الاثنين، 20 مايو 2013

ميت أصبح قاتل نفسه


الرسالة السابعة عشرة

ذبابة الحمار المبجلة:
لا أحد يهتم بي هنا في الطب الشرعي. أظن أنهم نسوني. الأموات لا يستطيعون المطالبة بحقوقهم صارخين "أنا هنا.. أنا موجود.. أنا موجود.. أنا أعيش.." في الحقيقة لم أشعر بغربة الموت. لا فرق بين موتي وبين حياتي حين كنت أظن نفسي حياً. لا فرق بين أن تعيشي ولا تستطيعي أن تقنعي من يقودنا بهذا أو تموتي يا عيني؟ نحن متنا قبل أن نموت ولكننا لم نفهم هذا. فهمته عندما مت. ستقتنعين بهذا عاجلاً أم آجلاً.
أسلي نفسي بالحديث مع الموتى في المشرحة. قبل قليل أحضروا إلى هنا شاباً ميتاً في الثانية والعشرين من العمر، كثير الكلام. موته غريب إلى حد لم أستطع إلا أن أكتب عنه. حديثه ممتع جداً. شرح لنا ما وقع له مطولاً. سأنقل لك ما حكاه، بقليل من الاختصار، ولكني سأعمل على نقله بنفس طريقة حكيه. يبدو أنه قد أنهى خدمته في الجيش حديثاً من خلال تقديمه لاسمه الكامل. فهو لا يزال متعوداً على هذا. اسمعي كيف مات هذا الشاب كما من لسانه:
اسمي حسين طوقاي بن شوكت، محافظة شورم ناحية اسكليب.. الثأر سبب كل ما جرى لي، أنا علي ثأر ولكن آل هاصمِ لا يتركونني.. قتلوا من عندنا خمسة أشخاص لم يبق عندنا ذكر
يشعل ناراً غيري، ستطفأ نارنا إذا قتلوني. جماعتنا في يومها قتلوا ثلاثة منهم، المهم أننا قلنا لهم تعالوا نصطلح فلم يردوا. قالوا لا ينتهي الثأر إلا بإطفاء النار واقتلاع جذر العائلة. لم يرضوا إلا بدوام القضية، طالما في عائلتنا رجل وهو في الجيش أمضيت حياتي خائفاً على روحي. بصراحة، أنا جبان. لست من أولئك الذين يضربون ويكسرون. لو كان علي لما استطعت أن أحمي نفسي كل هذه الفترة لكن أمي صرتني بجناحي أمومتها حتى عشت كل هذه المدة. لم أذهب إلى المدرسة لخوفي أن يقتلني أعداؤنا . نصبوا لي كميناً وطخوني عدة مرات، ولكن يبدو أنه كان لي في الدنيا مياهاً سأشربها وأكلاً سآكله، مرقت دون خدش .وأرسلت لي أمي رسائلي باليد – حتى لا يعرف أحد مكاني – قبل نهاية خدمتي بثلاثة – خمسة أسابيع.. قالت أمي في الرسالة "يا بني، يا وحيدي، يا شمعة بيتي، يا زندي وسندي. لم يتركوا لك في بلدك ماء تشرب أو هواء تتنفس. الله يعمي عيونهم عنك. اذهب إلى مدينة كبيرة، غير اسمك، شخصك، ادخل في زحمتها حتى لا يعرفك أحد، تزوج، أسس بيتاً. أنجب أطفالاً ونادِ لي دون علم أحد لأطير لعندك وحتى تنجز كل هذا لا تخبرني بمكانك ولا بشغلك."
عملت بما أوصتني أمي أتيت إلى هذا المكان المدعو استنبول ومن أجل خروجي من كوني حسين طوقاي بن شوكت، وتقمصي شخصية أخرى يلزمني هوية جديدة عندما نحضر النقود
ليس هناك ما لا يحضر. ونقود أمي موجودة. عندما يكون معك نقود في استنبول لا يوجد ما يستعصي عليك شراؤه من الروح والشرف إلى .. حتى أنهم يقولون إنه ليس لحكاية القنبلة
الذرية أساس من الصحة.
القنبلة الذرية كذب وتأليف، لماذا؟ لأنها لو كانت موجودة لوجدت المستعملة منها في سوق الأشياء المستعملة .وجديدها في سوق التهريب. إذا كان الشيء غير موجود قديمه في سوق الأشياء المستعملة وجديده في السوق السوداء هذا يعني أن لا وجود له مطلقاً. سأجد هوية في مكان ما.
ألا يقال "المريض الذي لم ينته أجله يأتيه الطبيب إلى عند قدميه" سكنت مع رجل يدعى محمد يورتسوار من السعودية في غرفة فندق يأوي شلة الشباب الحلوين ..دخلت، في إحدى المرات
إلى غرفتي، فوجدت أن محمد يورتسوار قد نام من زمن. إن كان على النوم فهو نائم ولكنه لا يشخر. مستحيل، تظنه وهو نائم – ان كنت بجانبه – محرك طائرة على وشك الاقلاع. تمددت
على سريري، بما أنني تعودت على شخيره فلم أستطع النوم في سكون تلك الليلة. ماذا سأفعل لأجعل محمد يشخر؟ ناديته "ولاه، محمد.." ولاه، محمد المسعودي" لكنه لم يصح. قلت لنفسي
لأحركه قليلاً، دفعته ، ألا يسقط.. كأنه قالب ، مات الرجل من زمن! أيقظت صاحب الفندق. لم يدفع محمد أجرة الغرفة ثلاثة – خمسة أشهر .فتشه صاحب الفندق ليسترد دينه. فيما إذا كانت معه نقود، فلم يجد. لو رميت ما عليه في الشارع لما مر أحد دون أن تتلخبط معدته.
أثناء بحث صاحب الفندق هنا وهناك، وجد هويته فقال "أبيعها لأحدهم، وأسترد ديني"؟ وقعت على يديه وقدميه متوسلاً، دخيلك بعني إياها. جلسنا إلى المساومة لم يكن معي المبلغ الذي
طلبه صاحب الفندق. هو يرفع لفوق وأنا أشد لتحت. في النهاية قال "أعطني هويتك فوق نقودك وخذها". يبيع هويتي لرجل آخر ويكمل أجرة الغرفة توافق إعطائي هويتي مع رغبتي
بالتخلص من شخصية حسين طوقاي. إذا قلت لماذا؟ لأنه من الممكن أن يتفق جماعة الثأر مع قاتل مأجور ليزهقوا روحي، عندها أكون غير معروف. سيقتل حامل هويتي وأتخلص أنا.
اتفقت مع صاحب الفندق .أعطيته هويتي ونقودي، وأخذت هوية محمد. من حينها نسيت أنني حسين الإسكليي وأصبحت محمد يورتسوار المسعودي. وهل أقف بعد أن أخذت الهوية؟ ذهبت
من هناك حتى لا يعرف لي أثر. لم يبق معي ولا قرش أعطيتها كلها لصاحب الفندق. الله ستر، أن الفصل صيف والطقس حار. أمضيت تلك الليلة في حديقة عامة بدأت أبحث عن عملٍ اعتباراً من صباح اليوم التالي أو الذي بعده، لا أدري. يجتمع بعض المهاجرين من قُراهم في طرف إحدى الساحات العامة ليأتي من يبحث عن عمال إنشاءات ويختارون منهم من يعجبهم. وقفت بينهم. كان بجانبي رجل يقرأ جريدة. رماها على الأرض، بعد أن قرأها.. تناولت الجريدة كتبت "وجد المدعو حسين طوقاي من قرية إسكليب ميتاً في غرفة فندق في (طوب خانة) وقد تبين نتيجة ذلك المعاينة أن المدعو إسكليب ميتاً خنقاً والشرطة تتعقب أثر القاتل وستجده في أقرب وقت." هل أفرح أم أحزن لهذا الخبر سأفرح بالطبع، لأن الذين سيثأرون مني سيكفون عن مطاردتي. وسأحزن لأنه يجب على الإنسان أن يحزن لموته ولو كان كذباً.
المهم أنني أعيش بشخصية محمد يورتسوار المسعودي. إذا وجدت شغلاً مهما كان نوعه، أشتغل ولكن أين الشغل؟ أجد شغلاً ليوم ولا أجد لخمسة أيام. الله يشهد علي أنني أمضيت لا
أدري كم يوماً بالضبط، ثلاثة – خمسة، دون أن تدخل فمي لقمة واحدة حتى لم يعد لي قوة للوقوف من الجوع. تتلامع أمام عيني ألوان وأضواء لم أعتد عليها .بالحساب أبحث عن عمل. لكن لو خرج أمامي أحدهم وقال: "احمل هذه الحقيبة لمسافة مئة متر وخذ عشرة آلاف ليرة لما استطعت حملها." بينما كنت أجرجر نفسي إلى إحدى المقاعد الخشبية في إحدى الساحات لأتمدد عليه، قامت القيامة لا أدري كيف. الناس يندفعون إلى الساحة من كل أطرافها ليشكلوا بحيرة وسطها. قل ألفاً.. قل خمسة آلاف شخص، يتصايحون.. يتدافعون.. يتلاحقون.. لم أفهم ما يريدون ولا ما يقولون. لم أفهم لماذا كانوا يضربون بعضهم .. أردت الهروب من بينهم ولكن لا قوة لي للهرب. ينهالون على بعضهم بالحجارة والعصي حتى لتظن أنها حرب حقيقية، ساقطون على الأرض، جرحى صارخون، باكون، طالبو نجدة، متوسلون..
الماء تجرف تراب الأرض لشدة سيلانه. ما الذي جرى لهؤلاء الناس يا هوه؟ كأنهم قطيع ثيران أو تيوس يتراكضون هنا وهناك. قطع طريقي مجموعة من الشبان والبنات. سألتني من
بينهم فتاة:
-من أين أنت؟
ما الذي سأقوله الآن، إسكليي أم مسعودي، لخوفي من السؤال عن هويتي قلت:
-من المسعودية.
-لا أحد يسألك عن بلدك. يميني أم يساري؟
لم أفهم سؤالهم حتى أنني لم أفهم شيئاً مما كانوا يهتفون. بالرغم من أن اللغة التي كانوا
يتكلمون بها تركية .لحظة قولي.
-اعذروني لا أعرف ما يعني هذا.
-نزلوا علي بالعصي وهم يقولون:
-كل ما يجري لنا بسبب أمثالكم، الواطون، الذين لا يعرفون أين هم.
عندما سمعتهم يقولون هذا، قلت لنفسي لعلي أنجو إذا قلت لهم أين نحن.
-أعرف يا أخوان، أعرف أين نحن وإلى أين يؤدي هذا الطريق أو ذاك.
نحن في التقسيم وهذا الطريق ينزل إلى قاسم باشا ومن هنا إلى بشكطاش...
ضربوني إلى أن أصبحت مثل فِشكة حيوان داش فوقها عجلُ شاحنة. ثم تركوني لا أدري إذا كانوا فعلوا ذلك شفقة أم أنهم ظنوني مت. عدت لا أعرف أين قدمي، رأسي، زندي، لأقف
وأهرب .كدت أُصبح تراباً لكثرة ما داسني المطارِدون والمطاردون قلت لنفسي اتحرك ولاه ...يا لله من عزة الروح استجمعت نفسي ووقفت. لم أكد أخطو خطوتين أو ثلاث خطوات نحو المقعد حتى طوقتني مجموعة أخرى من الشبان. سأل أحدهم:
-أأنت يميني أم يساري؟
سيكسرون على ظهري شاحنة عصي لو قلت للآخرين ، لا أعرف. نظرت في وجوههم لعلي
أقرأ أي من هاتين الكلمتين يحبون ثم قلت:
-يميني والحمد لله.
أتتني رفسة على وسطي من الخلف، طيرتني في الهواء وسقطت على بعد عشر خطوات.
كيف يرفسون هؤلاء ويضربون؟ أما عندهم رحمة؟
-لا يا شباب أنا انتهيت من زمن...
وهل بينهم من يسمع؟
أنا لم أجد أكثر من جنس البشر تحملاً، يتحمل أكثر من الحجر والصخر. كيف تحملت كل هذا الجوع وفوقها العصي والرفس، يا هوه..
عندما تركوني ليذهبوا إلى عراك آخر، استجمعت ما بقي عندي من قوة وبدأت الهرب. لو تركوني لهربت، متعكزاً ، زاحفاً، غير مهم، ولكنهم لم يتركوني خرجوا أمامي مرة أخرى.
-أيميني أنت أم يساري؟
سيقتلونني إن قلت لا أعرف أو يميني. وهل أنا أهبل لأقوله؟ قلت:
-يساري والحمد لله.
نزلت العصي فوق رأسي. لم نحزر مرة أخرى. أيهما قلت لا تخلص من الضرب. تركوني بعد أن حولوا أنفي وفمي إلى صحن من الدم. ذهبوا إلى معركة أخرى، وحاولت الهرب.
قبض علي آخرون:
-أيساري أم يميني؟
سيضربونني أيما اخترت :وصلت روحي إلى أنفي. قلت لنفسي، الموت حق صحت قائلاً:
-أنا يساري، ماذا ستفعلون؟
الحمد لله، حزرت هذه المرة. لكن التحقيق لم ينته:
-من أي يساريين أنت؟
ما هذا التحقيق يا هوه. أصعب من تحقيق أنكر ونكير. على حساب أنني عملت فهلوية وقلت:
-بالطبع منكم.
قالوا شيئاً لم أفهمه تكلموا بغرابة ثم انهالت العصي فوق رأسي وهل بقي عندي روح. رغم هذا لم أمت. إنني على ما أظن بسبعة أرواح ..قبض علي من قبل آخرين:
-يميني أم يساري؟
خطر ببالي جواب أمي عندما تسأل "هل أنت من هذا أو ذاك" كانت ترد "لا من هذا ولا من ذاك."
-لا يساري ولا يميني، أنا رجل مثلك.
ظننت أنني سأخلص. لكن ما العمل؟ سأتلقى اللكم والرفس والكفوف والعصي على أي جواب أعطيه. صرخوا في وجهي:
-قواد، جاهل...
قال أحدهم:
-واحد بلا لون! وبصق في وجهي.
ظننت أنه قال هذا لأن لون وجهي قد ذوى:
-دخيلكم يا أخوان .أنا جائع منذ أيام.. او يترك الجوع لوناً في الوجه..
غضبوا أكثر هذه المرة، وبدأوا بالضرب من جديد. أظلمت عيناي إثر ضربة قاسية على رأسي. إثرها تكومت على الأرض ولم أدر ما حدث...
صحوت بعد فترة لا أعرف طولها على أنني محمول إلى سيارة إسعاف ولكن لم أستطع حتى تحريك لساني...
وقفت سيارة الإسعاف عند باب المشفى. ثمة أشخاص منهم من مات ومنهم مثلي بين ميت وحي.. أنزلوني. كان أحد البوابين يختار من بعيد:
-هذا ميت. خذوه إلى البراد.. هذا على وشك الموت، هذا حي. لا تكوموا الأحياء فوق بعضهم ولا. . هذا لا يعد حياً. ارموه في البراد...
أنزلوني من سيارة الإسعاف. وضعوني على الأرض أمام باب المشفى. وقف البواب فوق رأسي. نظر إلي وقال:
-ميت. خذوه إلى البراد...
ما عندي قوة للحركة ليعرفوا أنني لست ميتا، أو قوة للكلام لأصرخ دخيلكم أنا لم أمت بعد.
بعد فرز الذين أنزلوا سيارة الإسعاف" ميت، لم يمت بعد، كيفما كان سيموت، لا يزال حياً"
أمر البواب قائلاً:
-فتشوا الأموات واعملوا قيد سجل الوارد لمن يحمل هوية، ثم ارموه في البراد.
غضب البواب عندما قال أحد الرجال "لماذا القيد، ميتون". وقال:
-أين تعيش أنت يا أهبل ولاه – !!لا أحد يسألك عن الأحياء إنهم يحاسبونك على الميتين. إذا لم تسجل الميتين من أين لهم أن يعرفوا من سيدفن.
فتشوني أخذوا هويتي – أي هوية الميت في غرفة الفندق محمد المسعودي من جيبي ليسجلوا أنني ميت.
حملوني مع ميت آخر على نقالة ورموني بالبراد. عندما حل الليل – لا أدري إذا كان من برد البراد صحوت، وقفت واستندت إلى الجدار، بدأت أفكر. هناك احتمال الطرق على الباب
والصراخ أنا لم أمت. ولكن هل سيصدقونني، خفت أن يعرفوا أنني لست الذي مات في غرفة الفندق وهناك احتمال – وهو الأفضل – الهرب دون أن أقول لأحد. لم أمت من الضرب ولكني أكاد أموت من الجوع. كسرت زجاج غرفة البراد وهربت كأن شيئاً يدق فوق رأسي شبيهاً بالعصي التي كانت تنزل عليه. الألم لا يحتمل. وبينما كنت أجرجر نفسي بصعوبة رأيت مقهى، دخلت:
-دخيلك، كأس شاي.
قبل أن تأتي الشاي. دخل مجموعة من الرجال، أي دخول .صاحوا قائلين:
-لا تتحركوا . ارفعوا أيديكم.
وقفنا ورفعنا أيدينا. نظرت إلى الآخرين وإذا بهم يرتجفون خوفاً، كارتجاف أوراق الحور أثناء هبوب الرياح. وبما أن الجميع يرتجف فعلي أن أرتجف أيضا ولكن لا قوة لي حتى على الرجفان.
عرفت أن الداخلين مباحث، يفتشون ويحققون لمعرفة المحرضين على حوادث ذاك اليوم، فتشوني أيضاً . لا يوجد معي مسدس أو سكين بل حتى دبوس. قال أحد الشرطة الذين يفتشون:
-ما هذا الذي في رأسك وعينيك ولاه...
قبل أن أفتح فمي قال آخر:
-هويتك.
لا أستطيع أن أقول له إن هويتي في المشفى الذي هربت منه. ياه قلت:
-ضيعتها.
-ارموه في السيارة.
كثير مثلي في سيارة الشرطة. رمونا جميعاً في أحد أقبية مديرية الأمن.
المكان هناك مزدحم كمستودع. حبسوني ثلاثة أيام دون أن يسألوني شيئاً . المهم أنهم كانوا يعطوننا زاداً وماء. الآخرون معم نقود. ليسوا مثلي يجلبون من الخارج صحفاً. أنا أقرأ
صحفهم. ألا أرى صورتي في إحدى الجرائد. ولكن أين أنا، حسين طوقاي أم محمد يورتسوار. مكتوب تحتها "حسين طوقاي المقتول خنقاً" جميل. الصورة صورة الهوية التي تركتها لصاحب الفندق ولكن السيء خبر الجريدة الأخرى. لا يوجد صورة ويقول الخبر "لم يكن الشخص المخنوق في غرفة الفندق في "طوب خانه" حسين طوقاي بل محمد يورتسوار،والأول هو القاتل ويستعمل هوية الثاني...... واخ، ماذا سيحدث الآن.
أخذوني مع مجموعة من الناس إلى غرفة التحقيق.
-ما اسمك؟
لا أستطيع القول أن اسمي حسين طوقاي، لأن حسين طوقاي قتل في الفندق ولا محمد
يورتسوار لأن هذا إما القاتل أو المقتول... موقف ملخبط تماما، ولأنني تركت هويتي في
المشفى قلت:
-محمد يورتسوار*
قطب وجهه أحد الجالسين هناك عندما سمع اسمي وكنيتي .ويبدو أنه رئيسهم. أصبح كأنه
ينظر إلى شي مقرف وقال:
-أين أنت من حب الوطن ولاه... ما عندك لتحب به الوطن.. وهل أهمل حب الوطن حتى وصل إلى عندك. ولاه، سفيه.
الشرطة تلاحق محمد يورتسوار حسب الجريدة ومحمد يورتسوار أمامهم. لفرحتي بعدم معرفتهم بي تجاوبت معهم وقلت:
-معك حق يا سيدي. أستغفر الله وهل يستطيع أمثالي نيل شرف حب الوطن. ولكن كنيتي هذه سجلها أحد موظفي النفوس لوالد جدي، دون علمه طبعا....
قال أحد رجال الشرطة:
-ماكان اسمك؟ قله مرة أخرى؟
قلت:
-محمد يورتسوار...
لكني نديت تحتي لشدة خوفي.
-من أين أنت؟
-من المسعودية.
قال للجالس على الطاولة:
-سيدي هذا أحد المتهمين بقتل حسين طوقاي. حسب إفادة صاحب الفندق أن محمد يوتسوار
كان يقيم مع المغدور حسين طوقاي في الغرفة نفسها.
صرخت قائلاً:
-أبداً.
-ألم تسكنا نفس الغرفة؟
-نعم لكن لم أقتله.
-إذا لم تقتله فلماذا هربت ولم تعد إلى هناك مرة أخرى؟
أنا في موقف سيء جداً . سأصبح قاتلاً لنفسي إذا قلت نعم قتلته. بينما لا على بالي ولا على خاطري سأصبح قاتلاً. وإذا قلت لم أقتله سيسألني عن سبب هروبي.
قال الجالس خلف الطاولة:
-نادوا لي بقية المتهمين، واحداً واحداً.
أدخلوا ولدَاً (ممعوصاً (في الخامسة عشرة من عمره. لم يعد يستطع الوقوف على قدميه لشدة
الفلقة التي ضرب .يستند إلى الجدار ليقف ثم يسقط. حققوا معه من حيث سقط جالساً:
-احكِ لنا كيف قتلت حسين طوقاي.
لكثرة ما أكل الولد من الفلقات ليكرر حكاية قتله لحسين طوقاي – أي أنا – حفظها غيباً كما يحفظ تلميذ المدرسة، بدأ يقرأ:
-خدعني، بأنه سيعطيني نقوداً. أخذني إلى غرفة الفندق ثم قال لي "اشلح ثيابك...." استغفر الله... أنا ياهوه ، متى؟ حسب ما يقول – بعيد من هنا – اعتديت على عرضه... ولما أكلت
عليه النقود، خنقني. زعلت، نسيت أنني محمد يورتسوار فقلت صائحاً:
-والله بالله يكذب، ما عندي أي عادة سيئة كهذه... ولكن الذي خلف الطاولة قال:
-خذوه واحضروا الآخر.
أتوا برجل عبر الستين، هذه المرة. قال أنه قتلني لأنني لم أدفع له دينه الذي خسرته بالقمار.
قال أننا جلسنا في الغرفة ولعبنا قماراً وخسرت ولم أدفع النقود... فاضطر إلى قتلي. أحضروا خمسة متهمين بقتلي. نظرت في وجوههم لا يبدو عليهم هيئة البشر. أفكر أن هؤلاء لا يمكن
أن يكونوا من بني آدم ولكن يقع على الإنسان ما يجعله... لا يعرف إلا من وقع له. المهم قالوا أنهم خنقوا حسين طوقاي. أما أنا؟ عندما س ّ طحوني تحت العصا، حكيت الحكاية كما لو
أنني خنقت نفسي مئة مرة حتى ذاك اليوم...
-فهمنا، أنت الذي خنقت حسين طوقاي... اعترف. لماذا خنقته؟ يا هوه، ماذا سأقول الآن..
الخمسة الآخرون ذكروا كل ما يدفع إلى القتل. لخوفي أن يعودوا بي إلى الضرب قلت:
-أتركها لوجدانكم الرفيع يا سيدي كما تقولون.
-من قتلت غيره؟
-الذين ترونهم مناسبين، خنقتهم يا سيدي...
-لماذا قتلته؟
لكي أتخلص من الضرب، صرخت فجأة:
-ثأر يا سيدي.
في تلك الأثناء أحضر رجال الشرطة رجلا .أحد اثنين اعترفت بقتلهما. عندما عرف أنه لم يمت، قبضوا عليه وجلبوه. عندها قال الرجل الذي كان يحقق معي:
-عندك حظ، لقد أُنقذت من إحدى الجنايات.
قلت:
-الله لا يحرمنا إياكم يا سيدي.
قال الذي خلف الطاولة:
-كلكم كذلك. تعترفون هنا. في المحكمة تنكرون. لم افعل، لم أتكلم، لم أر....
قلت:
-أستغفر الله يا سيدي. وهل أصابع يدك مثل بعضها. لا تظنوني من أولئك السافلين.. أنا لا أكذب.. لا أعود بكلامي حتى لو قتلتموني، خنقته يعني خنقته.
عندما سأل الذي خلف الطاولة رجاله:
-ألا يوجد جناية أخرى مجهولة الفاعل؟...
عرفت أنهم سيأخذوني إلى الفلقة من جديد. حينها بدأت أحكي قصتي وأنا أبكي:
-عن اذنكم يا سيدي، حسين طوقاي المقتول خنقاً في غرف الفندق هو أنا...
حكيت له كيف هربت من قضية الثأر ، وكيف اشتريت من صاحب الفندق هوية المخنوق محمد، وأنني لا أستطيع أن أخنق نفسي بنفسي، وكيف ضربت عندما قلت أنني يميني ثم
ضربت عندما قلت، يساري، ثم ضربت عندما قلت، أنا لا من هذا ولا من ذاك، أنا رجلكم أنتم. كيف رموني في براد المشفى عندما قال البواب أنني ميت. كيف هربت من هناك. كيف
ألقي القبض علي في المقهى. كانت تسيل الدموع من عيني بشكل، حتى لو كان حجراً لتألم على حالتي.. ظننت أنهم سيتركونني ولكنهم سطحوني تحت العصا. أقول "أنا المقتول" ينزلون
بالعصا، أقول "أنا القاتل" ينزلون بالعصا أكثر.. "أنا القاتل والمقتول" عصا، ... "أنا قتلت نفسي"، عصا...
ذبابة الحمار الحبيبة هكذا حكى لنا الشاب الذي في المشرحة الأحداث التي وقعت له ثم سكت
. فسألته:
-لماذا مت؟
لوى رقبته وقال:
-لماذا يموت الإنسان، أنا ككل البشر، أتى أجلي.
قال أحد الموتى:
-وهل تسأل واحداً أكل كل هذا الضرب، لماذا مت؟
بعد أن سكت الشاب قليلاً، أضاف قائلاً:
-هم استغربوا موتي مثلكم أيضاً، لذلك أتوا بي إلى هنا، ليقطع الأطباء جسدي، ليعرفوا لماذا مت. أناس غريبون للغاية. لم يسألوا لماذا وكيف مت، ولكن سبب موتي مهم جداً بالنسبة للدولة...
بعد قليل، أخذ عمال المشرحة جسد الشاب محمد يورتسوار، أو حسين طوقاي إلى التشريح، ليقطعوه ويفرموه ويحددوا سبب موته بشكل علمي، ثم يكتبون تقريرهم لتتم معاملته.
ذبابة الحمار الحبيبة، هنا حكايات أخرى استمعت إليها من الأموات .
سأكتب إليك في الرسالة القادمة ما جرى على رؤوسهم . مع تمنياتي باللقاء القريب.
حمار ميت

الكاتب عزيز نيسين

**كلمة يورتسوار، مركبة من يورت تعني وطن وسِوار تعني يحب أو محب وتصبح مركبة (محب الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق