الخميس، 6 يونيو 2013

الرسالة الثامنه

بسـْـــم اللــــه الرَّحمَــــن الرَّحِيــــم

مِنْ عَبْدِ اللهِ قِس بن سَاعِدَة إلى أمِيرِ المُؤمِنينَ عُمَرَ بن الخَطَّابِ ، سَلامُ اللهِ عَليكَ ورَحمَتُه وبَركَاتُه وبَعد :

بَلغَنِي يَا مَولايَ أنَّكَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ سَمِعْتَ قَرِيرَ بَطْنِكَ
فَقُلتَ لهَا : قَرْقِرِي أو لا تُقَرْقِرِي فَلنْ تَشْبَعِي حتَّى يَشْبَعَ فُقرَاءُ المُسْلمِين
ثُمَّ إنَّكَ فِي ذَلكَ العَامِ أيْضاً أَوْقَفْتَ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ ، وبِتَعطِيلِ هَذَا الحَدِّ تَحَوَّلَتْ خِلافَتُكَ مِنْ خِلافَةٍ رَاشِدَةٍ إلى خِلافَةٍ أكثَر رُشْداً !
لأنَّ هَذا ليْسَ فَهْماً عَمِيقاً للشَّريعَةِ فَحسب ، إنَّه فَهْمٌ لمَقَاصِدِهَا أيْضاً !

وبِمَجِيءِ الثَّورَاتِ العَرَبِيَّةِ عَلَتْ أصْوَاتٌ مُطَالبَةٌ بِتَطَبِيقِ الشَّرِيعَةِ ، غَيْرَ أنَّ تِلكَ الأصْوَاتِ فِي غَالبِيَّتِها لا تُمّيِّزُ بَينَ الشَّرِيعَةِ والحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ ، الذين يُطَالِبُونَ بِتطبِيقِ الشَّرِيعَةِ وهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّ الشَّرِيعَةَ هِيَ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ ، وجَلْدُ ظَهْرِ شَارِبِ الخَمْرِ ، ورَجْمُ الزَّانِي .أولئِكَ يَخْلطُونَ بَيْنَ نِظَامِ العُقُوبَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ وبَيْنَ الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا !

والذِينَ يَعْتَبِرُونَ أنَّ الحُدُودَ غَايَةٌ مِنْ غَايَاتِ الشَّرِيعَةِ ، إنَّمَا يُكَرِّسُونَ فِكْرَةَ الغَرْبِ الغَبِيَّةَ عن الإسْلام ، فالحُدُودُ ليْسَتْ سِوى وَسِيلَةٍ لِرَدْعِ النَّاسِ عن انتِهَاكِ الشَّريعَةِ ، ولَيْسَت الشَّريعَةُ نَفْسَهَا ، لِهَذَا كَانْت آخِرَ مَا يُطَبَّقُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وأَوَّلُ مَا يُعَطَّلُ !

وإِخْرَاجُ قَانُونِ العُقُوبَاتِ فِي الإسْلامِ مِنْ دَائِرَةِ النَّظَرِيَّةِ لِدَائِرَةِ التَّطْبِيقِ يَلزَمُه بالضَّرُورَةِ مُجْتَمَعٌ يَحْكُمه الإسلام ، وإلا كَيْفَ لِعَاقِلٍ أَنْ يَطْلُبَ جَلْدَ شَارِبِ الخَمْرِ فِي حِين تَحْصُلُ مَحَالُ بَيْعِ الخُمُورِ على تَراخِيصِهَا مِنْ وَزَارَةِ الدَّاخِليَّةِ ! وكَيْفَ له أَنْ يَطْلُبَ جَلْدَ الزَّانِي أو رَجْمِهِ فِي حِينِ تُشْرِفُ وَزَارَةُ الصِّحَةِ على بُيُوتِ الدَّعَارَةِ !

قَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ بالمُطَالَبَةِ بِمُعَاقَبَةِ النَّاسِ على وُقُوعِهِم بِحُرمَاتِ اللهِ لا بُدَّ أولاً أَنْ نُزِيلَ مِنْ طَرِيقِهِم مَا يُيَسِّرُ وُقُوعَهُم فِيهَا ، وإلا كُنَّا كَمَنْ يَذْهَبُ بِرَجُلٍ لِشَاطِىءِ عُرَاةٍ ثُمَّ يُعطِهِ مُحَاضَرَةً فِي غَضِّ البَصَرِ !

لا بُدَّ قَبْلَ المُطَالبَةِ بِتَطْبِيقِ الإسلامِ أنْ نَفْهَمَ الغَايَةَ التي جَاءَ مِنْ أجْلِهَا الإسلامُ ، الإسلامُ جَاءَ لتَطْوِيعِ هذا الكَوْكَبُ بِكُلِّيَتِهِ للهِ ، فَهُوَ وإنْ كَانَ مَعَ فِكْرَةِ التَّعَايُشِ مَعَ كُلِّ البَشَرِ إلا أنَّه ضِدَّ فِكْرَةِ التَّعَايُشَ مَعَ الأَنْظِمَةِ الوَضْعِيَّةِ الفَاسِدَةِ ، فالإسلامُ لا يَطْرَحُ نَفْسَه وُجْهَةَ نَظَرٍ بِجَانِبِ وُجُهَاتِ نَظَرٍ أُخْرَى في الحُكْمِ ، إنَّه يَطْرَحُ نَفْسَه بَدِيلا عَنْهَا !

وَهُوَ لا شَكَّ الأقْدَرُ على قِيَادَةِ الإنْسَانِ لتَحْقِيقِ إنْسَانِيَّتِه ، فَهُوَ مِنْ جِهَةً يُقَدِّمُ لَه نِظَاماً مُتَكَامِلاً يَشْمَلُ كُلَّ مَنَاحِي الحَيَاةِ ، وِمِنْ أُخْرَى لا يَنْسَى أنَّ الإنْسَانَ مَزِيجٌ فَرِيدٌ مُرَكَّبٌ من جَسَدٍ ورُوحٍ ، فَنِرَاه يُوَازِنُ بَيْنَ تَركِيبَتِهِ المَادِّية والرُّوحِيَّةِ ، فَهُوَ وَسَطٌ فِي كُلِّ شَيءٍ غَيْرَ أنَّ الوَسَطِيَّةَ لا تَعْنِي عَصْرِنَةَ الإسلامِ بِقَدْرِ مَا تَعْنِي أسْلَمَةَ العَصْرِ !

وبِالعَوْدَةِ للثَّوْرَاِتِ العَرَبِيَّةِ يَا مَوْلايَ ، ثَمَّةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أنَّ الثَّورَاتِ صَنِيعَةَ أَجهِزَةِ الإسْتِخْبَارَاتِ العَالَمِيَّةِ ، مُتَنَاسِياً أنَّه إنْ كَانَ لتِلكَ الأَجْهِزَةِ مِنْ صَنَائِعَ فِي بِلادِنَا فَهُوَ هَذِهِ الأَنْظِمَةِ ، فالغَرْبُ صَنَعَ حُكَّامَنَا على عَيْنِهِ وأَلقَى عَلَيهِم مَحَبَّةً مِنه فَكَانُوا بِحَقٍّ كِلابَه الأَوفِيَاءُ ، وإلا مِنْ أيْنَ سَتَعْثُر إسْرَائِيلُ على كَلاب حِرَاسَةٍ كَمُبَارَك وبَشَّار وعَبْدُ اللهِ الحُسين ، وكُلُّ مَن يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ الُّلعبَةِ يَذْهَبُ لحَيْثُ ذَهَبَ فَيْصَلُ بِنْ عَبْدِ العَزِيزِ !

كُلُّ مَا حَاوَلَ الغَرْبُ أَنْ يَفْعَله بَعْدَ أنْ عَجِزَ فِي حِمَايَةِ وُلاتِهِ على دِيَارِنَا أنَّه حَاوِلَ احتِوَاءَ هَذِهِ الثَّوراتِ ، وتَغْيير مَسَارِهَا ليْسَ أكثَر ، وَقَدْ نَجَحَ لحَدٍّ بَعيِدٍ حتَّى الآنَ . لأنَّ الذِينَ قَامُوا بالثَّورَةِ مَدْفُوعِينَ مِنْ قَهْرٍ ، وظُلْمٍ ، ومُصَادَرَةِ أوطَانٍ ، وتَشْمِيع حَنَاجِر ، وتَكْمِيمِ أفْوَاهٍ ، غَفِلُوا لِلَحْظَةٍ بِأنَّ الذي ظَلَمَهُم هُوَ نِظَامُ حُكْمٍ فَاسِدٍ ، وليْسَ رَأَسَ النِّظَاِم فَحَسب ، لِهَذَا مَا زَالَت الثَّوْرَةُ تَحْتَاجُ إلى ثَوْرَةٍ ، فالرِّضَى بِبِقَاءِ هَذِهِ الأَنْظِمَةِ بَعْدَ خَلْعِ رُؤُوسِهَا " كالتَّي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً " !

فَمُبَارَكُ كَانَ يَبْطِشُ بِيَدِ طَنْطَاوِي ، وَعَنَان ، وَجُنْدِ عَمْرُو سُليمَان ، فنَجِدُ مُبَارَكاً فِي القَفَصِ وطَنْطَاوِي خَلِيَفةً رَاشِداً !

وَحِينَ يَفِرُّ الذِّئْبُ مَعَ ليْلَى إلى جَدَّة نَتَحَاكَمُ للدُّستُورِ الذي يَهَبُنَا الوَزِيرَ الأوَلَ ، مُتَنَاسِينَ أنَّ الوَزِيرَ الأَوَّلَ هُوَ مَنْ وَقَّعَ عَلى قَانُونِ حَظْرِ الحِجَابِ فِي الجَامِعَاتِ والدَّوَائِرِ الرَّسمِيَّةِ لأنَّه يُسيءُ لمَنْظَرِ الدَّوْلَةِ الحَضَارِيّ ، وَمُتَنَاسِينَ أنَّه مَنْ أَصْدَرَ بِطَاقَاتِ الصَّلاةِ المُمَغْنَطَةِ لأنَّه لا يِعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ إلا الإرهَابِيين ! وَمُتَنَاسِيَنَ " إنَّ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِين " !

وفِي لِيبيَا يَا مَولايَ ارتَأَى النِّيتُو بَيْعَ كَلْبِهِم هُنَاكَ ، فَقَد عَلِمُوا أنَّ الشَّعبَ غَالبٌ نِهَايَةَ المَطَافِ ، طَالَ الزَّمَانُ أَمْ قَصُرَ ، وبِمَا أنَّ المُهِمّ هِيَ مَصْلَحتُهُم وهُمْ مَعْ مَنْ يُحَققهَا لَهُم سَوَاءً كَانَ زِنْدِيقاً أو حَافِظاً للقرآن ، فَلا مُشْكِلَة إذاً أَنْ يَأتُوا بِبَدِيلٍ مَقْبُولٍ فَاهمٍ للعبَةِ القَائِمَةِ .

لا شَكَّ أنَّ الذينَ حَمَلُوا السِّلاحَ هُنَاكَ مَا حَمَلُوه ليَتَخلَّصُوا من القَذَّافِي ويَأتُوا بالنِّيتُو ، ولكنَّ قَادَةَ المَجْلسِ الإنتِقَاليّ غَفَلُوا أنَّ الدُّوَلَ ليْسَتْ جَمعِياتٍ خَيْرِيَّة تُعطِي دُونَ المُقَابِل ، وأنَّهَا مَا جَاءَتْ بِخَيْلِهَا ورَجِلِهَا إلا لتَقْطَعَ عليهِم الطَّريقَ نَحوَ تَحقِيقٍ كَامِل حُرِّيَتِهِم وكَرَامَتِهم ، وهُم الآنَ بَيْنَ خَيَارينِ لا ثَالثَ لَهُما ، إمَّا إدخَالُ لِيبيَا في استِعمَارٍ غَربِيٍّ ، أو يَقِفُوا وقْفَةً للهِ ثُمَّ للتَارِيخِ ويُكمِلُوا ما بَدَأوه ، وهُمْ إذَا اختَارُوا الأوَّلَ سيَكُونُونَ نَسْخَةً مُعدّلةً جِينياً عن حُكُومَةِ سَلام فَيَّاض ، أو حُكُومَةِ كَرَزَاي ، أو المَالِكِيّ

وأجْمَلُ مَا فِي الثَّورَاتِ يَا مَوْلايَ أنَّهَا أثْبَتَتْ أنَّكَ لا تَحْتَاجُ لكَثِيرٍ لتَهُزَّ عَرْشَ طَاغِيَةٍ ، يَكْفِي حنجَرَةً كَحنجَرَةِ ابْرَاهِيم قَاشُوش ، وأَصَابِعَ كَأصَابِعَ علي فَرزَات !

وأَجْمَلُ مَا فِيهَا أيضاً أنَّهَا صَنّفت العُلمَاءَ إلى ربَّانِيين وشَيطَانيين ، فَفِي حين كَان أحمَد حَسُّون يأكُلُ بآياتِ اللهِ أرغِفَةً قَليلَةً على مَائِدَةِ بَشَّار الأسَدِ ، وكَانَ البُوطِيّ بِشِقِّ فَتوَى يُبيحُ الكُفرَ للمُكْرَهِ يَنْسَى أنَّ للفَتْوَى شِقّاً آخَرَ يَجِب أنْ يَطَالَ الذينَ يَحمِلُونَ النَّاسَ على الكُفْرِ ! كَانَ شَيْخُ قرّاءِ الشَّامِ يقُولُ : اللهمَّ إنِّي بريءٌ مِمَا يصنَعُ بَشَّارُ وجُندَه ، وكَانَ ابراهِيم سَلقِينِي مُفتِي حَلب يِخطبُ النَّاسَ عَلى المِنْبَرِ ويَحُثُّهُم عَلَى أنَّ لا يَحنُوا الرُّؤُوسَ لطَاغِيَةٍ فَزَارته قُوَّاتُ الأَمْنِ في بَيْتِهِ وهُوَ ابنُ السَّابِعَةِ والسَّبعِين ، وهُوَ عُمْرٌ لا يَسْمَحُ بتَلقِّي زِيَارَاتٍ خَاصَّةٍ مِنْ هَذَا النَّوعِ فَمَاتَ الرَّجُلُ ونَحسَبُه الآنَ إلى اللهِ أقَرَبَ .

وأَمَّا عُلمَاءُ السُّطَانِ الذينَ يَحْرُسُونَه بِنُصُوصٍ وآيَاتٍ يَحْمِلُونَها على غَيْرِ مَا أُنْزِلَت عَليهِ ، فَيَأمُرُونَك بالمُنَاصَحَةِ الشَّرعِيّة ولكِنْ بالسَّر حِفْظاً لهَيْبَةِ الذَاتِ المَلكِيَّة ، وحِفَاظاً على وَظَائِفِهِم ورَواتِبِهِم وكُرُوشِهِم فالعَاقِلُ من اتَعَظَ بِسَعِيد بن زِعير ، ونَاصِرِ الفَهد ، ومحَمَّد البِجَادِي ، أولئك لا يَعلَمُونَ أو يَعلمُونَ أنَّ الإنكَار الفَردِيّ لا يُلقِي له طَويلُ العُمْرِ بالاَ ، هَذَا إِنْ وَصَلَ المُنكِرُ لولِيّ الأَمْرِ بالخَيْرِ والعَافِيةِ ، ولكنَّهُم يَتَغَافَلونَ لأنَّهُم جُزءٌ منَ النِّظَامِ الفَاسِدِ المَوجُودِ .

جَميلٌ أَنْ نَجِدَ هَيئةً تَأخُذُ على يَدِ الشَّابِّ المُتَسكِّعِ ، أو المرأةِ المُتَبَرِّجَةِ ، ولكنَّ الأجمَلَ أنْ نَجِدَ هيئَةً رقَابِيَّةً تَأخُذُ على يَدِ الحَاكِمِ حِينَ يُخْطِىءُ لأنَّ خَطَأَ الفَردِ لنَفْسِه ولكنَّ خَطَأَ الحَاكِمِ للنَّاسِ ! وإنَّ طبْعَ بَنِي آدَمَ أنَّهُم إذَا أمِنُوا العِقَابَ أسَاؤُوا الأدَبَ !

هَذِهِ كَانَتْ رسَالتِي الثَّامِنَةَ إليكَ ، والتَّاسِعَةُ تأتِيكَ إنْ كانَ في العُمرِ بَقِيَّة ، ولوَقتِهَا قُبلاتِي ليَديكَ وسَلامِي لصَاحِبَيكَ .
أدهم شرقاوي
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق