الأحد، 5 مايو 2013

الحمار يحكي عن رحلته في سيارة الإسعاف

الرسالة الثالثة

عزيزتي ذبابة الحمار

أبدأ بالسلام، والقبلات الحارة من إبرتك.
شرحت لك كيف تم موتي وإلقائي في سيارة الإسعاف بالهلهلة والصياح، والطبل والزمر. الآن اسمعي ما وقع لي بعدها. (إن رحلة عشرين ألف فرسخ في غواصة) لا تساوي شيئاً أمام رحلتي في سيارة الإسعاف.
مددوني على طولي في مؤخرة السيارة. فجأة صعقني الخوف ظناً مني أنني راكب في سيارة (تكسي)، وسيطلب السائق الأجرة. ثم ارتحت بعد أن تذكرت أنني ميت.
لم نسر في الطريق مسافة خمس مائة متر حتى خرج صوت محرك السيارة (زيك) ووقف، ولم يتحرك مرة أخرى. تقدم السائق نحو المحرك كسياسي ينفث النار على خصومه.شَتمهُ، هَزَهُ، خربطه، ولكن السيارة لم تتحرك ولا بأي شكل، تظنها صَبّة (بيتون) مثبتة في الأرض كإسفين. قال السائق للجمهرة التي طوقته:
- أمن غير الممكن ألا يزدحم الناس؟!! نحن لا نعيش إلا بشكل مزدحم. ما دمتم مجتمعين، يالله يا شباب لندفع العربة من الخلف! غيّر السائق طريقة لفظ كلماته، أعاد ترتيبها، كررها لمرات بتوسل، للمتجمهرين، عندها بدأ الزحام يخف. لحظتها قال لمعاونيه.
- أرأيت كيف فرقت الزحام؟ إذا اجتمع عليك مثل هؤلاء العاطلين وأردت تفريقهم فما عليك إلا طلب المساعدة. اطلب منهم شغلة صغيرة. عندها سترى الجميع يهربون.
توسل السائق لمن تبقى حول السيارة، المساعدة، قال بعض الكلمات المحملة بنوع من القداسة مثل وطن، شعب، ضمير، لكن المزاحمين كانوا يجرجرون أقدامهم متراجعين.
نصح أحد المنسحبين السائق الذي كان يحاول العبث بالمحرك:
- لا تلعب فيها على الفاضي، إذا خربت العربة يقال "أينما تقول تك، فهناك اترك.."
- أأنزل وأدفع السيارة من الخلف يامعلمي؟!
قال السائق:
- اجلس في مكانك، سترى كيف سأجعلهم يدفعون السيارة.
مط رأسه من النافذة وقال:
- الله يرضى عليكم ، من يحب الله فليدفع السيارة من الخلف.
بقوله "الله يرضى عليكم" اجتمع المتفرقون وكأنهم جمع نمل تهجم على قطعة سكر.
مسكوا السيارة من يمينها، يسارها، عجلاتها، غطاء عجلاتها، خلفها ، أمامها، جنبها.. مسكة، من الأصح أن نسميها لمسة. مثل تلك التي تلمسها سيدة من طبقة اجتماعية راقية ليد رجل من طبقة اجتماعية دنيا عندما تكون في موقف مضطرة فيه للسلام عليه.
أما من ناحية الصياح والصراخ، فكانوا يصيحون بشكل تظن معه أن الأرض تهتز. فوق كل ذلك ، كان كل واحد يُحمس الثاني من كل قلبه:
- يالله يا شباب.
- الصبر يا مواطنين.
- ياللـ .. ـه .. واحد، اثنااا......ن ، ثلاثة.
ولأنه لم يكن أحداً منهم يدفع بجد، بل أحدهم يأمر الآخر الذي يتوسل، المتوسل يطلب على آخر، لذا كانت السيارة لا تتحرك حتى بمقدار إصبع.
يالله يا شباب.
- ادفعوا يا أخوة الدين.
- اصبروا قليلاً على الدفع ياهوه!
- ما فائدة الاسعاف إذا لم تصل إلى المشفى في زمانها.
- اصبروا قليلاً يا مسلمين، اصبروا على الدفع ياه..
- كلنا مع بعض.
- يالله.
لو أنكِ سمعتِ صراخهم، لظننت أنهم وجدوا دافعة أرخميدس، وسيقلبون الدينا رأساً على عقب. لكنهم لا يحركون حتى عربة على أربع عجلات بمقدار إصبع.
- من الأول مرة أخرى.
- كلنا مع بعض.
كانت قطرات العرق تك .. تك ، تسيل من رأس أنف السائق الجالس خلف المقود. الحق، لم يكن ثمة من يدفع غير السائق. ولأنه جالس على كرسيه داخل السيارة فهي لا تتحرك.
- يالله بقي القليل.
- زكاتكم، لندفع يا شباب.
قال الساق :
- لو تحركت قليلاً من مكانها، لما توقفت.
سأل المعاون:
- معلمي، هل تسير فعلاً إذا تحركت قليلاً.
ماذا تعني بقولك تسير، قل تطير.. ولا يُمكن إيقافها.
يا حفيظ.
كان رجل عجوز يصيح من بعيد وهو قادم.
- همة الرجال تقلع الجبال.
- ماذا يعني الكلام بابا.*
- يعني يا ابني إن الشباب إذا أرادوا – يستطيعون قلب الجبال، رأساً على عقب.
اتركنا من القلب رأساً على عقب، ياهوه.. كفاية علينا تحريكها بمقدار إصبع.
كان الأطفال يدفعون خلف الرجال وفي الدائرة الخارجية، النساء والشيوخ.. وهم أيضاً يخرجون صوت، هيه..هيه، مثل الصوت الذي يخرجه دقاق القهوة – على زعمهم – أنهم يحمسون دافعي السيارة.
- ادفعوا يا أخوان.
- من يحب الله فليدفع هذه البلية.
كان هناك من يقدم بعض وجهات النظر.
- لو كانت هذه السيارة في أمريكا لغدت كالريح وطارت.
لماذا تطير في أمريكا.
- هناك تطير.. لا أدري، لماذا هذه الآلات ذات المحرك تغدو عندنا مثل حمار عنيد وضع أمامه الماء. لا تمشي يا سيدي لا تمشي، إنهم يدفعون دون جدوى.
- أتذكرون القطار الكهربائي؟
- وهل يذكر القطار الكهربائي الآن؟
- ما قولك في أنه لم يمش، يا هوه.
- سيدي، السبب ، مناخنا.
- لا ياه...
لا أقول إلا الحق.. في يوم من الأيام اشترينا سفينة من ألمانيا. السفينة تسير بسرعة عشرين ميلاً في الساعة، ثلاثين ميلاً أو ستين... لم أعد أرى كم ميلاً...
- لا يكون جَمل؟!
- ليس جملاً يا سيدي، أتت بسرعتها إلى أن وصلت إلى مياهنا الإقليمية، وعندها لم تتقدم ولا ميليمتراً واحداً. حتى الأمواج لم تحرك السفينة. أداروها إلى الجهة المعاكسة فانطلقت بسرعتها، وجهوها ناحية مياهنا الإقليمية فوقفت مثل حصان يشرئب ولا يتحرك إلى الأمام.
- لا ياه، وماذا أيضاً؟!
- أيامها، كتبت عنها الصحف، ألم تقرأها؟
- السبب هواء البلد وماؤه، يجب أن يُصنع محرك مناسب لمناخ كل دولة على حده.
- اسمع، هذا الكلام صحيح. الباصات التي تعمل على خط منطقة الأكواخ لا تعمل في أي مكان آخر. في حين أنها على ذاك الخط وظ.. وظ تذهب وتأتي. لماذا تشتغل؟ السبب تعليق عبارة يا (معين) فوق المقود. إنها تسير بقوة هذه العبارة.
- لا ياه...
- أين قباطننا القدماء.. لو ركب قباطننا القدماء – ليس تلك السفينة التي من صنع الكفار – بل لو رَكّبتهم الجزر لسيّروها. لو كانوا موجودين الآن لسيّروا جزيرة قبرص بطولها وعرضها.. وربطوها على رصيف (القرة كويْ)*
- هناك قول عن أحد القباطنة
- هذا، عرفته، إما بربروس* أو المعمارسنان*
أحدهما قال أعطوني الشراع الذي أريد وأنا أسّر لكم جزيرة كريت.
- وهل سيرها؟
- لم يعطوه الشراع الذي طلب. لو أنهم استطاعوا ، لسيّر قبطان البحر الجزر ، وشكل منها أسطولاً.
- يالله يا اخوان، اتركوا الحكي وادفعوا قليلاً.
- مع بعض.. هيه!
- من أول.. واحد.. اثنان.. ثلاثة!!
- تعبنا ياهوه، لنسترح قليلاً ونشرب سيجارة.
- راحت تلك الأيام من زمان، يا سيد، راحت مع الماضي. أصبحت من خبر كان.. أين تلك الأيام؟ كان عندنا الانكشاريون، شارب أحدهم يكفي لشنق أحد الجنود الأعداء.. قَدِّرْ ذاك الشارب.. كان عندنا جوقة الموسيقى العسكرية، كانت ضربة أحدهم على الطبلة تحرك الأرض من مكانها، وتهز السماء. حتى إن وجوه جنود الأعداء تتمزق من الخوف، صراخ جنود بحريتنا كالعاصفة... يغرق سفن الأعداء..
- لا ياه.. ماذا؟
- هذا ما كتبه التاريخ، انظر إلى حالتنا الآن. أربعون خمسون شخصاً مجتمعين ولا تستطيع تحريك خردة سيارة إسعاف مكسورة المؤخرة.
- والله صحيح.. احضر طبال الانكشاريين ولنر فيما إذا كانت سيارة الاسعاف هذه تستطيع أن تبقى مكانها؟ والله لو ضرب الطبال الانكشاري على الطبلة لتحولت السيارة إلى طائرة، تطير وتذهب.
- أنا لا أعرف هذا ولا ذاك... الذي أعرفه، أنهم لم يستطيعوا أن يسيّروا سفينة الألمان في مياهنا الإقليمية.
- تحركوا يا أخوة الدين.. يالله يا سباع، يا أبطال
قال السائق، السابح في عرقه لشدة دفعه من داخل السيارة.
- لو مشيتموها قليلاً لتابعت لوحدها.
- لماذا تسير السفن والقطارات والباصات في الدول الأخرى ولا تسير عندما تأتي إلى بلدنا؟
- تستغرب.. ألم أقل لك، مناخ البلد؟
- نعم، هذه المحركات صُنعت من أجل مناخ دول أخرى، مناخنا لا ينفعها .. إنها مثل الإنسان تماما.. لكل إنسان الطقس الذي يؤاتيه، هواء الجبل جيد للبعض والبحر للبعض الآخر والسهل أيضاً.
- عيب عليك أن تحكي هذا الحكي، وأين يوجد مناخ مثل مناخ بلدنا؟
- حاشا. ليس هناك كلام على مناخ بلدنا.. نحمده على مناخنا الجميل.. ماذا لو كان هذا غير موجود أيضاً. أنا قولي ليس بهذا المعنى.. أنا أقصد لو كان لدينا مصانع لصنعنا محركات تناسب مناخنا.
- ادفعوه قليلاً ياهوه.
- ادفعوا!
- أججت صيحات المواطنين الحماسة فيّ حتى كدت أنسى أنني ميت، وأقوم وأدفع سيارة الإسعاف مع الناس. من مساوئ الموت أنك إذا أردت أن تهبّي لمساعدة الأحياء فلا تستطيعين. حتى إنني لم أستطع الوقوف جانبا لأدعمهم بالصياح.

ذبابة الحمار الحبيبة، بينما كنا على هذه الحال نحمّس بعضنا بين ميت وحي، خرجت سيارة خاصة، وبأعلى سرعة ضربت مؤخرة سيارتنا . بهذه الضربة أخرج محرك السيارة صوت "عن.. عن". ثم قفزت السيارة إلى الأمام وكأنها كلب حراسة يطارد لصاً. (اللي بيحب الله لا يمسك بسيارتنا) . السيارة بدأت تمشي، ماذا يعني تمشي؟ كانت تطير.. السائق على حق، ألم يقل "إذا مشت تمشي على طول" تلبّس السائق الخوف لأن سرعة السيارة تزداد، وهذا يعني أن حرارة المحرك تزداد ارتفاعاً، قال السائق لمعاونه:
- ضربت السيارة الخاصة مؤخرة سيارتنا بقوة، ولم يعد باستطاعتها الوقوف.
- الفرامل، الفرامل يا معلمي.
- أي فرامل يا بني، وهل تفعل الفرامل شيئاً مع هذه السرعة.
لكوني في الداخل لم أستطع مشاهدة خارج العربة وأغلب الظن أن السيارة مرت من أمام مشفى الإسعاف عدة مرات ولكن السائق لم يستطع إيقافها وغضب من معاونه وصاح به:
- ولاه، بماذا ملأت السيارة بنزينا أم زيت نفط؟
لم يخرج المعاون صوته.
كنا ندور في أحياء اسطنبول. ولله الشكر أن السائق كان يتحكم بالمقود جيداً فلم يقع حادث لا أشكره لنفسي من أجل المسكينين،السائق والمعاون اللذين يريدان العيش أكثر.

ذبابة الحمار الحبيبة، نهاية رحلة سيارة الإسعاف التي غدت كدورات الأعياد سأحكيها لك في الرسالة القادمة، لعل وجهك العابس من مماحكات السياسيين في الحياة يضحك ولو قليلاً. أدعك بخير، ذبابة الحمار الحبيبة.


مع محبتي
حمار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق