الثلاثاء، 28 مايو 2013

وصول الحمار إلى الدار الآخرة


الرسالة الثانية والعشرون

عزيزة الروح ذبابة الحمار:
تابعت طريقي حتى وصلت إلى المكان الذي لا عودة فيه لحي. كانت ثمة لوحة معلقة فوق مكان قطع التذاكر كتب عليها "لا تباع بطاقات العودة" أيذهب الإنسان في طريق لا عودة فيه! لا يدخل! إن استطاع، ألم ندخل طريقاً لا عودة فيه منذ ولادتنا؟ كنت سأبحث عن طرق أخرى قبل دخولي في هذا الطريق الذي لا عودة منه، ولكن لم أجد مخرجاً من المكان الواسع الذي
ONE ) أنا فيه إلا طريقاً كتب في أوله (اتجاه مفرد) كتب تحتها من أجل أن يفهم غير الأتراك يا ذبابة الحمار، أنا أكره كل الطرق المفردة.. ولكن ما الذي أستطيع فعله؟ . ( WAY وقف الأموات في الدور أمام شباك التذاكر. أنا أخذت دوري. كان خلف الشباك ملك أشقر.
لوحت بيدي فإذا بالملك فتاة أعرفها. ستظنين – كما كل مرة – أنني أكذب، صدقي أنني صادق.. كنت أعرف الفتاة من الحياة. كانت (ملك ) حقيقة. يعني كان اسمها ملك. عملت
طوال حياتها قاطعة تذاكر. لا أدري متى ماتت، ولكنها أصبحت شابة. لشدة ما لوحت لها بيدي، بينما كنت أظن أنها ستدعونني بابتسامة، ولكنها أحنت رأسها بعبوس لا يليق بالملائكة.
فصحت لها مستنداً إلى علاقتنا الصميمية في الدنيا:
- ملك.
هز المكان صوتاً، يقول:
- اصح لنفسك! عد إلى جديتك! لا تتمايع!
لم أرد صاحب الصوت كأنه يأتي من مكبر صوت فوق الغيوم. كان يقترب دوري ببطء.
بدأت أرصد بدقة كل ما يفعله من كان أمامي. كانت ملكتنا تهمس لمن يأتي دوره بشيء كأنه سؤال وحسب الجواب تعطيه ورقة ملونة. هذه الأوراق، تذاكر. كان يذكر الرجل الواقف تحت لوحة "اتجاه مفرد" بصوت عال اسم المكان الذي سيذهب إليه حامل البطاقة وحسب لون بطاقته:
- موقع أول.
- درجة ممتازة.
- مقعد ممتاز.
- (بلكون)
- (صالة)
- درجة شرف ممتازة.
لم أكن أسمع ما كانت تهمس ملك بأذن من يأتي دوره.
أتاني الدور قلت:
- ملك، ألم تعرفينني؟
عملت نفسها لم تسمع، وهمست لي:
- بطاقتكم.
- أية بطاقة؟
- أليس معكم بطاقة توصية؟
تفوه، حتى هنا يوجد توصية؟ هنا توجد الواسطة؟ مستحيل.
بعد أن سألتني عن اسمي وكنيتي قالت لي:
- انتظروا قليلاً.
ضغطت على زر . كل شيء على الكهرباء. لحظة ضغطها على الزر، أتى أمامها ملف ضخم يتحرك على سكة . قالت:
ملفكم ضخم.
مطبوع فوق الملف هلالين أحمرين وخاتم "سري جداً".
فتحت الملف. كانت وهي تقرأ تقاريره وتنظر في صوره، تصدر صوتاً:
- هم!.. هذا!.. أووو هذه!.. ياااه!... هو هو !...... واخ!...
قالت لي وكأنها لا تعرفني:
- أهذا أنتم؟.
- نعم أنا؟
ضغطت على زر مرة أخرى. ظهر بجانبها أحد ملائكة جهنم. قالت له:
- خذوه إلى غرفة التحقيق! انتبهوا مجرم خطير...
أمسكني من ذراعي وكأني سأهرب . وكأن الهرب ممكن هنا. ودفعني داخل باب يفتح من نفسه. التقطت معصمي ذراعان آليتين مثبتتان في الجدار نهايتهما مثل الكماشة. قلت:
- من أنت؟
أتاني الصوت الغليظ ذاته:
- يد العدالة.
قلت:
- هنا أيضاً، ياهوه..
أجاب الصوت المعدني:
- يد العدالة طويلة. ليس للمقبرة فقط، بل حتى قعر جهنم.
قلت لنفسي "وهل الوصول إلى المقبرة صعب؟ لنصل ولنر. ولكن أي "قلت" هذه. في الحقيقة لم أفتح فمي ولم أقل شيئاً.
لا أدري لماذا لا تصل يد العدالة هذه كماشتها القوية لأصحاب الالتماس والواسطة بل تصل للضعفاء مثلي.
ثمة آخرون في الصالة. جلت بنظري لعلي أجد أحد معارفي، فلم أجد. هناك مدخل لمكان آخر كتب فوقه "غرفة التحقيق" على يمين الباب بائعة معصوبة العينين وفي يدها ميزان. المرأة
واقفة وتنادي لجلب الزبائن:
- تعال اختر، اختر واشترِ. . اختر الذي يعجبك واشترِ.. الفرجة ببلاش..
قلت لأحدهم وكان بجانبي:
- عفوكم، أتعرفون هذه المرأة؟
قال:
- إلهة العدالة.
- لماذا هي معصوبة العينين؟
- لكي لا تظلم أحداً.. إنها تبقى امرأة، عصبوا عينيها حتى إذا ما مثل أمامها شاب متهم وسيم لا ير ّ ق قلبها له وتخفف حكمه..
- ما دام هكذا ليسلموا ميزان العدالة لذكر.
- ماذا يحدث لو أتت فتاة جميلة متهمة أمام الذكر؟
شكرت الرجل على تلك المعلومات. لقد تعّلم الكثير هنا كونه ينتظر التحقيق منذ فترة طويلة جداً.
إلهة العدالة تنادي بشكل مستمر وكأنها في سوق:
- لا غش ولا أونطه،.. اختر وخذ، اختر وخذ.
سألت الرجل الذي تعرفت عليه:
- هذه آلهة العدالة ياه.. تكلف محامين للمتهمين لتأخذ العدالة مجراها.
- إنها تنادي اختر وخذ!؟
- لكل محام حسب نقوده.. إذا كان معك الكثير، توكل لك برفيسور حقوق مشهور.. أو أحد وزراء العدل السابقين.. إذا كانت نقودك قليلة تكلف أحد المحامين الشباب، من الذين ينبت زغبهم حديثاً.
- إذا كان لا يوجد معي نقود؟
- يبقى مصيرك بيد الله..
- تقصد احترقنا..
أدهشتني حادثة رأيتها. كان ثمة رجل ضعيف محني الظهر قليلاً ذو لحية مخروطية، يقترب من خلف إلهة العدالة ويرفع ثوبها الحريري الطويل وينظر إلى ما تحته. كان يخرج رأسه لفترة. ويدخله مرة أخرى. كانت إلهة العدالة الماسكة للميزان والمنادية للزبائن تضرب بيدها. محاولة كشه كما يكش الذباب أحياناً، ثم تضرب بيدها على مؤخرتها أحياناً أخرى.
سألت:
- يا سيد، من هذا الذي يدخل برأسه تحت ثوب الإلهة بين الفترة والأخرى؟
- هااا، ذاك؟ مخلوق سافل عديم التربية والشرف... الشيطان، ألم تعرفه...
- لماذا يدخل رأسه تحت ثوب المرأة المسكينة؟
- ليتفرج على مؤخرتها.. وعندما يتمادى تضربه بيدها.
- إلى أين يصل عندما يتمادى..
- إلى الطريق المفرد.
ثمة ملك يقوم بمهمة المنادي. ينادي أسماء من يأتي دورهم للتحقيق. ليس ثمة من يتحمل الأصوات الآتية من الداخل، أصوات تخمش الآذان وتمزق القلب.
- آآآخ ، احترقت.
- كفى لا تضربني يا أخي.. انتهي....ت ، انته .... ت.
- أبوس رجلك.
- .. أنا قلت كل شيء. أنا عملت كل شيء.
- كرمى لله!.. ارحموني كرمى لله.. اسمعني يا ربي ، اسمعني...
كان لا يجاب على هذه النداءات، ولكن مكان الجواب كان يسمع أصوات "طاق ، طاق،، شاق!.. شاق.."
سألت الرجل:
- عفواً، ما الذي يجري في الداخل يا ترى؟
قال:
- تتحقق العدالة الإلهية..
فكرت أن عدالة الشيطان الذي يدخل رأسه تحت ثوب المرأة المعصوبة العينين التي تزين العدالة هي هكذا" لخوفي لم أخرج صوتي.
سألته:
- سيدي، ما هي مهنتكم في حياتكم؟
- منتج جنسي...
- لم أفهم ماذا يعني هذا. وظيفة رفيعة على ما يبدو، أي وزارة تتبع؟
- لنا اصبع في كل الوزارات.
- جميل جدا.. يعني قطاع عام أم خاص.
- كيف لا تعرفون المنتج الجنسي؟ انه قطاع خاص ولكن له تأثيره في كل مكان. يعني سمسار الحب ويسمى أحياناً تاجر الرقيق الأبيض، أما الطبقات الاجتماعية الدنيا فتسميه قواداً..
- يعني ما يسميه عامة الناس (عرصه)
ضحك. فهمت عمله. حينها صاح المنادي الاسم الكامل لتاجر الرقيق الأبيض وأدخل غرفة التحقيق. بعد فترة قصيرة سمعنا صوت العدالة الإلهية المسموع من كل مكان:
"لحظة ولادتك في مشفى التوليد أتى طفل آخر إلى الدنيا. نتيجة خطأ في غرفة الولادة أعطوا الطفل الآخر لأمك وأنت لأم الطفل ذاك. لهذا عاش الطفل الثاني ما كتب على جبينك وعشت
ما كتب على جبينه. بينما كان سيصبح الآخر قواداً وتصبح أنت رجلاً عظيماً، أصبحت أنت قواداً مكانه وهو رجل عظيم مكانك. بعد أن عشت خمسة وستين عاماً مظلوماً، ستأخذ العدالة مجراها."
خرج تاجر الرقيق الأبيض من عند قاضي التحقيق. بالرغم من أنه يؤخذ إلى الجنة كان عابس الوجه كأنه يذهب إلى جهنم.. قلت له بينما كان ماراً أمامي:
- مبروك..
قال وهو يرفع يديه إلى الأعلى:
- ما هذه العدالة التي رحت ضحيتها ياهون، أليس من الممكن أن تتحقق دون أن أعمل قواداً أربعين عاماً.
قال أحدهم:
- حظك كويس إنك مت مبكراً. ما كنت ستفعل لو عشت تسعين عاماً حتى تتحقق هذه العدالة..
مشى تاجر الرقيق الأبيض ذاهباً إلى الجنة.
سمعت صوتاً إثره "لا اعتراض على حكمه".
الملك المنادي:
- الحمار المي ....ت
أدخلوني غرفة التحقيق.
كتب على اللوحة المعلقة خلف قاضي التحقيق والمؤطرة بماء الذهب:
"العدل أساس الملك"
بعد أن سألني قاضي التحقيق عن اسمي، كنيتي، اسم والدي، قال:
- أين ولدت؟
- في السرير على ما أظن...
بعد جوابي على الأسئلة التقليدية، قال:
- ما سبب مجيئك إلى المقبرة.
لخبطني هذا السؤال، لأنه مفاجئ... لا أستطيع القول: "السبب سياحي..." قلت:
- بسبب اختياري الحرية...
- جريمتك التبول مقابل الشمس.
- لم تكن نيتي سيئة. لم أدر ظهري لكي لا أعمل حقارة.
- ما عملك؟
جواب هذا السؤال صعب.
- الكتابة عندما أجد الفرصة..
- ماذا تكتب؟
أردت الغمغمة على هذا السؤال فقلت:
- من هذا وذاك.
طلب من كاتبة المحكمة:
- اكتبي يا ابنتي: "ما يفهم من قول المتهم من هذا وذاك حسب ما اعترف وأقر..."
قطعت كلامه قائلاً:
- أقصد عن الهواء أو الماء.
- اكتبي يا ابنتي: "قصد المتهم من قوله الهواء والماء، قضايا الدولة الكبرى، كقضية وحدتنا الداخلية التي نعيشها أفضل من أي وقت مضى...
- سيدي، أنا لم أكتب هذا.. كنت سأكتب.
- إن كتبت، أو نويت أن تكتب، واحد.. هل نويت أم لم تنو؟
- إذا كان على النية فنويت. ولكن نويت الكتابة عن الهواء والماء..
- ماشي.. ماذا يعني الهواء، يعني تجارتنا.. الماء؟ اقتصادنا..
- ولكن أنا قصدت الأشياء التافهة بالهواء..
- الأشياء التافهة، أليس كذلك؟ يعني صناعتنا التجميعية.. هوه هوه، تكبت من هذا وذاك، عن الهواء والماء، الأشياء التافهة.. ماذا تكتب أيضاً؟
- لا أكتب يا سيدي.
- تكتب، تكتب.. أنت لا تقف عن الكتابة، قل ماذا تكتب؟
- أكتب رسائل.
بعد أن تهامس قاضي التحقيق ومن كان بجانبه. أخبروني بأنهم سيرسلوني إلى قعر جهنم.
سألني قاضي التحقيق:
- ما قولك؟
- أقول بالله؟
- لا يمكن لك أن تتكلم بشكل تحل فيه حرمة المحكمة. تكلم بالقانون..
- يعني أرادني أن أتكلم الجمل الطويلة والكلمات الأكثر غرابة بشكل غير مفهوم. بدأت الكلام مما علق بذهني من محاكماتي في الدنيا.
- أتواجه لمقام هيئتكم مع تقديري قانون الدار الآخرة الجزائي من مادة المحاكمة السرية فقرة...
- صاح بي القاضي:
- اخرس!
خرست ثم صحت:
- يحيا العدل!
وهكذا يا ذبابة الحمار الحبيبة، نحن هكذا في قضايا كهذه، يعني كيفما أنتم هناك نحن مثلكم..
كيف حالكم؟ ما هي أخباركم؟ هل مر الزبال من حينا منذ العيد الماضي؟ هل المياه مقطوعة حتى الآن؟ ألا تزال الكهرباء كما كانت عندما كنت هنا تقطع أربع – خمس مرات في اليوم،
والضوء يرفف العين؟ ألا تزال مياه المجارير تطوف وتحوم في الأزقة، ووزير الصحة يقول:
"اتخذت الإجراءات اللازمة لمنع انتشار الأمراض السارية؟" وهل لا يزال رئيس الوزراء يعطي الناس وعداً بأن سعر المادة الفلانية سوف لا يرتفع، وبالتالي إشارة يبشر فيها تجار
السوق السوداء ليجمعوا البضاعة ويكسبوا منها المليارات؟
أقبلك بشوق من بين عينيك ومن إبرتك يا ذبابة الحمار الحبيبة
حمار ميت
عزيز نيسين
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق