الثلاثاء، 14 مايو 2013

كيف نجح أحد أفراد الطبقة الراقية في قتل نفسه

الرسالة الحادية عشرة

ذبابة الحمار الحبيبة:
من وجهة الموت فقد مت. ولكني لم أمت رسميا. أثناء كتابتي لهذا السطر، أكاد أسمعك تقولين "ما أصعب العيش (رسمياً) والموت (رسميا) أيضاً.
كان هناك بعض الأموات في قبو المشفى البارد إلى ماتحت الصفر. يوجد على يساري ميت متوسط العمر. وعن يميني امرأة عجوز ميتة سألت الرجل الميت:
-لماذا متُّم يا سيدي؟
خاطبته بالجمع واتبعتها بسيد، لأنه حتى بعد موته، لا يزال منفوشاً بشكل مضحك، وبينما كنت أنتظر جوابه وإذ به يقطب وجهه ويديره إلى الجهة الأخرى. وقال، وكأنه يحادث نفسه "لهذا
لم أكن أحب الموت. يموت الناس فلا يبقى بينهم فرق طبقي. هنا يلتقي الجميع بين سيد وخادم. من عرف جده ومن لم يعرف. أي نوع من البشر هؤلاء. رجل لم تتعرف عليه بعد،يسألك عن سبب موتك، الموت غير مهم ولكن الاجتماع بأناس لا يعرفون الأصول، هو الشيء الذي لا يطاق"..
همست المرأة التي على يساري:
-السيد من الطبقة الراقية.؟
خجلت لسؤالي المباشر الذي خرج كما لو أن شيئاً سقط من السطح قبل أن أُعرف بنفسي.
بعدها بقليل، عرفت بنفسي. لم أفهم عمله بشكل واضح. ما فهمته أنه يعمل كل شيء دون أن يعمل شيئاً. ثم حكى عن موته:
-انتحرت.
-هل من السهولة أن يقتل الإنسان نفسه؟
غضب الرجل الراقي مرة أخرى لأن شاباً دخل في الحديث ظاناً أن السؤال موجهاً له.
-الانتحار أصعب من العيش فكرت أن أرمي بنفسي في البحر . فتشت سواحل اسطنبول، طرفيها الأناضولي والرومي ولن أجد قطعة ولو صغيرة، غير مشغولة، لأرمي منها نفسي.
سيطر الأغنياء على كل سواحل اسطنبول (شاليهات)، (فيلات)، (كازينوهات)، حدائق وأرصفة خاصة...
قطب الرجل المنفوش وجهه كما لو أنه يشم رائحة كريهة. وبدأ يخرج صوت "جق ، جق، جق" وقال:
-أمثال هذا الشاب هم الذين جعلوا من بلدنا الجميلة لا تطاق.. ولكن الشاب الميت لم يهتم لكلامه وتابع:
-وضعوا هنا وهناك لوحات "ممنوع "خاصة مثل "ممنوع الدخول إلى البحر من هنا". "ممنوع المرور من هنا" وكأنها لم تكف حتى يضعوا لوحات "يوجد كلب" ليس كلب بل وحش. إن كنت شاطراً، مر وأرمِ نفسك في البحر.. أن ترمي نفسك في البحر شيء، وأن تجعل كلب يمزقك شيء آخر . وجدت شاليه من دون كلب ودون لوحة منع. قلت لصاحبها "هل تأذنوا لي باسم الانسانية أن أرمي بنفسي في البحر من هنا.." بدأ الرجل ينصحني "هل يترك الإنسان هذه الحياة الجميلة وينتحر "!عندما قال "الجميلة" كان يشير إلى أزهار حديقته واشجارها، بركة الماء، (الشاليه (المكسوة بالمرمر.. لم أجد في الساحل مكاناً أنتحر فيه..
قلت:
-لو كنتم ذهبتم إلى أحد (البلاجات.)
-من الواضح أنكم لم تذهبوا إلى بلاج منذ فترة طويلة.. فكرت بالذهاب إلى أحد البلاجات لعلي أجد مكاناً عميقاً أرمي نفسي فيه، ولكن أين.. لا يمكن أن ترى البحر لكثرة الازدحام. رميت بنفسي من رصيف على البلاج وإذ بصوت يأتي من الأسفل "هيش" وإذ بي أنزل نكساً في بطن رجل. قلت،لأركب السفينة وأرمي بنفسي منها في البحر. وهذا لم يتحقق أيضاً.. لو صادفك الحظ وركبت السفينة فإنك لا تستطيع الحراك وسط الناس لكي تصل إلى طرفها، وإذا وصلت لا تستطيع أن ترمي نفسك في البحر. لو فعلت، لعلقت يداك ، رجلك. وإذا لم تعلق أمسكوك وأنت في الخلاء، وإذا وصلت إلى الماء لأخرجوك. بالمختصر المفيد الانتحار غرقاً في اسطنبول أمر غير ممكن. جربت السم. شربت أكثر السموم تأثيراً . لم أمت. شربت كمية أكبر. لم أمت. بل اترك الموت جانباً، كلما شربت السم تزداد قوتي. سألت أحد معارفي الأطباء عما إذا كان ثمة من لا يموت بالسم .قال نعم، هناك بعض سكان اسطنبول، ألفوا السم، المزابل المتروكة، غازات السيارات، الدخان، الغبار، حومات الماء الوسخ، هذه الأشياء كلها سموم ولكن الناس تعودوا عليها، حتى إن أقوى أنواع السموم لا تؤثر فيهم. سكان منطقة الخليج* يختنقون لو أخذتهم لمكان نظيف الهواء.
-قال ابن الطبقة الراقية:
-هل فهمتم الآن ، سبب انتحاري؟
-لم أفهم.
قال:
-أصبحت الحياة في بلادنا لا تطاق.
سألته:
-لماذا؟
-استمعتم للرجل كل هذا الوقت.. هل يعاش مع إنسان كهذا.. لم يعد هناك من يعرف حده على كل شخص أن يعرف موقعه الاجتماعي. إذا أتى القدم لمكان الرأس، والرأس لمكان القدم، يغدوا المجتمع رأساً على عقب.. هذا هو سبب انتحاري..
-كيف انتحرت؟
-كنت عائداً مع سكرتيرتي ليلاً من مضيق البوسفور..
قلت:
-فهمت.
-أعطيناها غطاء الحادث.
ثم أضاف رجل الطبقة الراقية الذي لم يستطع العيش بين الناس الخشنين الذين لا يعرفون حدهم:
-مت ولم أخلص. الوضع الآن أسوأ من السابق. لا يوجد فرق طبقي بين الأموات وبرم وجهه.
ذبابة الحمار الحبيبة، في الرسالة القادمة أحكي لك عن أسباب موت الآخرين . أقبل عينيك.
حمار ميت
عزيز نيسين
•خليج القرن الذهبي في اسطنبول. قبل عام ١٩٨٦ كان مكاناً لرمي نفايات منطقتين ، صناعية وتجارية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق