هي مقاربة مميزة في دراسة العلاقات الدولية، ظهرت (في هذا الميدان على الأقل) في الثمانينيات. وهي تتميز بثلاث أفكار رئيسة.
أولاً، يعرب مؤيدو ما بعد الحداثة عن موقف عدائي حيال الادعاء بحقيقة مطلقة أو عالمية. وهم يرفضون الفكرة القائلة بحقيقة خارجية مستقلة عن آرائنا واللغة التي نستعملها للتعبير عن هذه الآراء، ويطالبون بالتالي بتقويض التمييز التقليدي بين النظرية والممارسة. ويقول مؤيدو ما بعد الحداثة إن كل مطالبة بالحقيقة مؤسسة على الحكايات الكبرى أو خلفية النظرة إلى العالم، التي تصح بموجبها أو تسقط مطالبات معينة بالحقيقة. وقد تلخصت عدائية ما بعد الحداثة الراسخة حيال هذه النماذج في تعريف كلاسيكي عن ما بعد الحداثة بصفتها «التشكك بالحكايات الكبرى ». وبوجه خصوصي، علينا أن نحذر المطالبة بالحكايات الكبرى الحديثة المهيمنة، وبالتفسيرات المتنافسة حول الطبيعة البشرية الكونية، والمعرفة والتقدم التاريخي اللذين يؤلفان أقسام مشروع التنوير المتنوعة ولا سيما الواقعية، والليبرالية، والماركسية، والمناهج العلمية الحديثة. ويدّعي مؤيدو ما بعد الحداثة أنه لم تقم أي مؤسسة بتشريع حكايات كبرى مماثلة تُعنى بقوام المعرفة الشرعية والأنظمة السياسية والأخلاقية، بل تقف وحيدة بالأحرى بصفتها خطابات منفصلة ومميزة تتحادث في ما بينها. وما أن تدخل نطاق الصراع، يستحيل القضاء في ما بينها.
ثانياً، يسعى مؤيدو نظرية ما بعد الوضعية إلى كشف النقاب عن الحكايات الكبرى المحرِرة المزعومة بصفتها تروج القمع. فقد تولد من عمليات تحرير معينة أشكال جديدة من «السجن ». فحررتنا الليبرالية من الإقطاعية لتسلمنا بين يدي الرأسمالية، وأزاحت الماركسية ببساطة الرأسمالية لتضع مكانها الستالينية، وأهمل العلم الحديث أشكال المعرفة الإنسانية لما قبل الحداثة وهمشها. ويستبعد مفهوم الحكايات الكبرى ظلاً له، مفهوم «الآخر » الذي لا يوافق هذه الفئة بالذات، ويمكن بالتالي قمع الآخر المستبعد قمعاً مشروعاً. وفي الواقع، تكون الحقيقة قناعاً للسلطة بحد ذاتها.
ثالثاً، فيما يتبين أن مفهوم ما بعد الحداثة يحظى بموقف أخلاقي مميز خاص به، يمكن تلخيصه ب «احترام الاختلافات ». علينا أن نحذر برامج الليبرالية الواسعة النطاق. وعوضاً عن الثورة، علينا أن نركز على المقاومة على مستوى محلي معين، ونشيح النظر عن المفاهيم والمبادئ العالمية نحو رعاية الآخر واحترامه أشد الاحترام.
في سبيل فهم نظرية ما بعد الحداثة، يتعين على المرء فهم إطار النظرة الحديثة الثقافية والتاريخية إلى العالم. وتؤكد مقولة ديكارت «أنا أفكر إذاً أنا موجود » ضرورة وجود الذات المفكرة، الفردية، المشككة، العقلانية. وأصبح اكتشاف نيوتن الكون المادي الآلاتي القابل للتنبؤ هو البيئة المناسبة، حيث يمكن للأفراد أن يتبينوا مصيرهم ويسيطروا عليه بعقلانية وموضوعية. ويقال إن الحداثة تفترض ضمناً التقدم الإيجابي وتعززه، وهو المؤسس على الحقيقة الموضوعية والفردية في عالم يمكن غزوه والسيطرة عليه.
في دراسة العلاقات الدولية، يلفت العلماء المتأثرون بما بعد الحداثة الانتباه إلى الروابط التي لا تنفصم بين المعرفة والقوة في العلاقات الدولية على صعيدي النظرية والممارسة، وهم يصفون أنفسهم أحياناً على أنهم المنفيون من تلقاء ذاتهم على هامش نظام العلاقات الدولية الأكاديمية، يسبرون باستمرار ظروف إمكانيته، وحدود ادعائه المعرفة الجازم والمزعوم. وبالنسبة إليهم، لن يكف دارسو العلاقات الدولية التقليديون عن البحث عن مثل أعلى صعب المنال (نظام، استقرار، حرية، مساواة)، وعن مؤسسة نقية فلسفياً تمثل مرجيعة المحاسبة وتوصي بالإصلاحات في ممارسة الحكم، كما إنهم ينخرطون في مشاريع «تفكيك » المجالات. ويكمن الهدف في الإفصاح عن الاستراتيجيات التي تُشيد من خلالها خطابات معينة عن السلطة/المعرفة في الميدان تسلسلاً هرمياً ذا علاقة بالمفاهيم المعارضة (مثل النظام/الفوضى، الخارج/الداخل) وتقمع الانشقاق من خلال اللجوء إلى ما يُزعم أنه خصائص موضوعية في العالم.
حمل تلقي هذا النوع من الأعمال ردود فعل مختلطة. فمن جهة، رحب الكثير من العلماء (معظمهم من الشباب) بمساهمة الانتقادات المستوحاة من نظرية ما بعد الحداثة الموجهة إلى المفاهيم التقليدية الإبيستمولوجية. ويوحد صفوف الناقدين المؤيدين لنظرية ما بعد الوضعية (سواء دعوا أنفسهم بمؤيدي ما بعد الحداثة أم لا) استياء مشترك حول الطريقة التي يقضي «النظام » بما يُعتبر نظرية ملائمة على أساس مقاييس غير عملية كبرى وضيقة تدين كثيراً إلى فلسفة العلوم الطبيعية. ومن جهة أخرى، يتهم ناقدو ما بعد الحداثة هذا الفكر بأنه أكثر بقليل من تعبير على الموضة عن النسبية الأخلاقية والإدراكية. فعلى سبيل المثال، يبدو أن نقد مؤيدي نظرية ما بعد الحداثة الموجه ضد العقلانية الحديثة قد استبعدها من المساهمة في أي من الحجج المعيارية والمتجددة بشأن نظام عالمي عادل. ومع اعتبار الحقيقة والأخلاق مجرد قوة، ينتهي تفكيك ما بعد الحداثة للواقعية بالتأكيد مجدداً الفكرة القائلة بأنه لا يمكن السيطرة على القوة في سبيل خدمة مصالح البشر التحريرية، هذا على افتراض أن هذه المصالح قائمة طبعاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق