‏إظهار الرسائل ذات التسميات مختارات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مختارات. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 20 مايو 2013

ميت أصبح قاتل نفسه


الرسالة السابعة عشرة

ذبابة الحمار المبجلة:
لا أحد يهتم بي هنا في الطب الشرعي. أظن أنهم نسوني. الأموات لا يستطيعون المطالبة بحقوقهم صارخين "أنا هنا.. أنا موجود.. أنا موجود.. أنا أعيش.." في الحقيقة لم أشعر بغربة الموت. لا فرق بين موتي وبين حياتي حين كنت أظن نفسي حياً. لا فرق بين أن تعيشي ولا تستطيعي أن تقنعي من يقودنا بهذا أو تموتي يا عيني؟ نحن متنا قبل أن نموت ولكننا لم نفهم هذا. فهمته عندما مت. ستقتنعين بهذا عاجلاً أم آجلاً.
أسلي نفسي بالحديث مع الموتى في المشرحة. قبل قليل أحضروا إلى هنا شاباً ميتاً في الثانية والعشرين من العمر، كثير الكلام. موته غريب إلى حد لم أستطع إلا أن أكتب عنه. حديثه ممتع جداً. شرح لنا ما وقع له مطولاً. سأنقل لك ما حكاه، بقليل من الاختصار، ولكني سأعمل على نقله بنفس طريقة حكيه. يبدو أنه قد أنهى خدمته في الجيش حديثاً من خلال تقديمه لاسمه الكامل. فهو لا يزال متعوداً على هذا. اسمعي كيف مات هذا الشاب كما من لسانه:
اسمي حسين طوقاي بن شوكت، محافظة شورم ناحية اسكليب.. الثأر سبب كل ما جرى لي، أنا علي ثأر ولكن آل هاصمِ لا يتركونني.. قتلوا من عندنا خمسة أشخاص لم يبق عندنا ذكر
يشعل ناراً غيري، ستطفأ نارنا إذا قتلوني. جماعتنا في يومها قتلوا ثلاثة منهم، المهم أننا قلنا لهم تعالوا نصطلح فلم يردوا. قالوا لا ينتهي الثأر إلا بإطفاء النار واقتلاع جذر العائلة. لم يرضوا إلا بدوام القضية، طالما في عائلتنا رجل وهو في الجيش أمضيت حياتي خائفاً على روحي. بصراحة، أنا جبان. لست من أولئك الذين يضربون ويكسرون. لو كان علي لما استطعت أن أحمي نفسي كل هذه الفترة لكن أمي صرتني بجناحي أمومتها حتى عشت كل هذه المدة. لم أذهب إلى المدرسة لخوفي أن يقتلني أعداؤنا . نصبوا لي كميناً وطخوني عدة مرات، ولكن يبدو أنه كان لي في الدنيا مياهاً سأشربها وأكلاً سآكله، مرقت دون خدش .وأرسلت لي أمي رسائلي باليد – حتى لا يعرف أحد مكاني – قبل نهاية خدمتي بثلاثة – خمسة أسابيع.. قالت أمي في الرسالة "يا بني، يا وحيدي، يا شمعة بيتي، يا زندي وسندي. لم يتركوا لك في بلدك ماء تشرب أو هواء تتنفس. الله يعمي عيونهم عنك. اذهب إلى مدينة كبيرة، غير اسمك، شخصك، ادخل في زحمتها حتى لا يعرفك أحد، تزوج، أسس بيتاً. أنجب أطفالاً ونادِ لي دون علم أحد لأطير لعندك وحتى تنجز كل هذا لا تخبرني بمكانك ولا بشغلك."
عملت بما أوصتني أمي أتيت إلى هذا المكان المدعو استنبول ومن أجل خروجي من كوني حسين طوقاي بن شوكت، وتقمصي شخصية أخرى يلزمني هوية جديدة عندما نحضر النقود
ليس هناك ما لا يحضر. ونقود أمي موجودة. عندما يكون معك نقود في استنبول لا يوجد ما يستعصي عليك شراؤه من الروح والشرف إلى .. حتى أنهم يقولون إنه ليس لحكاية القنبلة
الذرية أساس من الصحة.
القنبلة الذرية كذب وتأليف، لماذا؟ لأنها لو كانت موجودة لوجدت المستعملة منها في سوق الأشياء المستعملة .وجديدها في سوق التهريب. إذا كان الشيء غير موجود قديمه في سوق الأشياء المستعملة وجديده في السوق السوداء هذا يعني أن لا وجود له مطلقاً. سأجد هوية في مكان ما.
ألا يقال "المريض الذي لم ينته أجله يأتيه الطبيب إلى عند قدميه" سكنت مع رجل يدعى محمد يورتسوار من السعودية في غرفة فندق يأوي شلة الشباب الحلوين ..دخلت، في إحدى المرات
إلى غرفتي، فوجدت أن محمد يورتسوار قد نام من زمن. إن كان على النوم فهو نائم ولكنه لا يشخر. مستحيل، تظنه وهو نائم – ان كنت بجانبه – محرك طائرة على وشك الاقلاع. تمددت
على سريري، بما أنني تعودت على شخيره فلم أستطع النوم في سكون تلك الليلة. ماذا سأفعل لأجعل محمد يشخر؟ ناديته "ولاه، محمد.." ولاه، محمد المسعودي" لكنه لم يصح. قلت لنفسي
لأحركه قليلاً، دفعته ، ألا يسقط.. كأنه قالب ، مات الرجل من زمن! أيقظت صاحب الفندق. لم يدفع محمد أجرة الغرفة ثلاثة – خمسة أشهر .فتشه صاحب الفندق ليسترد دينه. فيما إذا كانت معه نقود، فلم يجد. لو رميت ما عليه في الشارع لما مر أحد دون أن تتلخبط معدته.
أثناء بحث صاحب الفندق هنا وهناك، وجد هويته فقال "أبيعها لأحدهم، وأسترد ديني"؟ وقعت على يديه وقدميه متوسلاً، دخيلك بعني إياها. جلسنا إلى المساومة لم يكن معي المبلغ الذي
طلبه صاحب الفندق. هو يرفع لفوق وأنا أشد لتحت. في النهاية قال "أعطني هويتك فوق نقودك وخذها". يبيع هويتي لرجل آخر ويكمل أجرة الغرفة توافق إعطائي هويتي مع رغبتي
بالتخلص من شخصية حسين طوقاي. إذا قلت لماذا؟ لأنه من الممكن أن يتفق جماعة الثأر مع قاتل مأجور ليزهقوا روحي، عندها أكون غير معروف. سيقتل حامل هويتي وأتخلص أنا.
اتفقت مع صاحب الفندق .أعطيته هويتي ونقودي، وأخذت هوية محمد. من حينها نسيت أنني حسين الإسكليي وأصبحت محمد يورتسوار المسعودي. وهل أقف بعد أن أخذت الهوية؟ ذهبت
من هناك حتى لا يعرف لي أثر. لم يبق معي ولا قرش أعطيتها كلها لصاحب الفندق. الله ستر، أن الفصل صيف والطقس حار. أمضيت تلك الليلة في حديقة عامة بدأت أبحث عن عملٍ اعتباراً من صباح اليوم التالي أو الذي بعده، لا أدري. يجتمع بعض المهاجرين من قُراهم في طرف إحدى الساحات العامة ليأتي من يبحث عن عمال إنشاءات ويختارون منهم من يعجبهم. وقفت بينهم. كان بجانبي رجل يقرأ جريدة. رماها على الأرض، بعد أن قرأها.. تناولت الجريدة كتبت "وجد المدعو حسين طوقاي من قرية إسكليب ميتاً في غرفة فندق في (طوب خانة) وقد تبين نتيجة ذلك المعاينة أن المدعو إسكليب ميتاً خنقاً والشرطة تتعقب أثر القاتل وستجده في أقرب وقت." هل أفرح أم أحزن لهذا الخبر سأفرح بالطبع، لأن الذين سيثأرون مني سيكفون عن مطاردتي. وسأحزن لأنه يجب على الإنسان أن يحزن لموته ولو كان كذباً.
المهم أنني أعيش بشخصية محمد يورتسوار المسعودي. إذا وجدت شغلاً مهما كان نوعه، أشتغل ولكن أين الشغل؟ أجد شغلاً ليوم ولا أجد لخمسة أيام. الله يشهد علي أنني أمضيت لا
أدري كم يوماً بالضبط، ثلاثة – خمسة، دون أن تدخل فمي لقمة واحدة حتى لم يعد لي قوة للوقوف من الجوع. تتلامع أمام عيني ألوان وأضواء لم أعتد عليها .بالحساب أبحث عن عمل. لكن لو خرج أمامي أحدهم وقال: "احمل هذه الحقيبة لمسافة مئة متر وخذ عشرة آلاف ليرة لما استطعت حملها." بينما كنت أجرجر نفسي إلى إحدى المقاعد الخشبية في إحدى الساحات لأتمدد عليه، قامت القيامة لا أدري كيف. الناس يندفعون إلى الساحة من كل أطرافها ليشكلوا بحيرة وسطها. قل ألفاً.. قل خمسة آلاف شخص، يتصايحون.. يتدافعون.. يتلاحقون.. لم أفهم ما يريدون ولا ما يقولون. لم أفهم لماذا كانوا يضربون بعضهم .. أردت الهروب من بينهم ولكن لا قوة لي للهرب. ينهالون على بعضهم بالحجارة والعصي حتى لتظن أنها حرب حقيقية، ساقطون على الأرض، جرحى صارخون، باكون، طالبو نجدة، متوسلون..
الماء تجرف تراب الأرض لشدة سيلانه. ما الذي جرى لهؤلاء الناس يا هوه؟ كأنهم قطيع ثيران أو تيوس يتراكضون هنا وهناك. قطع طريقي مجموعة من الشبان والبنات. سألتني من
بينهم فتاة:
-من أين أنت؟
ما الذي سأقوله الآن، إسكليي أم مسعودي، لخوفي من السؤال عن هويتي قلت:
-من المسعودية.
-لا أحد يسألك عن بلدك. يميني أم يساري؟
لم أفهم سؤالهم حتى أنني لم أفهم شيئاً مما كانوا يهتفون. بالرغم من أن اللغة التي كانوا
يتكلمون بها تركية .لحظة قولي.
-اعذروني لا أعرف ما يعني هذا.
-نزلوا علي بالعصي وهم يقولون:
-كل ما يجري لنا بسبب أمثالكم، الواطون، الذين لا يعرفون أين هم.
عندما سمعتهم يقولون هذا، قلت لنفسي لعلي أنجو إذا قلت لهم أين نحن.
-أعرف يا أخوان، أعرف أين نحن وإلى أين يؤدي هذا الطريق أو ذاك.
نحن في التقسيم وهذا الطريق ينزل إلى قاسم باشا ومن هنا إلى بشكطاش...
ضربوني إلى أن أصبحت مثل فِشكة حيوان داش فوقها عجلُ شاحنة. ثم تركوني لا أدري إذا كانوا فعلوا ذلك شفقة أم أنهم ظنوني مت. عدت لا أعرف أين قدمي، رأسي، زندي، لأقف
وأهرب .كدت أُصبح تراباً لكثرة ما داسني المطارِدون والمطاردون قلت لنفسي اتحرك ولاه ...يا لله من عزة الروح استجمعت نفسي ووقفت. لم أكد أخطو خطوتين أو ثلاث خطوات نحو المقعد حتى طوقتني مجموعة أخرى من الشبان. سأل أحدهم:
-أأنت يميني أم يساري؟
سيكسرون على ظهري شاحنة عصي لو قلت للآخرين ، لا أعرف. نظرت في وجوههم لعلي
أقرأ أي من هاتين الكلمتين يحبون ثم قلت:
-يميني والحمد لله.
أتتني رفسة على وسطي من الخلف، طيرتني في الهواء وسقطت على بعد عشر خطوات.
كيف يرفسون هؤلاء ويضربون؟ أما عندهم رحمة؟
-لا يا شباب أنا انتهيت من زمن...
وهل بينهم من يسمع؟
أنا لم أجد أكثر من جنس البشر تحملاً، يتحمل أكثر من الحجر والصخر. كيف تحملت كل هذا الجوع وفوقها العصي والرفس، يا هوه..
عندما تركوني ليذهبوا إلى عراك آخر، استجمعت ما بقي عندي من قوة وبدأت الهرب. لو تركوني لهربت، متعكزاً ، زاحفاً، غير مهم، ولكنهم لم يتركوني خرجوا أمامي مرة أخرى.
-أيميني أنت أم يساري؟
سيقتلونني إن قلت لا أعرف أو يميني. وهل أنا أهبل لأقوله؟ قلت:
-يساري والحمد لله.
نزلت العصي فوق رأسي. لم نحزر مرة أخرى. أيهما قلت لا تخلص من الضرب. تركوني بعد أن حولوا أنفي وفمي إلى صحن من الدم. ذهبوا إلى معركة أخرى، وحاولت الهرب.
قبض علي آخرون:
-أيساري أم يميني؟
سيضربونني أيما اخترت :وصلت روحي إلى أنفي. قلت لنفسي، الموت حق صحت قائلاً:
-أنا يساري، ماذا ستفعلون؟
الحمد لله، حزرت هذه المرة. لكن التحقيق لم ينته:
-من أي يساريين أنت؟
ما هذا التحقيق يا هوه. أصعب من تحقيق أنكر ونكير. على حساب أنني عملت فهلوية وقلت:
-بالطبع منكم.
قالوا شيئاً لم أفهمه تكلموا بغرابة ثم انهالت العصي فوق رأسي وهل بقي عندي روح. رغم هذا لم أمت. إنني على ما أظن بسبعة أرواح ..قبض علي من قبل آخرين:
-يميني أم يساري؟
خطر ببالي جواب أمي عندما تسأل "هل أنت من هذا أو ذاك" كانت ترد "لا من هذا ولا من ذاك."
-لا يساري ولا يميني، أنا رجل مثلك.
ظننت أنني سأخلص. لكن ما العمل؟ سأتلقى اللكم والرفس والكفوف والعصي على أي جواب أعطيه. صرخوا في وجهي:
-قواد، جاهل...
قال أحدهم:
-واحد بلا لون! وبصق في وجهي.
ظننت أنه قال هذا لأن لون وجهي قد ذوى:
-دخيلكم يا أخوان .أنا جائع منذ أيام.. او يترك الجوع لوناً في الوجه..
غضبوا أكثر هذه المرة، وبدأوا بالضرب من جديد. أظلمت عيناي إثر ضربة قاسية على رأسي. إثرها تكومت على الأرض ولم أدر ما حدث...
صحوت بعد فترة لا أعرف طولها على أنني محمول إلى سيارة إسعاف ولكن لم أستطع حتى تحريك لساني...
وقفت سيارة الإسعاف عند باب المشفى. ثمة أشخاص منهم من مات ومنهم مثلي بين ميت وحي.. أنزلوني. كان أحد البوابين يختار من بعيد:
-هذا ميت. خذوه إلى البراد.. هذا على وشك الموت، هذا حي. لا تكوموا الأحياء فوق بعضهم ولا. . هذا لا يعد حياً. ارموه في البراد...
أنزلوني من سيارة الإسعاف. وضعوني على الأرض أمام باب المشفى. وقف البواب فوق رأسي. نظر إلي وقال:
-ميت. خذوه إلى البراد...
ما عندي قوة للحركة ليعرفوا أنني لست ميتا، أو قوة للكلام لأصرخ دخيلكم أنا لم أمت بعد.
بعد فرز الذين أنزلوا سيارة الإسعاف" ميت، لم يمت بعد، كيفما كان سيموت، لا يزال حياً"
أمر البواب قائلاً:
-فتشوا الأموات واعملوا قيد سجل الوارد لمن يحمل هوية، ثم ارموه في البراد.
غضب البواب عندما قال أحد الرجال "لماذا القيد، ميتون". وقال:
-أين تعيش أنت يا أهبل ولاه – !!لا أحد يسألك عن الأحياء إنهم يحاسبونك على الميتين. إذا لم تسجل الميتين من أين لهم أن يعرفوا من سيدفن.
فتشوني أخذوا هويتي – أي هوية الميت في غرفة الفندق محمد المسعودي من جيبي ليسجلوا أنني ميت.
حملوني مع ميت آخر على نقالة ورموني بالبراد. عندما حل الليل – لا أدري إذا كان من برد البراد صحوت، وقفت واستندت إلى الجدار، بدأت أفكر. هناك احتمال الطرق على الباب
والصراخ أنا لم أمت. ولكن هل سيصدقونني، خفت أن يعرفوا أنني لست الذي مات في غرفة الفندق وهناك احتمال – وهو الأفضل – الهرب دون أن أقول لأحد. لم أمت من الضرب ولكني أكاد أموت من الجوع. كسرت زجاج غرفة البراد وهربت كأن شيئاً يدق فوق رأسي شبيهاً بالعصي التي كانت تنزل عليه. الألم لا يحتمل. وبينما كنت أجرجر نفسي بصعوبة رأيت مقهى، دخلت:
-دخيلك، كأس شاي.
قبل أن تأتي الشاي. دخل مجموعة من الرجال، أي دخول .صاحوا قائلين:
-لا تتحركوا . ارفعوا أيديكم.
وقفنا ورفعنا أيدينا. نظرت إلى الآخرين وإذا بهم يرتجفون خوفاً، كارتجاف أوراق الحور أثناء هبوب الرياح. وبما أن الجميع يرتجف فعلي أن أرتجف أيضا ولكن لا قوة لي حتى على الرجفان.
عرفت أن الداخلين مباحث، يفتشون ويحققون لمعرفة المحرضين على حوادث ذاك اليوم، فتشوني أيضاً . لا يوجد معي مسدس أو سكين بل حتى دبوس. قال أحد الشرطة الذين يفتشون:
-ما هذا الذي في رأسك وعينيك ولاه...
قبل أن أفتح فمي قال آخر:
-هويتك.
لا أستطيع أن أقول له إن هويتي في المشفى الذي هربت منه. ياه قلت:
-ضيعتها.
-ارموه في السيارة.
كثير مثلي في سيارة الشرطة. رمونا جميعاً في أحد أقبية مديرية الأمن.
المكان هناك مزدحم كمستودع. حبسوني ثلاثة أيام دون أن يسألوني شيئاً . المهم أنهم كانوا يعطوننا زاداً وماء. الآخرون معم نقود. ليسوا مثلي يجلبون من الخارج صحفاً. أنا أقرأ
صحفهم. ألا أرى صورتي في إحدى الجرائد. ولكن أين أنا، حسين طوقاي أم محمد يورتسوار. مكتوب تحتها "حسين طوقاي المقتول خنقاً" جميل. الصورة صورة الهوية التي تركتها لصاحب الفندق ولكن السيء خبر الجريدة الأخرى. لا يوجد صورة ويقول الخبر "لم يكن الشخص المخنوق في غرفة الفندق في "طوب خانه" حسين طوقاي بل محمد يورتسوار،والأول هو القاتل ويستعمل هوية الثاني...... واخ، ماذا سيحدث الآن.
أخذوني مع مجموعة من الناس إلى غرفة التحقيق.
-ما اسمك؟
لا أستطيع القول أن اسمي حسين طوقاي، لأن حسين طوقاي قتل في الفندق ولا محمد
يورتسوار لأن هذا إما القاتل أو المقتول... موقف ملخبط تماما، ولأنني تركت هويتي في
المشفى قلت:
-محمد يورتسوار*
قطب وجهه أحد الجالسين هناك عندما سمع اسمي وكنيتي .ويبدو أنه رئيسهم. أصبح كأنه
ينظر إلى شي مقرف وقال:
-أين أنت من حب الوطن ولاه... ما عندك لتحب به الوطن.. وهل أهمل حب الوطن حتى وصل إلى عندك. ولاه، سفيه.
الشرطة تلاحق محمد يورتسوار حسب الجريدة ومحمد يورتسوار أمامهم. لفرحتي بعدم معرفتهم بي تجاوبت معهم وقلت:
-معك حق يا سيدي. أستغفر الله وهل يستطيع أمثالي نيل شرف حب الوطن. ولكن كنيتي هذه سجلها أحد موظفي النفوس لوالد جدي، دون علمه طبعا....
قال أحد رجال الشرطة:
-ماكان اسمك؟ قله مرة أخرى؟
قلت:
-محمد يورتسوار...
لكني نديت تحتي لشدة خوفي.
-من أين أنت؟
-من المسعودية.
قال للجالس على الطاولة:
-سيدي هذا أحد المتهمين بقتل حسين طوقاي. حسب إفادة صاحب الفندق أن محمد يوتسوار
كان يقيم مع المغدور حسين طوقاي في الغرفة نفسها.
صرخت قائلاً:
-أبداً.
-ألم تسكنا نفس الغرفة؟
-نعم لكن لم أقتله.
-إذا لم تقتله فلماذا هربت ولم تعد إلى هناك مرة أخرى؟
أنا في موقف سيء جداً . سأصبح قاتلاً لنفسي إذا قلت نعم قتلته. بينما لا على بالي ولا على خاطري سأصبح قاتلاً. وإذا قلت لم أقتله سيسألني عن سبب هروبي.
قال الجالس خلف الطاولة:
-نادوا لي بقية المتهمين، واحداً واحداً.
أدخلوا ولدَاً (ممعوصاً (في الخامسة عشرة من عمره. لم يعد يستطع الوقوف على قدميه لشدة
الفلقة التي ضرب .يستند إلى الجدار ليقف ثم يسقط. حققوا معه من حيث سقط جالساً:
-احكِ لنا كيف قتلت حسين طوقاي.
لكثرة ما أكل الولد من الفلقات ليكرر حكاية قتله لحسين طوقاي – أي أنا – حفظها غيباً كما يحفظ تلميذ المدرسة، بدأ يقرأ:
-خدعني، بأنه سيعطيني نقوداً. أخذني إلى غرفة الفندق ثم قال لي "اشلح ثيابك...." استغفر الله... أنا ياهوه ، متى؟ حسب ما يقول – بعيد من هنا – اعتديت على عرضه... ولما أكلت
عليه النقود، خنقني. زعلت، نسيت أنني محمد يورتسوار فقلت صائحاً:
-والله بالله يكذب، ما عندي أي عادة سيئة كهذه... ولكن الذي خلف الطاولة قال:
-خذوه واحضروا الآخر.
أتوا برجل عبر الستين، هذه المرة. قال أنه قتلني لأنني لم أدفع له دينه الذي خسرته بالقمار.
قال أننا جلسنا في الغرفة ولعبنا قماراً وخسرت ولم أدفع النقود... فاضطر إلى قتلي. أحضروا خمسة متهمين بقتلي. نظرت في وجوههم لا يبدو عليهم هيئة البشر. أفكر أن هؤلاء لا يمكن
أن يكونوا من بني آدم ولكن يقع على الإنسان ما يجعله... لا يعرف إلا من وقع له. المهم قالوا أنهم خنقوا حسين طوقاي. أما أنا؟ عندما س ّ طحوني تحت العصا، حكيت الحكاية كما لو
أنني خنقت نفسي مئة مرة حتى ذاك اليوم...
-فهمنا، أنت الذي خنقت حسين طوقاي... اعترف. لماذا خنقته؟ يا هوه، ماذا سأقول الآن..
الخمسة الآخرون ذكروا كل ما يدفع إلى القتل. لخوفي أن يعودوا بي إلى الضرب قلت:
-أتركها لوجدانكم الرفيع يا سيدي كما تقولون.
-من قتلت غيره؟
-الذين ترونهم مناسبين، خنقتهم يا سيدي...
-لماذا قتلته؟
لكي أتخلص من الضرب، صرخت فجأة:
-ثأر يا سيدي.
في تلك الأثناء أحضر رجال الشرطة رجلا .أحد اثنين اعترفت بقتلهما. عندما عرف أنه لم يمت، قبضوا عليه وجلبوه. عندها قال الرجل الذي كان يحقق معي:
-عندك حظ، لقد أُنقذت من إحدى الجنايات.
قلت:
-الله لا يحرمنا إياكم يا سيدي.
قال الذي خلف الطاولة:
-كلكم كذلك. تعترفون هنا. في المحكمة تنكرون. لم افعل، لم أتكلم، لم أر....
قلت:
-أستغفر الله يا سيدي. وهل أصابع يدك مثل بعضها. لا تظنوني من أولئك السافلين.. أنا لا أكذب.. لا أعود بكلامي حتى لو قتلتموني، خنقته يعني خنقته.
عندما سأل الذي خلف الطاولة رجاله:
-ألا يوجد جناية أخرى مجهولة الفاعل؟...
عرفت أنهم سيأخذوني إلى الفلقة من جديد. حينها بدأت أحكي قصتي وأنا أبكي:
-عن اذنكم يا سيدي، حسين طوقاي المقتول خنقاً في غرف الفندق هو أنا...
حكيت له كيف هربت من قضية الثأر ، وكيف اشتريت من صاحب الفندق هوية المخنوق محمد، وأنني لا أستطيع أن أخنق نفسي بنفسي، وكيف ضربت عندما قلت أنني يميني ثم
ضربت عندما قلت، يساري، ثم ضربت عندما قلت، أنا لا من هذا ولا من ذاك، أنا رجلكم أنتم. كيف رموني في براد المشفى عندما قال البواب أنني ميت. كيف هربت من هناك. كيف
ألقي القبض علي في المقهى. كانت تسيل الدموع من عيني بشكل، حتى لو كان حجراً لتألم على حالتي.. ظننت أنهم سيتركونني ولكنهم سطحوني تحت العصا. أقول "أنا المقتول" ينزلون
بالعصا، أقول "أنا القاتل" ينزلون بالعصا أكثر.. "أنا القاتل والمقتول" عصا، ... "أنا قتلت نفسي"، عصا...
ذبابة الحمار الحبيبة هكذا حكى لنا الشاب الذي في المشرحة الأحداث التي وقعت له ثم سكت
. فسألته:
-لماذا مت؟
لوى رقبته وقال:
-لماذا يموت الإنسان، أنا ككل البشر، أتى أجلي.
قال أحد الموتى:
-وهل تسأل واحداً أكل كل هذا الضرب، لماذا مت؟
بعد أن سكت الشاب قليلاً، أضاف قائلاً:
-هم استغربوا موتي مثلكم أيضاً، لذلك أتوا بي إلى هنا، ليقطع الأطباء جسدي، ليعرفوا لماذا مت. أناس غريبون للغاية. لم يسألوا لماذا وكيف مت، ولكن سبب موتي مهم جداً بالنسبة للدولة...
بعد قليل، أخذ عمال المشرحة جسد الشاب محمد يورتسوار، أو حسين طوقاي إلى التشريح، ليقطعوه ويفرموه ويحددوا سبب موته بشكل علمي، ثم يكتبون تقريرهم لتتم معاملته.
ذبابة الحمار الحبيبة، هنا حكايات أخرى استمعت إليها من الأموات .
سأكتب إليك في الرسالة القادمة ما جرى على رؤوسهم . مع تمنياتي باللقاء القريب.
حمار ميت

الكاتب عزيز نيسين

**كلمة يورتسوار، مركبة من يورت تعني وطن وسِوار تعني يحب أو محب وتصبح مركبة (محب الوطن

الأحد، 19 مايو 2013

ولادة اليهودي في الرابعة والثمانين من عمره


الرسالة السادسة عشرة

ذبابة الحمار الحبيبة:
لا تستهيني بالميت فهو أكثر من الحي ضجة. كان الأموات يتكلمون ويتناقشون صراخاً، وكأن القيامة قامت في المشرحة. ليلنا أكثر من نهارنا ضجيجاً. نوم الأحياء يجعل الكون ساكناً، فيتضخم صوتنا كوننا لا ننام. الحمد لله أن الأحياء لا يسمعون صوت الأموات لو سمعونا لظنوا أننا تمردنا أو ثرنا فيفتحون على رؤوسنا البلاوي حتى بعد موتنا. لم يكن ضجيجنا عراكاً بل أكثر مزاحاً وضحكاً. كان ثمة عجوز لم يشاركنا مزاحنا ولا حتى حديثنا. صامت بشكل دائم. متمدد فوق البلاط - كما تركوه – بلا حركة. إنه كما تفهمني أنت عندما يقال لك ميت. دفعني الفضول للتعرف عليه لكنه لم يرد حتى على أسئلة المجاملة.
نحيف، طويل، غائر العينين، جلده أزرق ملتصق على عظمه. وجهه مبقع. برزت عروق يديه وزنديه ورقبته الزرقاء من جلده، لّفته كأنها بيت عنكبوت. عروقه الزرقاء تشبه رسم المياه الجارية في الخرائط الملونة، امتلأ تحت أظافره الطويلة بالوسخ، كان العجوز بهذه الصفات يبدو مقرفاً أكثر وهو ميت. مساء أحد الأيام، جلب إلى المشرحة ميت يعرف ذلك العجوز عندما رأى الميت الجديد ، العجوز قال:
-آآ ، أفرايم هنا أيضاً.
بسرعة تقربت من الميت. تعرفت على العجوز من خلاله. علمت أن العجوز الميت ، ذا الأظافر الوسخة، أفرايم ، يهودي، غني جدا. بل واحد من الأغنياء المعدودين في اسطنبول. وأنه في الرابعة والثمانين من عمره، كان يعيش وحيدا في شقة من الطابق العلوي من بناء يملكه في (تبه باشي). مضى عشرون عاما على وفاة زوجته.
-ألا يقال مال الغني يتعب لسان المفلس.. صحيح. كان هم جيران أفرايم غناه. كان يعيشىمنفرداً، ليس لديه حتى خادمة، لا أعرف إن كان بخلاً أو سبباً آخر ..أقرباؤه كثر، كثر إلى حد، عندما يأتون لزيارته لا يتسع لهم بيته الواسع، فينتظرون دخولهم بالدور أمام الباب لمدة طويلة، بقدر ما يكون الإنسان غنياً بقدر ما يكون له أقرباء، أليس كذلك؟ أقرباء أفرايم يحبونه كثيرا، هذا الكريه.. كانت قريبات هذا) القِفة) يقتتلن على خدمته، كان بيته يمتلئ ببنات أقربائه القائمات بأعمال بيته، من تنظيف ، غسيل، كوي. من الطبيعي أن أفرايم في الرابعة والثمانين لم يدق في الحياة مثل خازوق. إن لم يمت اليوم فغداً بحجة القيام أعامل البيت، كان أقرباؤه ينتظرون لحظة الموت السعيد. لم تكن لهم أي نية سيئة. سيحشرون أسماءهم ضمن قائمة الأقرباء الطويلة التي سيعلنون عنها في الصحف، تحت عنوان "فقدان غال."
سألت الميت الذي كان يحكي لي:
-بما ان أقرباؤه سينالهم نصيب من الإرث من كل بد .فلماذا يأتون بيته؟
قال:
-يتبارون، لملء عين أفرايم..
-لماذا؟
-لماذا! أفرايم غني جداً.، ولا بد من وجود لبعض صفات الإنسان عنده.. ممكن أن يوصي بشيء ما من ميراثه لمن يخدمه أكثر، أليس كذلك؟
أتت صبيحة أحد الأيام إحدى قريباته مبكرة تدق الباب. لا صوت من الداخل.. نوحت المرأة "مسيو أفرايم" لفرحها خرج النواح كأنه أغنية. الخبر السيء ينتشر بسرعة. أقرباءه متربصون. تجمعوا أمام بيته.
قال الرجل الذي حكى لي الحكاية:
-أكثر من نصف يهود اسطنبول كانوا هناك:
نودي للشرطة من المخفر، كسروا الباب ودخلوا. نعم حدث "الموت السعيد" ما أحسنها!!..
وضع الأقرباء ببعضهم عندما فتحت الوصية بعد موت أفرايم. بعض أقربائه شك في موته، قيل أنه انتحر، قيل مات مسموما، حادث ، جريمة، موت طبيعي؟ عندما لخبط أقرباؤه الجو، ولكي يرمي طبيب البلدية المسؤولية عن نفسه، أرسل أفرايم إلى الطب الشرعي لتحديد سبب الوفاة.
لاأدري كم مضى على أفرايم في المشرحة، لأنه أُحضر قبلي.
قال الميت الذي يعرف أفرايم:
-ما هذا ، يا هوه ، كتب لي أن ألتقي مع أفرايم هنا.. يقولون "الجبل بالجبل لا يلتقي، الانسان
بالانسان يلتقي".. مت بعده بثلاثة أيام، والتقيت هذا النحس هنا.
ذبابة الحمار الحبيبة ، ليس لي ثمة غرابة فيما حكيته. الغرابة تبدأ من الآن. يأخذون من جاء دورهم لتحديد سبب موتهم إلى التشريح ويتركوننا ننتظر في الصالة. بعض المشرحين يعاد
والبعض الآخر يبقى. أفرايم أعيد بعد أخذه بساعتين. كنت أول من لاحظ الفرق في أفرايم بعد إعادته ذاك المساء، انتفخ بطن ذاك الطويل الممعوص مثل طبل وهل ينتفخون لتشكل الغازات
في بطونهم. أخذوا أفرايم. إذاً لا بد أنهم حددوا سبب موته. نقلوه إلى الكنيس لإقامة مراسم الجنازة .بعد أن أعطي إذن بالدفن من الطب الشرعي.
وقعت الواقعة في الكنيس. هذه الأحداث حكاها لنا أفرايم نفسه لأنهم أعادوه بعد أخذه بساعات.
فَش ورم بطن أفرايم. كنا لا نرى سوى وجهه لأن عاملي المشرحة مددوا أفرايم على البلاط وكان مغطى بقماش أسود.
لم يعد أفرايم يسكت بعد أن كان لا يتكلم مع أحد. كان يحكي ما جرى على رأسه ضاحكا أحيانا وباكيا أحيانا أخرى.
وضعوا أفرايم في مكان خاص من الكنيس. امتلأ الكنيس بأقربائه كان الحاخام يسكب ماء في فم أفرايم في يد ويمسح على جذع أفرايم من رقبته إلى بطنه باليد الثانية. أثناء قراءته للأدعية.
قال أفرايم رداً على تساؤلات مستمعيه، أن الحاخام بهذه العميلة يرسل الميت إلى الآخرة نظيفاً من الداخل..
أثناء صب الماء وتمسيد الجسد وقع ما لم ير أو يسمع.. سقط طفل من بطن أفرايم. قطع
الحاخام دعاءه وتجمد وهو ينظر إلى الطفل، خيم صمت الدهشة على أقرباء أفرايم الذين ملؤوا الكنيس، ثم علا صوت كلامهم كأنهم أخذوا إيعازاً بذلك.
ذبابة الحمار الحبيبة، هذا انا أكتب لك حديث أقرباء أفرايم. فوق رأسه بالضبط كما حكاه هو نفسه:
-مات بسكتة قلبية. ولكن الحمل هو السبب.
-ما الذي جرى لعقلك، أفرايم رجل، وهل يحمل الرجل؟
-رجل ما رجل المهم حمل...
-مات الطفل في الداخل عندما لم يجد طريقا للخروج.
-مات عمي أفرايم بسبب التسمم الناتج عن الطفل.
-لا ياه.. أهذا معقول.. انظروا إلى الطفل عمره ما يقارب السنة.
-يعني، كبر في بطنه..
-لهذا كبر بطنه..
-ألم يحدث أن حمل رجل يا ترى؟
-هذه معجزة.
-ألا يمكن أن يكون الخال أفرايم (هيرما فروديت)؟ عندها من الممكن أن يحمل بنفسه.
أثناءها ، صاحت إحدى قريباته العجائز:
-كان ذكراً، كل شيء فيه ذكر..
لنقبل أن الرجل ممكن أن يحمل، أو من الممكن أن يحمل من نفسه. ولكن أقرايم في الرابعة والثمانين..
-أتقصد أن الولادة بعد هذا السن شيء معيب.
-من الممكن أن يكون غير جنسه بواسطة عملية جراحية.
-ما الذي تقولونه. وهل يبقى جنس عند من في الرابعة والثمانين.
-هذا هو بقي.. ألم يلد أمام أعيننا جميعاً؟
قريبته العجوز كانت لا تزال تبكي وتردد:
-كان ذكراً.. كل شيء فيه ذكر.
بينما كانوا يتكلمون بهذا الشكل فوق رأسه ظناً منهم أن الأموات لا يسمعون .همس بعض الأقرباء لبعضهم:
-جيد أنه مات قبل أن يلد.
-الحمد لله.. لو ولد الطفل...
-لو كان.. حياً..
-كان سيحرق نَفسنا.. كان سيرث كل أموال الخال أفرايم.
-ممن الطفل يا ترى؟
قطع أفرايم حديثه بعد أن حكى هذا وبكى.
بعدها حكى لأحد الأموات عن سبب بكائه فقال:
-يا ليتني ولدت ولم أُبق شيئا أورثه لأقرباء النحس هؤلاء..
سبب عودة أفرايم لنا أن أقرباءه أعطوا قرار بإعادة أفرايم مع الطفل الذي ولده في المشرحة ثانية.
استمعنا إلى أفرايم ونحن نقهقه ضاحكين ولكننا تقنا إلى معرفة سر الموضوع.
سر الموضوع – كما قال أفرايم – أنه عندما شكك أقرباؤه في سبب موته. أرسلوه إلى الطب الشرعي وفي نفس الوقت الذي كانوا يشرحونه لتحديد سبب موته كان هناك امرأة وطفلان.
قطع الأطباء وفرموا، ثم ذهبوا ليكتبوا تقاريرهم بعد أن حددوا سبب الموت، وبقي العمال، أحدهم شق بطن المرأة وحشا داخله بأحد الطفلين وبخياطة غليظة أغلق الشق. بعدها قال لزميله مشيراً إلى الطفل الثاني:
-ماذا سنفعل بهذا؟
-أدخله في بطن الختيار اليهودي.
شق العامل بطن أفرايم وحشاه بالطفل الثاني. خلاله بدا أنه صاحب مهارة في هذا العمل. هذا سبب انتفاخ بطنه بعد إعادته إلينا من المشرحة. كان الطفل الذي خرج من بطن أفرايم في الكنيس بجانبه تحت الغطاء الأسود. ما لم نفهمه سبب حشو بطن الرجل بالطفل. بعدها عرفنا السبب من حديث الأطباء والعاملين الذين أتوا إلى المشرحة. يحدد سبب الموت ثم يعطي الأطباء التقرير، بعدها يعطى ما يسمى رخصة دفن ولكي تعطى رخصة الدفن هذه يجب أن يكون للميت هوية، طبيعي، أما عليك أن تعرف من الذي تدفنه؟ فلهذا معاملة طويلة جدا. حتى يختصروا الزمن، يشق العاملون هنا بطن احدى النساء اللواتي أعطين رخصة دفن ويحشرون أحد الأطفال من الذين ماتوا قبل إخراج هوية في بطنها ليدفن معها.
نَبق الولد من بطن العجوز اليهودي كان نتيجة ضغط الحاخام أثناء تمسيده، صرخ رجل أظنه رئيس الأطباء:
-ما هذه المهزلة، سيرتنا على كل لسان، حتى الجرائد.. ما هذا الذي فعلتموه.
قال الرجل الذي وضع الطفل في بطن أفرايم ببرود:
-أنا مذ أتيت إلى هنا قبل عشرين سنة، ونحن نعملها ولم يقع شيء كهذا ..العادة هنا هكذا.. وقد تعلمتها ممكن كان قبلي. الحمد لله حتى الآن لم تأتنا أية شكاية.
لم أعرف كيف انتهت هذه القضية. ولكنهم أخذوا أفرايم في اليوم الثاني.
عندما كنت في حياتي أحكي لك عن حوادث غريبة كهذه كنت تقولين:
-من جهة وقوع الأحداث الغريبة فلا أنكر وقوعها، لكن ألا يجد هذه الأحداث إلا أنت ..!كنتِ لا تصدقينني. يمكنك ذلك الآن. ولكن إذا ظننت هذا.. فإنك تقدرين ذكائي. لأنه لا يوجد ذكي
– ولا حتى أنا – يستطيع أن يأتي بكل هذا الكذب. ذبابة الحمار الحبيبة، حقائق الحياة أغرب من أي خيال .
ولنر أيتها الحياة ماذا سترينا حتى الموت
أتركك بخير يا ذبابة الحمار الحبيبة.
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

السبت، 18 مايو 2013

الحياة المسلية في المشرحة


الرسالة الخامسة عشرة

عزيزتي ذبابة الحمار:
أخذوني – نهائياً – إلى المشرحة. تصوري، براد كبير بحجم صالون ، المشرحة شيء كهذا. يدخل إلى الصالة، المشرحة هذه . من باب.. هناك باب آخر يؤدي إلى المكان الذي يقطَّع
ويفرم فيه الأموات. في المشرحة يحدد سبب موت الميت. هناك باب آخر يؤدي إلى خزان كبير. خزان ماذا؟ خزان ماء معالج، يغطس فيه الأموات المقطعين على شكل أذرع ورؤوس.
ستفهمين فيما بعد سبب شرحي المفصل لمخطط المشرحة.
بعد أن مددوني بين الأموات الآخرين بقليل، دخل خمسة – ستة أشخاص. من حديثهم فهمت أنهم أطباء. وعاملوا الطب الشرعي. في قعر الخزان تشققات تُسرب الماء المعالج. كانوا يتكلمون في موضوع كيفية صيانته. يبدو أنه أتى من يحاول تصليحه عدة مرات، وعندما يرون الأموات متمددين في المكان الذي أنا فيه. يهربون تاركين أدواتهم.
ما كانوا يتكلمونه: "كيف يمكن صيانة الخزان دون رؤية المصلحين للأموات؟ لمكان الخزان بابان. سيغلق الباب المؤدي إلى الصالة التي تحوي الأموات. بالتالي لا يرى المصلح وصبيته
الأموات. يستعملون الباب الآخر لمكان الخزان.
خرجوا بعد اتخاذهم هذا القرار . بقيت في البراد ذاك ثلاثة أيام. لا أذكر أنني ضحكت وتسليت كما في تلك الأيام الثلاثة.
كان يأتي إلى الطب الشرعي بعض من يبحث عن أحد أفراد عائلته أو قريبه، ممن هم في عداد المفقودين، أو القتلى ، فيفتح له باب المشرحة يفرجونهم الموتى. يعرض أحياناً، الموتى المجهولو الهوية من أجل تحديد هويتهم. لهذا كان باب صالتنا كثيراً ما يفتح ، ويأتينا زوار.
مثل عميلة التفتيش. ينحنون علينا، ينظرون في وجوهنا ليعرفوا فيما اذا كان الشخص الذي يبحثون عنه. ثلاث مرات، كادوا يأخذوني. إذا وجدوا الميت الذي يبحثون عنه، يأخذونه لعمل
مراسم الجنازة. كان سيأخذني رجل على أنني زوجته التي تركت له ثلاثة أطفال وهربت، ولكن بما أن جنسي مدرج في قائمة الطب الشرعي ذكر، لم يعطوه إياي. عرضوني على امرأة تبحث عن بنت هاربة لها، في الثالثة عشر من عمرها .وأخرى هاربة بعد أن قتلت أمها بالسكين. لم اعجبها فلم تختارني.
دخل شاب مع أحد موظفي الطب الشرعي إلى الصالون الذي نحن فيه. فهمت من كلامهما أنها ساعة الانصراف .وأبواب الطب الشرعي على وشك الإغلاق. ولأنه جاء من مكان بعيد جداً ليتعرف على جسد ابن أخيه الميت، توسل إلى رئيس الأطباء فأذن له بالدخول. دخل الموظف وأشعل النور وذهب بعد أن قال للشاب: "ابحث عن ابن أخيك.".
طالت فترة استعراضه وجوه الأموات .لم يجد ابن أخيه مشى يائساً إلى الباب. لم يستطع فتح الباب. لأن حارس الطب الشرعي، قفل الباب الحديدي الضخم ناسياً الشاب في الداخل. لَكم الشاب الباب الحديدي، لكمه ، لكمه، دون جدوى. إنه رجل جريء، لكنه خاف إلى حد لن تري مثله، كأننا نحن الأموات أغلقنا الباب عليه فكان يبكي دون أن يقترب منا أو حتى يلتفت لجهتنا. سكت فجأة. لم يصدر (تك) لا منه ولا من الأموات.. الباب لا يفتح إلا في حال جلب ميت جديد. يجن الرجل لحينها . وسيموت من البرد إذا لم يجن.. درجة الحرارة في الداخل خمس عشرة تحت الصفر. الرجل شجاع، ليس شجاعاً بكل معنى الكلمة لكنه ذكي.. كان يرتجف ويتعالى صوت صدى اصطكاك أسنانه ببعضها في ذاك السكون. المهم أنه يملك بعض المعلومات الفنية أخرج علبة السجائر وأخرج منها ورقة التغليف الداخلية وأدخلها في مكان ما من محرك جهاز التبريد فأحدث تماساً فوق المحرك وبالتالي توقف البرد. لكي لا يموت، أمضى الوقت حتى الصباح يركض بين الموتى. الفرجة الحقيقية كانت عند الصباح عندما فتح الحارس الذي قفل الباب ناسياً الرجل في الداخل. فوجد رجلاً حياً أمامه وبدأ يركض وهو يصرخ، ظاناً أن أحد الأموات قد بعث.
ركض الشاب وهو يصرخ للحارس لكي يقفل الباب بعد خروجه.
-قف.. يا هوه.. قف.. أنا لست ميتاً.
لكي لا يقف الحارس مرة أخرى كان يقف الشاب مقابل الحارس من جهة الباب وجرت مطاردة بين الأموات.. أية فرجة.. آه لو كنت حياً. لأضحك من كل قلبي. المهم دخل موظفون آخرون، وفهموا الوضع، لكن لسان الحارس ارتبط وبدأ يتأتئ.
لا تنتهي تسليتنا في المشرحة أبداً. في ذاك الصباح أتى مصلح مع عاملين لصيانة الخزان، كان الرجل لا يرى الأموات لأنهم أغلقوا الباب المؤدي إلى الصالة. نحن أيضاً لا نراه. ولكن
فهمنا أنه صاحب مزاج من خلال الأغاني التي كان يرددها وهو يعمل.
أمر المعلم صبيه بإفراغ الخزان.
من أين للرجل أن يعرف أنه نُسي في قعر الخزان بعض أعضاء الجسم المقطعة كالرؤوس والأذرع والأرجل.. سمعنا صراخ العامل ..
-دخيلك يا معلمي الحقني...
أظن أن الصبي كان يفرغ الخزان فأحس بيده وجود شيء ما، فسحبه. وكان سحبه يداً يصافحها وكلما سحبها كانت تسحب معه. لم يكد الصبي ينهي صرخته حتى طاف على سطح الماء رأس إنسان. أغمي على الصبي وسقط بين الأذرع، الأرجل والجذوع المقطعة. صحا المسكين عندما سقط في ماء الخزان المعالج، ثم أغمي عليه من جديد عندما رأى نفسه بين قطع الإنسان تلك.. أما المعلم، فهرب وهو يولول. نحن لم نسمع سوى ولولته. أتى فيما بعد إلى مكان الخزان الأطباء، الموظفون والعمال.
كان المعلم يقول مكرراً : "لا أعمل مهما أعطيتموني لا أعمل هنا."
لم يستطيعوا صيانة الخزان، طوال الفترة التي قضيناها هناك، لا بد وأنهم أصلحوه بعد خروجي. كان يمر وقتي جميلاً مسلياً في المشرحة. كنت أتمنى وجودك معي كنا تسلينا معاً. كم من
الأحداث التي مرة على رؤوس الأموات الذين هناك غريبة مضحكة.
لقد سررت لموتي، كوني استطعت أن أستمع إليهم وأتكلم معهم . يا للأسف.. لم يتركوني هناك أكثر من ثلاثة أيام. كنت أرغب في سماع حكايات كل الأموات الذين هناك.
سأحكي لك في رسالتي القادمة ما سمعت من أحداث غريبة
لك محبتي وأجمل تحياتي
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

الجمعة، 17 مايو 2013

تبديل الميت الشاب بالميتة العجوز


الرسالة الرابعة عشرة


صديقة الروح ذبابة الحمار:
تعرفين إذا ما علِقت معاملة ما على طاولة في دائرة، كم من الأيام والشهور تبقى معلقة، هكذا علِقنا في قبو المشفى. فُتِح الباب في صباح أحد الأيام. تصايح الموتى..
-سنذهب إلى المشرحة، إلى المشرحة.
كتبت لك أن الأحياء لا يسمعون صوت الأموات. مثل الذين يعيشون في الدنيا لا يسمعون صوت من يظنون أنهم يعيشون.
دخل مستخدمان مع قروي في متوسط العمر. القروي يصرخ:
-أين ولدي؟
قال أحد المستخدمين:
-لن نأكل ولدك، ياه لماذا تصرخ؟ إذا لم يكن في أحد أجنحة المشفى فهو هنا بالتأكيد. كان القروي يقول:
-راح ولدي عينك، عينك.. ادخلته المشفى ويقولون أنه غير موجود. لا بد أنك أدخلته مكان آخر ..جّننوني.
قال المستخدم:
-وهل في استانبول وضخامتها مشفى واحدة؟ كيف تثبت أنك أدخلته إلى هنا. هنا مكان مثل البنك لا يمكن أن تضيع أمانه، ما عدا شراشف وبيوت لحف أسرة الدولة.
قال المستخدم الثاني:
-اذا كنت أدخلته إلى هنا، فهو هنا. لم نأكل ولدك، ياه. الأبواب مغلقة لا يستطيع الطير الخروج.
قال القروي:
-انا أدخلت ولدي إلى هنا، معي رقمه، هذا هو.
أخذ المستخدم الورقة المسجل فيها الرقم وبدأ البحث بين الموتى.
وقف عند رأس أحدهم وقال:
-هذا هو ولدك.. ( ما قلت ( لك أن لا شيء يضيع هنا. لو وضعت الذهب لا يأخذه أحد.
مشفى مثل البنك.. البحث عن رجل في المشفى، مثل البحث عن رقم ورقة اليانصيب في قائمة الاصدار. ستبحث في الأرقام المنتهية أولاً . بعدها في الأرقام الكاملة. إذا دخلت على مشفى فابحث بين الأموات بعدها بين الأحياء في الأجنحة.. هذه من أساسيات قواعد المشافي.
كانا يريانه المرأة العجوز على أنها ولده، نظر الرجل ثم قال:
-هذا ليس ولدي.
غضب المستخدم:
-ماذا تعني؟ أنكذب؟. الرقم نفسه.
قال القروي:
-الله، الله،.. ياهوه.. هذا لا يشبه ولدنا بالمرة.
-كم بقي ولدك في المشفى؟
-يوم الجمعة يكمل الأسبوعين.
هز المستخدم رأسه:
-لا حول.. يا أخي هذا مشفى، ينام الرجل في المشفى أسبوعين وتريد بعدها أن يعرف لو أدخلته مشفى خاصة يسمن فلا تعرفه. لو أدخلته مشفى عامة يضعف، فلا تعرفه ما هذا؟ مشفى.
لم يقتنع القروي بأي شكل:
-يا أخي ، خربطنا بهذا الولد يوم ولادته في مشفى التوليد. صار هناك خربطة، بدلوا لنا الولد لا تتبدل جثته هنا مرة أخرى.
-يا أخي الرقم نفسه، هذا هو.
انحنى القروي على المرأة العجوز وصرخ:
-يا لطيف!.. ياهو.. هذا ليس ولدنا، هذه حرمة، حرمة ختيارة,
فكر المستخدم قليلاً:
-يا هوه، ظهرت عملية جديدة، يجعلون الرجل إمرأة والمرأة رجلاً. يغيرون جنس الواحد، واضح أن ابنك غير جنسه.
القروي لم يقتنع.
-جميل يا أخي، كله ماشي. ولكن ابننا كان في العشرين. هذه حرمة مهترئة.
-الله .. الله ، عاش يا أخي. وهل الأطباء سيقتلون ابنك شاباً. أعطوا ولدك اسبيرين، كينين فأحيوه، بعدها ختيروه ثم قتلوه. خذه يا أخي، خذه من هنا.
حضن القروي المرأة العجوز على أنها ولده وبدأ النحيب.
-دخيلك يا بني، آه يا بني.. ما عرفتك. واخ يا بني.
وضع المستخدمان المرأة على نقالة وأخرجاها.
قال احد الأموات:
-ياهوه.. كم هذه المرأة محظوظة. خلصت وذهبت .ماذا يحدث لو طلع لي قروي وجعلني أمه أو حماته وأخذني من هنا.
سألت الميت المتكلم:
-أتعرف ماذا حدث لابن القروي؟
قال:
-أول البارحة أخذوه إلى المشرحة ولم يردوه. استغرب الأطباء موته. رأيي أن لا يستغربوا موته بل حياته، كيف يعيشون. أليس كذلك؟
أختي الحبيبة ذبابة الحمار. أتوق لمعرفة ما يحدث عندكم وما يقال عني. هل يقال "فقد لا يملأ مكانه" أم "نقص أحد الميكروبات؟" ليقولوا ما يقولوه. مت ياه. ليطُّق غيره من بقي بعدي. أنا
في المقدمة . تذكرت، كان لنا صديق شاعر ، نسيت اسمه ألا يزال هذا الغبي يظن نفسه يعيش. مع السلامة يا أختي ذبابة الحمار.
أخوك حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

الخميس، 16 مايو 2013

حكاية الأموات



الرسالة الثالثة عشرة

عزيزتي ذبابة الحمار:
لا يخلص الإنسان من أيدي الأحياء حتى ولو مات. يخطر لي أحياناً أن أصرخ "كفى، خلصوني وادفنوني "ولكني لا أفعل لأنني أعرف أن لا أحد يسمع صوت الميت. هناك الكثير مثلي من منتظري دورهم للذهاب إلى المشرحة من أجل معرفة هويتهم، لتحديد أسباب موتهم، فيما إذا كان مشكوك فيه. من بين هؤلاء الأموات ثلاثة مدهشون. واحد يضحك دون توقف والثاني يبكي أشد البكاء والثالث أخذ وضعية المفكر دون حراك. ذهبت إلى جانب الذي يضحك منذ أتوا بي إلى هنا:
-اعذروني يا سيدي أحببت أن أعرف لماذا تضحكون كل هذا الضحك.
أختي ذبابة الحمار. ضِحك الميت شيء غريب جدا. افرضي أمامك رجل ويتشقلب لشدة الضحك.
لشدة ضحكه، لم يستطع الميت إجابتي كأنه ماكينه قهقهة شغالة. يضحك ماسكاً حالبيه دامعةً
عيناه. ثم أخرج صوته قائلاً:
-أي سأدوخ.. دخيل الله، أوف..
من خلال ضحكه حكى لي قصته بشكل متقطع:
-شيء لا يمكن ألا يضحك.. ذهبت مع زوجتي ليلة الصباح الذي مت فيه إلى المسرح.
زوجتي تلح علي منذ زمن قائلة" :لنذهب إلى المسرح، ونحضر مسرحية كوميدية تفتح نفسنا." اشتريت بطاقتي مسرح لعرض كوميدي، ذهبت وزوجتي إلى المسرح بدأنا بالضحك فور فتح الستارة. كانت كوميدية مضحكة .ضحكنا ضحكا لا يمكن وصفه.. كدنا نختنق من الضحك. الغريب، أنه لا يوجد ثمة من يضحك في الصالة سوانا. اترك الضحك جانباً، الجميع كانوا يبكون. قال أحد المتفرجين في منتصف الفصل الثالث: "يا سيدي كفي، أرجوكما كفى ضحكاً." تحركت زوجتي قبلي. قالت :لِم لا تضحك، دفعنا نقوداً، ألسنا نضحك بنقودنا؟..
أخرجونا من الصالة في منتصف العرض صاح بنا المتضايقون من ضحكنا. لماذا تضحكون؟
لِم لا نضحك، أتينا نحضر عرضاً كوميديا سنضحك بالتأكيد"... قالوا: "اية ، كوميديا، هنا لا تعرض كوميديا بل تراجيديا." نحن نضر على أن العرض كوميدي وهم على أنه تراجيدي. صاحوا بنا "أغبياء !"أنتم الأغبياء. تبكون في عرض كوميدي". نظرنا في إعلان المسرحية لنعرف فيما إذا كان العرض كوميديا أم تراجيديا. كُتب في الإعلان تراجيديا. عندها فهمنا الخطأ بدلا من شرائي بطاقات عرضٍ كوميدي، اشتريت خطأً بطاقات عرض تراجيدي. كنت وزوجتي نضحك ظناً منا أننا في عرض كوميدي. هناك ناقد مسرحي قال: أنتما على حق، أتيتما إلى المسرح، دفعتما نقوداً لتحضرا عرضاً كوميدياً. كنتما تضحكان لنيل مقابل ما دفعتماه. أو بالأحرى لتخففا ألمكما على ما دفعتماه، أعطيتما قراركما وهيأتما نفسيكما للضحك .المتفرجون الباكون أيضاً على حق. دفعوا نقودهم لكي يبكوا لذا بكوا لنيل حقهم مقابل ما دفعوه من نقود، هم أيضاً أعطوا قرارهم وهيأوا أنفسهم للبكاء منذ اشتروا بطاقاتهم.
لا أنتم ضحكتم ولا هم بكوا بتأثير العرض الذي شاهدتموه. لو لم يكن ثمة عرض، لو تحركت الستارة بفعل الريح، دون فتحها ستضحكان قائلين "كم مضحك". هم سيبكون قائلين "كم مؤلم"
كيف يضحك الناس في عروض مسرحية تُبكي، يسمونها كُتابها كوميديا؟ ..ماذا سيفعل الجمهور المسكين، أخذوا نقوده منذ البداية قائلين له "سنضحكك" لو كان الجمهور لا يدفع نقوداً وهو داخل المسرح بل وهو خارج منه، سنرى أدعياء كتابة الكوميديا فيما إذا كانوا سيضحكون متفرجاً واحدا" أفهمت لماذا أضحك؟... هذا هذا هخا .. آي.. سأدوخ.. يا لغباء البشر. سأطق من الضحك.. ها ها ها .. ها ها ها ... ها ها ها..
ذهبت للميت الباكي أشد البكاء وقلت:
-أظن أنني فهمت لماذا تبكون. من المحتمل أنكم ذهبتم إلى المسرح وحضرتم كوميديا على أنها تراجيديا.
مسح الميت دموعه وأنفه وقال ساحباً الكلمات واحدة ، واحدة:
-لا، إذا لم أبكِ فمن سيبكي؟ ..قبل أن أموت كنت من قراء جريدة "الطريق الصحيح" كتب أحد كتاب المقالة، زاوية بعنوان" فقدان غال" يومها مات شخص مهم ذو قدر. كتب الكاتب عن ذاك الفقيد. لم أقرأ في حياتي مقالة بهذه المرارة حتى أنني لم أستطع إنهاء المقالة، كلما قرأت كلمة تسيل دموعي أكثر. كتب "خالد في نفوس البشر!.. خدماته للإنسانية.." ذهبت إلى مبنى الجريدة بعد قراءة المقالة بهذا الجمال لمت الآن." قال الكاتب "لا تشغلوا بالكم، جمال الكتابة حسب نقودها" ، دفعت حسب طلبه.
كانت عينا الميت متورمتين وتدمعان دماً لشدة البكاء. قلت:
-ارحم نفسك لا تبك.
-كيف لا أبكي، هذا أنا متُ.. لكنه لم يكتب من بعدي ولا حتى سطرين. يموت الإنسان أحياناً على الفاضي.
سألته:
-من هو الشخص الذي كُتبت عنه تلك المقالة؟
قال الميت وهو يمسح دموعه:
-لا أعرف ..رثاؤه كان مؤلماً. يومها حاولت أن أعرف، سألت هنا، وهناك "من ذاك الرجل" لم أجد من يعرفه.
-لم تبكون الآن ؟ لقد متم.
-كيف لا أبكي.. لا أستطيع أن أنسى تلك المقالة المنشورة في جريدة "الطريق الصحيح". كلما تذكرت المقالة لا أتمكن من مسكِ نفسي عن البكاء.. سأبكي دائماً..
ذهبت إلى جانب الرجل الذي أخذ وضعية المفكر .قلت:
-عفوكم، منذ قدومكم وأنتم تفكرون، أثرتم فضولي، بماذا تفكرون يا ترى؟
قال:
-أفكر في كوني إنساناً أم لا.
قلت:
-كيف! أنتم إنسان بالطبع.
-ظننت نفسي كذلك، ولكن لم أستطع إثبات كوني إنساناً لأحد.
لأحكي لكم:
لو صرخنا ، أو ولْولنا هل يسمعنا الأحياء من البشر؟ لا يسمعون .. لأننا أموات، نتكلم لغة الأموات، ونصرخ صراخ الأموات. يحدث ما يشبه ذلك في عالم الأحياء .هناك الكثير من
البشر يصيحون ويولولون ولا أحد يسمعهم لأنهم غير معروفين إن كانوا أحياء أم أموات، لا يفرقونهم عنا، لا يحسبون على معشر البشر في تلك الدنيا المظلمة إلا في الإحصاء، الانتخابات، دفع الضرائب، خدمة الجيش. كم شخصاً يجيب على سؤال "هل أنت انسان؟" وهو مرفوع الرأس نافخ الصدر. لكل شيء شروطه. شروطه الانسانية، أن يعيش الانسان مثل الانسان. أينما ذهبت كانوا يحقرونني قائلين "أأنت إنسان؟" لم أستطع الإجابة على هذا السؤال طوال حياتي. أمضيت باذلاً جهدي لكي أعيش حتى إنني لم أجد فرصة في التفكير كونى إنساناً أم لا. الحمد لله إنني مت ووجدت الفرصة للتفكير. الآن أفكر: "عندما كنت في الحياة هل كنت إنساناً أم لا؟"
قلت:
-بعد كل هذا التفكير هل وجدتم إجابة لسؤالكم؟
قال:
-لا، أفكر وأفكر ولا أستطيع الوصول إلى نتيجة. لو كنت إنساناً لعشت مثل الإنسان، فأُسمع صوتي للآخرين. ولو لم أكن إنساناً لما طُلب مني أن أُعطي صوتي الانتخابي أو أن أعمل أو
أدفع ضريبة.
بعد أن استمعت للميت المفكر، أخذني التفكير أيضاً. نحن أيضاً من فريق الذين لا يستطيعون إسماع صوتهم، أغانينا نغنيها دون صوت، في داخلنا...
هكذا يا أختي الحبيبة ذبابة الحمار. ستغوصين بالتفكير بعد استلامك هذه الرسالة لعلك تضحكين في عرض مسرحي تراجيدي لأنك اشتريت البطاقة على أن العرض كوميدي، أو تبكين عندما تتذكرين المراثي المكتوبة لأشخاص لا تعرفينهم.
قولي للذين كانوا يقولون لي في حياتي "لتلسعك ذبابة الحمار من لسانك" أن يحنوا أيديهم.
مع تمنياتي بالصحة والعافية
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

الأربعاء، 15 مايو 2013

البحث عن قبر جميل فخم يناسب شرف العائلة

الرسالة الثانية عشرة

ذبابة الحمار الحبيبة:
لا أدري فيما إذا كانت رسائلي قد ضايقتك. لعلك تقولين لنفسك "لو مات رسمياً وخلصنا منه" آه لو مت رسمياً، وخلصتُ، وخصلتِ أنت أيضاً.. ولكن، كما ذكرت لك سابقاً، لا العيش سهل ولا الموت سهل، لعل الموت سهل لكن الميتة رسمياً تطول لا تقولي، وهل تبقى معاملات رسمية بعد الموت.. موجودة متِ أم لم تموتي. عرفت من أصدقائي الأموات الذين معي في القبو تفاصيل (الموت رسمياً). بينما كان مستخدمان يخرجان ميتاً قالت المرأة المتمددة بجانبي:
-أي حظ لهذا الرجل، هذا هم يأخذونه ولم يمر أربعة أيام على إحضاره إلى هنا. لو تنتهي معاملتنا ونخرج من هنا. لا بد أن مع هذا الرجل (كرت (واسطة!
قلت للمرأة:
-ما الذي تقولينه يا خالة. نحن هنا كلنا أموات وهل للميت حظ، (كرت ) واسطة أو معاملة.
قالت:
-طبيعي أنتم هنا جدد، لذا لا تعرفون، أخذوني مثلا في اليوم الذي مت فيه، طلبوني للجيش ضحِكتُ بشدة. قالت المرأة العجوز:
-هس، لا تزودها، لا يليق بالأموات أن يفعلوا فعل الأحياء.
-ماشي، ولكنك تبدين في الستين من عمرك على الأقل، عدا عن أنك امرأة.
-عمري سبع وستون سنة. يتوجب على أولادي إثبات سني بالأدلة حتى لا يسحبوني إلى الجيش، ثم يجب أن أحصل على قرار المحكمة بكوني امرأة. بعدها يّثبت موتي وإلا سيسحبوني إلى الجيش.
-لماذا لا يتحرك أولادك لعمل هذه الأشياء؟
-تحركوا كثيراً. أثبتوا أني امرأة في السابعة والستين من العمر. ولكن ليس من صالحهم أن يثبتوا موتي.
-لماذا؟
-لأن بطاقة الفحم باسمي، تعرفون ما أصعب إخراج بطاقة فحم جديدة. عندي حق استلام طن من فحم الكوك كل شتاء. يبطلون البطاقة فيما إذا علموا بموتي. الله أعلم كم شتاء سيرتجف
من في البيت لشدة البرد. لا يريدون إثبات وفاتي يستمروا باستلام الفحم .سيسوقونني إلى الجيش إذا لم يثبتوا وفاتي من جهة ولا يحصلون على إرثهم مني، من جهة أخرى. هذه عقدتي المستعصية. أولادي احتاروا، بين أن يتنازلوا عن الميراث وبطاقة الفحم أو يرسلوني إلى الجيش... لم يستطيعوا إعطاء قرار. لهذا أنتظر.. انظر، أترى ذاك الشاب، قبل أن يموت بيومين صدر قرار بالقبض عليه. لهذا ينتظر هنا... من أين لهم أن يفهموا أنه متمدد على أنه ميت ليتخلص من السجن؟..
-ألا يفهم الأطباء؟
الله يا بني الأطباء لا يفهمون في الأحياء من أين لهم أن يفهموا في الأموات.. انظر تلك المرأة المتمددة عند حافة الجدار، ماتت وبعثت تسع مرات. تتمدد بطولها على الأرض قائلة "لم يبق
لهذه الدنيا طعم أو نكهة، أصبحت لا تطاق "..يوصلونها حتى المدفن، عندها ترجع بقرارها وتنهض.
-لو كنت مكان الأطباء، لأسرعت في دفنها.
-يووه، ليس عند الأطباء وقت يحكون فيه رأسهم، يأتون كل صباح يستعرضون المرضى حتى الساعة الحادية عشرة . لذلك، أحضروا المرأة إلى هنا لتنتظر، عندها يفهمون إن كانت قد ماتت نهائياً. ثم ينهون معاملتها ويدفنونها .
في تلك الأثناء خرج صوت خشن، قال:
-تطول المعاملة..
نظرت وإذا بميت عجوز حسن الهندام يتكلم ، فقلت:
-وهل متم أيضاً؟
قال بصوت فيه قوة وصلابة:
-لا لم أمت. توفيت. ألا تقرأون الصحف؟
-أقرأها.
-ألم تقرأ نبأ وفاتي في الصحف؟ كل الصحف كتبت..
قاطعته قائلاً:
-مقالة؟
-لا . صفحتين لإعلان وفاتي، طلب إعلانها كل من عائلتي، شركاتي والشركات التي أسستها. لو كان الإنسان أعور لرأى كل هذه الإعلانات.
-لم ألحظها.
-صدقوني، جمال إعلانهم عن وفاتي جعلني في غاية السرور من الوفاة.. الإعلان بذاكرتي.. سأقرأه غيباً.... "فقدان غال" "فقدان مؤلم" "والدنا ، زوجنا، حمونا، ابننا، صهرنا، أحد رجال
الأعمال في بلدنا، مؤسس شركة "خذ وهات" أحد كبار مساهمي شركة "تعال خذ" أحد أحفاد الصدر الأعظم سليمان صولو باشا حفيد محمود باشا، ابن أخت قاسم باشا أخو صهر بيرم باشا...
كان سيعد قائمة بطوله لكني قلت:
-لقد عرفت حضرتكم يا سيد، لا تكلفوا أنفسكم جهداً، إنكم منهم ..
استمر الرجل:
) -إرتحل إلى دار البقاء ، للقاء وجه ربه الرحمن الرحيم في استراحته الأبدية(..
صرخت:
-عرفتكم يا سيدي، عرفتكم.. ولكن لماذا تنتظرون هنا وهل لأمثالكم معاملة؟
-لم يجدوا لي قبراً. طبيعي لدينا مقبرة العائلة، لكنها قديمة، والفقراء يدفنون أمواتهم فيها.
سينشئون لي قبراً في المقبرة الجديدة، ولكن لم يبق مكان قبر في الدرجة الممتازة. تعلمون على أية حال أن أمكنة القبور اليوم في السوق السوداء. هناك خارج السوق السوداء بعض
القبور ولكن أمكنتها غير جيدة. لن تعجب عائلتي. يبحثون عن مكان قبر جميل المنظر.
-ما أهمية جمال مكان القبر بعد موت الإنسان.
-ليس من أجلي بل من أجل من سيزورونني، يريد أقربائي عند مجيئهم – حاملي الورد – لزيارتي أن يقفوا ليبكوا ويعبروا عن تأثرهم في مكان جميل .على الأرجح سيبكون أنفسهم
أكثر مني قائلين: "ذهبت وتركت هذه الدنيا الجميلة" . لذا يجب أن يكون منظر قبري أمامهم جميلاً.. إذا كان منظر القبر قبيحاً فعلى ماذا سيبكون، ليس هذا هو السبب الوحيد بالطبع. هناك شرف العائلة. يريدون قبراً يناسب شرف عائلتنا.. عندما يصل الموضوع إلى الشرف يجب أن يشتروا مكان قبر من السوق السوداء .توفي أحد مؤسسي الشركات المنافسة لنا قبل ثلاثة أشهر. وجدوا له في السوق السوداء مكان قبر جميل جدا لو اشتروا لي قبرا أرخص من قبره سيتمرغ شرفنا بالتراب من جهة وينخفض اعتبار شركتنا من جهة ثانية. أفهمتهم؟ لهذا السبب يبحث شركائي عن مكان غالٍ جداً.
-هل وجدوا؟
-أمن الممكن ألا يجدوا؟ اشترت شركتنا كافة أمنة القبور في السوق السوداء هذا يعني أنني؟ أنا اشتريتها. الأمكنة عندنا. إذا أسرعوا بدفني سينزل سعر أمكنة القبور في السوق السوداء.
يمطونها قليلاً للدعاية، وبالتالي ترتفع أسعارها.. فهمتم؟
-فهمت يا سيدي...
أختي الحبيبة ذبابة الحمار كم من الأشياء هنا يكتب عنها ليس لدنيا الأحياء مكان جانب دنيا الأموات. يخطر ببالي أحياناً أن أعود عن الموت. لو كنت أعرف أن الموت صعب كل هذه الصعوبة لما عّلقت نفسي، سأتنفس الصعداء لو انتهت معاملتي ومت رسمياً.
أختي ذبابة الحمار إذا أردت أن تموتي فاختاري الوقت المناسب. إذا استمرينا على ما نحن عليه، ستصبح فيه كل القبور في السوق السوداء. ماذا ستفعلين حينها؟ لا تستطيعين أن تموتي.
أقبل عينيك بشوق.
سلام ومحبة
حمار ميت
عزيز نيسن

الثلاثاء، 14 مايو 2013

كيف نجح أحد أفراد الطبقة الراقية في قتل نفسه

الرسالة الحادية عشرة

ذبابة الحمار الحبيبة:
من وجهة الموت فقد مت. ولكني لم أمت رسميا. أثناء كتابتي لهذا السطر، أكاد أسمعك تقولين "ما أصعب العيش (رسمياً) والموت (رسميا) أيضاً.
كان هناك بعض الأموات في قبو المشفى البارد إلى ماتحت الصفر. يوجد على يساري ميت متوسط العمر. وعن يميني امرأة عجوز ميتة سألت الرجل الميت:
-لماذا متُّم يا سيدي؟
خاطبته بالجمع واتبعتها بسيد، لأنه حتى بعد موته، لا يزال منفوشاً بشكل مضحك، وبينما كنت أنتظر جوابه وإذ به يقطب وجهه ويديره إلى الجهة الأخرى. وقال، وكأنه يحادث نفسه "لهذا
لم أكن أحب الموت. يموت الناس فلا يبقى بينهم فرق طبقي. هنا يلتقي الجميع بين سيد وخادم. من عرف جده ومن لم يعرف. أي نوع من البشر هؤلاء. رجل لم تتعرف عليه بعد،يسألك عن سبب موتك، الموت غير مهم ولكن الاجتماع بأناس لا يعرفون الأصول، هو الشيء الذي لا يطاق"..
همست المرأة التي على يساري:
-السيد من الطبقة الراقية.؟
خجلت لسؤالي المباشر الذي خرج كما لو أن شيئاً سقط من السطح قبل أن أُعرف بنفسي.
بعدها بقليل، عرفت بنفسي. لم أفهم عمله بشكل واضح. ما فهمته أنه يعمل كل شيء دون أن يعمل شيئاً. ثم حكى عن موته:
-انتحرت.
-هل من السهولة أن يقتل الإنسان نفسه؟
غضب الرجل الراقي مرة أخرى لأن شاباً دخل في الحديث ظاناً أن السؤال موجهاً له.
-الانتحار أصعب من العيش فكرت أن أرمي بنفسي في البحر . فتشت سواحل اسطنبول، طرفيها الأناضولي والرومي ولن أجد قطعة ولو صغيرة، غير مشغولة، لأرمي منها نفسي.
سيطر الأغنياء على كل سواحل اسطنبول (شاليهات)، (فيلات)، (كازينوهات)، حدائق وأرصفة خاصة...
قطب الرجل المنفوش وجهه كما لو أنه يشم رائحة كريهة. وبدأ يخرج صوت "جق ، جق، جق" وقال:
-أمثال هذا الشاب هم الذين جعلوا من بلدنا الجميلة لا تطاق.. ولكن الشاب الميت لم يهتم لكلامه وتابع:
-وضعوا هنا وهناك لوحات "ممنوع "خاصة مثل "ممنوع الدخول إلى البحر من هنا". "ممنوع المرور من هنا" وكأنها لم تكف حتى يضعوا لوحات "يوجد كلب" ليس كلب بل وحش. إن كنت شاطراً، مر وأرمِ نفسك في البحر.. أن ترمي نفسك في البحر شيء، وأن تجعل كلب يمزقك شيء آخر . وجدت شاليه من دون كلب ودون لوحة منع. قلت لصاحبها "هل تأذنوا لي باسم الانسانية أن أرمي بنفسي في البحر من هنا.." بدأ الرجل ينصحني "هل يترك الإنسان هذه الحياة الجميلة وينتحر "!عندما قال "الجميلة" كان يشير إلى أزهار حديقته واشجارها، بركة الماء، (الشاليه (المكسوة بالمرمر.. لم أجد في الساحل مكاناً أنتحر فيه..
قلت:
-لو كنتم ذهبتم إلى أحد (البلاجات.)
-من الواضح أنكم لم تذهبوا إلى بلاج منذ فترة طويلة.. فكرت بالذهاب إلى أحد البلاجات لعلي أجد مكاناً عميقاً أرمي نفسي فيه، ولكن أين.. لا يمكن أن ترى البحر لكثرة الازدحام. رميت بنفسي من رصيف على البلاج وإذ بصوت يأتي من الأسفل "هيش" وإذ بي أنزل نكساً في بطن رجل. قلت،لأركب السفينة وأرمي بنفسي منها في البحر. وهذا لم يتحقق أيضاً.. لو صادفك الحظ وركبت السفينة فإنك لا تستطيع الحراك وسط الناس لكي تصل إلى طرفها، وإذا وصلت لا تستطيع أن ترمي نفسك في البحر. لو فعلت، لعلقت يداك ، رجلك. وإذا لم تعلق أمسكوك وأنت في الخلاء، وإذا وصلت إلى الماء لأخرجوك. بالمختصر المفيد الانتحار غرقاً في اسطنبول أمر غير ممكن. جربت السم. شربت أكثر السموم تأثيراً . لم أمت. شربت كمية أكبر. لم أمت. بل اترك الموت جانباً، كلما شربت السم تزداد قوتي. سألت أحد معارفي الأطباء عما إذا كان ثمة من لا يموت بالسم .قال نعم، هناك بعض سكان اسطنبول، ألفوا السم، المزابل المتروكة، غازات السيارات، الدخان، الغبار، حومات الماء الوسخ، هذه الأشياء كلها سموم ولكن الناس تعودوا عليها، حتى إن أقوى أنواع السموم لا تؤثر فيهم. سكان منطقة الخليج* يختنقون لو أخذتهم لمكان نظيف الهواء.
-قال ابن الطبقة الراقية:
-هل فهمتم الآن ، سبب انتحاري؟
-لم أفهم.
قال:
-أصبحت الحياة في بلادنا لا تطاق.
سألته:
-لماذا؟
-استمعتم للرجل كل هذا الوقت.. هل يعاش مع إنسان كهذا.. لم يعد هناك من يعرف حده على كل شخص أن يعرف موقعه الاجتماعي. إذا أتى القدم لمكان الرأس، والرأس لمكان القدم، يغدوا المجتمع رأساً على عقب.. هذا هو سبب انتحاري..
-كيف انتحرت؟
-كنت عائداً مع سكرتيرتي ليلاً من مضيق البوسفور..
قلت:
-فهمت.
-أعطيناها غطاء الحادث.
ثم أضاف رجل الطبقة الراقية الذي لم يستطع العيش بين الناس الخشنين الذين لا يعرفون حدهم:
-مت ولم أخلص. الوضع الآن أسوأ من السابق. لا يوجد فرق طبقي بين الأموات وبرم وجهه.
ذبابة الحمار الحبيبة، في الرسالة القادمة أحكي لك عن أسباب موت الآخرين . أقبل عينيك.
حمار ميت
عزيز نيسين
•خليج القرن الذهبي في اسطنبول. قبل عام ١٩٨٦ كان مكاناً لرمي نفايات منطقتين ، صناعية وتجارية.

الاثنين، 13 مايو 2013

الحمار الميت منتظراً إرساله إلى الطب الشرعي

الرسالة العاشرة

عزيزتي ذبابة الحمار:
شك أطباء مشفى الإسعاف – الذين عاينوني – في موتي. سأل الطبيب – المكلف بإعطاء تقرير وفاتي لإرسالي إلى المشرحة – الممرضة عما إذا كنت ميتا بحق. قالت الممرضة:
-أنا نقلت كلام الخادمة يا دكتور. الخادمة قالت إنه ميت.
عصب الطبيب.
-أنا دقيق في عملي. لا أعطي تقريراً قبل أن أتأكد بشكل قطعي من موت الميت. لا يوثق هذه الأيام في حي أو ميت. يأتون إلى هنا ميتين – على قولهم – نثق بهم فنعطيهم تقريراً
"ميت، يدفن" بعدها لا يثبتون على كلمتهم. أما أن يدغدغون بينما المغسل يغسلهم أو يصحون حين إنزالهم إلى القبر، فيتمطمطون ثم يقفزون قائلين "آه، تأخرت عن شغلي."
قال الممرضة:
-صحيح يا دكتور، أتذكر المرأة العجوز التي أعطيتها تقرير وفاة ثم بعثثت.
-وضعت ثقتي بكلام كََنتِها .كيف لا أثق وقد جاءت لعندي في العيادة ، ما أجمل كلامها، ساعة كاملة تحكي لي كيف ماتت حماتها. لا يمكن إلا أن تثقي، كانت امرأة جميلة جداً، لايخطر ببال أحد أبداً أنها تكذب. كل الحق على الحياة كيفما كان، الجميع علم بموتكِ، انتهت كل معاملات إثبات الوفاة، الجيران والأقرباء أتوا للعزاء. بكى الباكون ، حزن الحزانى. أهم من ذلك أنني أعطيت تقرير وفاتها. أتممنا كل الأمور الروتينية. لم يبق أكثر من دقيقتين وتصبح تحت التراب.. أو يخرب الإنسان لعبة وصلت إلى هذا الحد. ما الذي ستستفيدنه من عدم موتك. ستموتين عاجلاً أم آجلاً.
-أنتم طلعتم بالخجلة.. لو كنت مكانك ، لقلت أن هذه المرأة ميتة، أو في عداد الأموات.
وقبرتهم إياهم بالقوة. أيصدقون الطبيب أم امرأة عجوز وجاهلة. كل الإشكالات تأتي من الجهل. شعبنا مع الأسف في منتهى الجهل .جاهل إلى حد أنه يموت ولا يعرف أنه مات.
هناك أناس بالرغم من أنهم موتى من زمن ولكن حتى الآن يذهبون هان وهناك ويدعون أنهم أحياء. من الممكن أن يكون الإنسان لا يعرف في كل شيء، ولكن يجب أن يسأل صاحب
المعرفة عما لا يعرفه. عندما يعطي الطبيب لإنسان تقرير وفاة يجب أن يفهم أنه توفي. لا يعيب الإنسان عدم معرفته بل يعيبه عدم تعلمه.
-جهل.
-أنا سألت المرأة التي بعثت. وهل ذهب كل هذا النحيب والبكاء، الحزن والعزاء، هباء. ثم من الذي سيصدقك ويبكي عليك من جديد إذا توفيت مرة أخرى..
سيقولون .. لا تبكي على الفاضي لعلها – وقد تعلمت – تحيا من جديد.
-عندما بعثت؟
-ما أهمية هذا.. في تاريخ الطب العالمي كثير من حوادث الإحياء هذه . عللت طبياً إحياء تلك المرأة.
كانا يتكلمان بقربي. سأل الطبيب الممرضة مرة أخرى:
-والآن، هل الرجل ميت بحق؟
-على قول الخادمة.
-نادي تلك الخادمة لنر.
نادت الممرضة الخادمة. و جه الطبيب سؤاله لها مشيراً إلي:
-قلت أن هذا الرجل ميت. أليس كذلك؟
-لم أكن الليلة الماضية مناوبة يا دكتور. كل ما أعرفه أن البواب قال "هذا الرجل ميت خذوه إلى المغسل."
ما فهمته، لكي لا يقع الطبيب في أي خطأ ولا يظلم أحداً. يريد إثبات موتي بشهادة الشهود.
وصلت إلى هذه النتيجة من خلال كلام الممرضة.
-أنا إنسان عاشق لمهنتي. لو كان مكاني طبيب آخر لجس نبضه، واستمع لدقات قلبه. أنا لا أكتفي بهذا ولكي لا أقع في أية ورطة مستقبلاً أشهد ثلاثة شهود على وفاته.. مرت على رأسي حوادث كثيرة.. كنت طبيباً مناوباً، شربت في يوم كنت فيه مناوباً.. لكثرة ما شربت لم اذكر كيف جاؤوا بي إلى المشفى. إيه ، شباب.. المشكلة أن ثلاثة من المرضى وجدوا في تلك
الليلة الزمن المناسب ليموتوا .قالوا "يا دكتور مات ثلاثة مرضى". "رحمهم الله" ماذا يمكنني أن أقول غير ذلك؟ علينا أن نذكر الأموات بالخير. قالت الممرضة المناوبة "أليس الواجب
معاينتهم لتقرير حالتهم". "هذا!.. معاينة" ولكن لكثرة ما شربت لم يعد في قوة للوقوف. المهم، سّندني الخدم من ذراعي، وأوقفوني أمسكت يد الميت جسست نبضه . آآآ.. الله الله .. نبض
الميت يضرب بسرعة قلت "أحضروا الميت الآخر". نبضه مثل السابق. الثالث كذلك. نبض الثلاثة ٩٠ "الثلاثة غير ميتين وحالتهم.. اذهبوا، ادهنوا ظهر كل منهم بحبة اسبرين كل
ساعة، بّلعوهم يود."
وهل أعرف ما قلت في نشوة سكري؟
قالت الممرضة "أليس من الأفضل أن ندهن لهم باليود ونبلعهم أسبرين؟.. "قلت "ممكن" "قالت
"الآن" "لأن الاسبرين يسرع القلب"..
قلت "بدلي الاسبرين بكينين"* ألا تقول "للكينين نفس المفعول يا سيدي". عندها غَضِبتُ،
صرخت "كل هذه السنين ممرضة ولا تعرفين دواء يخفف سرعة القلب، أعطيهم ما تريدين "
قالت عندما أمرض تسقيني أمي زهورات. أتريد أن أعطيهم زهورات" قلت "هق.. أعطيهم .. لأكتب لك.. هق.. وصفة زهورات .. هق .. "قالت" لا تفيد ، لا يوجد صيدلي في المشفى،
أذهب إلى الدكان وأشتري عن زكاتي قليلاً من الزهورات." ذهبت ونمت ثم أحسست أن أحداً يوقظني كأنني في حلم، سمعت "لا يأكلون" من الذي لا يأكل" "الموتى لا يأكلون الزهورات"
ذهبت، ألقيت نظرة وإذا بالخادمة تحشر الزهورات في أفواههم كأنها تعلف دابة. قلت "ألم تغلي الزهورات؟ ماء الزهورات سيشربون الممرضة لم تقل لي أغليه" "ألا تعرفين كيف تعطى الزهورات" "أنا لا أفهم بشغل البيت". "أين الممرضة؟" " ليست في غرفتها " نمت من جديد ولا أدري كم مر من الزمن وإذ بصوت "يا دكتور الموتى لا يشربون الزهورات!.." أنا في حالة سكر من جهة ونعاس من جهة أخرى." اضربوهم إبرة. "قالت "ابرة ماذا؟" "أي إبرة مما هو موجود في المشفى "قالت "لا يوجد في المشفى غير إبرة ش ّ كالة* قلت "ثبتي فيها شَقال قميصك الداخلي حتى لا يسحل" في تلك الأثناء أتى موظف القيود في المشفى وقال "ما المرض الذي سبب موتهم لأسجله بالدفتر؟" قلت "ليسوا أموات بل أحياء" قال غير ممكن يا دكتور، .. لأنهم عملوا عمليات "نبضهم ينبض". أمسكت يد أحد المرضى لأعاينه فقهقه الكاتب "بدلا من أن تجس نبضهم، تجس نبضك أنت!!".. تفوه.. من سكري كنت أجس يدي اليسرى باليمنى. ومن يومها كلما أردت أن أعطي تقرير وفاة.. أبحث عن شاهد – شاهدين. أتى البواب الذي أرسل خلفه الطبيب. سأله مشيراً إلي:
-هل الميت، ميت بحث؟؟
-ميت يا سيدي، ميت بحق؟؟
-كيف عرفت؟
-وهل معرفة ذلك أمر صعب .أنا بواب مشفى من ثلاثين سنة. كم من الموتى مر علي.. أصبحت خبيراً في الموتى.. حتى أنني بنظرة أعرف عمل الميت، مقدار دخله، عدد الأشخاص الذين يعيلهم...
-مادام هكذا، قل، كم كان دخله؟
-لا أكثر من أربعمئة ليرة.
-كيف عرفت؟
-انظر يا سيدي. خصره بثخانة رقبته، يكاد أن يقطع.
-ماذا كان يعمل؟
-لا أعرف بالضبط علمه متعب.. فوق ذلك يعيل أسرة كبيرة. خدوده تكاد تلمس بعضها من الداخل... عيناه غائرتان.. يعيل تقريبا ثمانية إلى عشرة أشخاص.
-كيف عرفت؟
-انظر إلى كتفيه .ساحلان إلى أسفل يوحيان لنا كم من الأحمال الثقيلة حمل.
-مات.. لو لم يكن شريفاً لما مات؟ كان ممكن أن يعيش مثل الآخرين.
-صحيح.
-إنه رجل ذكي..
-ماشي، بالنسبة لكل ما قلت، ولكن كيف عرفت أنه ذكي يا هوه..؟
-لو دققتم النظر يا دكتور، ترى بالرغم من كونه ميتاً يضحك بسخرية.
-بالمختصر، أنت شاهد على أنه ميت..
-نعم.
-وهل تعرف، لماذا مات؟
-كاتب المشفى يسجل اسم الذين لا يعرف أسباب موتهم "فيزيولوجية السفالة" من الواضح أن هذا مات لنفس السبب.
-صحيح. ولكني لا أزال أشك في أن هذا الرجل ميت.. أنا لا أتحمل مسؤليته. سأحوله
وأخلص منه.. ليحددوا في الطب الشرعي كيفية موته.. والشرطة من قَتله.
ذبابة الحمار ، خفت كثيراً. إلى أين سيحولني هذا الطبيب يا ترى؟ أتريدين أن أنتقل من مكان إلى مكان مثل معاملة في دائرة رسمية لم تدفع رشوتها.
قال الطبيب:
-سأحوله إلى الطب الشرعي، من أجل سلامة العمل.
خفت أن يرميني خارج باب المشفى قائلاً عليه أن يعيش غصباً عنه، لا يعد من الأموات وضعوني مع أموات آخرين في قبو المشفى ريثما يرسلوني إلى الطب الشرعي. كان المكان
بارداً جداً، لكي لا تفوح رائحتنا. ولكننا لا نهتم لا بحرارة ولا ببرودة.
ذبابة الحمار الحبيبة، سأحكي لك عما جرى لي في الطب الشرعي
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين
كينين: مادة تستخرج من شجر الكينا.
المقصود دبوس ش ّ كال. يستعمل في التركية نفس المفرد للدبوس والإبرة.

الأحد، 12 مايو 2013

كيف ينقل الجرحى من مشفى إلى مشفى


ذبابة الحبيبة:
كنت أظن أننا أتينا إلى نهاية الورطة. وإذ علي أن أذوق الكثير. صدقي أنني لا أبالغ أو أؤلف بقصد تخويفك من الموت.
هل تكتئبين من ذكر كلمة الموت بشكل مستمر يا ترى؟ لي غاية من كتابتي لك من المقبرة هي إبعاد شبح الخوف من الموت عنك. كيفما كان ليس لأي ذي روح على سطح الأرض مهرب من الموت، فَلِم الخوف إذاً؟ ممكن من خلال رسائلي التي أرسلتها من المقبرة أن تأخذي الموت من الجانب المسلي، المضحك الشبيه بالخروج في نزهة... لنعد لسفرتنا.. كلما سخن المحرك تبخر الماء حتى انتهاء ماء السيارة في الطريق.. خرج الثلاثة للبحث عن الماء حيث كنا خارج المدينة.
صاح المعاون من بعيد:
-وجدت.. هنا يوجد بركة ماء..
أحضروا الماء بواسطة وعاء. فهمت – من خلال كلامهم – أن الذي وجدوه طيناً وليس وعاء. فور وضعه في الخزان قفزت صغار الضفادع إلى أعلى من تأثير الحرارة، وهكذا استطاعوا تسيير السيارة إلى عند صنبور وملؤوها بالماء. انتهى البنزين. أخذوا بنزين. نّفست العجلات، نفخوها. بعد قليل انفجرت العجلة. تعاونوا على رقعها.
بعد مجموعة حوادث تملأ كتباً. وصلنا إلى أول مشفى. كان قد أصبح الوقت ليلا.
باءت عمليات بحثنا عن الطبيب المناوب بالفشل .مددوني جانب الجريح على الأرض. نظرت الممرضة إلى الجريح الذي كان ينزف وسألت:
-متى جرح؟
رد على السؤال سائق الإسعاف المتفاني من أجل إنقاذ حياة الرجل.
-قبل الظهر.
-من أسعفه..
أجاب السائق بأننا منذ الصباح في الطريق. ونصحها ألا تركب سيارة إذا كان عندها عمل مهم.
سألت الممرضة:
-وهل الدماء تسيل من الرجل بهذا الشكل منذ الصباح؟
قال السائق:
-نعم.
نقرت الممرضة بإصبعها على خشب الطاولة كما تفعل النساء حرزاً من عين الحسود وقالت:
-ما شاء الله. ما أغزر دمه، الله يحميه من العين..
لم يستطع أحد أن يفعل شيئاً لعدم وجود طبيب مناوب .ذهبنا إلى مشفى آخر، الجريح محظوظ، بعد ساعة بحث وجدوا الطبيب المناوب. قال المسكين بعد أن عاين الجريح:
-يا حرام، لا أستطيع عمل شيء. ليس لدينا أي علاج يقطع الدم السائل أو يسيل الدم المقطوع في المشفى. ليس لدينا سوى الأسبرين والكحول واليود والقطن. أعطيكم منها إن أردتم. لعلكم تحتاجونها.
ولإنقاذ سمعة المشفى أضاف الطبيب:
-هناك الكثير من الأدوية الأخرى بالطبع.. أدوية السكر، القلب، الروماتيزم..
قال السائق:
-الرجل يموت أمام أعيننا.. لو استطعنا إيصاله إلى مشفى الإسعاف. ليمت هناك أفضل...
قال الطبيب:
-لا فرق بين الموت هنا أو هناك.
قال السائق:
-يموت هنالك براحة أكثر.
سأل الطبيب:
-متى أصيب؟
-قبل الظهر.
-وهل ينزف من حينها بهذا الشكل.
-لا، كان ينزف بشكل أغزر قبل ساعات ولكنه قل مع استمراره.
-قال كالآخرين:
-ما شاء الله . رجل غزير الدم.
ذهبنا إلى مشفى آخر كان سيتركنا السائق ويذهب عندما علم أنه سيقبض أجرته من مشفى البلدية ولكنه لم يستطع كانوا يصطحبوني معهم لعدم قبول المشافي للموتى.
الجريح محظوظ وجدنا في المشفى الثالث طبيباً مناوباً وممرضة وأدوية. حتى إن الطبيب المناوب قال:
-وجود هذه الأشياء الثلاثة مجتمعة في مكان واحد أمر صعب جداً. لقد صادفتم يوماً متميزاً.
أرادوا تسجيل هوية المصاب قبل معاينته. بحثوا عن موظف القيود فلم يجدوه.
قال السائق مقترحاً:
-خذوه إلى غرفة العمليات . ثم تسجلونه فيما بعد.
عندها غضب أحد الموظفين وقال:
-لا أحد يمد يده على مريض غير مسجل. وإلا كيف سنصرف له الدواء. صرف الدواء دون تسجيل يؤدي إلى باب سوء التصرف. غضب السائق عندما ذهب البعض للبحث عن موظف
القيود ولم يعودوا، وقال:
-لو كنا حملناه على ظهرنا لأوصلناه إلى مشفى الإسعاف الأولى منذ زمن.
في تلك الفترة كان موظف القيود عائداً من نفسه لينام. جلس إلى الطاولة مثل أي موظف مخلص لعمله، ثم وضع نظارته بهدوء، فتح الدفتر بدقة، سحب قلمه، بدأ التحقيق:
-اسم المصاب؟
-قال السائق:
-من أين لي أن أعرف، أنا سائق البلدية. أخذت الرجل إلى السيارة بعد إصابته بحادث مرور.. تعطلت السيارة في الطريق ونتجول منذ الصباح ..وأخيراً وصلنا إلى هنا.
قال موظف القيود:
-طيب، طيب، نكتب مجهول الهوية وينتهي...
قال المعاون:
-يا أخي أمن أجل هذا ننتظر كل هذا الوقت؟
قال الطبيب انتهت المعاملة الرسمية. لكننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً بدون أشعة، وجهاز الأشعة عندنا معطل.
-إذا كان لا يوجد أشعة فلماذا القيد؟ فوقها أضعنا كل هذا الزمن؟
أجابت رئيسة الممرضات:
-القيد شيء والعلاج شيء آخر. إننا نرفع شهرياً جدولاً بعدد المرضى الذين دخلوا مشفانا، لو ما عملنا قيداً فليس هناك جدول.
قال موظف القيود:
-صحيح إن جهاز أشعة مشفانا خربان ولكن عمل القيد على ما يرام.
قال سائق الإسعاف لسائق التاكسي:
-يا صاحبي كيفما كان نقودك تأخذها، إما من مشفى الإسعاف أو مشفى البلدية. أو تجد أحد أقرباء المصاب فتأخذ منه.. عملت خيراً، نقلناه من مشفى إلى مشفى حتى هذه الساعة المتأخرة.. فتممه.. وأوصلنا إلى مشفى الإسعاف الأولي.
-أين سأجد أقرباء المصاب ياهوه.. أنا أريد نقودي.
-سهلة، اعتبر نقودك في جيبك..
لم تحتمل أعصابهم وجود ميت بينهم فحشروني في) الباكاج.(
قاد سائق التاكسي سيارته وهو يتكلم:
-درنا كل هذه المشافي ، في بعضها لا يوجد ممرضة، في بعضها الآخر لا يوجد طبيب، وإذا وجد الطبيب والممرضة فلا يوجد علاج، وإذا وجد الآخر فليس هناك جهاز أشعة وإذا وجد فمعطل، كأننا سنجد هذه الأشياء مجتمعة في مشفى الإسعاف الأولي.
قال السائق:
-موجودة ، حتى لو كانت غير موجودة نتدبر الأمر. نربط الجريح بخيط ، بحبل، أو شرشف ونقطع نزف الدم ريثما يأتي الطبيب. من الممكن أن يختنق المريض من الضغط ولكن لا نتركه ينزف..
قال سائق التاكسي:
-أنا لا أفكر في النقود، لأنني لو كنت قد شغلت عدداً منذ ركوبكم لسجل مئتي ليرة. أنا شخص فضولي. والفضول دفعني لمعرفة أي مشفى فيه الطبيب والممرضة والدواء والأشعة كلها مجتمعة، لهذا أنقلكم من مشفى إلى آخر. وإلا كنت من زمان أنزلتكم من السيارة وسحبت.
وصلنا إلى باب مشفى الإسعاف الأولي. أنزلوا الجريح حيث كانوا ، دلوا أرجله من النافذة حتى لا يتسخ فرش السيارة بالدم. لم يفتح أجد الباكاج الذي حشرت فيه. نسوني هناك. ماذا أعمل؟ لو صحت أنا هنا لا أحد يسمعني لأنني ميت. لو فتح الباكاج ورآني من يعلم ماذا سيفعل؟
بينما كنت أفكر بما يمكن أن أفعله – مع أنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً – كانوا يحملون الجريح على النقالة انفجر زعيق خلف السيارة. فتحت باب الباكاج الذي كان مفتوحاً قليلاً ونظرت دون أن ألفت انتباه أحد. القادمون كانوا دورية شرطة. نزلوا بسرعة وطوقوا النقالة التي كان عليها الجريح. سحب أحد رجال الشرطة مسدسه وصاح:
-لا تتحركوا..
صاح شرطي آخر:
-لا تتحركوا..
قال ثالث:
-ارفعوا أيديكم..
أسقط النقالة حاملوها لشدة خوفهم فجرح الجريح مرة أخرى.
طوقونا ، قال أحد المطوقين:
-وقعتم في قبضة العدالة.
صرخ أحدهم يجب أن يكون رئيس الدورية.
-أين البغل الذي ذبحتموه، أخرجوه بسرعة.
تأتأ السائق:
-بغل ماذا؟ أي بغل؟
-بغل، حصان، أو حمار.. نحن نتبعكم من المسلخ، تبعنا أثر الدم فعرفنا طريقكم. لقد لوثتم شوارع اسطنبول كلها بالدم.. يعني تذبحون الحمير والبغال وتطعمونها لسكان اسطنبول على أنها خراف ذات حدوات، هذا؟
قال السائق:
-لا بغل ، ولا حمار، ولا حصان.. والله انسان.
-ماذا؟ إنسان؟ آه يا وحوش.
شرح حقيقة الوضع لرئيس الدورية.. عندها قال:
-ما شاء الله، كم من الدماء في جسد الرجل.
ولكي يضرب مثلاً حياً على ارتفاع المستوى الاجتماعي في البلد. قال رئيس الدورية بعد أن حمل الجريح إلى داخل المشفى:
-لقد جئنا إلى هنا. لنفتش السيارة، لكي نعمل شيئاً ، ولا نعود بخفي حنين..
عندما عرف أن ثمة ميتاً في الباكاج.
-ما هذا؟
قال السائق:
-كما ترون، ميت، رجل منحوس، كل ما جرى على رؤوسنا بسبب جلب جثته إلى هنا.
أخذوا الجريح إلى مكان آخر وبالتالي افترقت عن رفيق طريقي الطويل .
رموني في مكان من قبو المشفى عندما عرفوا أنني ميت لكي يرسلوني إلى الطبيب الشرعي.
حيث رحت نائماً على البلاط لشدة تعبي من الهز في السيارة.
آه يا ذبابة الحمار الحبيبة، إذا كان عندك عقل لا تملي الحياة بسرعة. أنا أكتب لك من مصاعب الموت لكي تشعرين بطعم العيش في تلك الحياة الجميلة . صحيح أن الحياة لأمثالي وأمثالك صعبة لكنها جميلة.
سلامي ومحبتي
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

السبت، 11 مايو 2013

الحمار الميت يحكي عن سبب موته

الرسالة الثامنة

أختي وعيني، ذبابة الحمر:
بالحق ، أنا أحكي لك عن موتي، لكنني نسيت أن أحكي لم عن سبب موتي. أعرف أنك تحبين الكلمات المنتقاة والمترادفات، وذات المعاني الكبيرة.
أتذكرين يوم كنت عاطلاً عن العمل وجئت إليك. كنت أجفُّ من الجفاف. وأي كلام قلت يومها، ولكني لم أُحصل قرشاً.
قال أحد العظماء "ليس ثمة من لا يعصي، ولكن عليك أن تجيد الطلب ."
هذا الكلام العظيم إما لموليير أو روبسبير أو الملك لير أو هتلر أو مشهدي جعفر، لست متأكداً، لكن في النهاية اسمه الثاني حرف" الراء."
ذهبت إليكِ واضعاً في رأسي هذا القول العظيم ووقفت أمامكِ لاوياً رقبتي وقلت:
-توبي أور نت توبي...*
لحظتها بدأت بالبكاء وأخرجت كل ما كان بجيبك وأعطيتنيه. خرج أحدهم وقال: "لا تناقش لا الأذواق ولا الألوان". ماذا في هذا الكلام؟ لو كنت أنا قائل هذا الكلام لدخل من أذنك هذه وخرج من تلك.. هذا يعني أن البشر لا يعطون أهمية لمعنى الكلام المقابل بل لارتفاع المكان الذي قيل منه. يعني لو تكسرت مدخنة لعد كل صوت من أصوات تشققها معجزة ربانية.
أشكر الله على أنه في تلك الدنيا التي غادرتها نوعين من البشر النوع الأول مجانين لا مسؤولية لهم .والثاني الملوك والرؤساء..
بفرض أنني واحد من رؤساء الجمهوريات الذين لا يفعلون، وليسوا مسؤولين عن شيء. لو سعلت، سيقولون:
-ما هذه السعلة المقدسة! ويسجلون السعلة على شريط.
اذا فتحت فمي متثائباً، سيقولون:
-الله ، ما أجمل هذه) الأريا*( ويسرعون لمحاولة (تنويت) تثاؤبي.
عزيزتي، عندما نجلس معاً، كم كنا نستهلك من ذاك الكلام الكبير، نصرفه كصرف فراطة النقود.. كلامنا مثل اللؤلؤ لم يقابل بحجر.
افتحي أذنيك! سأقول لك قولاً مأثوراً مهما جداً من وحي الدار الآخرة.. "الولادة سهلة، لكن الموت صعب". المولود يوّلد من قبل الآخرين لكن الميت يموت لوحده.
لم يكن قد خطر ببالي الموت. أحب الحياة كأي شخص، ولكن الحب لا يكفي.. طلبت من مديري خمسين ليرة سلفة. سألني:
-ماذا ستفعل بها؟
خطر ببالي أن أقول له "سأضع طائرة ورقية وأطيرها".
قلت:
-علي دين لأحدهم، سآخذها منك وأعطيه إياها.
قال:
-متى؟
-اليوم، الساعة الثانية بعد الظهر سيأتي ليأخذها.
-في تلك الساعة تعال وخذ خمسين ليرة...
-ألا يمكن أن تعطونيها الآن؟
-لا يمكن.
-لماذا؟
بعد أن هز رأسه هزة فلاسفة قال:
-انك لم تستطع توصل الرأسين لبعض لأنك لا تفهم هذه الأمور. ممكن أن يموت ديانك هذا قبل الساعة الثانية بعد الظهر، فتخلص من دفع دينك – الأعمار بيد الله – ممكن أن تموت أنت فأخلص أنا من دفع الخمسين ليرة. من يعرف من الذي سيموت ومن الذي سيبقى حتى الساعة الثانية بعد الظهر.
لويت رقبتي وقلت:
-من أين لي هذا الحظ يا سيدي؟ أنا منحوس، الأعمار بيد الله، أليس من الممكن ألا يموت دياني ولا أموت أنا، ومن الممكن أن تموتوا أنتم ، فلا استطع أخذ الخمسين ليرة.
صارت الساعة الثانية بعد الظهر. لم يمت دياني، مديري ولا أنا.. ولكن مديري اختفى في تلك الساعة..
خرجت أبحث عمن أفرغ له ما في داخلي. أليس لنا أصدقاء مثقفون، أصحاب أفكار تقدمية، يرفعون الكأس في وجه الظلم معلنين عليه التمرد صارخين "فلتحيا العدالة"؟.. ذهبت إلى بيت أحدهم، أقول في نفسي لعله يساعدني.. البيت مزدحم بالضيوف، حكيت ما جرى لي. التفوا حولي، استمعوا إل  ي باهتمام.
حكايتي مؤلمة، حتى إنني مسكت نفسي بصعوبة عن البكاء.. ولكن الذين يستمعون إلي كانوا يضحكون، حتى أن ثمة فتاة جميلة، لكثرة ما ضحكت على حكايتي أفرغت مشروبها في رقبة الرجل الذي كان يسند رأسها إلى كتفه مع أني كنت أتكلم أشياء جدية كانوا يقولون الآن.
-اكسانتريك*
-للغرابة
-شيء لا يصدق!
-سرابرايز*
-ظريف.
مع أني كنت أتكلم عن أحزاني، ضيقي، غضبي، تَحملي، فأسليهم بما كنت أعاني منه.
رأيت بينهم امرأة سال الدمع من عينيها قلت لنفسي هذا نموذج للانسان الحساس ولكنها سرعان ما قالت:
-أي، دخت، نزلت دموعي لشدة الضحك.
كان يضحكهم كل ما أقوله. قالوا عندما كنت مغادراً:
-يا الله كم ضحكنا وسررنا، تفضلوا غداً واحكوا لنا من هذه الحكايات.
كنت بائساً. ذهبت في المساء التالي، إنها آخر محاولة.. لكنهم كانوا يجدون كل ما أقوله مضحكاً. في النهاية قال أحدهم:
-دخيلك كافي.
فرحت.. نهايتها وجدت من فهمني بينما كنت أفكر على هذا النحو. الا يقل:
-أي.. من الضحك. عذراً، على وشك أن أدوخ.
سكتُّ. تفحصتهم جميعاً. سيغمى عليهم من الضحك فعلاً .
صرخت:
-لِم ضحككم؟
قالوا :
-حياتك، كل شيء فيك.. وهل ما حكيته جرى لك؟
سمعت أصواتهم عندما كنت خارج من الباب:
-ما أجمل طريقة حكيه.
-حكى أشياء غريبة جداً.
-ما حكاه صحيح يا ترى؟
-لا ياروحي يؤلف من أجل أن يضحكنا..
عين  ي الاثنتان، ذبابة الحمار، أنت تعرفين أن حياتي كلها مرت هكذا، تزداد عل  ي صعوبة العيش، يضحكون عندما يتوجب عليهم البكاء. انتبهي لا تقولي لهم أنني مت لأنني لم أستطع أن أعبر عن ضيقي وحزني واضطرابي سيضحكون قائلين: "يالله كم اكسانتريك إذا أردت أن تريحيني قليلاً وأنا هنا، أرجو أن تلسعيهم بإبرتك الحادة..
أقبل أجنحتك البارقة الألوان تحت أشعة الشمس.
مع المحبة
حمار ميت.
الكاتب عزيز نيسين

وردت بالنص بالحروف التركية حسب اللفظ الإنكليزي، لذلك أدرجتها • ( to be or not to be )
بالعربية حسب اللفظ الإنكليزي.
•أغنية درامية طويلة في الأبرا.
•كلمة فرنسية بمعنى غير عادي أو ريب.


الخميس، 9 مايو 2013

كيف ضربت التاكسى عمود الكهرباء

 الرسالة السابعه

كيف ضربت (التاكسي) عمود الكهرباء

عيني ذبابة الحمار:
وضع سائق الإسعاف والمعاون، الجريح في التاكسي خادعاً السائق على أنه الجناح الأيمن
لفريق البشكطاش. سنداني بجانبه كأنني حي، وجلسا بجانب السائق. أصبح في السيارة ثلاثة
أحياء، وجريح لا نعرف لحظتها فيما إذا كان لا يزال حياً أم لا، وميت هو أنا.
-ستفوح رائحة الميت من الحر.
قال سائق الإسعاف:
-لن يفوح شيء.. ثم أي حر!.. الجسد جف منذ زمن.
يبدو أن كلام السائق صحيح. كنت أحس أنني أجف ببطء كما الفسفس في الشتاء عندما لا
يبقى في داخله شيء. كدت أسلق لشدة الحر، حر الخارج، حر الداخل من المحرك وحر
صفيح السيارة.
الجسد الذي سيخرجونه من السيارة ليس جافاً بل مسلوقاً.
مرت السيارة بموقف سرفيس، في الموقف أربعة صفوف من الركاب نهايتهم غير واضحة
بالنسبة لنا.
ثمة أصوات:
-داخ ، أغمي عليه.
أوقف شرطي المرور التاكسي ووضع بجانبنا رجلاً سميناً أصابته ضربة شمس جراء انتظاره
الطويل في الموقف.
أصبح عددنا في المقعد الخلفي ثلاثة. مغمى عليه، جريح، ميت، قال الرجل المغمى عليه:
-لو ما عملت (نمرة) الإغماء هذه لأغمي علي من شدة الحر.
غضب سائق التاكسي كون إغماء الرجل السمين (نمرة). قال سائق الإسعاف:
-لا تهتم، لا يتوافق التعصيب في الحر مع الجلوس خلف المقود. الزبد يفور من فم السائق
حتى أنه لو نودي "يا روحي "لرد "تطلع روحك". السمين رجل ثرثار. إذا بدأ الكلام لا
يسكت. قال أنه دخل فحص قيادة السيارة، نجح ثلاثة أشخاص من المتقدمين الثلاثمئة. كان
الأول على الناجحين الثلاثة. قال أيضاً، إن أصعب مرحلة من الفحص كانت تمرير السيارة
بين الأعمدة بشكل متعرج دون إسقاط أي عمود. الرجل السمين يحكي وسائق التاكسي يهز
برأسه يميناً ويساراً غاضباً. ثم يكملها السمين بقوله:
-الذين يسمون أنفسهم سائقين لا يستطيعون المرور من بين الأعمدة دون أن يسقط منها
شيء.
عندها علق السائق غضباً:
-ماذا .. لا يمروا؟ .. أهكذا من يسمون أنفسهم سائقين؟ أنا.. أنا؟ أنا أمررها بين عمودين
بعرض السيارة.
قال سائق الإسعاف مهدئاً:
-سبع . تمررها .شهم، تمررها..!
لكنه ازداد غضباً
-ماذا يعني؟ وهل هذه شغلة صعبة؟ ماذا يقول هذا ياه؟ ولاه أنا، أمثالك أزرعهم مثل الشتل
وأمرر السيارة وهي ترقص الفوكستروت.*
غضب الرجل السمين.
-يا صاحبي، لم نقل أنك لا تستطيع تمريرها، تمررها، ولكن بصعوبة.
ضرب كل من حر الجو وحر محرك السيارة وحر صفيحها عقل سائق التاكسي.
-ماذا.. بصعوبة، هذا؟ أنا أصف أمثالك صفين وأمرر السيارة دون أن ألمس ذيل أي منكم.
-يا صاحبي، هل هناك من سمعك ، أو قصدك بحكي؟ لم نقل شيئاً يخصك أنت كل ما قلناه
"من يسمي نفسه سائقاً."
-ماذا يعني هذا؟ أنا من يسمي نفسه سائقاً اترك لي مسافة بقدر السيارة وزيادة إصبعين
لأمررها.
-الذي قصدته أن في هذا العمل صعوبة..
-حتى الآن يحكي.. أتراهن؟
-ياهوه.
-مابدها حكي ..تراهن؟ بجد.
-يا صاحبي.
-ما في صاحب، مني خمسة ومنك واحد..
-يا أخي
-لا تطولها.. أنا أمرر هذه السيارة على السراط المستقيم ولاه.. غَضب السائق يتزايد..
الطريق مناسب، السيارة تطير.. كأنهم تراهنوا .. اشتد غضب السائق ، وصرخ:
-مني خمسة ومنك واحداً خمسة لواحد.. أتراهن؟
يضغط على البنزين..
بدأ المحرك يقرقع. كم جميل لو سارت السيارة بشكل مستقيم. لكن الطريق مزدحم، ولكي
يرينا السائق مهارته، كان يذهب إلى يمين الشارع ثم إلى يساره.. يمر على يسار (ترام) ثم
من يمين (باص) بعدها من أمام شاحنة، إنه يسير بشكل متعرج إلى الأعلى والأسفل كأنه يقفز
على (التريبولين.(
كان يقول:
-دخيلك، اصطدمنا..
عندما مر عن يسارة أحد المشاة وفتل أمامه لم يبق مقدار شعرة حتى يضرب (بالترام.(
-واطي من لا يدفع خمسة مقابل واحد، رهان تمرير السيارة في مكان لا يزيد إصبعين عنها،
حتى لو بقي مقدار شعرة لمررتها.
-دخيلك يا أخي، تمررها. والله، بالله تمررها، ها نحن رأينا.. لقد مررتها.
غضب السائق جعله لم يفهم كلاماً. كان يصيح – بينما كانت شرطة المرور خلفه تزمر
(يو..يو.(
-أنا أضع مقابل الواحد خمسة. أرني رجولتك ، إن كنت رجلاً..
-يا أخي ربحت الرهان أنت.. بهدوء كرمى لله..
-سحبت كلامي يا أخي..
لكن السائق لم يعد في وضع يبدو أنه سيستمع لكلام. يتجاوز السيارات بالجملة.
قال الرجل السمين يتوسل:
-أنا سأنزل هنا.
السائق لا يعبر انتباهاً لا للرجل السمين ولا لشارات المرور، حمراء كانت أم خضراء. خربط
الشارع كما لو أنه فرخ ديك بري، يغبر ويدخن.
-خمسة مقابل الواحد، أتراهن؟
على ما يبدو أن السائق لن يقف حتى ولو وصل الحدود البلغارية . لقد أثر الحر على عقله.
ألا يخرب محرك هذه السيارة، أو تنفجر لها عجلة. أو ينفذ وقودها، لو كان الإنسان على
عجل وركب سيارة لما مشى مئتي خطوة إلا ويخرب محركها أو تنفجر لها عجلة أو ينفذ
بنزينها أو زيتها أو ماؤها..
يدور المقود إلى أقصى اليمين ثم اليسار وهو يصيح:
-خمسة لواحد!
تطارد سيارات رجال الشرطة في أفلام المغامرات سيارات المجرمين مثل ما يفعل سائق
التاكسي. كان ينبعث من السيارة، عجلاتها، فراملها، محركها ، أصواتاً لم أسمعها من قبل.
-ون ون .. زززت .. دررر.
يقفز من في يمين السيارة لينزل جالساً في حضن من هو في اليسار وكذلك من في اليسار
يأتي ماسكاً برقبة من في اليمين... صرنا مثل شوربة.
كانت السيارة (نط نط ) تمشي حجلاً. شيء قرقع شيء ضربني على رأسي، السيارة ذهبت
إلى الأمام أولا ثم عادت إلى الخلف، نظرت وإذ بالسيارة قد انقسمت إلى نصفين. عمود
كهرباء منتصب وسطها. العمود قسم السيارة إلى نصفين.. أنا ضمن هذه القرقعة متُ مرة
أخرى. ولأنني مت قبل هذه المرة لم أستمتع بطعم الثانية. المساكين أمثالنا يعيشون مرة، هذا
إذا عدت عشية، لكنهم يموتون مرات.
أتخيل السمين الثرثار.. لم يعِ ما حصل . فقال:
-عندما ركبنا السيارة لم يكن هذا العمود فيها يا هوه.. من أين دخل بيننا.
جلس سائق التاكسي في المكان الذي ارتمى إليه كالجنين في رحم أمه، فخذاه يلامسان بطنه
ويصيح:
-أضع مقابل الواحد خمسة، خمسة لواحد.. أنا؟.. أ .. أنا؟ أأنا لا أمررها؟ يكفيني مقدار
إصبعين...
كنت هذه المرة محظوظاً فالحادثة وقعت في وسط المدينة. وصلت الشرطة بسرعة. ملؤوا بنا
تكسي أخرى.. لم أستطع ولا بأي شكل الدخول إلى ما تحت، وقطع علاقتي بما فوق ،
التراب.
كأن ما يتحمله الواحد منا وهو حي لا يكفي، ليتحمل وهو ميت.
أتركك بعافية يا أختي ذبابة الحمار، وأتمنى لك دوام السعادة.
حمار ميت
نوع من أنواع الرقص الغربي الرباعي الإيقاع.

الأربعاء، 8 مايو 2013

كيف نقل الجرحى بالتاكسى

 الرسالة السابعه

الحبيبة ذبابة الحمار:
لقد شرحت لك في رسائلي السابقة مصاعب الموت. لا أقصد تحطيم معنوياتك نهائياً. أحكي
ما حدث لي تماماً وبواقعية، بعدها تصرفي كما يحلو لك، اصبري إن أردت العيش، أو موتي
إن أردت التخلص..
أبدأ الحديث من حيث توقفت في الرسالة الماضية. صدم السائق مقدمة سيارة الإسعاف صدمة
لينة بشجرة .المعاون أو من نزل من الإسعاف، وقال:
-ليس في أي عطل فني.
قال للسائق:
-ماذا ستفعل الآن يا معلمي؟
-الله يلعن الشيطان، في الداخل ميت وجريح ينزف.
-لنوقف سيارة عابرة.
تمر السيارات من يميننا ويسارنا (وظ..وظ..) دون توقف.
قال السائق:
-لا أحد يقف لنا.
-لماذا؟ أمن أجل النقود؟ يأخذ نقوده من المشفى.
-أي غبي يحمل جريحاً في سيارته لتتصبغ بالدم. سائقو هذه الأيام لا ير ّ كبون معهم من لا
يعجبهم من الأحياء. أنا كنت سائق (تاكسي) قبل أن أعمل في الإسعاف. أنا (فنار بهجي*)
متعصب. لونت داخل السيارة ، خارجها، فرشها، هيكلها وعجلاتها بأعلام* فنار بهجة
صارت مثل العروس. أنتظر على الموقف. يأتيني زبون. أنظر إلى شكله. إذا لم يدخل
مزاجي أدبره قائلاً: "عندي زبون يا صاحبي" يأتي آخر، أصرفه .أحياناً يتوجب علي أن أقوم
بمناورة عودة معه فأسأله "إلى أين ذاهب؟" إذا كان ذاهباً إلى مكان على مزاجي، آخذه. إذا
كان ذاهباً إلى مكان قريب أن طريقه خربانة أو لا يعجبني اسمه لا آخذه أيضاً.. وإذا كّلب
الرجل وأصبحتُ مضطراً لإيصاله، آخذه بالحديث حتى أوصله إلى سؤاله عن حزبه أو فريقه
الرياضي. الحزب غير مهم، من المعيب واللاديمقراطية أن أتكلم إذا لم يكن من حزبنا، أما إذا
كان من أنصار فريق خصم للفنار بهجة، أقود السيارة ببطء لكي لا يصل إلى المكان الذي
يريده في الزمن المناسب، ثم أقف في مكان خاوٍ، وأقول خربت السيارة وأنزله منها. أختار
في هذه الحالة مكاناً يسير فيه المقلب على أكمل وجهه، بحيث لا يجد سيارة ويكمل مشواره
ماشياً. هذه صنعة ليست سهلة، كل شخص ممكن أن يقود سيارة، ولكن الشغلة، في معرفة
هذه الأشياء.
سأل المعاون السائق مرة أخرى:
-ماذا ستفعل الآن؟
قال:
-سهلة، لو وقفت إحدى هذه السيارات.. ننظر إلى الشعار المعلق (بالتاكسي). عليك أن تمثل
دور النصير للفريق المعلقة شارته في السيارة، ثم تبدأ الحديث "لعب جماعتنا في الأسبوع
الماضي (كويس)، لكن الحظ لم يحالفهم.." أو بعبارة أخرى من هذا القبيل، ويكمل الرجل
الباقي. بعد لحظات تجد نفسك أقرب إلى الرجل من أقربائه. من الممكن ألا يأخذ منك الأجرة
. عملنا الآن إيقاف سيارة. يا الله، انزل إلى الطريق وحاول إيقاف) تكسي!(
نزل المعاون إلى وسط الطريق. رفه يده لإحدى السيارات التي تذهب وتجيء) وظ وظ ) .
كانت سيارة خاصة. أخرج الرجل يده من الشباك ملوحاً. قال المعاون بينما كان الرجل يلوح
بيده وهو ذاهب:
-أماه، الرجل سّلم علينا.
قال السائق:
-رد السلام ولاه. السلام لله. إذا أحد سّلم ، عليك أن ترد. حتى إذا سّلم عليك عدوك اللدود،
عليك أن ترد ب "عليكم السلام."
أعطى المعاون إشارة توقف لسيارة أخرى فمدت من نافذة السيارة رِجلُ امرأة. كلما ألح
المعاون بتلويج يده، كانت رجل المرأة تُّلوح أيضاً. غَضِب المعاون ، قال:
-واخ سافلة، تسلم برجلها..
قال السائق:
-لا تزعل هذا السلام ليس لك، الرجل الذي في داخل السيارة هو الذي كان يسلم.
بينما كان المعاون يقترب ليوقف سيارة قادمة، قال له السائق:
-لا تُتعب نفسك. هذه لا تقف.
-لماذا يا معلمي؟
-أولاً، سيارة خاصة. ثانياً ، انظر إلى الرجل الذي يقودها. إحدى يديه على المقود والثانية
على كتف المرأة بجانبه! لو وضعت إشارة رسمية أمامها لقفزت من فوقها مثل حصان سباق
يجتاز حاجزاً. إذا خرج زوج المرأة التي في السيارة عندها لا أدري...
وكما قصد السائق حصل. عندما اقتربت السيارة منا، ازدادت سرعتها حتى أن المعاون انكب
على الأرض ليتجنب تأثير ريحها..
قال المعاون:
-فرمان سلطاني لا يوقف هؤلاء.. ماذا سنفعل؟ الرجل ينزف سوف لا أرد .سأخرج أمام أول
عربة تمر.
لم يكد ينهي كلامه حتى خرجت سيارة مثل العاصفة. كان المعاون سيرمي نفسه أمامها لولا
أن مسكه السائق من يده.
-أمجنون أنت؟ الأغرار مثلك يظنون أن السائق يكفيه أن يتعلم القيادة ويأخذ فكرة عن
المحرك.
-طبيعي، وقواعد المرور أيضاً.
-هذا لا يكفي حتى تصبح سائقاً جيداً.. ما عليك أن تتعلمه ما هو خارج القاعدة. وهل يمكن
الوقوف أمام تلك السيارة؟ إنها دليل عزرائيل.. هذه السيارة تدور في شوارع المدينة على ابن
آدم لتأخذه تحت عجلاتها. قبل كل شيء انظر على لوحتها ثم لونها.
-ما لوحتها؟
-من التي يسمونها البلاء الوطني.
-لونها؟
-يغطط القلب.
لم يكد يتحرك المعاون لإيقاف سيارة من بعيد حتى أمسكه السائق من يده وشده وصاح به:
-أجننت؟
أتت السيارة باتجاه الإسعاف تصفر مثل سهم. قفز كل من المعاون والسائق خلفاً، أنقذا
روحيهما.
قال المعاون:
-أنا أعرف أن الحيوانات تَكْلَب. ولكن هذه أول مرة أرى فيها سيارة كَلِبة.
قال السائق:
-ليست السيارة هي الكلبة بل الذين بداخلها كلاب. إنهم من أولئك الذين" يعيشون بسرعة."
-من هم أولئك الذين يعيشون بسرعة؟
-أولئك البليات ذوو الأرواح، الذين يربون على دلال أمهاتهم وصرف نقود آبائهم التي تأتيهم
من دون تعب .يعيشون بأقصى سرعة. لماذا يعيشون بسرعة؟.. في الألف شخص في هذه
الدولة يعيش واحد فقط ويظن الباقون أنهم يعيشون.. هذا الواحد سريع جداً لأنه بدل من ألف..
ضع في سيارة الإسعاف المهترئة هذه بدلاً من كل ألف حصان ألفاً. كيف تسير؟ هكذا
يسيرون.
كانت ثمة سيارة آتية، لا يقال عنها آتية لأنها أخت الريح، منطلقة في الطريق مثل الرصاص.
مرة إلى هذا الطرف ومرة إلى ذاك راسمة خطاً متعرجاً، قال السائق:
-من الممكن أن تقف هذه السيارة.. ليس لها مستقبل، لأنهم ملؤوا خزانها بالعرق بدلاً من
البنزين. غداً ستقرأ في الصحف أن السيارة سقطت بالبوسفور.
سألني الجريح الذي بجانبي:
-عفوكم، لماذا أنتظر؟
قلت:
-أعذروني، أنا لا أستطيع الكلام لأنني ميت ولكن لم يخرج لأن صوت الأموات لا يسمع.
لكون المعاون شاباً حساساً. فهو يريد أن يفعل شيئاً لإنقاذ الجريح لذلك كان يخبطً دون جدوى .
قال:
لأتصل من مكان ما هنا بالمشفى على الأقل يرسلوا لنا سيارة نأخذ بها الجريح.
قهقه السائق حين سماعه هذه العبارة كانه سمع طرفة. لشدة ما ضحك (تدعبل (على الأرض
حتى كأنه أصيب بنوبة عصبية.
-ماذا حدث؟ ما هنالك يا معلمي؟ لماذا تضحكون؟
كان السائق يتأتئ بأشياء مثل ( ت .. تل .. تلفون .. هاء) ثم تخلص من زوبعة الضحك،
وسأل:
-ألا يوجد هاتف؟
-إذا كان على وجوده فهو موجود. ولكن ما فائدته إذا لم ينفع للاتصال.. واخ واخ واخ..
حتى تتصل وتتكلم مع المشفى لا يبقى في جسد الجريح نقطة دم.
-صحيح، من دوختي، ظننت أنه يمكن الاتصال بهواتفنا.
نط السائق قائلاً:
-يا هوه.. كيف لم نر هذه السيارات كل هذه الفترة. أنظر إنها واقفة في ظلال الأشجار..
اذهب لعلك تجد صاحب ضمير يساعدنا.
ذهب المعاون. عند عودته كان يبدو اليأس على وجهه
قال:
-في تلك السيارات أناس من طبقة اجتماعية راقية جداً.
-كيف عرفت؟
-كل هذه الفترة وأنا أراقبهم. من خلال مراقبتي لم أر أياً منهم في وضع طبيعي.. هذا يعني
أنهم من الطبقة الاجتماعية الراقية .. لا أدري ماذا يسمونهم؟ طبق القتسطة على ما أظن.
-ليس طبق القتسطة يا بني. طبق القشطه؟
بعد أن عملا فترة طويلة على إيقاف سيارة في الطريق ، وقف تكسي أخيراً .عندما فهم
السائق أنهما ليسا من الزبائن، وأنهما موظفا الإسعاف التي تحمل مواطنين عملا حادثاً فقال:
-مشغول، ذاهب لعند زبون.
قال سائق الإسعاف:
-نحن أبناء مهنة واحدة. لا تعمل فينا هكذا نقاصة. أخذت رقم سيارتك والباقي تعرفه أنت.
قال سائق التاكسي بعد هذا الكلام:
-يالله لم يطاوعني ضميري على ترككم، لو دفعتم أم المئة أوصلكم إلى أقرب مشفى.
بينما كنا نضع الجريح في السيارة. بدأ سائق التاكسي يصرخ:
-لا يصير. رجعت بكلامي. انصبغت السيارة بالدم.
سأله سائق الإسعاف:
-من أي نادٍ أنت؟
-بشكطاشي.
-ولاه يا صاحبي، هل يمكن أن تكون بشكطاشياً وتترك جريحاً بشكطاشياً وسط الشارع؟ ولا
تسأل من يكون هذا الجريح؟ ألا تعرف أن هذا الجريح هو جناح فريقنا الأيمن؟
وقف سائق الإسعاف أمام الجريح كيلا يرى وجهه وهو يتكلم.
قال سائق التكسي:
-واخ واخ ما كنت أعرف.. ثم جلس خلف المقود.
-كنت قل هذا من الأول يا أخي.. آخذه على رأسي. ما السيارة فداؤه، قل بشكطاشي قبل أن
تُركبه.
ذبابة الحمار الحبيبة، هذا أنت ترين. إذا كان على الموت فقد مت، ولكن لم أمت رسمياً حتى
الآن.
مع أجمل تمنياتي
حمار ميت
*أحد أندية الدرجة الأولى (فنار بهجة.(
*لكل نادي علم خاص به يحمل ألوانه.

الثلاثاء، 7 مايو 2013

اصتدام سيارة الاسعاف بشجرة

 الرسالة الخامسه

عزيزتي ذبابة الحمار:
وعدتك في رسالتي السابقة أن أحكي لك كيف أُصلحت سيارة الإسعاف، ونُقلنا إلى المشفى .
اسمعي:
أدخل المصلح رأسه داخل المحرك محاولاً معرفة مكان العطل. لكنه لم يستطع بأي شكل،
رغم تكرار المحاولات. كان يخرج رأسه بين فترة وأخرى يسب ويشتم لمدة دقيقتين، يرتاح
بعدها، يشرب سيجارة. ثم ينحني على المحرك من جديد يحادث سائق السيارة.
-يا أخي ما دام الرجل أتى إلى هنا لشراء هذه التحفة. لو كنتم) أرخصتموها) عليه وتخلصتم
من هذه البلية. أنتم تتخلصون، ونحن أيضاً، والوطن كذلك ...من ناحية، لو أخذ هذه الخردة
إلى هناك ووضعها في (شادر) وقطع بطاقات من أجل رؤيتها.. سيجمع من ورائها نقوداً
كثيرة... انحنى مرة أخرى على المحرك وبعد فترة من ( خربطته) قال:
-كيف لي أن أكشف العطل وليس في هذه السيارة شيء سليم؟
رفس السيارة. تألمت قدمه. ذهب إلى الدكان وهو يعرج. جلس القرفصاء أسفل الدرج. كيفما
كان، أنا ميت ولا يستطيعون إنقاذي... يا ليتهم استطاعوا إنقاذ الجريح الذي بجانبي .قذف
معاون سيارة الإسعاف بصقة على الجريح الذي في العربة وقال:
-في حياتي لم أرى أنحس من هذا الرجل.
غضب السائق وبدأ يحادث نفسه:
-يمشون في الطريق ولا ينظرون أمامهم فيدهِسون أنفسهم ويبلوننا.
انضم المصلح إلى الحديث من مكانه:
-ماذا يستفيدون من النظر أمامهم.. إذا لم يدهسوا بالسيارات التي تأتي من أمامهم. فيدهسون
بالتي تأتي من خلفهم.
-استغفرك يا رب.. لا تدخل في شؤونه تعالى.. سبحانك يا الله، فعلت حسناً أنك خلقت
للإنسان عينين اثنتين.. لكن بدلاً من أن تجعلهما بجانب بعضهما، لو وضعتهما واحدة في
الخلف وواحدة في الأمام.
قال المعاون:
-عندما خُلق الإنسان لم تكن هناك زحمة مواصلات مثل الآن.
قال السائق للمصلح متوسلاً:
-دخيلك يا معلم. دخيل عينيك... الجريح يموت داخل السيارة من النزف.. قد يطلع أحد
أقربائه مسؤولاً فنبتلي.. دبرها، الله يخلي لك) هالعين (
وقف المصلح ودس رأسه تحت غطاء المحرك. وخربط فيه لفترة .. نهايتها عرف أين عطب
المحرك. عرف لكنه لم يجد القطعة المطلوبة.
قال:
-لا يوجد منها.
-دخيلك يا معلم.
قال المعاون:
-إذا كانت غير موجودة في أي مكان ، سأذهب وأسأل الصيدلية.
قال السائق بلهجة تأنيب:
-هو دواء ولاه..
قال المعاون:
-أين الدواء من الصيدليات يا معلمي.. حتى الاسبرين لا تجده في الصيدليات. ما عدا الدواء
كل شيء موجود.. ممكن أن نجد القطعة التي نبحث عنها.
-لقد جربت كل القطع التي عندي ليس بينها ما يصلح. منذ فترة، وقعت تحت يدي خردة
محرك طائرة نفاثة لأبحث بينها لعلي أجد ما يركب مكان القطعة.
قال السائق:
-إذا كان أجل هذا الجريح لم يأتِ بعد ستركب إن شاء الله.
أدخل المصلح يده بين القطع الصدئة وهو يقول "بسم الله" ثم أخرج واحدة، نفض عنها الغبار،
وضعها على طاولة العمل، بردها بالمبرد الخشن ثم الناعم، (جلخها)، عمل لها عملة. أدخلها
في مكان من محرك السيارة. ثم وقف مقابل السيارة وصرخ فرحاً:
-إيه، ما شاء الله، كأنها تفصيل ياه..
جلس السائق في مكانه من السيارة قال المصلح:
-النقود.
رد السائق:
-تعال إلى المشفى، اقبض نقودك.
-هذا يعني، احترقنا.
-لا تشغل بالك، تتأخر قليلاً. ولكن من المؤكد أنك ستأخذها.. ارفع مقدار الفاتورة وقابلنا بعد
أن تقبضها.
-فهمت لماذا كان السائق لا يريد أن يتخلص من الإسعاف. لو كانت جديدة ، لما احتاجت
للتصليح بهذا القدر. وبالتالي تقطع رزقه. هذا ما فهمته من قول المعاون للسائق:
-ما يدفع لتصليح هذه الخردة لمدة ستة شهور يكفي لشراء سيارة إسعاف جديدة.
-يبدو أن السائق فهم أكثر مما تعنيه حرفية هذا الكلام.
-لا تطولها، سأنظر في أمرك.
-قال السائق:
-يا الله.
صاح المصلح من خلف السيارة.
-انتبه! لا تسرع. إنها قطعة نفاثة، الله يحميها. من الممكن بأن تفاجأ أن خردتك هذه تطير.
بتدوير مفتاح التماس، وضغط السائق على (المرشْ) اهتزت العربة، زعقت، رفعت أنفها في
الهواء، سارت وهي ترتجف.
صرخ المعاون:
-نطير أم ماذا !دخيلكم!
قال السائق:
-حتى الآن، ولكن من الممكن أن نطير.
حدثت هزة قوية.
-هل هذا جيب هوائي.
-لا تمد ذراعك من النافذة ولاه.
-لماذا؟
-حتى الآن يسأل . سيصبح ذراعك جناح وتطير السيارة.
عدنا ندور في أزقة المدينة المتعرجة الضيقة. قال السائق:
) -يقطعها من هالعادة) السافلة، لا تمشي، لا تمشي، بعدها إذا مشت لا تعرف التوقف... آخ.
-دخيلك ما الذي حدث؟
-هزة قوية أسقطت كل قطع المحرك.
-لا تقلها يا معلمي.
-لم يبق في السيارة ما يدعى محرك.
-كيف تسير؟
-ألم ننطلق بسرعة، إنها تسير الآن بقوة ذاك الانطلاق...
-إلى أين ذاهبون؟
-غير معروف، قاع جهنم مثلاً.
-ماذا سيحدث.
-من أين لي أن أعرف.
-دخيل الحمار.. وهل يوجد مثل الحمار.. لو حملته زيت نفط لما طار هكذا .يستعملون
الحمار، عندما يذهبون لنزهة يصطحبونه معهم. من ناحية العناد فهو عنيد، ولكن مهما فعل،
في النهاية يعود إلى اسطبله لا يمكن أن يفعل مثل هذا. لا تدري إلى أين ذاهبة. إذا ركبت
الحمار وسرحت به فما عليك إلا أن تتركه يفلت نحو الاسطبل فيعود لوحده. عندما تصل إلى
الباب "تك" يقف. لا يفعل مثل هذه ، تذهب وتجيء من أمام باب المشفى دون اكتراث. لا
يمكن أن تكون أرواح المواطنين مؤمنَة إلا إذا صنعوا سيارة إسعاف تدخل (الكراج) من
نفسها.
قال السائق:
-ليس هذا وقت للهبل، انكب كل البنزين، ورغم هذا تطير . لو نصدمها في مكان ما ونوقفها
ليس من طريقة أخرى لتوقيفها ، زودّتها.
قال المعاون متوسلاً:
-دخيلك! إذا كنا سنصدم فاختر لنا مكاناًَ جميلاً، مرتفعاً ويكشف البحر.
-ما قولك في شجرة؟
-لا بأس ولكني منحوس ، الآن نصطدم في شجرة ايلنطس*. أو أجاص بري فيصبح موتنا
فاجعة فوق فاجعة. إذا كان لا بد للإنسان إلا أن يصطدم بشجرة فلتكن مزهرة.
-تفوه. كنا سنصطدم بالجدار.
-الجدار مكتوب عليه: "مكان خاص لتبول الحمير"... انتبه لا تصطدك فيه فتنعفس السيارة
وتغدو رقيقة وتلصق بالجدار فيظنها المارة إعلان جداري لمعمل السيارات.
بينما كانوا يبحثون عن مكان جميل ولين مناسب لصدم السيارة وقعت هزة كبيرة أخرى أخذنا
بعضنا إثرها – أنا والجريح – بالأحضان. قال الجريح:
-عفواً
الرجل لا يتنازل عن تربيته حتى وهو في طريقه للموت. كوني ميت لم أخرج صوتي قال
السائق:
-الحمد لله أننا اصطدمنا ووقفت السيارة ومرت على خير
ذبابة الحمار الحبيبة، هل يموت الإنسان لو كان يعلم أن كل هذا سيقع له. جمل لو كانت
انتهت عند هذا. لم يكفِ ما كنت أعانيه في حياتي، هناك ما ينتظرني بعد مماتي.
في رسالتي القادمة سأحكي لك ما وقع لي بعد ذلك.
مع تمنياتي بالنجاح والسعادة يا عزيزتي ذبابة الحمار.
مع محبتي وأشواقي
حمار ميت
*نوع من الشجر الحراجي. موطنه الأساسي الصين نقل إلى أوربا وانتشر بسرعة هناك لكونه سريع النمو
وكثيف الظل. رائحته غير جيدة.

الاثنين، 6 مايو 2013

حكاية عطل سيارة الإسعاف

الرسالة الرابعة


ذبابة الحمار

مع فرملة سيارة الإسعاف وخروج صوت منها محملاً بالمرارة ، وصل أحد المواطنين إلى مرحلة كاد أن يمسح اسمه من قوائم الانتخابات وسجلات النفوس. ولأن لا مال له ولا جاه، التف حول الرجل الجريح الملقى على الأرض، جمع غفير من المواطنين ممن لم يجدوا وسيلة أخرى للتسلية.
قال واحد منهم:
- محظوظ هذا الرجل.
قال آخر:
- نعم لا يمكن أن يكون هناك إنساناً محظوظاً أكثر من هذا. ليشكر ربه على أنه دُهِس بسيارة إسعاف.
- هذا ما اسميه حظاً.
- المريض المكتوب له أن يعافى يأتيه الطبيب إلى قدميه.. أليست الحسبة نفسها. السيارة التي عفست الرجل تأخذه إلى المشفى. ماذا لو عفسته سيارة أخرى..
- كان سيحرق نفسه. لو تخبط طول النهار على الرصيف لما وجد سيارة إسعاف.
- لا إسعاف يا سيدي.. نحن راضون بسيارة زبالة.
- واخ واخ.. أنت تطلعت عالياً أكثر من الحد.. أين نحن من سيارة زبالة. منذ أسبوع ولا تتنازل للمرور من حارتنا.
- حظ.. هذا حظ يا أخي.. اسطنبول، طولها وعرضها، كم ألف شاحنة فيها، وكم ألف سيارة خاصة ومن نفس العدد (تكسي)، وكم ... وليس فيها أكثر من خمس – ست سيارات إسعاف واحدة منها، تدور .. وتدور... وتدور... وتجد هذا الرجل، أي حظ هذا؟!!
- لا ، عند البلدية عشر سيارات إسعاف، ثمانية منها معطلة باستمرار.
- نعم، على قولك ياه.. من بين كل الألوف من السيارات الصغيرة والشاحنات والباصات تصدمه سيارة إسعاف.
- الفائز بالجائزة الكبرى باليانصيب، لا يعد محظوظاً مثل هذا.
- بالضبط.. المحظوظ فعلاً ، هو من يُصدم بسيارة إسعاف كهذه.
- بعد أن يموت الإنسان ما الفرق معه أن يُدهس تحت سيارة إسعاف ، أو شاحنة، أو سيارة زبالة أو سيارة خاصة؟
- لا فرق إن مات. ولكن تفرق كثيراً لو أنه لم يمت.. وهذا الرجل لم يمت بعد.
كان الرجل المصدوم قد طار مقدار عشر خطوات إلى الأمام في الهواء وسقط على الأرض.. وقد ملأت دماؤه التي تسيل من جروحه ومن فتحات جسمه حفر الإسفلت.
قال أحد المتجمهرين:
- ما شاء الله على دمه.
قال آخر:
- من الواضح ، بالنظر إلى كمية دمه أنه ذو شأن.
- أي شأن أنا أعرفه؟
- إذا كان غير ذي شأن فمن أين له كل هذا الدم؟ انظر الدم يجري وكأنه من ثور مذبوح.
- هذا الرجل محترف بيع الدم(للبنك). كان يحمل مذياعاً صغيراً يضعه على أذنه عندما يقول المذيع مريض بحاجة إلى دم.. يذهب بسرعة إلى المشفى أو (بنك الدم) إن كان دمه يطابق الدم المطلوب. كان يعيش عال العال من بيع الدم.. جسم هذا الرجل الذي أمامك، إذا شرب ماء يحوله إلى دم.
- في يوم من الأيام صدمتني شاحنة. غبت عن الوعي. إن أردت الحق فأنا غبت عن الوعي قبل أن تصدمني بكثير.. المهم، شاحنة بوزن عشرة طن عفستني ولم تسل مني قطرة دم واحدة.. في اليوم الثاني رفعوني من وسط الشارع إلى المشفى. لحظة قول الطبيب "سنجري له جراحة" بكت أمي كثيراً وأصبحت عيناها مثل نبعين وقالت للطبيب "دخيلك يا بني، مادمتم ستعملون له عملية، صارت وصارت، ابني عنده فتق والزائدة، اعملوا له إياهما ينالكم الثواب" .. مددني الطبيب على طاولة العمليات وبدأ الذبح والقطع يقطع ويقطع دون أن تسيل نقطة دم واحدة.
- يعني دمك جاف.
- لا يا أخي أين الدم ليجف.
- إذا جف دم الإنسان فليشرب عرقاً، يتميع فوراً.
- ماذا تقول.. أين الدم ليفسد.
- لا تقبلها، وهل يعيش الإنسان دون دم؟
- ودهش حتى الأطباء.. حتى إن الطبيب الذي عمل العملية قال "لا بأس أن لا دم فيه. لو كان عنده دم حين دهسته الشاحنة لسال وسال حتى لم يبق منه شيء.. عندما كان سيموت" لا يوجد عندي دم ليسيل.
- لا تصدقوه، كذاب.. وهل يدخل في العقل: أن الإنسان يعيش دون دم؟
- لا يمكن مطلقاً أليس دم كل شخص أحمر، دمي أنا أبيض. أتعرف البطيخ قبل أن يصبح أحمر كيف أن لونه يميل إلى الصفرة. دمي من ذاك اللون.
- أيعقل هذا؟
- وهل تحمّر البندورة إذا لم تتعرض للشمس؟ لا، دمي أيضاً. أنا ولدت ونشأت في قبو ولعدم رؤية جسمي الشمس لم يحمرّ دمي.
- ها.. الآن صار كل شيء آخر.. معقول.. قل هذا من البداية.
رموا الرجل المصاب بجانبي. أصبحنا في السيارة جريح وميت والمعاون والسائق وأربعة. ضرب العناد رأس السيارة ولم تعد تمشي... أية عربة هذه ، إذا مشت لا تعرف الوقوف، وإذا وقفت لا تمشي.
قال أحدهم:
- في الجوار ورشة تصليح . لندفعها إلى هناك.
بدأوا الدفع بالحكي.. اللعبة القديمة تجددت. ليس إيصال العربة هو ما يريدونه، لكنهم يريدون أن يتسلوا.. تسلية من دون نقود.
قال واحد من بينهم:
- هل تعرفون كيف رفع أربعون شخصاً بيضة واحدة.
- بيضة واحدة، أربعون شخصاً، وماذا أيضاً؟
- سيدي، قال الملازم أول للجنود "ارفعوا هذه البيضة من هنا" ثم ذهب. إثر ذلك اجتمع الجنود، أحضر أحدهم بطانية من المهجع ووضعوا البيضة فوق البطانية ثم مسك كل جندي جزءاً من حافة البطانية ورفعوها.
- وما القصد؟
- القصد، أنهم يدفعون سيارة الإسعاف بنفس الطريقة.
- بدلاً من تقديم نصائحك لهذا وذاك . . ادفع أنت..
التقى سائق الإسعاف، سائق (تاكسي) من معارفه، ربط سيارة الإسعاف في مؤخرة التاكسي وأخذها للمصلّح. عندما فتح المصلح غطاء المحرك ونظر إليه، صاح بأعلى ما يمكنه:
- ما هذا؟!!
رد السائق ببرود:
- ماذا حدث؟
- ما الذي سيحدث أكثر؟ أنا مصلح لمدة أربعين سنة، في حياتي لم أر محركاً كهذا.
- إذا لم تكن قد رأيت ، هذا أنت ترى الآن.
- في هذا المحرك قطع تبديل من كل أنواع الآلات، من ماكينة الخياطة حتى من ماكينة الحلاقة.
قال سائق الإسعاف ببرود:
- أخطأت بقولك، ماكينة حلاقة. هذا ليس لا أحد براغي (البسطون) لمحرك قطار. في أحد الأيام كنا ذاهبين إلى المشفى بسرعة قصوى مقدارها عشرون كيلومتراً. ومعي مصاب. في الطريق، تعطلت السيارة . أخذناها للمصلح. لم يجد المعلم بدلاً من القطعة الخربانة.
- فهمت..بسبب عدم وجود العملة الصعبة، لا يوجد قطعة تبديل لأي ماكينة. عندما لم يجد القطعة البديلة وضع هذا مكانها.
- لم يكن هذا هو السبب. موديل سيارة الإسعاف، قديم جداً. لا يوجد الآن أي محرك من نوعه. ما العمل؟ سيموت المصاب في السيارة من النزيف. لو كنا في المدينة، سهلة. كان بإمكانه لف الجرح، تعمل امصال على شكل طرد تضعه أمانة عند رجل ما، وتذهب إلى المشفى وتعطيهم خبراً. لكننا لسنا داخل المدينة. المهم، دلنا فاعل خير: "هناك ورشة للخطوط الحديدية، في الورشة معلم يفك محركات القطارات القديمة ويعمل منها جرارات. والجرار يعمل منه رافعة، عَمله، الفك وصنع أشياء أخرى. لا يستعصي عليه شيء" ذهبنا إلى تلك الورش. الرجل معلم أعطيناه الأجرة وفهم عطل المحرك. جرب كل ما في الخزائن، على الرفوف، في أرض الورشة من براغي، عزقة، مسمار، محور دراجة على دراجة على أن تركب مكان القطعة المعطلة في محرك سيارتنا، فلم تركب. بعدها طابق برغي مسنن ذراع (البسطون) لمحرك قطار، القطار الخاص بالسلطان.. لا أعرفه.. ركّبه للمحرك، فاشتغلت السيارة.
سأل المعاون السائق:
- ألهذا السبب يخرج صوت (شق، شق) من سيارتنا؟
قال السائق:
- من المحتمل.
قال المصلح للسائق:
- (بتحب الله)
- لا إله إلا الله.
- وبعد.
سيدنا ، بعدها ، وقع نظر بعض السياح على سيارتنا، صوروها ، نشروها في جرائدهم وكتبوا تحتها "سيارة، من قبل اختراع السيارات بخمسين سنة" عندما قرأ مدير المصنع الذي صنع سيارتنا الخبر. حمل نفسه وأتى إلينا لرؤية السيارة. كان المصنع يبحث عن أقدم سيارة صنعها، ليضعها في المتحف. عندما رأى الرجل سيارة إسعافنا – لشدة سروره – رمى قبعته في الهواء. وصرخ بالأمريكي "هووو...". اجلسوا للاتفاق. دفع الرجل مقابل خردتنا هذه عشر سيارات إسعاف جديدة، مع قطع تبديل. كانت سيارتنا تغطي عجز الميزانية.. المهم، جماعتنا لانوا قليلاً.. لا ندري كيف خطر ببال الرجل أن يرى محرك السيارة. لحظة فتحوا الغطاء ورؤيته للمحرك، شخصت عيناه، كأنه أصيب بمس. قال: "أنا أصنع سيارات منذ أربعين سنة لم أرَ ولم أسمع في حياتي عن محرك كهذا"
- ما سبب إصابة الرجل بكل هذه الدهشة؟!!
- لماذا لا يُدهش.. في محرك سيارتنا قطعة – قطعتي تبديل من كل ماركة من الماركات الموجودة على سطح الأرض. أو محركات مصانع أو سفن. لم يبق في المحرك الأصلي لا قطعة ولا حتى برغي. هذا يعني أننا خلال هذه الفترة فكينا كل قطع المحرك، وركبنا بدلاً عنها كل ما يقع تحت يدنا. بدأ الرجل يخربط المحرك مذهولاً. طلع بيده خيط. سأل: "ما هذا: قلت: "قطع السلك الذي كان هان فربطت الخيط مكانه". خرجت بيده قطعة مطاط من مكان آخر، فقال: طيب، وما هذا؟ قلت: هذه حمالة بنطالي. انقطع (قشاط) المحرك فوضعت مكانه حمالة بنطالي. كنت أتكلم مع الرجل بواسطة مترجم. قال الرجل "هنا اثنتان" قلت: "نعم حمالتي مقطوعة ففككت حمالة بنطال المصاب الذي في السيارة" عندها بدأ الرجل يشد شعره. بهزة صغيرة للسيارة نزل منها بين كبير وصغير عدد من البراغي والمسامير!! بيورات خشبية! أمسكت بيده وقلت: "لا تُعامل هذه السيارة كما يعامل المواطن في مديرية الأمن عند التحقيق" سأل: "ما هذه المسامير؟ هل تحمّلون في السيارة مسامير!". نستعملها لتثبيت القطع التي نركبها بدلا من الأولى. عندما تمشي السيارة في طريق صاعد ينزل المعاون ويلملم البراغي والمسامير من خلفها. غضب الرجل، تغير لونه وسأل: "كيف تمشي هذه السيارة؟ أتى دوري في الكلام، ولم أعد أحتمل، سحبت الرجل من يده وأقعدته خلف المقود. تكلمت والمترجم يترجم له: "هل تظنون أن بإمكان السيارة المسير بالمحرك الذي صنعتموه أنتم؟ ! طز . لو بقيت على ما صنعتم لخربت بل وعفنت منذ زمن طويل.. البركة في دعائنا. انظر فوق المرآة ، انه دعاء النمل. هنا "البسملة" وهناك "ماشاء الله" وفي السقف "ياحافظ" وهذه خرزة زرقاء تحمي السيارة من عين الحسود. هذه فردة حذاء طفل قديمة، وحدوة ورأس ثوم تجلب الحظ للسيارة... وهذا درع سلحفاة صغيرة تحمي السيارة من الحوادث. اصحُ لنفسك يا سيد.. هذه السيارة لا تعمل بقوة البنزين والمحرك. هذه تعمل بقوة الله ونبيه. قال بنزين، قال زيت، قال ماء.. هذا كله حكي فاضي. لو أننا نضع بنزيناً وزيتاً وماءً لكانت السيارة سيارتكم. أعلم أننا لا نضع هذه الأشياء إلا مراعاة للأصول. "عَدَلَ الرجل عن شراء سيارتنا، وترك (هالكافرة) على رأسي. ليس في هذه السيارة أي قطعة باستثناء الهيكل وهو مثل (البقجة) المرقعة. بالتالي لا يستطيعون قيادة هذه السيارة أبداً.

طالت الرسالة يا ذبابة الحمار الحبيبة وأنا تعبت أيضاً. في الرسالة القادمة أحكي لك كيف أُصلحت السيارة، وكيف نُقلت والرجل الجريح إلى المشفى . لو سأل عني أحد، وأبدى حزنه بعد موتي قولي له إنني أنتظره بشوق في المقبرة.

لك إخلاصي
حمار ميت