الأحد، 19 مايو 2013

ولادة اليهودي في الرابعة والثمانين من عمره


الرسالة السادسة عشرة

ذبابة الحمار الحبيبة:
لا تستهيني بالميت فهو أكثر من الحي ضجة. كان الأموات يتكلمون ويتناقشون صراخاً، وكأن القيامة قامت في المشرحة. ليلنا أكثر من نهارنا ضجيجاً. نوم الأحياء يجعل الكون ساكناً، فيتضخم صوتنا كوننا لا ننام. الحمد لله أن الأحياء لا يسمعون صوت الأموات لو سمعونا لظنوا أننا تمردنا أو ثرنا فيفتحون على رؤوسنا البلاوي حتى بعد موتنا. لم يكن ضجيجنا عراكاً بل أكثر مزاحاً وضحكاً. كان ثمة عجوز لم يشاركنا مزاحنا ولا حتى حديثنا. صامت بشكل دائم. متمدد فوق البلاط - كما تركوه – بلا حركة. إنه كما تفهمني أنت عندما يقال لك ميت. دفعني الفضول للتعرف عليه لكنه لم يرد حتى على أسئلة المجاملة.
نحيف، طويل، غائر العينين، جلده أزرق ملتصق على عظمه. وجهه مبقع. برزت عروق يديه وزنديه ورقبته الزرقاء من جلده، لّفته كأنها بيت عنكبوت. عروقه الزرقاء تشبه رسم المياه الجارية في الخرائط الملونة، امتلأ تحت أظافره الطويلة بالوسخ، كان العجوز بهذه الصفات يبدو مقرفاً أكثر وهو ميت. مساء أحد الأيام، جلب إلى المشرحة ميت يعرف ذلك العجوز عندما رأى الميت الجديد ، العجوز قال:
-آآ ، أفرايم هنا أيضاً.
بسرعة تقربت من الميت. تعرفت على العجوز من خلاله. علمت أن العجوز الميت ، ذا الأظافر الوسخة، أفرايم ، يهودي، غني جدا. بل واحد من الأغنياء المعدودين في اسطنبول. وأنه في الرابعة والثمانين من عمره، كان يعيش وحيدا في شقة من الطابق العلوي من بناء يملكه في (تبه باشي). مضى عشرون عاما على وفاة زوجته.
-ألا يقال مال الغني يتعب لسان المفلس.. صحيح. كان هم جيران أفرايم غناه. كان يعيشىمنفرداً، ليس لديه حتى خادمة، لا أعرف إن كان بخلاً أو سبباً آخر ..أقرباؤه كثر، كثر إلى حد، عندما يأتون لزيارته لا يتسع لهم بيته الواسع، فينتظرون دخولهم بالدور أمام الباب لمدة طويلة، بقدر ما يكون الإنسان غنياً بقدر ما يكون له أقرباء، أليس كذلك؟ أقرباء أفرايم يحبونه كثيرا، هذا الكريه.. كانت قريبات هذا) القِفة) يقتتلن على خدمته، كان بيته يمتلئ ببنات أقربائه القائمات بأعمال بيته، من تنظيف ، غسيل، كوي. من الطبيعي أن أفرايم في الرابعة والثمانين لم يدق في الحياة مثل خازوق. إن لم يمت اليوم فغداً بحجة القيام أعامل البيت، كان أقرباؤه ينتظرون لحظة الموت السعيد. لم تكن لهم أي نية سيئة. سيحشرون أسماءهم ضمن قائمة الأقرباء الطويلة التي سيعلنون عنها في الصحف، تحت عنوان "فقدان غال."
سألت الميت الذي كان يحكي لي:
-بما ان أقرباؤه سينالهم نصيب من الإرث من كل بد .فلماذا يأتون بيته؟
قال:
-يتبارون، لملء عين أفرايم..
-لماذا؟
-لماذا! أفرايم غني جداً.، ولا بد من وجود لبعض صفات الإنسان عنده.. ممكن أن يوصي بشيء ما من ميراثه لمن يخدمه أكثر، أليس كذلك؟
أتت صبيحة أحد الأيام إحدى قريباته مبكرة تدق الباب. لا صوت من الداخل.. نوحت المرأة "مسيو أفرايم" لفرحها خرج النواح كأنه أغنية. الخبر السيء ينتشر بسرعة. أقرباءه متربصون. تجمعوا أمام بيته.
قال الرجل الذي حكى لي الحكاية:
-أكثر من نصف يهود اسطنبول كانوا هناك:
نودي للشرطة من المخفر، كسروا الباب ودخلوا. نعم حدث "الموت السعيد" ما أحسنها!!..
وضع الأقرباء ببعضهم عندما فتحت الوصية بعد موت أفرايم. بعض أقربائه شك في موته، قيل أنه انتحر، قيل مات مسموما، حادث ، جريمة، موت طبيعي؟ عندما لخبط أقرباؤه الجو، ولكي يرمي طبيب البلدية المسؤولية عن نفسه، أرسل أفرايم إلى الطب الشرعي لتحديد سبب الوفاة.
لاأدري كم مضى على أفرايم في المشرحة، لأنه أُحضر قبلي.
قال الميت الذي يعرف أفرايم:
-ما هذا ، يا هوه ، كتب لي أن ألتقي مع أفرايم هنا.. يقولون "الجبل بالجبل لا يلتقي، الانسان
بالانسان يلتقي".. مت بعده بثلاثة أيام، والتقيت هذا النحس هنا.
ذبابة الحمار الحبيبة ، ليس لي ثمة غرابة فيما حكيته. الغرابة تبدأ من الآن. يأخذون من جاء دورهم لتحديد سبب موتهم إلى التشريح ويتركوننا ننتظر في الصالة. بعض المشرحين يعاد
والبعض الآخر يبقى. أفرايم أعيد بعد أخذه بساعتين. كنت أول من لاحظ الفرق في أفرايم بعد إعادته ذاك المساء، انتفخ بطن ذاك الطويل الممعوص مثل طبل وهل ينتفخون لتشكل الغازات
في بطونهم. أخذوا أفرايم. إذاً لا بد أنهم حددوا سبب موته. نقلوه إلى الكنيس لإقامة مراسم الجنازة .بعد أن أعطي إذن بالدفن من الطب الشرعي.
وقعت الواقعة في الكنيس. هذه الأحداث حكاها لنا أفرايم نفسه لأنهم أعادوه بعد أخذه بساعات.
فَش ورم بطن أفرايم. كنا لا نرى سوى وجهه لأن عاملي المشرحة مددوا أفرايم على البلاط وكان مغطى بقماش أسود.
لم يعد أفرايم يسكت بعد أن كان لا يتكلم مع أحد. كان يحكي ما جرى على رأسه ضاحكا أحيانا وباكيا أحيانا أخرى.
وضعوا أفرايم في مكان خاص من الكنيس. امتلأ الكنيس بأقربائه كان الحاخام يسكب ماء في فم أفرايم في يد ويمسح على جذع أفرايم من رقبته إلى بطنه باليد الثانية. أثناء قراءته للأدعية.
قال أفرايم رداً على تساؤلات مستمعيه، أن الحاخام بهذه العميلة يرسل الميت إلى الآخرة نظيفاً من الداخل..
أثناء صب الماء وتمسيد الجسد وقع ما لم ير أو يسمع.. سقط طفل من بطن أفرايم. قطع
الحاخام دعاءه وتجمد وهو ينظر إلى الطفل، خيم صمت الدهشة على أقرباء أفرايم الذين ملؤوا الكنيس، ثم علا صوت كلامهم كأنهم أخذوا إيعازاً بذلك.
ذبابة الحمار الحبيبة، هذا انا أكتب لك حديث أقرباء أفرايم. فوق رأسه بالضبط كما حكاه هو نفسه:
-مات بسكتة قلبية. ولكن الحمل هو السبب.
-ما الذي جرى لعقلك، أفرايم رجل، وهل يحمل الرجل؟
-رجل ما رجل المهم حمل...
-مات الطفل في الداخل عندما لم يجد طريقا للخروج.
-مات عمي أفرايم بسبب التسمم الناتج عن الطفل.
-لا ياه.. أهذا معقول.. انظروا إلى الطفل عمره ما يقارب السنة.
-يعني، كبر في بطنه..
-لهذا كبر بطنه..
-ألم يحدث أن حمل رجل يا ترى؟
-هذه معجزة.
-ألا يمكن أن يكون الخال أفرايم (هيرما فروديت)؟ عندها من الممكن أن يحمل بنفسه.
أثناءها ، صاحت إحدى قريباته العجائز:
-كان ذكراً، كل شيء فيه ذكر..
لنقبل أن الرجل ممكن أن يحمل، أو من الممكن أن يحمل من نفسه. ولكن أقرايم في الرابعة والثمانين..
-أتقصد أن الولادة بعد هذا السن شيء معيب.
-من الممكن أن يكون غير جنسه بواسطة عملية جراحية.
-ما الذي تقولونه. وهل يبقى جنس عند من في الرابعة والثمانين.
-هذا هو بقي.. ألم يلد أمام أعيننا جميعاً؟
قريبته العجوز كانت لا تزال تبكي وتردد:
-كان ذكراً.. كل شيء فيه ذكر.
بينما كانوا يتكلمون بهذا الشكل فوق رأسه ظناً منهم أن الأموات لا يسمعون .همس بعض الأقرباء لبعضهم:
-جيد أنه مات قبل أن يلد.
-الحمد لله.. لو ولد الطفل...
-لو كان.. حياً..
-كان سيحرق نَفسنا.. كان سيرث كل أموال الخال أفرايم.
-ممن الطفل يا ترى؟
قطع أفرايم حديثه بعد أن حكى هذا وبكى.
بعدها حكى لأحد الأموات عن سبب بكائه فقال:
-يا ليتني ولدت ولم أُبق شيئا أورثه لأقرباء النحس هؤلاء..
سبب عودة أفرايم لنا أن أقرباءه أعطوا قرار بإعادة أفرايم مع الطفل الذي ولده في المشرحة ثانية.
استمعنا إلى أفرايم ونحن نقهقه ضاحكين ولكننا تقنا إلى معرفة سر الموضوع.
سر الموضوع – كما قال أفرايم – أنه عندما شكك أقرباؤه في سبب موته. أرسلوه إلى الطب الشرعي وفي نفس الوقت الذي كانوا يشرحونه لتحديد سبب موته كان هناك امرأة وطفلان.
قطع الأطباء وفرموا، ثم ذهبوا ليكتبوا تقاريرهم بعد أن حددوا سبب الموت، وبقي العمال، أحدهم شق بطن المرأة وحشا داخله بأحد الطفلين وبخياطة غليظة أغلق الشق. بعدها قال لزميله مشيراً إلى الطفل الثاني:
-ماذا سنفعل بهذا؟
-أدخله في بطن الختيار اليهودي.
شق العامل بطن أفرايم وحشاه بالطفل الثاني. خلاله بدا أنه صاحب مهارة في هذا العمل. هذا سبب انتفاخ بطنه بعد إعادته إلينا من المشرحة. كان الطفل الذي خرج من بطن أفرايم في الكنيس بجانبه تحت الغطاء الأسود. ما لم نفهمه سبب حشو بطن الرجل بالطفل. بعدها عرفنا السبب من حديث الأطباء والعاملين الذين أتوا إلى المشرحة. يحدد سبب الموت ثم يعطي الأطباء التقرير، بعدها يعطى ما يسمى رخصة دفن ولكي تعطى رخصة الدفن هذه يجب أن يكون للميت هوية، طبيعي، أما عليك أن تعرف من الذي تدفنه؟ فلهذا معاملة طويلة جدا. حتى يختصروا الزمن، يشق العاملون هنا بطن احدى النساء اللواتي أعطين رخصة دفن ويحشرون أحد الأطفال من الذين ماتوا قبل إخراج هوية في بطنها ليدفن معها.
نَبق الولد من بطن العجوز اليهودي كان نتيجة ضغط الحاخام أثناء تمسيده، صرخ رجل أظنه رئيس الأطباء:
-ما هذه المهزلة، سيرتنا على كل لسان، حتى الجرائد.. ما هذا الذي فعلتموه.
قال الرجل الذي وضع الطفل في بطن أفرايم ببرود:
-أنا مذ أتيت إلى هنا قبل عشرين سنة، ونحن نعملها ولم يقع شيء كهذا ..العادة هنا هكذا.. وقد تعلمتها ممكن كان قبلي. الحمد لله حتى الآن لم تأتنا أية شكاية.
لم أعرف كيف انتهت هذه القضية. ولكنهم أخذوا أفرايم في اليوم الثاني.
عندما كنت في حياتي أحكي لك عن حوادث غريبة كهذه كنت تقولين:
-من جهة وقوع الأحداث الغريبة فلا أنكر وقوعها، لكن ألا يجد هذه الأحداث إلا أنت ..!كنتِ لا تصدقينني. يمكنك ذلك الآن. ولكن إذا ظننت هذا.. فإنك تقدرين ذكائي. لأنه لا يوجد ذكي
– ولا حتى أنا – يستطيع أن يأتي بكل هذا الكذب. ذبابة الحمار الحبيبة، حقائق الحياة أغرب من أي خيال .
ولنر أيتها الحياة ماذا سترينا حتى الموت
أتركك بخير يا ذبابة الحمار الحبيبة.
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق