اختار أندريه مارلو (إغواء الغرب) عنوانا لأحد كتبه، وكان عبارة عن رسائل متبادلة بين صديقين، أحدهما فرنسي لديه بعض المعرفة بالصين، والآخر صيني مأخوذ بفضوله للثقافة الغربية. وبين الإغواء والإغراء حدود زئبقية متحركة، لكنها حدود على أية حال. يعكس فعل الإغواء سيطرة القوي على الضعيف، وتأثير المتبوع على التابع، وهو تأثير لا يخلو من تضليل وهيمنة. أما الإغراء فهو أكثر رقة، وأقل مراوغة. إنها القوة المستمدة من الضعف. وهي أشبه ما تكون بالحالة التي عبر عنها جرير بقوله :
« يصرعنَ ذا اللب حتى لا حراك له وهن أضعف خلق الله إنسانا»!
الإغراء مشروع ولع ما، إنه بداية، والشرق موطن البدايات.. لكن ينبغي، عند الحديث عن الشرق والغرب، عدم الانسياق وراء الصورة النمطية التي رسمها كل فريق عن الآخر. فالغرب ليس كيانا واحدا، غير أن الصورة النمطية التي رسمها المصابون بفوبيا الغرب، قد جعلت من الغرب شرا مطلقا. وهو حكم اختزالي يساوي بين الإيجابي والسلبي، وبين عالم السياسة وعالم الفكر والإبداع. كذلك نسي، أو تناسى، أنصار الصدام الحضاري من الغربيين أن الشرق من التنوع والتعدد بحيث يصعب حشر مكوناته وعناصره وثقافاته في ذلك الإطار الضيق الذي رسموه.. تناسى هؤلاء، كذلك، أن الكيان الجغرافي الواحد أكثر تعددا وتنوعا مما تحاول تلك الصورة النمطية أن تختزله. إنها صورة نمطية مضللة تراعي الجغرافيا، وتتجاهل التاريخ والتنوع العرقي والديني والثقافي . ويبدو أن كثيرا من الصراعات التي يكابدها العالم منذ القدم سببها سوء الفهم.. حالة أشبه ما تكون بحوار الطرش.. كل يغني على ليلى مصالحه وقناعاته وأهوائه. وفي غياب الإصغاء لصوت الآخر تبقى اللغة دائرية محورها الأنا الفردية أو الجماعية، تنطلق من الذات لتعود إليها.
كان هذا الشرق الممتد من سواحل الأطلسي إلى سواحل اليابان، بجانبيه المادي والروحي، مغناطيس إغراء للغرب، مما يسمح لأي مؤلف شرقي أن يتحدث عن (إغراء الشرق). ففي الجانب المادي حركت ثروات هذا الشرق وخيراته أطماع التجار والمستكشفين والمغامرين الغربيين منذ عصر التوابل والبهارات والحرير إلى عصر النفط، وخط أنابيب (جيهان تبليسي باكو)، والشركات العابرة للقارات. وقد أدى ذلك الإغراء بالغرب إلى محاولة السيطرة على مصادر الثروات، وإلى اندلاع كثير من الصراعات المدفوعة بالعامل الاقتصادي. مع ذلك، فقد كانت الحروب والنشاطات الاقتصادية من وسائل الكشوف الثقافية التي ولدت تماسّاً بين الثقافات المختلفة، فكان التأثير الثقافي متبادلا. لهذا يتعذر الادعاء بنقاء وتفرد الأصول الحضارية. إن رصدا متأنيا للأساطير والفنون والآداب يظهر بجلاء كثيرا من القواسم والمشتركات الحضارية التي تثير كثيرا من علامات الاستفهام حول ما يسمى النقاء الحضاري أو الثقافي . ويمكن للمتابع أن يرصد أثر سحر الشرق وإغرائه الذي أدار رؤوس الشعراء والكتاب الغربيين، منذ أن خاطب توماس رسل مؤلف الليالي العربية قائلا : « نستمع بانبهار لقصصك الخرافي، فحتى الحقيقة لا تبتسم لنا بقوة جاذبيتك العذبة نفسها «. ويمكن تتبع مسارات هذا الإغراء، قبل ذلك، في التراث الثقافي الغربي شعرا ونثرا. مع ذلك، كانت السياسة والأطماع الاقتصادية، وحسابات الربح والخسارة على النقيض من ذلك التواصل الإبداعي.
يلاحظ بعض الباحثين في شؤون الاستشراق أن للشرق صورة نمطية لدى بعض كتاب الغرب، فالشرق «عالم أسطوري سكوني ساحر ومبهم». لكن هذه الصورة عن الشرق قد انزاحت إلى مجال السياسة والاقتصاد كذلك. وفي مقابل تلك الصورة الوادعة الحالمة، تظهر صورة الغرب البرجماتي المولع بمنطق القوة كوسيلة لتحقيق الأهداف، حيث يفترض هذا المنظور العملي أن عدالة أو صواب قضية ما، تقرره النتائج وحدها، وأن النجاح وحده هو المعيار والمحك والقول الفصل, وهو منظور عملي عارضه المفكر الفرنسي روجيه غارودي في كتابه (حوار الحضارات) مقترحا أن تماثل الغايات والأهداف وسائل تحقيقها، ومن ثم فإنه لا يجوز تحقيق غاية خيرة بوسائل شريرة. وفي غياب هذا المنظور العادل تسود شريعة الغاب، أو منطق الطبيعة، حيث يأكل القوي الضعيف، وحيث البقاء للأقوى، وليس للأصلح والأكمل والأجمل. وتبعا لهذا المنطق يتعذر التمييز بين الظلم والعدل، لتصبح العبرة بالنجاح أو الفشل. ولهذا يخاطب الصيني صديقه الفرنسي في كتاب مارلو (إغواء الغرب) قائلا : « إن التفوق بالنسبة لكم، هو تفوق رجل السلاح، وتفوق الألم ، وبالنسبة لنا هو تفوق الكمال». ويقول في السياق نفسه : « الفنان ليس هو الذي يخلق، إنه الذي يشعر، ومهما تكن الصفات والجودة لعمل ما، فهو غير ناضج، بما أنه لا يعدو أن يكون اقتراحا جماليا».مثل هذا الكلام الذي وضعه الفرنسي أندريه مالرو على لسان هذا الصيني إنما هو انعكاس لتفكير مالرو نفسه، بما أنه المؤلف. ومالرو ليس وحده في هذا الميدان. وليس وحده الذي تبنى هذه النظرة العادلة المنصفة للآخر، والتي قل أن تجدها على أجندات الساسة والتجار القائمة على المنفعة وحدها، والنائية عن قيم العدالة والجمال. ولا عجب فالإبداع كان، ومازال، أكثر التصاقا بالقيم الأخلاقية التي توجه التصرفات، وترقق الطباع، وتهذب الغايات، وتدقق في وسائل تحقيقها. أو هذا ما ينبغي أن يكون عليه الإبداع إذا نأى بنفسه عن أحابيل الأيديولوجيا، وهيمنة المصالح الأنانية. هنالك، إذن، ما هو مشترك بين الشرق والغرب، وهو مشترك فني جمالي يكرس التعايش ويمقت التناهش، إذا تخلص الفن والأدب من براثن السياسة وحسابات الربح والخسارة. الإنسان هو الإنسان في كل مكان، قد تطبعه البيئة أو الثقافة بطابع خاص، لكن هنالك دائما من القيم الجميلة، ما هو مشترك بين بني البشر جميعا، ومن ثم ينبغي تعزيز ما هو مشترك بدلا من تكريس نقاط الاختلاف. وبخلاف السياسة، ومنطق الاستحواذ والسيطرة، يسعى الفن إلى تعزيز هذه القيم الجمالية المشتركة، وحين يحيد الأدب أو الفن عن أهدافه الإنسانية يتحول إلى أيديولوجيا. فالإبداع الجمالي ينبوع حب، ويدان ممدودتان لاحتضان العالم بكل ما فيه من تنوع واختلاف. ولذلك يشكل أنصار الجمال في كل مكان، ودون تنسيق مسبق، رابطة تنظر معا في اتجاه إنساني واحد. حيث الجمال قاسم مشترك بينهم رغم اختلاف البيئات والأعراق. بالإبداع يجتازون حدود الزمان والمكان كالغيمات أو الطيور التي لا تعترف بالحدود السياسية، وجوازات السفر، ولغط الهويات والعصبيات . الإبداع في جانبه الجمالي قاسم مشترك بين المبدعين في كل جهات الأرض . وعند الحديث عن الإبداع والمبدعين، فإننا لا نعني به إبداع ذلك الكاتب الغربي الذي قال : « الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا «، ولا نعني بذلك الأعمال الأدبية والفنية التي تكرس القطيعة، كما لا تعنينا، في هذا السياق، غرغرة الفن والأدب الموجه، أو أدب العصبيات، والأنظمة الشمولية، والنزعات الشوفينية الذي يلبس جلباب الالتزام الضيق. لابد من استثناء ذلك كله، والإشارة إلى الإبداع الذي يكرس قيم الحب والجمال، وإلى مبدع مثل مالرو، وإلى عبارته القائلة : « ينبغي أن نحاول توعية البشر إلى العظمة الكامنة فيهم، والتي يجهلونها»!
الأحد، 20 يناير 2013
اغواء الغرب …. اندريه مارلو
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق