناسا فى نسب هذا المذنب إلى المريخ و قد أعلنوا أنهم وجدوا مستحثات على هذا المذنب تشير إلى مظاهر حياة أولية على المريخ و أن الفريق العلمى الأوربى يحاول أن يكشف زيف هذه المعلومات و أن هذا المذنب تم صناعته فى وكالة ناسا فى محاولة لتلميع ناسا علمياً و تبرير حصولها على دعم مادى يقدر بمليارات الدولارات سنويا من ضرائب المواطنين الأمريكيين.
و اعتمد فى هذه المبارزة العلمية بين إثبات مصداقية المعلومات التى أوردتها ناسا حول المذنب من عدمه على معلومات علمية معقدة جداً و تجلت براعة المؤلف دان بروان فى عرض هذه الحقائق العلمية المعقدة جدا كأنها حلوى تقدم فى طبق شهية للغاية و سهلة الهضم.
و هو أعتمد فى صنع روايته على قصة حقيقية أعلنت فيها وكالة ناسا عن الكشف عن مذنب سقط من المريخ على كوكب الأرض منذ ملايين السنين و وجد عليها مستحثات تشير إلى مظاهر حياة أولية على سطح المريخ و قدم رواية رائعة للأسف لم تنال نفس شهرة الروايتين اللتين تتناولان أحداث تاريخية و هى شيفرة دافنشى و ملائكة و شياطين, ربما لأن المعلومات العلمية ليست قادرة على إبهار القارىء بأكثر من المعلومات التاريخية المثيرة للجدل حول مسلمات استمرت لعقود طويلة من الزمن.
هذه لمحة بسيطة عن الإبداع الأدبى الذى قدمه لنا دان بروان من خلال خمس روايات و هم كالتالى: الحصن الرقمى – حقيقة الخديعة – ملائكة و شياطين – دافنشى كود – الرمز المفقود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق