الجمعة، 5 ديسمبر 2014

كتب كتب كتب 2015: المكون المعرفي ودوره في توجيه الحضارات

عرض: احمد علي سليمان

almokaween

يمضي بنا الحديث في عرض كتاب "المكون المعرفي ودوره في توجيه الحضارات" للدكتور إبراهيم أبومحمد

وينتقل بنا الكاتب عن الحديث دور الآلة الإعلامية في الخداع وتأجيج الصراع، مشيرا إلى أن الآلة الإعلامية عملت عملها في تهيئة المناخ وتجهيز النفوس وشحن الرأي العام بطاقةٍ من الغضب تجعله يؤمن بضرورة التخلص من هؤلاء الأشرار البرابرة الذين يسمّون بالمسلمين ويعتقدون في إله الخراب الذي يعبدونه..!! وعندئذ يكون للانتقام ما يبرره، ويصبح سحق هؤلاء ضرورة لحماية السلام العالمي يفرضها مجلس الأمن، ويقوم على تنفيذها بأيد طليقة وعدالة مطلقة البطلُ الواحدُ والوحيدُ، وبذلك يتخلص الغرب من المنافس الاقتصادي والبديل الحضاري، وينتهي من هذا العدو الأزلي؛ لتخلو له الساحة مرة أخرى، بعدما خلت من قبل بسقوط الشيوعية، ويتمكن مِن بسط نفوذه وسيطرته على كل منابع الثروة بغير منازع، وفي نفس الوقت يكون النموذج العراقي جاهزًا للتطبيق في أي وقت وفي أي مكان.. مؤكدا أنه قد اعترف بذلك صراحة قادة الفكر وقادة الجيوش العسكرية، "فإدوارد مورتيمر" يعترف قائلا: "إن الإسلام مقاوم للعلمنة، وسيطرته على المؤمنين به أقوى الآن مما كانت قبل مائة سنة مضت، ولذلك فهو -من بين الثقافات الموجودة في الجنوب- الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة، ليس لسبب سوى أنه الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحدٍ فعلي وحقيقي لمجتمعات يسودها فتور الهمّة واللا مبالاة، وهي آفات من شأنها أن تؤدي إلى هلاك تلك المجتمعات ماديًّا، فضلاً عن هلاكها المعنوي". وكانت تصريحات "ويلي كلايس" الأمين العام لحلف الأطلنطي في منتصف تسعينات القرن العشرين دليلا آخر على العداء القديم وسوء النية، حيث أعلن أن الإسلام هو العدو الذي حلَّ محل إمبراطورية الشر الشيوعية" ومن ثم كان الانتشار الواسع لمصطلحي "حوار الحضارات" أو "صراع الحضارات"ومن ثم فهذه هي المكونات العقدية التي حكمت وتحكم الحضارة الغربية بشقيها الماركسي والليبرالي.

ثم يتحدث المؤلف عن الحضارة الإسلامية والحاضر الغائب، مشيرا إلى أنه على الرغم من التحديات التي تواجهها داخليا وخارجيا إلا أنها لا زالت تعيش وتقاوم، تتقلص حينًا لدرجة أنك تظن أنها ماتت أو كادت تموت، ولكنها لا تلبث أن تنتفض.. تتآمر الدنيا عليها بعد أن أدبرت عنها، ولكنها أيضا تفاجئ الدنيا بقيمها التي تصحح الأخطاء وترتفع بالإنسان والدنيا لتذكر كليهما بما يجب أن يكون عليه الإنسان والدنيا، مؤكدا أن السر في حيوية هذه الحضارة وتجددها يكمن في المكون المعرفي الذي استبقاها وسط العواصف شامخة وإن انصرف الناس عن أهلها وتنكرت لهم سبل الحياة.

ثم يتحدث عن المكون المعرفي ودوره في البناء الحضاري: مشيرا أن القرآن الكريم يوجهنا إلى استثمار الطاقات والقدرات بالتفـكر والتعـقل والتذكـر: وهي معالم ثلاثة تشكل الأساس السليم لكل بنية حضارية علمية، لا يجوز نسيانها أو التغافل عنها، خاصة عند الحديث عن الخروج من دائرة العجز والتخلف والتبعية، والأمل في بعث حضاري إنساني، يسهم فيه القلب والعقل بطهارة الروح من العبودية لغير الله، وطهارة الفكر من خرافة الإلحاد والشرك، وشتى أنواع الوثنيات السياسية والفكرية والاقتصادية التي تستخدم منجزات العلم في تدمير الحياة والمجتمعات، بسطاً للنفوذ، ومدًّا للسيطرة والاحتكارات إلى عباده الله، مشيرا أن المنهج الإسلامي منهج يوظف عنصر الزمن ممثلا في العمر، ويوظف طاقة التغيير والقدرة على العطاء والبذل ممثلة في الشباب، ويوظف عنصر المادة ممثلاً في المال من حيث الاكتساب والإنفاق، ويوظف الطاقات العقلية والفكرية لخدمة المجتمع وترقية الحياة ممثلة في العلم...فأي حماية للحياة أرقى وأعز من هذه الحماية؟ وأي ضمان لطهارة السلوك أشرف من هذه الدعوة؟ وأي أمان لتوظيف القدرات والملكات ونظافة النوايا من الداخل أقدس من هذا الضبط الإرادي والذي تمتد المسؤولية فيه بالسؤال عن ذلك كله حتى يوم الحساب.

ثم يتحدث المؤلف عن ضوابط العلاقة بين الإنسان والكون مضبوطة بمجموعة من الأطر، في مقدمتها تحقيق السلام للإنسان والكون معًا كغاية من غايات الوجود الإنساني والكوني، من خلال التعامل من منطلق الإحسان، والكف عن فعل الفساد، والتعرف على سنن الله تعالى في الكون ومعرفة القوانين التي تحكم حركة المجتمعات، وضرورة الخروج من التخلف كشرط للإقلاع الحضاري، ذلك أن المسلم الحق يرى في الزهرة جمالاً ينبغي ألا يدمر، ويرى في العدل جمالاً ينبغي ألا يغيب، ويرى في الحرية جمالاً ينبغي ألا يصادر، ويرى في الكرامة جمالاً ينبغي ألا يسلب، ويرى في المساواة جمالاً ينبغي ألا يعكر، ويرى في الأخوة جمالاً ينبغي ألا يزول، ويرى في الشرف جمالاً ينبغي ألا يستباح، ويرى في الطهر والاستقامة جمالاً ينبغي ألا يلوث، ويرى في العمل الجاد جمالاً ينبغي ألا يبدد، ويرى في الإبداع البشري جمالاً ينبغي ألا يهمل، ويرى في الحق جمالاً ينبغي ألا يخترق، ويرى في إعمار الكون وترقية الحياة جمالاً ينبغي ألا يهمل، ويرى في الإنجاز العملي جمالاً ينبغي ألا يحقر، ويرى في المروءة جمالاً ينبغي ألا ينسى، ويرى في إخلاص العمل جمالاً ينبغي ألا يضيع، ويرى في الإنسانية جمالاً ينبغي ألا يذل، ويرى في أمن الناس وحمايتهم جمالاً ينبغي ألا يفزع..

ثم تحدث عن نتائج وآثار علاقة المسلم بالكون وفق ضوابط المكون المعرفي في حضارتنا، وأجملها في الالتزام الأخلاقي تجاه الإنسان ، وحدوث التحولات الحضارية وعودة الحياة إلى موازين الاستقامة والاعتدال، وتحقيق التوافق والانسجام في المنظومة الكونية..

وفي الفصل الثالث من الكتاب يتحدث المؤلف عن الآخر من هو؟ وما موقفنا منه.؟ مشيرا أن بعض المؤسسات في الغرب ومعها جماعات معينة يعرفها الباحثون والمتابعون لحركة الصراع يصبون جام غضبهم على الإسلام باعتباره في نظرهم المصدر الأساس لثقافة العنف والتطرف لدى المسلمين، ويوصف هذا الدين بأنه لا يعترف بالآخر ولا يقبل بوجوده في الحياة، وتشيع آلة الإعلام بوسائلها المختلفة باستخدام ملغوم لتكنولوجيا الإديتنج Editing" بالصوت والصورة المختزنة التى تستدعى عند الضرورة ولو بعد عشرات السنين لتوظف في خدمة الحدث الجديد، ولتعطى الإيحاء المطلوب ترسيخه في عقلية المشاهد ونفسيته، ومن ثم فالإسلام محل هجوم مستمر من قبل الغرب دوما، وفي كل مناسبة وأحيانا بغير مناسبة.. حتى تولد لدى القوم ما يسمى بالإسلام فوبيا "Islamophobia" أى مرض الخوف من الإسلام.

ويوضح المؤلف أن الآخر في المدلول المعرفي لدينا ليس فقط هو المخالف لنا في العقيدة والدين، أو في الجنس أو الموطن، وإنما الآخر هو من يفعل الشر ولو كان مسلمًا، ويؤكد على أن قضية الصراع بالنسبة لنا نحن المسلمين تحديدًا قضية كريهة جدًا في كل الظروف والأحوال؛ لأننا نؤمن أن الله تعالى خلق الأرض للناس.. كل الناس، (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) (الرحمن:10).ونحن أمة لها دور ورسالة، ونشكل من حيث العدد خمس سكان العالم، ومن ثم فعلى كل منا أن يحسن علاقاته -على الأقل- بأربعة آخرين ليسوا على ديننا. ويطالب الكاتب بضرورة البحث عن القواسم المشتركة وتجنب خطاب التقاطع، من خلال عدة محاور أهمها: محور المصالح المشتركة في حماية الكوكب الأرضي مما يتهدده من تغييرات مناخية نتيجة اختراق طبقة الأوزون، وهو محور يمكن أن تلتقي على أرضيته كل شعوب الكرة الأرضية. ومن خلال المحور الإنساني، ذلك أن البشر جميعًا يشتركون معًا في أصل الشجرة الإنسانية، أي في المعنى العام للإنسان بغير تحديد للون أو الجنس أو الدين. وكذلك من خلال المحور الديني وهو مطلق الخضوع والانقياد لله تعالى، وإن اختلفنا بعد ذلك في الفروع والتفاصيل، وهذا بُعدٌ جديد في توسيع الدائرة الإيمانية ينفرد به الإسلام ويمتاز، ولقد شكل هذا البعد قفزة نوعية فتحت الأبواب والنوافذ لأفق أوسع وأرحب في عالم العلاقات الإنسانية، ومن خلال فكرة أن الحضارات تراكمية، فكل حضارة تأخذ من غيرها، تؤثر فيها وتتأثر بها، تأخذ من سابقتها وتعطى لاحقتها. كما أنه على مستوى القيم الفاعلة والمؤثرة في دفع حركة المجتمع إلى الأمام والضابطة لسلوكيات الأفراد فيه، وهي قيم ثابتة لم يطرأ عليها تغيير أو تبديل، يعتبر شرع من سبقنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، يقـول ربنا تعالـى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه) (الشورى: من الآية13) وهنا تلتقي وتتعانق في انسجام تام ثوابت القيم في كل النبوات والرسالات السابقة مع منظومة ثوابت القيم في منهج الإسلام، فهو مصدق لما بين يديه من الكتب التي لم يطرأ عليها تبديل أو تحريف، ومهيمن عليها أيضًا، أي حارسًا أمينًا عليها.

ويؤكد المؤلف أن المكون المعرفي في حضارتنا الإسلامية لا يعترف في تقويم البشر بالطبقيات الممقوتة، ويرفض أن يتميز الإنسان لمجرد أنه من جنس معين، أو أنه يملك المال فقط، فموازينه لا تعتمد لـون البشرة أو العصبيات أو الجنـس، كما لا تعتمد العرض الفاني في تقويم الرجال، وإنما تعتمد صلاح النفس ونظافة الضمائر، والإحسان إلى الناس كمعيار في التقويم، وكأساس في التمايز، وذلك هو المفهوم من مصطلح (التقوى) في النص الكريم: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات: من الآية13).

ويحذر الدكتور إبراهيم أبو محمد من أنه في مقابل هذا التسامح الرحب في الإسلام تبرز فلسفة العداء والكراهية تجاه الإسلام وأهله وإنكار الآخر الإسلامي، بثقافته وحضارته.. ومحاولات نفيه من الوجود لم تتغير كثيرًا بين العصر القديم والعصر الحديث، كل ما هنالك أن الآليات قد تطورت، مؤكدا أنه لم يكن بدعًا ما قرره الإسلام حين جعل الحب شرطًا في كمال الإيمان وصحته، فقال عليه الصلاة والسلام: (‏وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تحابوا، أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ) ‏‏‏كما قرر أن وسيلة المحبة إنما هي إفشاء السلام، وهذه العبارة تتسع لتشمل أمن الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، بل تتضمن أيضًا سلامة البيئة بكل مفرداتها من كل من تلوث مادي أو معنوي يخرج الأشياء عن طبيعتها ويتسبب في شيوع الفساد، كما تضمنت شريعة الإسلام السمحاء كمًّا هائلاً ورائعًا من التشريعات، هدفها وأساسها وغايتها رعاية الحق وإقامة العدل في تحديد العلاقة بين أتباع الديانات الأخرى ممن يعيشون في مجتمع المسلمين، فالأحقاد الطائفية والحروب الدينية غريبة على البيئة المسلمة، وقد تعلم المسلمون من أصل دينهم وتوجيهات نبيهم أن يعاملوا غيرهم بيسر وحسن معاشرة، ورعاية للجوار الذي وجهت إليه سماحة الإسلام فيما شرعته من قوانين وفيما وضعته من تقاليد، ذلك أن الإسلام في ميدان الحياة العامة حريص على احترام شخصية المخالف له، ومن ثم لم يفرض عليه حكمه، أو يقهره على الخضوع لشرائعه، ولم يقم بمصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالإكراه عن عقائدهم أو المساس بأموالهم وأعراضهم ودمائهم،؛ بل ترك أهل الأديان وما يدينون، فليس من أهداف الإسلام إذًا أن يفرض نفسه على الناس فرضًا حتى يكون هو الديانة العالمية الوحيدة، فنبي الإسلام هو أول من يعرف أن كل محاولة لفرض ديانة عالمية وحيدة هي محاولة فاشلة، بل هي مقاومة لسنة الوجود، ومعاندة لإرادة رب الوجود، كما أن الإسلام يجعل الاعتقاد الصحيح ثمرة الإرادة الحرة، وبالتالي فمن لا حرية له فلا تكليف عليه، وكما أن المكره على فعل عمل ما لا يتحمل نتائجه؛ لأن إرادته استعبدتها قوة قاهرة، فكذلك المكرهون بالعنف على الدخول في دين ما، فهم لا يعتبرون متدينين به موضوعيًّا، وإن خضعوا له شكلاً، كما أن الإسلام لا يكتفي منا بهذا الموقف السلمي السلبي وهو عدم إكراه الناس على الدخول فيه، بل يكرم الإنسان في شخص غير المسلم، حتى ولو كان من الوثنيين الذين يدينون بديانة هي أبعد الديانات عن الإسلام، فضلا عن الديانات الأخرى التي تربطنا بها أواصر الوحي السماوي، يقول تعالى في سورة التوبة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6)، فأنت تراه لا يكتفي منا بأن نجيرهم ونؤويهم ونكفل لهم الأمن في جوارنا فحسب، ولا يكتفي منا بأن نرشدهم إلى الحق ونهديهم طريق الخير وكفى؛ بل يأمرنا بأن نكفل لهم الحماية والرعاية في انتقالهم حتى يصلوا إلى المكان الذي يأمنون فيه كل غائلة، ثم هل ترى أعدل وأرحم وأحرص على وحدة الأمة وتماسكها من هذه التعاليم التي لا تكتفي بأن تكفل لغير المسلمين في بلاد الإسلام حرية عقائدهم، أو عوائدهم، وحماية أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم فقط، بل تمنحهم من الحرية والحماية، ومن العدل والرحمة قدر ما تمنحه للمسلمين من الحقوق العامة فيكون (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وفق القاعدة المعروفة .

ويمضي بنا المؤلف للحديث عن عقد الذمة بين الحقيقة والتشويه المتعمد، مؤكدا أن الإسلام قد رفع من قداسة هذا العقد ليجعله عقدا ليس في ذمة الوالي أو الحاكم فحسب، وإنما جعله في ذمة الله تعالى، وذمة رسوله (صلى الله عليه وسلم)؛ ليحظى بأعلى مستوى من التقدير والتوقير والوفاء، لذلك تضافرت النصوص، قرآنًا وسنةً في توكيد هذا العقد، ثم كانت ممارسات المسلمين في شتى عصورهم، تطبيقًا حيًّا وعمليًّا يُجَسِّد حالة الالتزام في أرقى درجاتها رعاية وعناية، وأعلى تجلياتها كرمًا وتسامحًا. فالله تعالى يأمر في دينه بالعدل والإحسان، ولا يجرد المسلم من العواطف سلبًا وإيجابًا (عواطف الحب أو الكره) حين يمارس هذا العدل، ولكنه يفرض عليه بذل أقصى الجهد في تحري العدالة المطلقة، فلا يجوز له أن يميل مع الهوى أو يحيف مع الشنآن، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ..) (النساء:135)، يروي أبو داود والبيهقي في السنن قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من آذى ذميا فقد آذاني، ومن أذاني فقد آذى الله). وتوالت النصوص على حماية حرية أهل الذمة الدينية وحرمة معابدهم، وشعائرهم وقد فصلت ذلك وثيقة عمر بن الخطاب التي أعطاها لأهل إيلياء (القدس) حيث جاء فيها: (هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبانهم، وسائر ملتها، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود).وبناءً عليه فيجب على الإمام أو ولي الأمر بما له من سلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية، أن يوفر لهم سبل هذه الحماية باعتبارها جزءا من واجباته الدينية بموجب عقد الإمامة بينه وبين الأمة، وذكر الإمام القرافي -وهو من أئمة المالكية- في كتابه الفروق، نقلا عن الإمام ابن حزم الظاهري في كتابه مراتب الإجماع ما نصه: "أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة" وقد علق الإمام القرافي على هذا الكلام بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صونا لمقتضاه عن الضياع لعظيم".فهل عرفت الدنيا أو وعت ذاكرة التاريخ مثل هذا الأفق الرحيب في التسامح ورعاية الأقليات غير المسلمة في مجتمع المسلمين؟! موضحا أن هذا هو مصدر المكون المعرفي لدينا وموقفه من الآخر.

ثم يتساءل الكاتب: فماذا عندهم ؟ وما الذي يحمله المكون المعرفي لديهم تجاه الآخر ؟ موضحا أن الغرب ينطلقون من نظريات حديثة قال بها فلاسفتهم ومفكروهم من أمثال فوكوياما ونظريته عن نهاية التاريخ، وكذلك صموئيل هنتنجتون ونظريته عن صراع الحضارات وينطلقون أيضا من عقيدة، كما يؤكد الكاتب والمفكر الإنجليزى جوليان هاكسلى بقوله " إن الغرب ينطلق في ثقافته من عقيدة تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة، ولا زال الوجدان الأوروبي محكوم بالأسطورة الرومانية القديمة أسطورة بريميسيوس سارق النار المقدسة"، وهى أسطورة تتحدث عن الصراع بين الإله والإنسان والشيطان...

وفي نهاية الكتاب يخلص الكاتب الدكتور أبو محمد إلى مجموعة من النتائج، أهمها: أن الإسلام هو الذي استبقى الحضارة الإسلامية وسط العواصف شامخة وإن انصرف الناس عن أهلها وتنكرت لهم سبل الحياة. وأن البعد المعرفي ينشئ لدى المسلم التزامًا أخلاقيًّا تجاه الكون وتجاه البيئة والوجود كله. وأن الحضارات بقدر ما تحمل من قيم العدل والكرامة والمساواة والحرية، بقدر ما تكون مناعتها ومقاومتها لعوامل الفناء. وأن أخطر ما يصيب الحضارة بشيخوخة مبكرة تهددها بالتفتت والزوال، هو سيطرة المطامع وسعار الشهوات حين ينطلق بغير حدود أو قيود، ومن ثم تبدأ عمليات الانحسار والانكسار في الخط البياني نحو الهبوط والتدنى، وهذه هى مرحلة الأفول ومن ثم تعقبها مرحلة السقوط، منبها أن شرط الإقلاع الحضاري والخروج من التخلف أن يتعرف المسلم على سنن الله في الكون، وأن يتعرف على سنن الله في الخلق، كما يتعرف على الأمر التكليفي. وأن القوانين التى تحكم مسيرة الأحياء والجمادات والأمم والحضارات، لا تنفصل ولا تناقض القوانين التى تحكم الفطرة الإنسانية، وأنه لابد من العمل على محور المصلحة المشتركة في حماية الكوكب الأرضي مما يتهدده من تغييرات مناخية نتيجة اختراق طبقة الأوزون، وهو محور يمكن أن تلتقي على أرضيته كل شعوب الكرة الأرضية، كما أنه لابد من العمل على المحور الإنساني الذي يؤكد على أن البشر جميعا يشتركون معا في أصل الشجرة الإنسانية ، وأن الأديان السماوية الثلاثة تتمتع بوحدة المصدر، وأن الإلهام فيها يكاد يكون واحدا، وأن الغاية منها مطلق الخضوع والانقياد لله تعالى، وأن المكون المعرفي في الحضارة الإسلامية حريص على تكريم الإنسان في شخص غير المسلم، واحترام شخصية المخالف له، ورعايته حتى ولو كان مشركا وليس من أهل الكتاب، مؤكدا أن المكون المعرفي في الحضارة الإسلامية هو سر بقائها وهو سر مقاومتها لكل عوامل الفناء والذوبان، حيث يشكل في الإسلام اللب والقلب، ذلك أنه يوجه الحضارة صوب الوفاق والتعايش بل والتناغم مع الحضارات الأخرى باعتبارها نتاجا إنسانيا لا يجوز أن تحرم منه المجتمعات..

كما يؤكد المؤلف أن الحضارة الإسلامية بمكوناتها العقدية والثقافية لا تتناقض ولا تتصادم مع الثقافات الأخرى، بل إن التاريخ يثبت أنها احتوت وتضمنت واحتضنت الثقافتين اليهودية والمسيحية، وقد نبغ في ظل الحضارة الإسلامية عباقرة من شتى البلاد والأجناس، قدمتهم الحضارة الإسلامية للعالم، وعرَّفت بهم وترجمت أعمالهم، حتى بعد أن مات بعضهم، وكاد تراثه الفلسفي والعلمي أن يضيع في ذاكرة النسيان، فلما جاءت الثقافة الإسلامية بما تحمله من تسامح وتقدير للمواهب قدمت هؤلاء للعالم برغم اختلاف الجنس واللغة والدين.

ويذكر المؤلف أن أول خطوة نحو صياغة فلسفة لحياة أكثر تفاهما وتسامحا يجب أن تكون في إعادة اكتشاف كل منَّا للآخر، كما أن عملية تبادل المعلومات والخبرات حول الذات والآخر تعنى لا محالة تبدلا مستمرا في أفكار الاثنين معا، وعندما يكتشف كل منَّا أخاه سنكتشف جميعا كم هي واسعة وشاسعة ورائعة حجم الشراكة الحياتية بين الإنسان والإنسان، وكم يمكن أن تكون تلك الشراكة متناسقة ومتوافقة ومنسجمة، وبعيدة أيضا عن الميل المندفع نحو الإخضاع والسيطرة، برغم تنوع واختلاف الثقافات والديانات والأجناس.

ويحذر من خطورة الإعلام غير المنضبط بضوابط القيم والموضوعية، الذي ساهم ولا زال يساهم بنصيب ضخم في حدوث سوء الفهم، وسوء الظن، مطالبا بضرورة الانفتاح على الآخر، والاقتراب منه، ومعرفة مكوناته ومقوماته ودوافعه وبواعثه، وألا تترك تلك القضايا الكبرى لمؤسسات إعلامية معروفة بتحيزها وكراهيتها للمسلمين تشعل فتنة الصراع بالتحريض وإثارة الكراهية ضد الآخر، كما يحدث مع المسلمين منذ الصباح الباكر وحتى ساعة متأخرة من الليل في كل يوم، وتلك حقيقة يعاني منها كل مسلم يعيش في مجتمعات الغرب أيضا، ومن الغريب أن يحدث هذا تحت سمع وبصر كل أجهزة الرقابة، الأمر الذي يوحي بأن هناك اتفاقا ضمنيا على هذا الهجوم، أو على الأقل فإنه يحظى برضى بعض الشرائح السياسية المتعصبة لأنه يتوافق مع هواهم السياسي ، وإن كان يناقض الصالح العام والمبادئ التى يدعو إليها كل العقلاء، وهي المبادئ التى يقوم عليها ويتميز بها كل مجتمع متحضر يحترم التعددية الثقافية ويعمل من أجل التناغم الاجتماعي والانسجام الحضاري بين الشعوب.، مع الأخذ في الاعتبار أن الحرص على إثارة الصراع بين الحضارات يمثل علامة من علامات الانتكاس الحضاري، الذي يهدف إلى نفي الآخر، وقولبته تحت القهر والضغط والإكراه، وإنه لمن العار والخداع أن يظهر هذا النوع من العنصرية واغتيال الخصوصيات في وقت تمتلئ فيه الدنيا بضجيج وهتاف حول الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويختتم المؤلف كتابه بالتأكيد على أن الإرهاب ليس له دين أو وطن أو جنس ، فهو يهدد كل هذه القيم النبيلة، وأنه ليس جديدا، وإنما هو قديم قدم الإنسان ذاته، فمنذ اعتدى قابيل على أخيه هابيل بدأت بذور الشر في أرض الحياة، ومن ثم فليس من المقبول ولا من المعقول أن يجتهد الخطاب السياسي لبعض الدول، ومعه أيضًا الخطاب الإعلامي في بعض البلاد، ليحدث ارتباطا شرطيا في نَفْسِ المتلقي بين المسلم والإرهاب، ويصبح لزاما على كل مسلم في الصباح والمساء أن يستغفر من ذنب لم يرتكبه، وأن يعتذر عن فعل لم يفعله، وأن يشجب ويستنكر الإرهاب، كي يثبت أنه مسلم معتدل وليس لديه قابلية الإرهاب في يوم ما.

وهكذا استطاع المؤلف بفكرة المتقد وذكائه الكبير أن يشخص لنا العلاقة بين الحضارات وما يجب أن يسود بينها من تعارف وتفاهم وتعاون لخدمة الإنسانية كلها، ومن ثم يعد هذا الكتاب إضافة متميزة للمكتبة العربية والإسلامية بشكل عام، وهو زاد نافع لكل المهتمين والباحثين في هذه القضايا॥

المصدر :

http://www.visionnews.com/arabic/culture/last-e/16234--q------q---३


/a>
طريقة الحصول على مدونة كاملة من هنا
تحصل على كامل المدونة من هنا
للمزيد من المدونات من هنا<

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق