الإقليمية الجديدة
علاوي محمد لحسن
مفهوم الإقليمية الجديدة: تجدر الإشارة هنا أنه لا يجوز النظر إلى مفهوم الإقليمية باعتباره أمرا مستجدا أو مرتبطا بالمفهوم المعاصر للعالمية، فلقد بزغت التوجهات المبكرة للإقليمية منذ بداية الحرب العالمية الثانية و بداية الحرب الباردة و التي قامت أساسا على فكرة التكتل و تقسيم العالم إلى كتلتين. ولقد خرجت نزعة الإقليمية من رحم هذا التقسيم و تزامنه مع عصر ثورات التحرير التي اجتاحت مختلف دول العالم النامي، و بداية تنامي النزاعات الوطنية ثم اتساع نطاقها لتتحول إلى انتماءات قومية إقليمية رأت الدول النامية فيها سبيلا فعالا لتحقيق مصالحها الذاتية.
و لقد كان لنجاح التجربة الإقليمية الأوروبية و قيام الو.م.أ بإقامة منطقة تجارة حرة مع كل من كندا و المكسيك (NAFTA) كنتيجة لتأخر المفاوضات متعددة الأطراف في نطاق الجات، إلى أن ظهرت الموجة الثانية من الإقليمية و التي أطلق عليها الإقليمية الجديدة لتوصيف تلك الموجة التي بدأت منذ منتصف الثمانيات من علاقات و تنظيمات التكامل الاقتصادي و التجاري الإقليمي، و يستند هذا المفهوم إلى نموذجين:
النوذج الأول: هو التكتل التجاري الإقليمي القائم على فرصة تيسير العلاقات التجارية بين الدول الأعضاء، و بدرجة تميزها عن العلاقات التجارية مع الدول غير الأعضاء، و لهذا النموذج مستويات متعددة أدناها هي المناطق التجارية الحرة و أعلاها الاتحاد الاقتصادي، مثل الاتحاد الأوروبي.
النموذج الثاني: فهو قائم على أساس التخصص و تقسيم العمل الصناعي في مجموعة من الصناعات أو صناعة واحدة بين مجموعة من الدول التي يجمعها هذا التخصص و التقسيم في العمل و مثال ذلك مثلث النمو الإقليمي ( الفرعي الذي ربط بين التكنولوجيا و القوة المالية في سنغافورة و العمالة و الموارد في أرخبيل ريو بإندونيسيا) .
و بعبارة أخرى، فإن عملية إعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي بما يتوافق مع المتغيرات العالمية الجديدة هي أبرز سمات مفهوم الإقليمية الجديدة حيث أنه يهدف إلى جعل الكتل الاقتصادية الإقليمية حلقة ربط وسيطة بين الدول من ناحية و النظام العالمي من ناحية أخرى، و بالتالي فإن الإقليمية الجديدة تختلف عن مفهوم الإقليمية الذي شاع في الستينيات بغلبة الطابع الاقتصادي.
و يذهب البعض في تعريفه لمفهوم الإقليمية الجديدة بأنها سياسة تصمم لتخفيض معوقات تدفق التجارة بين بعض الدول بغض النظر عن كون هذه الدول متجاورة أو حتى قريبة أو بعيدة عن بعضها البعض.
و هناك من يطلق على الإقليمية الجديدة اصطلاح الإقليمية المفتوحة (Open Regionalism) و الذي أثير خلال مفاوضات إنشاء تكتل أبيك (APEC)، وهي تعني تلك الترتيبات الإقليمية التي تستهدف تخفيض القيود على واردات الدول غير أعضاء و التي تتعهد فيها الدول الأعضاء بتحرير التجارة بين دول التكتل، كما أن درجة التحرير على واردات الدول غير الأعضاء ليست بالضرورة أن تكون مرتفعة مثل مستواها بين الدول الأعضاء .
ويرى أصحاب مصطلح الإقليمية المفتوحة ضرورة توافر عدة شروط و هي:
أن تكون مفتوحة العضوية (Open Membership) وهي تعني أن يحق لأية دولة غير عضو ترغب في العضوية أن تنظم إلى التكتل بشرط أن يتوافر فيها شروط العضوية.
شرط عدم المنع (Non-prohibition Clause) وهي تعني أن اتفاقية التجارة الإقليمية تسمح و بشكل تلقائي لأي دولة عضو بالتكتل بتحرير تجارتها لتمتد مكاسب التكتل الإقليمي إلى الدول غير أعضاء.
التحرير الانتقائي و المكاسب المفتوحة: (Selective Liberalization And Open Benefits) و هي التي تستطيع فيها الدول الأعضاء القيام بتحرير تجارتها وفقا لمبدأ الدولة الأكثر رعاية (MFN ) بالنسبة لتلك القطاعات التي تتمتع فيها بميزة نسبية بالنسبة لباقي دول العالم، و لذلك فهي لا تحتاج إلى اتفاقية تجارية تفضيلية في مواجهة الدول غير أعضاء بالنسبة لتلك القطاعات.
كما يطلق بعض الاقتصاديين على الإقليمية الجديدة مصطلح تكتلات التجارة القارية (Continental Trade Blocs) و هي تلك التركيبات التي تتسم بثلاث سمات:
• أولاها: أن أغلب دول العالم تنتمي إلى أحد التكتلات الإقليمية على الأقل.
• ثانيها: أن أغلب التكتلات الإقليمية يتم بشكل سريع و متزامن في مختلف أجزاء العالم.
• ثالثها: أن أغلب التكتلات الإقليمية تتم بين دول الجوار.
و يستدل هؤلاء الاقتصاديون على ذلك بأنه بنهاية سنة 1994 لم يكن يوجد من ضمن أعضاء الجات دولة غير منظمة إلى تكتل معين غير اليابان و هونج كونج، أما بالنسبة للدول غير أعضاء بالجات فكانت الصين و تايوان هما الدولتين الوحيدتين اللتين لم تنظما إلى أي تكتل. أي أن وتيرة إنشاء هذه الترتيبات قد تزايدت بشكل متسارع حيث تمثل الاتفاقيات الثنائية 75 % من هذه الترتيبات، لتأتي بعدها مناطق التجارة الحرة حيث تشير بيانات البنك الدولي إلى أن متوسط عدد الترتيبات لكل دولة في العالم تصل إلى خمس ترتيبات لترتفع إلى ثمانية ترتيبات لكل دولة كمعدل في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكريبي ، وتنخفض إلى نحو اثنان في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي.
السمات الأساسية للإقليمية الجديدة :
على الرغم من أن ظاهرة إنشاء التكتلات الاقتصادية الإقليمية قديمة، إلا أن التوجهات الحديثة لتلك التكتلات تختلف عنها اختلافا كبيرا، فقد اتسمت التكتلات القديمة بسيادة الدوافع التجارية، بالإضافة إلى أن درجات التكامل و التجانس التي تحققت في تلك التكتلات اتسمت بالتفاوت و التباين الشديد و لم يؤتى منها ثمارا ملموسة فيما عدا الاتحاد الأوروبي، أما بالنسبة للتكتلات الإقليمية الجديدة فقد اتسمت بالسمات التالية:
• أصبحت الترتيبات التكاملية أكثر تعقيدا و تشابكا سواء من حيث هياكلها أو نطاقها الجغرافي.
• تعكس التكتلات الإقليمية الجديدة الأفكار الاقتصادية الليبرالية و اقتصاد السوق، كما زاد الاعتماد المتبادل الاقتصادي العالمي بعد الحرب الباردة كنتيجة للانتشار السريع للتكنولوجيا و تحرير التجارة في أغلب الدول. فقد قام عديد من الدول النامية منفردة بتحرير تجارتها الخارجية كعنصر من عناصر إصلاح سياسات الاقتصاد الكلي.
• أصبحت التكتلات الإقليمية عملية متعددة الأوجه، و متعددة القطاعات و تعطي نطاقا كبيرا من الأهداف الاقتصادية و السياسية التي يمكن وصفها بأنها استراتيجية و ليست تجارية فقط.
• تأخذ التكتلات الإقليمية الجديدة من استراتيجية التوجه الخارجي منهاجا لها، و تعتمد النظرة الخارجية و البينية للتكتل كمصدر للنمو، كما أنها تمثل لبعض الدول الخطوة الأولى لإمكانية الاستفادة من عمليات العولمة.
• تمثل الإقليمية محاولات للاستفادة من مكاسب اقتصاديات الحجم، و تنوع المنتجات و مكاسب زيادة الكفاءة و تنسيق السياسة التي تبرزها التكتلات الإقليمية الجديدة.
• تركز الترتيبات التكاملية الجديدة على مجالات جديدة مثل الاستثمار و سوق العمل، و سياسات المنافسة، و التكامل النقدي و المالي، و التعاون العلمي و التكنولوجي و البيئي، هذا بالإضافة إلى الأهداف السياسية.
• تؤكد التكتلات الإقليمية الجديدة أيضا على أهمية الاستثمار الأجنبي بالنسبة للتكتلات الإقليمية كمحرك أساسي في اتجاه تحرير التجارة كهدف نهائي لإقامة التكتل الإقليمي، و على غير ما كانت عليه التكتلات القديمة، فإن الترتيبات الإقليمية الجديدة تعتبر من وسائل جذب الاستثمار الأجنبي المباشر و تحقيق المنافسة العالمية في التجارة.
• ظهور ترتيبات تكاملية مختلطة ذات التزامات تبادلية بين دول نامية و متقدمة.
• تتسم معظم الترتيبات الإقليمية الجديدة بسمة مشتركة تتمثل في كون الدول المعنية أعضاء في عدة تكتلات إقليمية فالولايات المتحدة الأمريكية ، عضو في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA و عضو في نفس الوقت في تجمع آسيا للباسيفيك APEC و يرجع السبب في تعدد العضوية إلى الآتي:
- ضمان النفاذ إلى مختلف الأسواق الإقليمية، خاصة تلك التي تضع قيودا حمائية في مواجهة الدول غير الأعضاء فيها.
- تنويع التجارة و روابط الاستثمار لتخفيض الاعتماد على الشركاء الرئيسيين في التكتل.
- هناك تساير في بعض الجوانب بين الإقليمية و التعددية.
3. الأهمية و الدوافع الكامنة وراء الاتجاه المتزايد نحو الإقليمية الجديدة:
ترجع أهمية التكامل الإقليمي خلال العقدين الماضيين إلى عنصرين هامين هما:
الأول : أصبح التكامل الإقليمي استراتيجية مفضلة فقد أصبح التكامل الاقتصادي الإقليمي لب أي أجندة اقتصادية، وبات أمرا لا يمكن تجاهله في كل القرارات الاقتصادية في جميع دول العالم، فالحقيقة تشير إلى أن أغلب دول العالم لها محاولات معينة للانضمام على أحد التكتلات الإقليمية في العالم.
الثاني: أن الإقليمية الجديدة ذات طبيعة مختلفة: فعلى الرغم من أن التكتلات الاقتصادية الإقليمية ليست أمرا جديدا فإن الاقتصاديين يشيرون إلى أن التكتلات الإقليمية الجديدة تختلف عن التكتلات في العهود السابقة من حيث درجات النجاح و كذلك الإعداد، فإن كانت تعتبر استمرارا للجهود السابقة في هذا الصدد، و هذا الاختلاف يظهر بشكل جلي و بارز في النواحي الاقتصادية و السياسية.
و عند الحديث عن تزايد الاتجاه نحو الإقليمية على صعيد كل من الدول النامية و المتقدمة على حد سواء لا بد هنا أن نفرق بين دوافع التكتل لكل من الدول الصناعية و النامية. فالدول الصناعية في هذا الإطار تسعى إلى الاستفادة من عوائد الكفاءة الاقتصادية (Economic Efficiency Gains) الناجمة عن إزالة العوائق المفروضة على الأنشطة الاقتصادية القائمة، حيث أن الهياكل الصناعية لهذه الدول عادة ما تتسم بالاستقرار لعقود طويلة حيث تمثل سمة رئيسية لهيكل الاقتصاد. و بالتالي فإن تغيير هذه الهياكل استجابة للتكتل و برامج التكامل يكون له أثر إيجابي ملموس على الأداء الاقتصادي بوجه عام، و يكسبه المزيد من الديناميكية و الفعالية، فإذا ما أدت هذه الكفاءة المرجوة من التكتل إلى زيادة الناتج و الادخار المحتمل، فإن ذلك سيؤدي بالتبعية إلى زيادة النمو الاقتصادي و يجعل التكامل أمرا إيجابيا و اختياريا مناسبا للمستقبل.
أما بالنسبة للدول النامية فهي عادة لا تحقق هذه المكاسب بنفس القدر من الفعالية و الديناميكية الاقتصادية التي يفرزها التكامل، كما أن عوائد الكفاءة لم تكن أبدا تمثل هدف هذه الدول في عملية التكامل، فهياكلها الصناعية تعد صغيرة بالنسبة للاقتصاد ككل، أو حتى بالنسبة لمخططات التنمية بوجه عام، كما أن المكاسب الساكنة (Static Gains) من خلال تسهيل تدفق التجارة تعد أيضا صغيرة نسبيا. و بالتالي يمكن القول أن أهداف الدول النامية من التكتل و التكامل ليست أهدافا ديناميكية بقدر ما هي هيكلية، تشمل تنمية صناعات جديدة من خلال التنسيق للاستفادة من اقتصاديات الحجم أو النطاق (Economies of Scale) نظرا لاتساع السوق و تنوع الإمكانات و هي الاقتصاديات التي يحميها التكامل الاقتصادي بشكل واضح.
الإقليمية الجديدة: المنهج المعاصر للتكامل الاقتصادي الإقليمي (pdf)
الإقليمية الجديدة: المنهج المعاصر للتكامل الاقتصادي الإقليمي (pdf)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق