الخميس، 16 مايو 2013

حكاية الأموات



الرسالة الثالثة عشرة

عزيزتي ذبابة الحمار:
لا يخلص الإنسان من أيدي الأحياء حتى ولو مات. يخطر لي أحياناً أن أصرخ "كفى، خلصوني وادفنوني "ولكني لا أفعل لأنني أعرف أن لا أحد يسمع صوت الميت. هناك الكثير مثلي من منتظري دورهم للذهاب إلى المشرحة من أجل معرفة هويتهم، لتحديد أسباب موتهم، فيما إذا كان مشكوك فيه. من بين هؤلاء الأموات ثلاثة مدهشون. واحد يضحك دون توقف والثاني يبكي أشد البكاء والثالث أخذ وضعية المفكر دون حراك. ذهبت إلى جانب الذي يضحك منذ أتوا بي إلى هنا:
-اعذروني يا سيدي أحببت أن أعرف لماذا تضحكون كل هذا الضحك.
أختي ذبابة الحمار. ضِحك الميت شيء غريب جدا. افرضي أمامك رجل ويتشقلب لشدة الضحك.
لشدة ضحكه، لم يستطع الميت إجابتي كأنه ماكينه قهقهة شغالة. يضحك ماسكاً حالبيه دامعةً
عيناه. ثم أخرج صوته قائلاً:
-أي سأدوخ.. دخيل الله، أوف..
من خلال ضحكه حكى لي قصته بشكل متقطع:
-شيء لا يمكن ألا يضحك.. ذهبت مع زوجتي ليلة الصباح الذي مت فيه إلى المسرح.
زوجتي تلح علي منذ زمن قائلة" :لنذهب إلى المسرح، ونحضر مسرحية كوميدية تفتح نفسنا." اشتريت بطاقتي مسرح لعرض كوميدي، ذهبت وزوجتي إلى المسرح بدأنا بالضحك فور فتح الستارة. كانت كوميدية مضحكة .ضحكنا ضحكا لا يمكن وصفه.. كدنا نختنق من الضحك. الغريب، أنه لا يوجد ثمة من يضحك في الصالة سوانا. اترك الضحك جانباً، الجميع كانوا يبكون. قال أحد المتفرجين في منتصف الفصل الثالث: "يا سيدي كفي، أرجوكما كفى ضحكاً." تحركت زوجتي قبلي. قالت :لِم لا تضحك، دفعنا نقوداً، ألسنا نضحك بنقودنا؟..
أخرجونا من الصالة في منتصف العرض صاح بنا المتضايقون من ضحكنا. لماذا تضحكون؟
لِم لا نضحك، أتينا نحضر عرضاً كوميديا سنضحك بالتأكيد"... قالوا: "اية ، كوميديا، هنا لا تعرض كوميديا بل تراجيديا." نحن نضر على أن العرض كوميدي وهم على أنه تراجيدي. صاحوا بنا "أغبياء !"أنتم الأغبياء. تبكون في عرض كوميدي". نظرنا في إعلان المسرحية لنعرف فيما إذا كان العرض كوميديا أم تراجيديا. كُتب في الإعلان تراجيديا. عندها فهمنا الخطأ بدلا من شرائي بطاقات عرضٍ كوميدي، اشتريت خطأً بطاقات عرض تراجيدي. كنت وزوجتي نضحك ظناً منا أننا في عرض كوميدي. هناك ناقد مسرحي قال: أنتما على حق، أتيتما إلى المسرح، دفعتما نقوداً لتحضرا عرضاً كوميدياً. كنتما تضحكان لنيل مقابل ما دفعتماه. أو بالأحرى لتخففا ألمكما على ما دفعتماه، أعطيتما قراركما وهيأتما نفسيكما للضحك .المتفرجون الباكون أيضاً على حق. دفعوا نقودهم لكي يبكوا لذا بكوا لنيل حقهم مقابل ما دفعوه من نقود، هم أيضاً أعطوا قرارهم وهيأوا أنفسهم للبكاء منذ اشتروا بطاقاتهم.
لا أنتم ضحكتم ولا هم بكوا بتأثير العرض الذي شاهدتموه. لو لم يكن ثمة عرض، لو تحركت الستارة بفعل الريح، دون فتحها ستضحكان قائلين "كم مضحك". هم سيبكون قائلين "كم مؤلم"
كيف يضحك الناس في عروض مسرحية تُبكي، يسمونها كُتابها كوميديا؟ ..ماذا سيفعل الجمهور المسكين، أخذوا نقوده منذ البداية قائلين له "سنضحكك" لو كان الجمهور لا يدفع نقوداً وهو داخل المسرح بل وهو خارج منه، سنرى أدعياء كتابة الكوميديا فيما إذا كانوا سيضحكون متفرجاً واحدا" أفهمت لماذا أضحك؟... هذا هذا هخا .. آي.. سأدوخ.. يا لغباء البشر. سأطق من الضحك.. ها ها ها .. ها ها ها ... ها ها ها..
ذهبت للميت الباكي أشد البكاء وقلت:
-أظن أنني فهمت لماذا تبكون. من المحتمل أنكم ذهبتم إلى المسرح وحضرتم كوميديا على أنها تراجيديا.
مسح الميت دموعه وأنفه وقال ساحباً الكلمات واحدة ، واحدة:
-لا، إذا لم أبكِ فمن سيبكي؟ ..قبل أن أموت كنت من قراء جريدة "الطريق الصحيح" كتب أحد كتاب المقالة، زاوية بعنوان" فقدان غال" يومها مات شخص مهم ذو قدر. كتب الكاتب عن ذاك الفقيد. لم أقرأ في حياتي مقالة بهذه المرارة حتى أنني لم أستطع إنهاء المقالة، كلما قرأت كلمة تسيل دموعي أكثر. كتب "خالد في نفوس البشر!.. خدماته للإنسانية.." ذهبت إلى مبنى الجريدة بعد قراءة المقالة بهذا الجمال لمت الآن." قال الكاتب "لا تشغلوا بالكم، جمال الكتابة حسب نقودها" ، دفعت حسب طلبه.
كانت عينا الميت متورمتين وتدمعان دماً لشدة البكاء. قلت:
-ارحم نفسك لا تبك.
-كيف لا أبكي، هذا أنا متُ.. لكنه لم يكتب من بعدي ولا حتى سطرين. يموت الإنسان أحياناً على الفاضي.
سألته:
-من هو الشخص الذي كُتبت عنه تلك المقالة؟
قال الميت وهو يمسح دموعه:
-لا أعرف ..رثاؤه كان مؤلماً. يومها حاولت أن أعرف، سألت هنا، وهناك "من ذاك الرجل" لم أجد من يعرفه.
-لم تبكون الآن ؟ لقد متم.
-كيف لا أبكي.. لا أستطيع أن أنسى تلك المقالة المنشورة في جريدة "الطريق الصحيح". كلما تذكرت المقالة لا أتمكن من مسكِ نفسي عن البكاء.. سأبكي دائماً..
ذهبت إلى جانب الرجل الذي أخذ وضعية المفكر .قلت:
-عفوكم، منذ قدومكم وأنتم تفكرون، أثرتم فضولي، بماذا تفكرون يا ترى؟
قال:
-أفكر في كوني إنساناً أم لا.
قلت:
-كيف! أنتم إنسان بالطبع.
-ظننت نفسي كذلك، ولكن لم أستطع إثبات كوني إنساناً لأحد.
لأحكي لكم:
لو صرخنا ، أو ولْولنا هل يسمعنا الأحياء من البشر؟ لا يسمعون .. لأننا أموات، نتكلم لغة الأموات، ونصرخ صراخ الأموات. يحدث ما يشبه ذلك في عالم الأحياء .هناك الكثير من
البشر يصيحون ويولولون ولا أحد يسمعهم لأنهم غير معروفين إن كانوا أحياء أم أموات، لا يفرقونهم عنا، لا يحسبون على معشر البشر في تلك الدنيا المظلمة إلا في الإحصاء، الانتخابات، دفع الضرائب، خدمة الجيش. كم شخصاً يجيب على سؤال "هل أنت انسان؟" وهو مرفوع الرأس نافخ الصدر. لكل شيء شروطه. شروطه الانسانية، أن يعيش الانسان مثل الانسان. أينما ذهبت كانوا يحقرونني قائلين "أأنت إنسان؟" لم أستطع الإجابة على هذا السؤال طوال حياتي. أمضيت باذلاً جهدي لكي أعيش حتى إنني لم أجد فرصة في التفكير كونى إنساناً أم لا. الحمد لله إنني مت ووجدت الفرصة للتفكير. الآن أفكر: "عندما كنت في الحياة هل كنت إنساناً أم لا؟"
قلت:
-بعد كل هذا التفكير هل وجدتم إجابة لسؤالكم؟
قال:
-لا، أفكر وأفكر ولا أستطيع الوصول إلى نتيجة. لو كنت إنساناً لعشت مثل الإنسان، فأُسمع صوتي للآخرين. ولو لم أكن إنساناً لما طُلب مني أن أُعطي صوتي الانتخابي أو أن أعمل أو
أدفع ضريبة.
بعد أن استمعت للميت المفكر، أخذني التفكير أيضاً. نحن أيضاً من فريق الذين لا يستطيعون إسماع صوتهم، أغانينا نغنيها دون صوت، في داخلنا...
هكذا يا أختي الحبيبة ذبابة الحمار. ستغوصين بالتفكير بعد استلامك هذه الرسالة لعلك تضحكين في عرض مسرحي تراجيدي لأنك اشتريت البطاقة على أن العرض كوميدي، أو تبكين عندما تتذكرين المراثي المكتوبة لأشخاص لا تعرفينهم.
قولي للذين كانوا يقولون لي في حياتي "لتلسعك ذبابة الحمار من لسانك" أن يحنوا أيديهم.
مع تمنياتي بالصحة والعافية
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق