الخميس، 23 مايو 2013

المرأة الغنية التي ذهبت ضحية بشكل لم يكتب في أية رواية (بوليسية)

الرسالة العشرون

ذبابتي الحبيبة:
أنا لم أحس بوحشة أي مكان في الحياة. أتمدد وأنام في المكان الذي أشعر فيه بالنعاس، البيت، الطريق، المنفى، السجن، الفندق، الهضبة، الوادي، الجبل، الحقل... كنت أكتب في أي مكان
وتحت أي ظرف كان، المقهى، البيت، على الطاولة، على الأرض، في السرير، على ركبتي. أتعلنين أنني أغار من بعض الذين لديهم حق استغراب مكانهم. لوحشة المكان بالنسبة لهم
سعادة من نوع مختلف. ليس من حق من لا مكان لهم أن يستوحشوا أو يستغربوا مكانهم.
أكثر ما كان يخرجني عن طوري أولئك المدللون من الناس الذين حتى ذا ناموا في أكثر الأمكنة فخامة، ويستطيعون أن يستيقظوا مع الظهر ويتمطمطون ويتثاءبون، قائلين "لم أستطع
النوم طوال الليل، استوحشت مكاني." أغار من هؤلاء كثيراً. لم أستطع تحقيق رغبتي الداخلية هذه ولا مرة . هيه، ذبابة الحمار، قولي أية رغبة استطعنا تحقيقها.
لم أستوحش قبري. كنا نردد أنشودة دينية حينما كنا في المدرسة نقول "تحتي تراب، فوقي شجر.". تحتي تراب رطب كأنه فراش لين، وما فوقي من تراب، ولكنه كلحاف سميك. المكان
المتمدد فيه جيد، ولكن ثمة شيء قاسٍ من الخلف. عندما تحركت لأرتاح، أتاني صوت خشن من تحتي:
- لا تلعب!
لو لم أكن ميتاً لخفت من الصوت، لكن الأموات لا يخافون.
ذبابة الحمار الحبيبة، أنا الآن أحس بما تقولينه "الأموات لا يبكون، لا يصرخون، لا يأكلون، لا يشربون، لا يتكلمون، لا ينامون، يعني مثل الجنود المناوبين." لا تُعدين غير محقة.. كان الصوت الخشن القادم من تحتي يأتي من ميت آخر. سألته:
- ما عملكم تحتي؟
قال:
- أنا لم آتِ وأدخل تحتك. أنت الذي فوقي.
قلت:
- أنا لم آتِ لوحدي. اتوا بي ودفنوني.
- لكنهم دفنوني هنا قبل يومين، فالمكان من حقي.
- لو كنت طالبت بحقك عندما دفنوك..
- هيه.. وهل يستطيع الأموات المطالبة بحقوقهم؟ او هل استطعنا المطالبة بحقوقنا في حياتنا لنطالب بعد موتنا.
- على ما يبدو أنكم مثلي. أي ممن مات دون أن يحيا.
- وهل كانوا يرموننا ثلاثتنا في حفرة واحدة، كما يرمون الخيار في (قطرميز) المخلل.
قلت صارخاً:
- ماذا ثلاثتنا؟ من الثالث؟
- المرأة التي تحتي، دفنوها قبلي بيوم.
- ما هذا المكان؟ لا فرق بينه وبين مكاننا في حياتنا. أيمكن أن يدفن الناس فوق بعضهم، مثل الباصات التي تذهب إلى المناطق الشعبية.
قال الرجل الذي تحتي:
- أنا متعود. كنا نعيش الطريقة نفسها في الكوخ.
- أليس هناك راحة حتى بعد الموت؟ أرجوكم، شدوا مالكم هذا تحتي، يدكم، رجلكم، لا أدري.. لا أشعر بالراحة.
- واخ يا سيدي، واخ.. إن كنت مهتماً براحتك كل هذا، فاعمل لنفسك قبراً خاصاً.
- لماذا رمونا كلنا في حفرة قبر واحد مثل السمك.
- المكان، أين المكان..؟ حتى القبور الخاصة أصبحت في السوق السوداء. أين نحن منها. لا تستطيع شراء قبر حتى.. ماشي، لكن القبور. والمهربون يبيعون القبور لأكثر من ثلاثة أربعة أشخاص بآن واحد. أتعرف ما حدث البارحة. قبر رجل زوجته في مقبرة العائلة وحجز لنفسه. مكان قبر بجانبها.. بعد فترة مات الرجل. البارحة دفنوه.. يا لطيف، يا لطيف، على تلك الخناقة..
سألته:
- خناقة ماذا؟
قال:
- خناقة الغيرة. وجد في حضن زوجته التي أحبها وسكب الدموع لفراقها، رجلاً غريباً.
صاح بزوجته "من هذا؟" قالت الزوجة "لا أعرف". بدأ معها الخناق قائلاً "ماذا يعني هذا؟.. هل أصبحت تأخذين إلى حضنك حتى الأشخاص الذين لا تعرفينهم وهل تغيرت عاداتك بعد
موتك.. " لقد باعوا القبر الذي اشتراه لزوجته، لشخص آخر. وهكذا دخل هذا الغريب حضن المرأة.
قلت:
- كنت أظن أن الإنسان بعد موته لا يبقى عنده غرق بين غني وفقير.
قال:
- لا يبقى فعلا، ولكن ليس الآن. عندما يفنى تماماً. كنا أشقياء في الدنيا على الفاضي. ننتظر الراحة في الآخرة.
رجوته مرة أخرى:
- لطفاً.. اسحبوا شيئكم هذا من تحتي.
قال:
- من أين أتيت يا سبعي؟ من الفيلا أم القصر. ليس ثمة ما يدخل في ولا يدخل فيك.
هكذا عشت في الحياة. أنا معتاد، كنا نعيش سبعة أشخاص في غرفة صغيرة من كوخ. لا أحد يعرف أين يدخل حتى إننا كنا لا نميز.. نحن هنا ثلاثة ولسنا سبعة.
قلت:
- ولكن تحتك أنثى.
قال:
- وهل بقي من أنوثتها شيء؟
زعلت المرأة التي تحته من هذا الكلام وقالت:
- تأدبوا قليلاً.
تفقدت الشيء وجدت أنه لا ذنب للرجل. كان رأساً حاداً لبروز صخرة. ولا أستطيع سحبها أو التحرك إلى مكان آخر. يعني كيف عشت على الخازوق في حياتي، هكذا سأقضي مماتي.
قالت المرأة في الأسفل:
- الله لا يري لأحد ما رأيناه.
قال الرجل:
لا اااااه... ستحكي من جديد. عندما مت فرحت، لأنني سأتخلص من ثرثرة زوجتي، فعلقت بهذه. همس مرات استمعت لحكايتها من موتي.
قالت:
- لكن هذا السيد آتى الآن. لعله يريد أن يستمع. مالكم أنتم. لا تستمعوا.
- كانت – حسب قولها – غنية جداً. سبب غناها ، زيجاتها، زيجات عقلانية. بعض أزواجها ماتوا فتركوا لها ميراثاً ضخماً. كانت تأخذ مبلغاً ضخماً لتقبل الطلاق من أزواجها
الذين لم يموتوا أو لم تستطع قتلهم. هكذا أصبحت واحدة من النساء الغنيات في الدولة.
لماذا لا تدفن امرأة بهذا الغنى في قبر عليه الهيبة. وترمى مثلنا نحن المحرومين في حفرة، من قبل البلدية.
حسب ما فهمته ومن وجهة نظري، وبناء على ما حكته المرأة التي تبدو من خلال صوتها المرتجف أنها مسنة. مسنة كلنها شابة القلب. متعلقة بالشباب أموالها لا تنتهي. بدأت تستعمل
الشباب الحلوين، الأقوياء ، الفقراء. تعلق بها أحد هؤلاء الشباب، لا يعد شاباً بل في الأربعينات من عمره. لم تصدق في البداية مظاهر التعلق بها. حيث عركت الحياة جيداً.
ولكنها تراخت عندما شعرت بتعلقه بها.. تزوجا. المرأة سعيدة، سعيدة. سعيدة بشكل.. لم تعش سعادة كهذه.. في أية زيجة من زيجاتها. المرأة تحب الكاتو والشيكولا كثيراً. كان يأتي زوجها، الذي يصغرها بأربع وثلاثين سنة كل يوم محملاً بصناديق الكاتو والشيكولا والمرأة تأكلها. الرجل يوصي على كل هذه الأشياء خصيصاً لزوجته.. ولكن أي كاتو. لقد أصبحت المرأة بعد مدة لا تستطيع الخروج من بيتها لسوء حالتها. لم يستطع الأطباء والدواء إنقاذ المسكينة. تقول "والله" لم أعد أجد وقتاً للجماع. حتى أنني لم أعد أستطيع النوم.
كل عشر – خمس عشرة دقيقة، إلى المرحاض. ذبلت لم يبق لي حيل. انتهيت . كان زوجي يحبني حتى في حالتي هذه. وكان يأتي كل مساء حاملاً الكاتو ويقبلني.. ولكن، لم يعد يبقى لي
وقت للجماع بل حتى للعناق. كنت ألحق نفسي إلى المرحاض بصعوبة، وكنت لا ألحق أحياناً.. آه، أي كاتو. كان حبيبي يوصي عليه مخصوصا. أصبحت طريحة الفراش. بعد فترة، لم أستطيع الوصول إلى المرحاض.
فهمتهم وضعي أليس كذلك. من فوق ومن تحت. لم يتركني حبيبي ولا ثانية. وهل يصمد الإنسان أمام كل هذا الاسهال، خاصة إذا كان بعمري؟ كان زوجي لا يفارقني. يقدم لي قطع الكاتو بيده قائلاً "يالله يا حبيبتي، لقد ضعفت كثيرا. لقد أوصيت عليه خصيصا من أجلك. هكذا كانت حكاية المرأة. لم ير حب كهذا في التاريخ. ثم ماتت المرأة . ولم تفهم حقيقة ما حدث إلا من خلال حديث زوجها مع عشيقته بجانب جثتها. كان الزوج يضع المسهل في داخل الكاتو والشيكولا التي يوصي عليها. المسكينة كلما أكلت المزيد كانت تسهل أكثر. في النهاية انتقلت المرأة الصالحة من دار الفناء إلى دار البقاء. وكونها سجلت كل ما لديها لزوجها بقيت دون أية نقود.. الرجل سافل إلى حد لم يشتر قبراً، أو يعمل جنازة لزوجته بقيت دون أية نقود..
الرجل سافل إلى حد لم يشتر قبراً، أو يعمل جنازة لزوجته المليارديرة، التي قتلها بطريقة لا تخطر على بال أي من كتاب روايات الإجرام أو البوليسية. البلدية دفنت المرأة ولكن المرأة
مسرورة تقول "أووف، الحمد لله. مت وخلصت من الإسهال... لم أجد حتى دقيقتين للجماع مع زوجي. كنت ألحق نفسي إلى المرحاض بصعوبة.. أيام...
ذبابة الحمار الحبيبة، أنا بغاية الشوق إليك. لعلك تزعجين من هذا الكلام. ومن التمني الذي كتبته في رسائلي السابقة. "اللقاء القريب" من يريد أن يلتقي بميت، وقريباً؟... من يشتاق
لميت؟ سوف لن نلتقي لا قريباً ولا بعيداً.
تأملي من أجلي، المياه ذات اللون الأخضر المزرق لاتساخها عند أعمدة جسر (غلاطة) على الخليج. مري في الطريق المؤدي إلى ساحة (امينونو) من جانب سور (الجامع الجديد)
وتذكريني. لم أكن أشعر بما يسمى الحرية إلا تحت ذاك السور. كان المكان بارداً في أحر أيام الصيف، فكنت أفتح صدري أمام تيار الهواء لأظن نفسي حراً. لم أكن أعرف أنني عندما أقف
عند سور الجامع الجديد وأفتح صدري للريح الباردة، وأحسها تلامس صدري "الشيء الذي حرية لا يمكن أن يكون أكثر من ذلك". مع نهاية رسالتي أهدي إبرتك التي ترزينها في أجسام
الأغنياء أجمل القبلات، يا ذبابة الحمار الحبيبة.
صديقك
حمار ميت
عزيز نيسين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق