ننشر هذا المقال مقتبسا من المجموعة الاعلامية الرأي . موقعهاالرسمي تحية تقدير صغيرة للمترجمين العظام الذين ترجموا اهم الروائع العالمية للادب العربي الممجدان صالح علماني وسامي الدروبي.
«صالح علماني وسامي الدروبي». ما الذي يمكن أن يجمع بينهما؟، وما الذي يمكن أن يُفرِّق في المسافة بينهما؟.
ابتداءً، أتمنى لصالح علماني طول العمر. وأترحم كثيرا جدّا على سامي الدروبي. وأحلم لصالح علماني أن يعبر المئة وأن يضيف لها سنوات. فجهد الرجل يستحق منا أن ننحني له طويلا حتى تقترب جباهنا من الأرض. ومع هذا لن نوفيه حقه إزاء ما قدّمه لنا من ترجمات عظيمة.
لا أعرف السبب الذي دفعني للمقارنة بينهما... هل لأن سامي الدروبي سوري؟ وصالح علماني حتي وقت قريب كان يعيش في دمشق؟.
ولا أعرف مسيره ومصيره بعد أن جرى لدمشق ما جرى لها، ولكن لديَّ ثقة أن إنسانا مثل صالح علماني صاحب مشروع حقيقي في الكتابة والحلم من أجل البشرية كلها لا بد أن يكيف نفسه مع أي ظروف يمكن أن تمر به أو أن تفاجئه.
جمع بينهما أن كليهما صاحب مشروع كبير في الترجمة، عمل عليه بدأب ومثابرة مثل النحلة التي تبني عشها وتفرز عسلها وترعى أعشاشها بقدر من الدقة لو حاولنا أن نتعلمها نحن البشر لوجدنا حلولا لكثير من المشكلات التي تواجهنا كل يوم.
لكن، من قال إننا نتمعن ما نراه وما نسمعه. وإننا نحاول أن نتعلم منه. إن مملكة النحل لها إيقاع جدير بأن ندرسه وأن نتفهمه وحتى أن نقلده.
كان سامي الدروبي، سفيرا لسورية في مصر بعد تجربة الانفصال المريرة. وعندما ألقى كلمته الشهيرة أمام عبدالناصر وهو يقدم له أوراق اعتماده، لم يكن يتصور أن يأتي عليه يوم يصبح سفيرا لسورية في مصر. بعد أن كانت سورية ومصر دولة واحدة اسمها الجمهورية العربية المتحدة.
وقد بكى سامي الدروبي وأبكانا وهو يلقي كلمته بين يدي جمال عبدالناصر.. ثم أقام في القاهرة وكان يترجم كل صباح.
ولذلك أنجز مشروعه الكبير... في ترجمة ديستوفيسكي بمؤلفاته الكاملة التي صدرت أول ما صدرت في هيئة الكتاب بالقاهرة، وقت أن كان يرأسها محمود أمين العالم.
وقد صدرت في ثمانية عشر مجلدا. وقد فقد المجلد التاسع عشر رغم أهميته الشديدة. فهو يحتوي على يوميات ديستوفيسكي كما دونها. ولم يتم التوصل إلى هذا المجلد حتى الآن.
ترجم أيضا سامي الدروبي جزءا من مؤلفات تولستوي.. ومات قبل أن ينجزها. وتولى مترجمون آخرون استكمال ما بدأه سامي الدروبي.
ثم إنه ترجم لنا الروائي اليوغسلافي المدهش إيفو أندريتش ورواياته البديعة: «جسر على نهر درينا، وقائع مدينة ترافنك، الآنسة، السجن»، ولولا سامي الدروبي ما عرفنا هذا الروائي اليوغسلافي غير العادي. خصوصا رواية عمره: «جسر على نهر درينا». وقد تنبه له سامي الدروبي وترجمه حتى قبل أن يحصل على جائزة نوبل في الآداب.
ثمة فرق جوهري بينهما، أن الدروبي كان يترجم عبر لغة ثالثة. التي هي الفرنسية. كان يجيدها ـ مثل أشقائنا من أبناء الشام ـ إجادة تامة.
أما صالح علماني فترجمته عن اللغة الأم، التي هي اللغة الإسبانية. ورغم التقائي معه أكثر من مرة، فلم تسنح فرصة لأسأله كيف عرف طريقه إلى هذه اللغة التي كانت غريبة غربة تامة وقت أن تعلمها وأجادها وترجم بها.
ترجم صالح علماني أكثر من مئة عمل أدبي، بعضها مجلدات كبيرة. ومن إنجازاته التي صدرت في كتاب وأرسله لي، القصص القصيرة الكاملة لجارثيا ماركيز. التي لا تخرج عن أربع مجموعات قصصية.. فيها كل ما أبدعه ماركيز في القصة القصيرة.
وكل قصة مدون أمامها سنة كتابتها. أول قصصه كانت: «الإذعان الثالث» من مجموعته الأولى: «عينا كلب أزرق» سنة 1947. وأحدث قصصه: «طائرة الحسناء النائمة» سنة 1982. ضمن مجموعته القصصية الأخيرة اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة. ومجموع ما كتبه في القصة القصيرة اثنتان وخمسون قصة. بعضها أقرب للنوفيللا.
يلاحظ أن قصص مجموعته القصصية الثانية: «جنازة الأم الكبيرة» مكتوبة كلها سنة 1962. وأول قصة فيها: «قيلولة الثلاثاء» يعتبرها ماركيز أهم قصة كتبها في حياته كلها. هكذا قال جارثيا ماركيز نفسه في مذكراته: «عشتها لأروي» التي كتبها ونشرها إبان حياته. وفيها كثير من الاعترافات المهمة بالنسبة لعملية الكتابة وأسرارها وخفاياها
قال لي صالح علماني: لم يبق من نتاج ماركيز في القصة القصيرة سوى قصة واحدة، نشرها في الصحافة ولم يضمها لأي من مجموعاته، ولهذا لم يضمها لمجلده. لأنه ملتزم بالقصص القصيرة التي نشرها ماركيز في مجموعات قصصية. صدرت على شكل كتب، أما ما نشر في الصحف، فمن الصعب ضمه لأي مجموعة أخرى. فقد كان هذا الحق لماركيز وحده، ولا يملكه أحد حتى لو كان من الورثة.
إنجاز صالح علماني شكل فضيحة مدوية كاملة الأركان لمافيا الترجمات في عالمنا العربي، لأنه يوجد في المكتبة العربية أكثر من عشر مجموعات من القصص القصيرة منسوبة لماركيز، عندما تقرأ مجلد صالح علماني، تكتشف أن القراصنة العرب قد استبعدوا قصصا من مجموعات وشكلوا مجموعات قصصية من عندياتهم، مع أن المجموعة القصصية كيان تجمعه روابط داخلية غير مرئية بين قصصه.
سمعت عبارة كان يرددها نجيب محفوظ كثيرا، بعد أن قالها لجمال الغيطاني في حواره الطويل معه: نجيب محفوظ يتذكر. هذه العبارة: «المتلفت لا يصل». وأستميح نجيب محفوظ عذرا وأقول: المتلفت لا يحقق شيئا. وصالح علماني يعرف ما يريد. وكيف يحققه بأكبر قدر من الإتقان والإخلاص والدأب والمثابرة. دائما ما أقول إن الترجمة خيانة للنص. وإن المترجم مهما كانت دقته نصف خائن لروح النص الذي يترجمه. إلا مع قلة قليلة من المترجمين الذين أشعر معهم بأن ترجماتهم إلى العربية جميلة. وأنها تعكس روح الكاتب التي أستشعرها من النص.
ومن هؤلاء المترجمين الأمناء: صالح علماني. الذي أعتقد أنه أفاد الثقافة العربية فائدة كبرى بكل حرف ترجمة. فالترجمة بالنسبة له رسالة. ودور. وعمل يقوم به، لأنه يحبه. ويعبّر عن نفسه من خلاله.
رأيته خلال زيارته الأخيرة للقاهرة ـ قبل فترة ـ ولذلك بعد أن تركته تذكرت أنني كنت أحب أن أسأله كيف خرج على قاعدة عمره في الترجمة عندما ترجم الديكاميرون لبوكاتشيو عن لغة ثالثة. لأن النص غير مكتوب بالإسبانية.
ومع هذا أشعر بالامتنان له أن مكننا من قراءة هذا النص المؤسس في لغتنا العربية. ورغم أننا قرأناه مترجما عن الإيطالية مباشرة للدكتور حسن عثمان. وصدر في ثلاثة مجلدات عن دار المعارف، فإن الترجمة التي قدمها صالح علماني عن لغة ثالثة لا تقل جمالا وعذوبة وإمتاعا عن الترجمة التي تمت قبل نصف قرن عن الإيطالية مباشرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق