الاثنين، 6 مايو 2013

حكاية عطل سيارة الإسعاف

الرسالة الرابعة


ذبابة الحمار

مع فرملة سيارة الإسعاف وخروج صوت منها محملاً بالمرارة ، وصل أحد المواطنين إلى مرحلة كاد أن يمسح اسمه من قوائم الانتخابات وسجلات النفوس. ولأن لا مال له ولا جاه، التف حول الرجل الجريح الملقى على الأرض، جمع غفير من المواطنين ممن لم يجدوا وسيلة أخرى للتسلية.
قال واحد منهم:
- محظوظ هذا الرجل.
قال آخر:
- نعم لا يمكن أن يكون هناك إنساناً محظوظاً أكثر من هذا. ليشكر ربه على أنه دُهِس بسيارة إسعاف.
- هذا ما اسميه حظاً.
- المريض المكتوب له أن يعافى يأتيه الطبيب إلى قدميه.. أليست الحسبة نفسها. السيارة التي عفست الرجل تأخذه إلى المشفى. ماذا لو عفسته سيارة أخرى..
- كان سيحرق نفسه. لو تخبط طول النهار على الرصيف لما وجد سيارة إسعاف.
- لا إسعاف يا سيدي.. نحن راضون بسيارة زبالة.
- واخ واخ.. أنت تطلعت عالياً أكثر من الحد.. أين نحن من سيارة زبالة. منذ أسبوع ولا تتنازل للمرور من حارتنا.
- حظ.. هذا حظ يا أخي.. اسطنبول، طولها وعرضها، كم ألف شاحنة فيها، وكم ألف سيارة خاصة ومن نفس العدد (تكسي)، وكم ... وليس فيها أكثر من خمس – ست سيارات إسعاف واحدة منها، تدور .. وتدور... وتدور... وتجد هذا الرجل، أي حظ هذا؟!!
- لا ، عند البلدية عشر سيارات إسعاف، ثمانية منها معطلة باستمرار.
- نعم، على قولك ياه.. من بين كل الألوف من السيارات الصغيرة والشاحنات والباصات تصدمه سيارة إسعاف.
- الفائز بالجائزة الكبرى باليانصيب، لا يعد محظوظاً مثل هذا.
- بالضبط.. المحظوظ فعلاً ، هو من يُصدم بسيارة إسعاف كهذه.
- بعد أن يموت الإنسان ما الفرق معه أن يُدهس تحت سيارة إسعاف ، أو شاحنة، أو سيارة زبالة أو سيارة خاصة؟
- لا فرق إن مات. ولكن تفرق كثيراً لو أنه لم يمت.. وهذا الرجل لم يمت بعد.
كان الرجل المصدوم قد طار مقدار عشر خطوات إلى الأمام في الهواء وسقط على الأرض.. وقد ملأت دماؤه التي تسيل من جروحه ومن فتحات جسمه حفر الإسفلت.
قال أحد المتجمهرين:
- ما شاء الله على دمه.
قال آخر:
- من الواضح ، بالنظر إلى كمية دمه أنه ذو شأن.
- أي شأن أنا أعرفه؟
- إذا كان غير ذي شأن فمن أين له كل هذا الدم؟ انظر الدم يجري وكأنه من ثور مذبوح.
- هذا الرجل محترف بيع الدم(للبنك). كان يحمل مذياعاً صغيراً يضعه على أذنه عندما يقول المذيع مريض بحاجة إلى دم.. يذهب بسرعة إلى المشفى أو (بنك الدم) إن كان دمه يطابق الدم المطلوب. كان يعيش عال العال من بيع الدم.. جسم هذا الرجل الذي أمامك، إذا شرب ماء يحوله إلى دم.
- في يوم من الأيام صدمتني شاحنة. غبت عن الوعي. إن أردت الحق فأنا غبت عن الوعي قبل أن تصدمني بكثير.. المهم، شاحنة بوزن عشرة طن عفستني ولم تسل مني قطرة دم واحدة.. في اليوم الثاني رفعوني من وسط الشارع إلى المشفى. لحظة قول الطبيب "سنجري له جراحة" بكت أمي كثيراً وأصبحت عيناها مثل نبعين وقالت للطبيب "دخيلك يا بني، مادمتم ستعملون له عملية، صارت وصارت، ابني عنده فتق والزائدة، اعملوا له إياهما ينالكم الثواب" .. مددني الطبيب على طاولة العمليات وبدأ الذبح والقطع يقطع ويقطع دون أن تسيل نقطة دم واحدة.
- يعني دمك جاف.
- لا يا أخي أين الدم ليجف.
- إذا جف دم الإنسان فليشرب عرقاً، يتميع فوراً.
- ماذا تقول.. أين الدم ليفسد.
- لا تقبلها، وهل يعيش الإنسان دون دم؟
- ودهش حتى الأطباء.. حتى إن الطبيب الذي عمل العملية قال "لا بأس أن لا دم فيه. لو كان عنده دم حين دهسته الشاحنة لسال وسال حتى لم يبق منه شيء.. عندما كان سيموت" لا يوجد عندي دم ليسيل.
- لا تصدقوه، كذاب.. وهل يدخل في العقل: أن الإنسان يعيش دون دم؟
- لا يمكن مطلقاً أليس دم كل شخص أحمر، دمي أنا أبيض. أتعرف البطيخ قبل أن يصبح أحمر كيف أن لونه يميل إلى الصفرة. دمي من ذاك اللون.
- أيعقل هذا؟
- وهل تحمّر البندورة إذا لم تتعرض للشمس؟ لا، دمي أيضاً. أنا ولدت ونشأت في قبو ولعدم رؤية جسمي الشمس لم يحمرّ دمي.
- ها.. الآن صار كل شيء آخر.. معقول.. قل هذا من البداية.
رموا الرجل المصاب بجانبي. أصبحنا في السيارة جريح وميت والمعاون والسائق وأربعة. ضرب العناد رأس السيارة ولم تعد تمشي... أية عربة هذه ، إذا مشت لا تعرف الوقوف، وإذا وقفت لا تمشي.
قال أحدهم:
- في الجوار ورشة تصليح . لندفعها إلى هناك.
بدأوا الدفع بالحكي.. اللعبة القديمة تجددت. ليس إيصال العربة هو ما يريدونه، لكنهم يريدون أن يتسلوا.. تسلية من دون نقود.
قال واحد من بينهم:
- هل تعرفون كيف رفع أربعون شخصاً بيضة واحدة.
- بيضة واحدة، أربعون شخصاً، وماذا أيضاً؟
- سيدي، قال الملازم أول للجنود "ارفعوا هذه البيضة من هنا" ثم ذهب. إثر ذلك اجتمع الجنود، أحضر أحدهم بطانية من المهجع ووضعوا البيضة فوق البطانية ثم مسك كل جندي جزءاً من حافة البطانية ورفعوها.
- وما القصد؟
- القصد، أنهم يدفعون سيارة الإسعاف بنفس الطريقة.
- بدلاً من تقديم نصائحك لهذا وذاك . . ادفع أنت..
التقى سائق الإسعاف، سائق (تاكسي) من معارفه، ربط سيارة الإسعاف في مؤخرة التاكسي وأخذها للمصلّح. عندما فتح المصلح غطاء المحرك ونظر إليه، صاح بأعلى ما يمكنه:
- ما هذا؟!!
رد السائق ببرود:
- ماذا حدث؟
- ما الذي سيحدث أكثر؟ أنا مصلح لمدة أربعين سنة، في حياتي لم أر محركاً كهذا.
- إذا لم تكن قد رأيت ، هذا أنت ترى الآن.
- في هذا المحرك قطع تبديل من كل أنواع الآلات، من ماكينة الخياطة حتى من ماكينة الحلاقة.
قال سائق الإسعاف ببرود:
- أخطأت بقولك، ماكينة حلاقة. هذا ليس لا أحد براغي (البسطون) لمحرك قطار. في أحد الأيام كنا ذاهبين إلى المشفى بسرعة قصوى مقدارها عشرون كيلومتراً. ومعي مصاب. في الطريق، تعطلت السيارة . أخذناها للمصلح. لم يجد المعلم بدلاً من القطعة الخربانة.
- فهمت..بسبب عدم وجود العملة الصعبة، لا يوجد قطعة تبديل لأي ماكينة. عندما لم يجد القطعة البديلة وضع هذا مكانها.
- لم يكن هذا هو السبب. موديل سيارة الإسعاف، قديم جداً. لا يوجد الآن أي محرك من نوعه. ما العمل؟ سيموت المصاب في السيارة من النزيف. لو كنا في المدينة، سهلة. كان بإمكانه لف الجرح، تعمل امصال على شكل طرد تضعه أمانة عند رجل ما، وتذهب إلى المشفى وتعطيهم خبراً. لكننا لسنا داخل المدينة. المهم، دلنا فاعل خير: "هناك ورشة للخطوط الحديدية، في الورشة معلم يفك محركات القطارات القديمة ويعمل منها جرارات. والجرار يعمل منه رافعة، عَمله، الفك وصنع أشياء أخرى. لا يستعصي عليه شيء" ذهبنا إلى تلك الورش. الرجل معلم أعطيناه الأجرة وفهم عطل المحرك. جرب كل ما في الخزائن، على الرفوف، في أرض الورشة من براغي، عزقة، مسمار، محور دراجة على دراجة على أن تركب مكان القطعة المعطلة في محرك سيارتنا، فلم تركب. بعدها طابق برغي مسنن ذراع (البسطون) لمحرك قطار، القطار الخاص بالسلطان.. لا أعرفه.. ركّبه للمحرك، فاشتغلت السيارة.
سأل المعاون السائق:
- ألهذا السبب يخرج صوت (شق، شق) من سيارتنا؟
قال السائق:
- من المحتمل.
قال المصلح للسائق:
- (بتحب الله)
- لا إله إلا الله.
- وبعد.
سيدنا ، بعدها ، وقع نظر بعض السياح على سيارتنا، صوروها ، نشروها في جرائدهم وكتبوا تحتها "سيارة، من قبل اختراع السيارات بخمسين سنة" عندما قرأ مدير المصنع الذي صنع سيارتنا الخبر. حمل نفسه وأتى إلينا لرؤية السيارة. كان المصنع يبحث عن أقدم سيارة صنعها، ليضعها في المتحف. عندما رأى الرجل سيارة إسعافنا – لشدة سروره – رمى قبعته في الهواء. وصرخ بالأمريكي "هووو...". اجلسوا للاتفاق. دفع الرجل مقابل خردتنا هذه عشر سيارات إسعاف جديدة، مع قطع تبديل. كانت سيارتنا تغطي عجز الميزانية.. المهم، جماعتنا لانوا قليلاً.. لا ندري كيف خطر ببال الرجل أن يرى محرك السيارة. لحظة فتحوا الغطاء ورؤيته للمحرك، شخصت عيناه، كأنه أصيب بمس. قال: "أنا أصنع سيارات منذ أربعين سنة لم أرَ ولم أسمع في حياتي عن محرك كهذا"
- ما سبب إصابة الرجل بكل هذه الدهشة؟!!
- لماذا لا يُدهش.. في محرك سيارتنا قطعة – قطعتي تبديل من كل ماركة من الماركات الموجودة على سطح الأرض. أو محركات مصانع أو سفن. لم يبق في المحرك الأصلي لا قطعة ولا حتى برغي. هذا يعني أننا خلال هذه الفترة فكينا كل قطع المحرك، وركبنا بدلاً عنها كل ما يقع تحت يدنا. بدأ الرجل يخربط المحرك مذهولاً. طلع بيده خيط. سأل: "ما هذا: قلت: "قطع السلك الذي كان هان فربطت الخيط مكانه". خرجت بيده قطعة مطاط من مكان آخر، فقال: طيب، وما هذا؟ قلت: هذه حمالة بنطالي. انقطع (قشاط) المحرك فوضعت مكانه حمالة بنطالي. كنت أتكلم مع الرجل بواسطة مترجم. قال الرجل "هنا اثنتان" قلت: "نعم حمالتي مقطوعة ففككت حمالة بنطال المصاب الذي في السيارة" عندها بدأ الرجل يشد شعره. بهزة صغيرة للسيارة نزل منها بين كبير وصغير عدد من البراغي والمسامير!! بيورات خشبية! أمسكت بيده وقلت: "لا تُعامل هذه السيارة كما يعامل المواطن في مديرية الأمن عند التحقيق" سأل: "ما هذه المسامير؟ هل تحمّلون في السيارة مسامير!". نستعملها لتثبيت القطع التي نركبها بدلا من الأولى. عندما تمشي السيارة في طريق صاعد ينزل المعاون ويلملم البراغي والمسامير من خلفها. غضب الرجل، تغير لونه وسأل: "كيف تمشي هذه السيارة؟ أتى دوري في الكلام، ولم أعد أحتمل، سحبت الرجل من يده وأقعدته خلف المقود. تكلمت والمترجم يترجم له: "هل تظنون أن بإمكان السيارة المسير بالمحرك الذي صنعتموه أنتم؟ ! طز . لو بقيت على ما صنعتم لخربت بل وعفنت منذ زمن طويل.. البركة في دعائنا. انظر فوق المرآة ، انه دعاء النمل. هنا "البسملة" وهناك "ماشاء الله" وفي السقف "ياحافظ" وهذه خرزة زرقاء تحمي السيارة من عين الحسود. هذه فردة حذاء طفل قديمة، وحدوة ورأس ثوم تجلب الحظ للسيارة... وهذا درع سلحفاة صغيرة تحمي السيارة من الحوادث. اصحُ لنفسك يا سيد.. هذه السيارة لا تعمل بقوة البنزين والمحرك. هذه تعمل بقوة الله ونبيه. قال بنزين، قال زيت، قال ماء.. هذا كله حكي فاضي. لو أننا نضع بنزيناً وزيتاً وماءً لكانت السيارة سيارتكم. أعلم أننا لا نضع هذه الأشياء إلا مراعاة للأصول. "عَدَلَ الرجل عن شراء سيارتنا، وترك (هالكافرة) على رأسي. ليس في هذه السيارة أي قطعة باستثناء الهيكل وهو مثل (البقجة) المرقعة. بالتالي لا يستطيعون قيادة هذه السيارة أبداً.

طالت الرسالة يا ذبابة الحمار الحبيبة وأنا تعبت أيضاً. في الرسالة القادمة أحكي لك كيف أُصلحت السيارة، وكيف نُقلت والرجل الجريح إلى المشفى . لو سأل عني أحد، وأبدى حزنه بعد موتي قولي له إنني أنتظره بشوق في المقبرة.

لك إخلاصي
حمار ميت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق