‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب وفلسفة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب وفلسفة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 2 ديسمبر 2012

نيتشه والعدمية الأخلاقية


نيتشه والعدمية الأخلاقية


ترجمة: أمير زكي
ديسمبر 2012

* ويليام لارجأستاذ الفلسفة بجامعة جلوسستر شاير – بريطانيا

شكر جزيل للسيد ويليام لارج على سماحه بالترجمة
Many thanks to Dr. William large who permitted to translate his lecture

***

في الثقافة الشائعة، يرتبط الفيلسوف نيتشه عادة بالعدمية الأخلاقية. ربما نعرّف العدمية على أنها غياب القيم العليا. ترتبط بالعدمية الأخلاقية النسبية الأخلاقية. النسبية الأخلاقية هي الاعتقاد بأن كل القيم - وخصوصا لأنه لا توجد قيم عليا - هي مجرد تعبير عن التفضيل الشخصي. على أي حال فللسخرية فإن هذا النوع من وجهة النظر الأخلاقية تحديدا هي ما ينتقده نيتشه. فبدلا من أن يكون عدميا فهو مضاد للعدمية. العدمية هي تشخيص لانحلال الثقافة الغربية، أكثر منها وضعا أراده نيتشه، أو يريدنا أن نطمح إليه.

ما هو سبب وأصل العدمية في المجتمع المعاصر؟ إنه الهدم المستمر لكل المعاني والدلالات، إنه الاعتقاد بأنه لم يعد هناك شيء يهم حقا، لأنه لم يعد هناك شيء ذو معنى حقا. ليس لدينا منظومة معتقدات أو قيم يمكنها أن توجهنا. منظومات المعتقدات القديمة كالدين والآخلاق لا تزال موجودة، ولكننا في أفضل الأحوال نتبعها بنصف إيمان، وفي أسوأها نعتقد أنها لا تحمل معنى مع ذلك. إنها موجودة فقط على حواف حيواتنا ووعينا. ولكن ليس العالم فقط هو الذي لم يعد يحمل معنى، نحن أنفسنا لم نعد نحمل معنى لأنفسنا. لِم علينا أن نختار مجموعة الأفعال تلك على حساب أي مجموعة أخرى؟ ما الذي يظل يعنيه هذا طالما أن الحياة الفردية للكل لم تعد تحمل دلالة وسط المخطط الكبير للأشياء؟ كما يصف ميشيل هار[1]:

"لم يعد هناك شيء يعني الكثير، كل شيء يعود إلى نفس الشيء، كل شيء متساو، كل شيء هو نفسه ومتكافيء: الصح والخطأ، الخير والشر، كل شيء منتهي الصلاحية، مستهلك، قديم، رث، محتضر: ألم المعنى غير المحدد، الغسق الذي لا ينتهي، ليس اندثارا محددا للدلالات، ولكن سقوطها غير المحدد".  (Allison 1985, p.13)

بالتالي سيكون من العبثي تماما أن نزعم أن هذا ما رغبه نيتشه. على العكس، هو أراد أن يشخص كيف وصلنا إلى هناك. ثقافتنا تشبه شخصية الله في ثلاثية فيليب بولمان: "المواد المظلمة"[2]: كبير ومستهلك، بالكاد يحيا، وبالتأكيد ليس شيئا علينا أن نظل نؤمن به.

الجانب الأخطر في العدمية على كل حال هي أنها في النهاية تصبح سعيدة وراضية عن نفسها، طالما اعتدنا على أن نشعر بالخوف والرعب من حقيقة أن الدين والأخلاق لم تعد تحمل أي معنى حقا، ولكن الآن نحن سعداء لأننا نعيش في عالم بلا معنى. أحد الأمثلة على هذا الرضا هو موت الله. مرة أخرى علينا أن نذكر أنفسنا بتلك الفقرة في "العلم المرح"، حيث كتب نيتشه عن المجنون الذي اندفع إلى السوق وأعلن أن الله مات. العديد من الناس قرأوا هذه الفقرة على أن نيتشه يحتفي ببساطة بالإلحاد، ولكن إن قرأنا هذه الفقرة بحرص، يمكننا أن نرى أن ما تصفه بحق هو كيف أن الناس العاديين لا يهتمون حقا إن كان الله ميتا أم لا. هذا هو المخيف بحق. ليس أن الله ميت، ولكن أن أحدا لم يلاحظ أنه مات:

"ألم تسمعوا عن المجنون الذي أشعل المصباح في ساعات النهار المضيئة، جرى إلى السوق وصرخ بدون توقف: "أنا أبحث عن الله! أبحث عن الله! – في حين كان يقف حوله وقتها العديد ممن لا يؤمنون بالله، يستثيرهم الرجل ليضحكوا أكثر. سأل أحدهم: هل تاه؟ وسأل آخر: هل ضل طريقه كطفل؟ أم أنه يختبيء؟ هل هو خائف منا؟ هل ذهب في رحلة؟ هاجر؟ - وهكذا صاحوا وضحكوا". (Nietzsche 1974, p.181)

كيف يمكن لهذا المشهد أن يكون إعلانا عن الإلحاد، بينما الناس الذي يعلن عليهم المجنون موت الله هم في الحقيقة ملحدون؟ لا، ليس هذا هو ما يعتقد نيتشه أنه هام لفهمنا. حقيقة هذه الفقرة تأتي لاحقا، عندما يخبرهم المجنون بأنه نحن من قتلنا الله: "نحن قتلناه – أنتم وأنا". (Nietzsche 1974, p.181) إلا أنه مع كوننا قتلة الله نحن نظل بلا فكرة عن عالم بدون الله، بدون قيم تعني شيئا، وبسبب ذلك فنحن ما زلنا نتمسك بالعالم المثالي رغم أنه غائب. ليس كافيا أن ننفي القيم، لأن ساعتها كل ما سيتبقى معك هو النفي، والنفي معتمد بشكل كبير على الشيء المنفي. أقول إنني لا أؤمن بالله، ولكن وللتناقض فهذا اللا – إيمان هو معتمد على فكرة الله بنفس قدر الإيمان بالله، فبدون فكرة الله كيف يكون من الممكن أن تكون ملحدا. علينا أن نصل إلى ما وراء كلا من فكرتي الإيمان وعدم الإيمان. علينا أن نصل، ولنستخدم عنوانا لأحد كتب نيتشه، إلى ما وراء الخير والشر.

المصدر الرئيسي للعدمية هو النفي، وبالتالي فلكي نفهم العدمية علينا أن نفهم النفي، أو ما سيطلق عليه نيتشه الإرادة السلبية للقوة، هناك مصدران للقيم في العالم عند نيتشه: الارتكاسية والفاعلة. العدمية بكل أشكالها ارتكاسية، وهذا هو تحديدا السبب في أن فلسفة نيتشه لا يمكن أن تكون عدمية، لأنها ضد الإرادة الارتكاسية للقوة المذكورة.

نقد نيتشه للأخلاق هو لكونها في الحقيقة ثانوية. الأخلاق تقدم نفسها على أنها تقييم موضوعي منزه للعالم، ولكن تحت ذلك هي مجرد شكل آخر من إرادة القوة: الرغبة في الحفاظ على الذات، حتى لو عنى ذلك السيطرة على الآخرين عن طريق المراءاة والمكر. كل الأخلاق منافقة، ليس لأنها زائفة أو خاطئة - هذا الذي سيكون تبسيطا شديدا، طالما كان كل البشر يعيشون بالقيم، حتى لو كانت القيمة الأعلى في عصرنا هي ألا نقدر شيئا - ولكن لأنها تقدم نفسها على أنها ليست من هذا العالم، تتعالى على التوافه والمكابدات، موضوعية وصحيحة تماما.

نيتشه لا ينتقد القيم في العموم، ولكن القيم الارتكاسية، وهذه القيم هي التي قادت إلى عدمية الغرب. وبكونها قد نفت العالم، ولم تجد شيئا إيجابيا فيه، انتهت إلى النفي الكلي وتدمير نفسها. أما إرادة القوة الفاعلة فعلى العكس، فهي يمكن أن تُهزم عن طريق قوة فاعلة أخرى، ولكنها لا تبحث عن هدمها الذاتي.

القيم الفاعلة والارتكاسية تصف علاقات السيطرة والتبعية. ما هو ارتكاسي هو دوما رد فعل لما هو فاعل. إنه يجعل نفسه تابعا للقوى الأكثر سيطرة. ولكن من المهم أن ندرك ذلك؛ أن التبعية ليست غيابا للقوة. نيتشه يعتقد أنها تعبير عن قوة للسيطرة بنفس القدر الذي تجعل به نفسها تابعة. في الحالة الثانية، يحصل المرء على القوة عن طريق تكييف ودمج نفسه مع الحالة الحاضرة. هذه بالضبط هي الطريقة التي تعمل بها المجتمعات الحديثة. إنها القوة على التكيف والنفع، وهؤلاء القادرون على تكيف أفضل يكون لديهم قوة أكبر، وهؤلاء الذين يرفضون التكيف والتشابه والتطابق، تكون لديهم قوة محدودة أو يكونون بلا قوة على الإطلاق. "كن مثل أي شخص آخر، أو كن آخر!" هذا هو شعار مجتمعاتنا، ومدارسنا وجامعاتنا ليست سوى آلات لتنتج هذا القبول.

ولأن مجتمعاتنا، وربما المجتمع نفسه، هو ارتكاسي أصلا، فيكون من الأصعب أن نصف ما هي القوى الفاعلة. شيء واحد نعرفه هو أنها لا بد أن تكون مُقَدَمة، لأنه بدون القوى الفاعلة فلن تكون هناك أي قوى ارتكاسية، فأي شيء سترتكس ضده؟ هذه هي أول خطوة بعيدا عن العدمية. لأن العدمية تقول إن المقدم هو النفي. ولكن هذا هو بالضبط ما تقوله القوى المرتكسة: انف! ما هو فاعل، على العكس، هو الخلّاق، الذي يفرض الأشكال ويسيطر. كلمته الأولى ليست "لا" بل "نعم"، وما على المرء أن يخلقه أولا هو نفسه فيما وراء القوى الارتكاسية للمجتمع. مرة أخرى فنفي المجتمع ببساطة، والقيم المتضمنة بداخله ليس كافيا، فأن تكون معتمدا على قيم المجتمع الذي تزدريه تماما، وأن تنفيه كله دفعة واحدة سيكون المتبقي لك هو ثقب أسود. الفكرة هي أن تخلق قيم جديدة تقفز فيما وراء قيم المجتمع المنفية. هذا هو ما يدعوه نيتشه، كما وصف لدى ديلوز، "القوة الديونسية" (Allison 1985, p.83)..

ربما أفضل طريقة لأن نفهم هذه القوة يكون من خلال التمييز الذي صنعه نيتشه بين ديونيسيس ويسوع. حياة يسوع، كما يعرف من شاهدوا فيلم جيبسون "الآلام" هي حياة تبرير للمعاناة والتي تجعل الحياة نفسها شيء يسبب المعاناة والتي عليها أن تُبَرَر وتُشَرَّع كالمعاناة. هذا يجب أن يتميز عن ديونسيس، أو على الأقل ما يمثله الإله اليوناني لنيتشه. الحياة هنا لا تحتاج لأن تُبَرَر، وحتى لو كان هناك ألم، فبالتالي فهذا جزء مبرر في الحياة. ليس من المفترض ان يدفع لها الثمن من مكان آخر، كما أدت معاناة يسوع على سبيل المثال. الحياة ليست بحاجة لأن تُخلّص، لأنه لا يوجد شيء تُخلّص منه، الأحرى أن تتأكد الحياة كما هي. هذا هو ما يعنيه نيتشه بالعود الأبدي، التي ربما تكون واحدة من أصعب الأفكار:

"ماذا لو في ليلة ما، تسلل جني إلى أكثر أوقاتك وحدة وقال لك: (هذه الحياة التي تعيشها الآن والتي عشتها، سيكون عليك أن تعيشها مرة أخرى والعديد من المرات الأخرى... كيف ستعد نفسك جيدا أمام نفسك وأمام الحياة لأن لا تأمل لشيء بانفعال أكثر من التأكيد والإقرار السامي الخالد؟)" (Nietzsche 1974, p.343)

لم نيتشه ليس عدميا؟ لأن العدمي هو الشخص الذي يختصر العالم إلى لا شيء. بهذه الطريقة فالمسيحي أو الأخلاقي هو العدمي، لأنه بدون يسوع أو الأخلاق، ستكون الحياة لا شيء على الإطلاق. فلأنهم يختبرون الحياة كلا شيء في ذاتها، فهم يحتاجون أخلاق مضافة أو نظام ديني متجاوز للحياة. العدمي الحديث هو مجرد مؤمن بدون إله، مسيحي بدون يسوع، أخلاقي بدون أخلاق. يتبقى معهم نفي العالم، ولكنهم ببساطة ليس لديهم نظام إيماني ليحل محل الدين والأخلاق والفلسفة. بدون الله ستكون الحياة بلا معنى، ولكن هذا يعني أن المسيحية عليها أن تثبت أن الحياة بدون الله بلا معنى. الآن الله مات، وكل ما يتبقى لنا هو لا معنى الحياة. كل ما يمكن حدوثه في المستقبل هو أننا سنحصل على معتقدات جديدة (الرأسمالية، القومية) التي ستغطي موت الله. العدمية هي مجرد عَرَض على الإيمان، مرحلته النهائية وتطوره الأخير. إنها ليست المواجهة للإيمان، ولكن مجرد شكله النهائي، كما يشرح ديلوز ببلاغة شديدة:

"كانت الحياة مزدراة من قَبْل من قِبَل علو القيم السامية. الآن على العكس، فقط الحياة تبقى، ولكن تظل الحياة المزدراة المستمرة الآن في عالم بلا قيم. منزوعة من المعنى والغرض، تتقدم من كل اتجاه نحو اللا شيء". (Deleuze 1983, p.148)

المرء لا يمكن أن يكون عدميا ويؤكد الحياة، وفلسفة نيتشه ليست سوى التأكيد على الحياة كما هي. هذا هو السبب في انتقاده للدين والأخلاق والفلسفة؛ لأنها كلها تبدأ بنفس الافتراض المسبق بأن الحياة لا تعني الكثير ويجب أن تزود بدين أو أخلاق أو "عالم آخر" ميتافيزيقي وأساسي. نعم العدمي يتخلص من هذا "العالم الآخر" ولكنه يظل باق على كراهية العالم الذي بدأت منه أولا كل المعتقدات كدافعها الأصلي. بطريقة ما فالعدمية أسوأ من الأخلاق والدين والفلسفة، لأنها تنفي الحياة، ولكن ليس لديها تعويض على الإطلاق عن الحياة التي تهدمها. ما نحتاجه بالتالي هو إيمان جديد، إيمان ديونيسي، يؤكد الحياة، وحتى المعاناة تكون مجرد جزء من الحياة على نفس القدر من البهجة.

مصادر الكاتب
Allison, D.B. ed., 1985. The New Nietzsche : contemporary styles of interpretation, Cambridge, Mass.: MIT Press.

Deleuze, G., 1983. Nietzsche and philosophy, New York: Columbia University Press.

Nietzsche, F.W., 1974. The Gay Science : with a Prelude in Rhymes and an Appendix of Songs, New York: Vintage Books.




[1]  Michel Haar (1937-2003) فيلسوف ومترجم فرنسي، تخصص في نيتشه، ودرّس الفلسفة في جامعة بانثيون سوروبون
[2]  His Dark Materials ثلاثية روائية خيالية للإنجليزي فيليب بولمان

الأحد، 2 أكتوبر 2011

حوار مع بريان لايتر عن نيتشه


حوار ديفيد وولف مع بريان لايتر عن نيتشه
من حوارات الكتب الخمسة

ترجمة: أمير زكى
أكتوبر2011

بريان لايتر رئيس قسم القانون والفلسفة والقيم الإنسانية بجامعة شيكاجو، هو مؤلف كتاب (نيتشه عن الأخلاق)، وشارك فى العديد من الكتب حول أعمال نيتشه، هو أيضا نشر بكثرة عن موضوعات الأخلاق والسياسة، وفلسفة القانون، وهو القائم على المدونة الفلسفية المهمة أوراق لايتر.

حوارات الكتب الخمسة التى يقدمها الموقع تكون عبارة عن استضافة خبير بموضوع ما يختار خمسة كتب لتغطى جوانب الموضوع.

***



نسبى، ملحد، وجودى، نازى، كل هذا قيل عن نيتشه، بعضه قيل بحجج أقوى من الأخرى. سألنا أحد خبراء نيتشه ليشرح لنا جاذبية هذا الفيلسوف الجدلى.

نيتشه هو أحد تخصصاتك الفلسفية، كيف بدأت الاهتمام به؟ 

كانت لحظة حاسمة جدا. كان أحد عيد القيامة عام 1982، أعتقد أنه ساخر إلى حد ملفت أن يكون أحد عيد القيامة. كطالب قبل التخرج كنت ملتحقا بمنهج تحت عنوان (من كانط حتى 1900)، مع ريتشارد رورتى[1]بجامعة برينستون، والمنهج كان يتضمن أسبوعين عن نيتشه. وفى هذا الأحد بدأت قراءة مقرر نيتشه، وهو كان فى الحقيقة مقالا مبكرا جدا لم ينشره نيتشه بعنوان "عن الحقائق والأكاذيب بحس أخلاقى مفرط". كنت مأخوذا جدا به، ومن هذه اللحظة أصبحت مأخوذا جدا بنيتشه.

ما الذى أعجبك فيه بشكل خاص؟

فى الحقيقة أنا أصبحت مهتما بالفلسفة عن طريق قراءة سارتر كطالب فى المدرسة الثانوية فى حصص الفرنسية. والمقال الذى قرره رورتى يبدأ بملاحظات وجودية للغاية - وبالطبع الكتابة كانت حيوية جدا. فى هذه المرحلة كنت أقرأه بالإنجليزية، ولكن قوة والتر كوفمان[2]كمترجم تكمن فى نقله لطعم نيتشه إلى الإنجليزية. هو ليس أكثر المترجمين دقة ولكنه أكثرهم حيوية. إذن فهو الجمع بين الموضوعات المؤصلة للوجودية وأسلوب الكتابة الذى وجدته أخاذا جدا. وهذا الإحساس لم يتركنى قط، أنا ما زلت أستمتع بقراءة وإعادة قراءة نيتشه.

نحن سنتحدث عن خمسة كتب ترشحها للأشخاص المهتمين بنيتشه ولكن ليسوا خبراء فيه. لقد اخترت خليطا من المواد الأولية والثانوية. هل من الأفضل للقراء أن يبدأوا بالنصوص الأكاديمية المعاصرة، أم عليهم أن يتجهوا إلى نيتشه أولا وفورا؟

أعتقد أن الإجابة تعتمد على كونهم ذوى علاقة بالفلسفة أم لا. إن كان أحدهم ليست له علاقة كبيرة بالفلسفة، إذن فعليه أن يبدأ بالسيرة الذاتية التى كتبها سفرانسكى[3]قبل التوجه للنصوص الأولية. فى الحقيقة فالنصوص الأولية أكثر طرافة وإذا كنت ستبدأ بذلك فـ (ما وراء الخير والشر) سيكون خيارا عظيما، لأنه يغطى كل الموضوعات المهمة والحاسمة عند نيتشه، وهو مقسم إلى أجزاء صغيرة فلن تشعر بالإرهاق. ولكن إن أردت أحدا ليقدمه لك بهدوء إذن فسفرانسكى جيد فى هذا السياق.

يبدو أن نيتشه يظل واحدا من الفلاسفة القلائل الذين يستمتع بقرائتهم العديد من الناس الذين لم يدرسوا الفلسفة، لم تظن أنه جذاب إلى هذا الحد؟

أعتقد أن أهم سبب نبدأ به هو كونه كاتبا عظيما، وهذه ليست العادة فى الفلسفة. هو صاحب أسلوب عظيم، إنه مرح، ممتع، خبيث إلى حد ما، وقح. وهو يلمس كل مناحى الحياة الإنسانية ولديه شىء ليقوله عن ذلك غالبا بشكل حيوى وآسر. أعتقد أن هذا هو السبب الرئيسى لشعبية نيتشه. فى الحقيقة ربما يكون أكثر شعبية خارج الفلسفة الأكاديمية لأنه معاد جدا للتقاليد الرئيسية للفلسفة الغربية.

هل تعتقد أن الناس الذين لم يدرسوا الفلسفة، يإمكانهم أن يستوعبوا الكثير منه؟ فأنت لن تستمتع حقا بكتاب الأخلاق لسبينوزا إن أخذته فورا وبشكل عشوائى من على أرفف البيع أو المكتبة. هل تعتقد أن هذا ينطبق على نيتشه؟

أعتقد أن من هم بلا خلفية فلسفية سيفوتهم العديد من الأشياء – لأن الكثير مما يقال عند نيتشه هو رد فعل أو أحيانا حوار ضمنى مع الفلاسفة السابقين عليه. إن كنت لا تعرف أى شىء عن كانظ وأفلاطون ومَن قبل سقراط، فأنت لن تفهم العديد مما يحرك نيتشه، وما هو الذى يتحرك ضده. سيكون تقديرك لنيتشه أكثر ثراءا لو قرأته فى مواجهة الخلفية التى تتكون من مواضع محددة فى تاريخ الفلسفة.

نيتشه نفسه لم يتدرب على الفلسفة، هو تدرب فى الكلاسيكيات، ولكن هذا تضمن جزء كبير من الدراسة عن الفلسفة اليونانية القديمة. وبعد ذلك علم نفسه الكثير من الفلسفة. كانط وشوبنهاور كانا مهمان بالنسبة له بشكل خاص.

هل يوجد هناك غير-فلاسفة تأثروا بنيتشه بالطريقة التى تتحدث عنها؟

أعتقد أن ما كتبه توماس مان عن نيتشه بطريقة مباشرة وغير مباشرة فى رواية الجبل السحرى كان موحيا، أعتقد أن هذا أيضا ينطبق على هرمان هسه وأندريه جيد. أعتقد أن أشخاصا مثل سارتر وكامو اعتقدوا أن نيتشه مؤصل للوجودية بشكل أكثر مما هو عليه فى الحقيقة، على الرغم من أن هذا لم يكن رأيى عندما التقيته فى أول مرة عام 1982.

 دعنا نبدأ بكتاب سفرانسكى؛ (نيتشه سيرة فلسفية). هناك بالطبع العديد من السير الذاتية عن نيتشه، لماذا اخترت هذا الكتاب بالذات؟

أعتقد أن الكتاب عبارة عن سرد مفصل ومفهوم عن الحياة، وهو مختلط بمقدمة عن الأعمال الفلسفية، كتبت لتكون ملائمة جدا للقارئ المبتدئ. هذا هو السبب الرئيسى لاختيارى لسفرانسكى.

السيرة الذاتية التقليدية عن نيتشه التى كتبها هذا الرجل كيرت بول جانز، كانت من ثلاث مجلدات؛ المجموعة شاملة ولكنها منهكة، إنها مصدر جيد جدا للدارسين ولكنها ليست كتبا مبهجة جدا للمبتدئين.

هناك اقتباس شهير عند نيتشه فى (ما وراء الخير والشر) حيث يقول إنه خلافا لمزاعم الفلاسفة عن الجدل بعقلانية والرغبة فى إيجاد الحقيقة الموضوعية، فكل الفلسفة كانت فى الحقيقة شكلا من اللا وعى والسيرة الذاتية اللا إرادية. كيف تعتقد أن حياة نيتشه تخبرنا عن فلسفته، إن أمكن ذلك؟

تأثير حياة نيتشه على فلسفته درامى جدا. بعضهم اضطر للتعامل مع تاريخه الثقافى، بالطبع ما درسه وما قرأه. ولكن أعتقد فربما تكون الحقيقة الحاسمة عند نيتشه هى أنه عندما كتب عن المعاناة لم يكن سائحا. هو كان يكتب عن شىء كان يعرفه عن قرب شديد. كان يفهم عن طريق خبرته الشخصية تأثير المعاناة على العقل، على الإبداع وعلى موقف المرء تجاه الحياة بشكل عام. وإن كان هناك سؤال رئيسى عند نيتشه فهو السؤال الذى أخذه من شوبنهاور، أى هل من المكن أن نبرر الحياة فى مواجهة المعاناة الحتمية؟ شوبنهاور وصل لإجابة سلبية. وكان يميل لشىء أشبه بنمط النظرة البوذية: إن أفضل شىء لم يكن ليولد، ولكن إن ولدت أنت فثانى أفضل شىء سيموت سريعا. نيتشه يريد أن يفند هذه الإجابة- جزئيا عن طريق قلب ذلك وإعادة تقييم المعاناة ودلالتها.

هل يمكنك أن تعطينا لمحة عن المعاناة التى اختبرها نيتشه، ولم كانت حياته صعبة جدا؟

هو كان ضعيفا بشكل غريب وكان طفلا مريضا. ولكن المشكلة الحقيقية ظهرت فى بداية الثلاثينيات من عمره، فى السبعينيات من القرن الثامن عشر، حيث تنامت الأمراض الجسمانية داخله شيئا فشيئا - أصابته أشياء مثل الصداع بالإضافة إلى الغثيان والدوار، وسيكون بالتالى طريح الفراش. المسألة كانت شديدة لدرجة أنه كان عليه أن يتقاعد عن منصبه فى التدريس فى سن 35. وبالتالى قضى بقية حياته العاقلة، وحتى انهياره العقلى عام 1889، بشكل أساسى كشخص مريض يتجول بين مختلف الفنادق والحانات فى وحول إيطاليا وسويسرا وجنوب فرنسا، وهو يحاول أن يجد مناخا جيدا، يكتب أحيانا يمشى أحيانا لو سمحت له صحته، ولكنه كثيرا ما يظل طريح الفراش، يعانى من نوبات الصداع والقئ والأرق. كان يحاول كل العلاجات الذاتية التى اخترعت فى نهاية القرن التاسع عشر. كان لديه وجود جسدى بائس. بصره أيضا بدأ ينهار أثناء هذه الفترة. خلال كل ذلك كان عادة ما يستطيع الاستمرار فى القراءة والكتابة، على الرغم من هذه الأمراض. وبالتالى فقد كان يعرف ما هى المعاناة.

إحدى وجهات التظر تقول إن هناك دليلا منطقيا بشكل ما يؤدى إلى احتمال إصابته بعدوى السفلس، وتنامى العدوى ربما يكون هو المسئول عن هذه الأمراض. ولكن أبوه أيضا مات فى سن مبكرة، لذلك فربما يكون لديهما نفس التركيب الأسرى الجينى.

سفرانسكى نفسه ألمانى، بينما النصين الثانويين الآخرين الذين اقترحتهما كتبا بواسطة دارسين أمريكيين. هل هناك اختلاف بين نظرة نيتشه فى الدراسة الألمانية عنها فى الدراسة الأنجلو-أمريكية فى الوقت الحاضر؟

رأيى الصريح هو أننى لا أعتقد أن الأدبيات الثانوية الألمانية عن نيتشه بنفس جودة الإنجليزية فى العموم. هذا سببه من جهة اختلاف أسلوبى الفلسفة، ومن جهة أخرى سببه التأثير العظيم، والذى اعتقده سيىء لمحاضرات هايدجر عن نيتشه فى ألمانيا. أعتقد أنه حتى الناس المعجبين بهايدجر – وأنا لست منهم – سيعترفون بأن نيتشه هايدجر هو أقرب لهايدجر منه لنيتشه.

ما هو الكتاب التالى الذى سنقرأه إن انتهينا من كتاب سفرانسكى؟

أعتقد أن الكتاب التالى سيكون كتاب كلارك[4](نيتشه.. عن الحقيقة والفلسفة).

من خلال العنوان، هل يركز الكتاب على ابستمولوجيا نيتشه أم هو يميل أكثر لكونه نظرة عامة؟

الجزء الأول من الكتاب يتحدث مبدئيا عن الحقيقة والمعرفة، وهى موضوعات الميتافيزيقا والابستمولوجيا. الكتاب ظهر عما 1990 وكان عملا بارزا جدا. كان غير عادى لأنه، قبل كل شىء، عامل نيتشه كفيلسوف، أنا أعرف أن هذا أمر طريف إن قلناه، ولكن العديد من الكتب عن نيتشه وبشكل بشع تكون مليئة بالاقتباسات والشروحات، إنها لا تتعامل بشكل جدلى ونقاشى مع ما يقوله نيتشه.

الذى فعلته كلارك، من خلال فحص نظامى لآراء نيتشه عن الحقيقة والمعرفة من مقالاته الأولى وحتى أعماله الأخيرة، هو أنها حاولت أن تظهر أن نظرة نيتشه للحقيقة والمعرفة تطورت على مر الوقت، أى أنها تغيرت بأشكال بارزة.

عادة فنيتشه يرتبط، وربما بشكل خاطئ، بالرفض ما بعد الحداثى للحقيقة الموضوعية. أنا أفترض أن هذا ليس ما يراه الكتاب...

هذا هو هدف كلارك فى الكتاب - فكرة أن نيتشه كان الرجل الذى يقول إنه ليست هناك حقيقة وليست هناك معرفة، وأن كل وجهة نظر هى جيدة مثل كل وجهة نظر أخرى، هى تقترح أنه من الممكن أن يكون هناك جانب من النظرة ما بعد الحداثية للحقيقة فى أعمال نيتشه الأولى، ولكن تدريجيا هو ترك هذه النظرة حين ترك المفهوم الكانطى القديم الذى يميز بين الأشياء التى تظهر لنا فى مقابل الأشياء كما هى فى ذاتها. هناك العديد من من الموضوعات الفلسفية الصعبة هنا، ولكن هذا هو أبرز ما فى القصة والذى حاولت أن تتكلم عنه فى الجزء الأول من الكتاب.

فى الجزء الثانى من الكتاب تتكلم كلارك عن الموضوعات الشهيرة عند نيتشه: إرادة القوة، العود الأبدى، المثال الزهدى، وهكذا. ولديها فصول شيقة ومستفيضة عن كل من هذا. رؤيتها لإرادة القوة تظهر اختلافا بينا بينها وبين ريتشاردسون (صاحب الكتاب الذى سأختاره لاحقا). هى تناقش أنه يجب علينا أن نفهم إرادة القوة كنوع من الفرضية السيكولوجية عن الدافع الإنسانى أكثر منه كمذهب ميتافيزيقى عن ماهية الواقع، هذا الذى يراه هايدجر.

طالما ذكرت الاختلاف بين كلارك وريتشاردسون[5]، دعنا ننتقل للكتاب التالى، (نسق نيتشه)، فى البداية، هل أنا محق فى تفكيرى أن هذا العنوان جدلى، لأن نيتشه غالبا ما ينظر إليه كفيلسوف غير نسقى؟

المقصود من العنوان أن يكون مثيرا، زعم ريتشاردسون الرئيسى هو أن هناك نوع من الترابط لموضوع رئيسى فى كل أعمال نيتشه، وهذا الترابط مصدره جزئيا هو مذهب إرادة القوة.

دعنا نشرح بالضبط ما هى إرادة القوة لمن لا يألفها.

حسنا، سؤال التعريف هذا هو جزء من الجدل بين كلارك وريتشاردسون. وجهة نظر كلارك ترى أن ما يعنيه نيتشه بإرادة القوة هو أن الناس غالبا ما يكونوا مدفوعين للفعل لأن الفعل يعطيهم شعور بالقوة. ولكن وجهة نظر ريتشاردسون هى قريبة من وجهة نظر هايدجر، على الرغم من أنه يقدم حججا مقنعة ومصقولة أكثر.

رؤية ريتشاردسون لمذهب نيتشه عن إرادة القوة هو كالتالى: كل شخص مصنوع من مجموعة من الدوافع - دافع الجنس، دافع الجوع، دافع المعرفة، وهكذا، كل دافع وفقا لقراءة ريتشاردسون لنيتشه متصف بإرادة القوة.كل دافع لديه ميل لأن يرغب فى وضع كل الدوافع الأخرى فى خدمته. وبالتالى إن كان الدافع الجنسى هو المسيطر على الإنسان – لنفكر كهيو هفنر[6]- فدافع الجنس بالتالى سيحاول أن يجعل كل الغرائز الأخرى تساعد على إرضائه. إذن فالمعرفة أو الطعام سيكونان فقط فى الخدمة إلى الحد الذى يشبع دافع الجنس، وهكذا.

من خلال هذه الصورة الرئيسية عن علم نفس الإنسان وميتافيزيقا الغرائز وطبيعتها الأساسية كإرادة قوة، يعتقد ريتشاردسون أننا نستطيع أن نأخذ هذه الفكرة ونرى كيف تصلح فى كل شىء آخر كتبه نيتشه، سواء كان عن الحقيقة أو المعرفة أو الأخلاق، وهكذا. بهذه الطريقة فهو يحكى قصة نسقية جدا عن فكر نيتشه.

إن كنت تميل أكثر لكلارك فى هذا الجدل، فما الذى جعلك تقرر ترشيح كتاب ريتشاردسون؟

قبل كل شىء فهو تفسير قوى جدا ومثير. المثير بشكل خاص هو أن ريتشاردسون المعروف جدا كدارس لهايدجر، اتخذ فكرة مهمة بالنسبة لقراءة هايدجر لنيتشه - وهى وجهة النظر التى ترى أن نيتشه هو النقطة الأخيرة فى تاريخ الميتافيزيقا الغربية، ومذهب نيتشه الميتافيزيقى هو أن كل شىء إرادة قوة. ريتشاردسون ناقش هذه الفكرة ولكنه أضاف عليها تحسينا جعلها أكثر تميزا وتماسكا وبالتالى أكثر قبولا مما كانت عند هايدجر.

الشىء الآخر الذى فعله ريتشاردسون هو أنه ناقش تفسير جيل دولوز لنيتشه ولكن، مثلما فعل مع هايدجر، تكلم بشكل أكثر وضوحا مما فعل دولوز. إذن فريتشاردسون يعطيك نظرة إلى بعض اتجاهات التفسيرات الأوروبية المسيطرة عن نيتشه، ولكنه يفعل ذلك بشكل أكثر إمتاعا فلسفيا وبالطبع أكثر قابلية للفهم. هو كاتب منظم وواضح جدا.

دعنا ننتقل إلى النصوص الأولية. أنت ذكرت (ما وراء الخير والشر)[7]هو كتاب جيد لقراءته بالنسبة لمن يقرأون نيتشه لأول مرة، لأنهم يزودهم برؤية عامة عن أفكاره...

نعم، أظن أن هذا صحيح، إنه يتعامل تقريبا مع كل اهتمامات نيتشه الرئيسية- عن الحقيقة، عن طبيعة الفلسفة، عن الأخلاق، عما هو خطأ فى الأخلاق، إرادة القوة.

أول شىء تلاحظه عندما تفتح الكتاب هو أسلوبه والطريقة التى كتب بها، وهى صادمة، خاصة إن كنت تفتحه بعدما قرأت مقالات فلسفية حديثة وما إلى ذلك. لماذا كتب نيتشه بأسلوب الحِكَم غير المعتاد هذا؟

التفسير يظهر فى الفصل الأول من الكتاب إذ يخبرنا نيتشه أن الفلاسفة العظام هم مخادعون أصلا عندما يقولون لنا إنهم وصلوا لأفكارهم لأنه كانت هناك حجج عقلية جيدة تدعمها. هذا هذى، يقول نيتشه. فهو يعتقد أن الفلاسفة العظام مدفوعون برؤية أخلاقية وقيمية محددة. فلسفاتهم جاءت بعد عقلنة القيم التى يريدون ترويجها. وبعدها يقول إن القيم التى يروجون لها يتم شرحها سيكولوجيا بمصطلحات طبيعة الشخصية التى عليها الفيلسوف.

ما يتعلق بهذا هو لو كانت هذه هى وجهة نظره للحجج العقلية للفلاسفة فسيكون من الغريب أن يكتب ذلك فى كتاب فلسفة تقليدى يقدم مجموعة من الحجج تساند وجهة نظره. لأنه من وجهة نظر نيتشه فالوعى والتعقل هى جوانب خرافية بالنسبة للبشر. الذى يجعلنا نغير وجهات نظرنا عن الأشياء حقا هى الجوانب غير العقلانية والانفعالية والعاطفية فى نفسنا. واحد من الأسباب التى تجعله يكتب بأسلوب الحِكَم وبشكل مثير – وهذا بالطبع ما يجعله الفيلسوف المفضل للمراهقين – متعلق برؤيته للنفس البشرية. هو عليه أن يثير مشاعر وانفعالات وعواطف القارئ إن أراد أن يغير آراءه. لن يكون هناك جدوى من إعطاءهم مجموعة نسقية من الحجج مثلما فعل سبينوزا فى كتاب (الأخلاق)، فى الحقيقة فهو يسخر من الشكل الهندسى الذى استخدمه سبينوزا فى كتاب الأخلاق فى الفصل الأول من (ما وراء الخير والشر).

هل لديك فقرة مفضلة معينة من (ما وراء الخير والشر) تمثل أسلوب نيتشه المباشر والمثير؟

بالنسبة للخبث المرح فأنا أفضل القسم الحادى عشر عن فلسفة كانط، إنه مرح بشكل هستيرى - هذا لو كنت على ألفة بفلسفة كانط، فهذا لا يشبه مفهوم المرح الهستيرى فى برامج التلفزيون.

ذكرت أن نيتشه كان مولعا بعلم النفس. هل تعتقد إنه لو كان يحيا الآن لكان التحق بقسم علم النفس لا الفلسفة؟

ربما ليس قسم علم النفس بشكله الحالى. ولكنه سيكون مولعا بالبحوث النفسية. هناك عدد من الأفكار فى علم النفس التجريبى المعاصر هى فى الأصل أفكار نيتشه. هناك أدبيات كثيرة ترى أن خبرتنا بالإرادة الحرة هى وهمية إلى حد كبير، فإننا غالبا ما نعتقد أننا نقوم بالأشياء بحرية فى حين أننا فى الحقيقة لسنا كذلك، فأفعالنا لها مصادر موجودة فى الجوانب اللا واعية وقبل الواعية فينا، ونحن نعتقد خطأ أننا نتصرف بحرية. هذه أفكار مألوفة لأى شخص يقرأ نيتشه، ومن المذهل أن نعرف أن الأعمال التجريبة كثيرا ما تأتى فى صف نيتشه عند طرح هذه التساؤلات.

هل يصح أن نقول أن نيتشه كان له تأثير كبير على فرويد أيضا؟

فرويد زعم أنه توقف عن قراءة نيتشه عند نقطة ما – ربما اعتقد أن نيتشه استبق أفكاره إلى حد غير مريح. ولكنهما يتشاركان صورة متشابهة جدا للعقل البشرى، يلعب فيها جانب اللا وعى فى الذهن وخاصة الأجزاء العاطفية والانفعالية واللا عقلية الدور الحاسم فى شرح العديد من المعتقدات والأفعال والقيم. فرويد أتى برؤية أكثر دقة وتميزا لبناء اللا وعى، ولكن الصورة العامة متشابهة.

المقال الثانى فى كتاب (جينالوجيا الأخلاق) يتحدث عن – وهذا اختصار مخل – كون الذنب يظهر فى الوجود الإنسانى كنتيجة لاستبطان القسوة. فحينما يدخل الوجود الإنسانى العلاقة الحضارية يكون عليه أن يقمع غرائزه القاسية، ولكن طالما أن غريزة القسوة هى أساسية فى البشر فهذه الغريزة عليها أن تتفرغ فى مكان آخر وتصبح تدريجيا الذنب فالذنب هو القسوة على أنفسنا. هذه أصلا هى قصة فرويد فى (الحضارة وقلاقلها)[8].

دعنا نتحدث عن كتاب (فى جينالوجيا الأخلاق)[9] إذن. هل من الممكن أن نقول إنه أصبح من الشائع الآن اعتباره عمل نيتشه الأبرز؟

أنا لا أعرف إن كنت سأصنفه كعمل أبرز، ولكنه كتاب رائع يتبع فى مواضع عديدة أفكار (ما وراء الخير والشر). هو مميز لأنه أقل اتباعا لأسلوب الحِكَم وإنما هو عبارة عن ثلاثة مقالات. المقالات فيها بناء وجدل ممتد أكثر مما هو معروف عن معظم أعمال نيتشه.

الكتاب يناقش السؤالين الرئيسيين حتما عند نيتشه، أى ما هو الخاطئ فى أخلاقيتنا، ومشكلة المعاناة. إنه يسرد قصة مثيرة عن الموضوعين وفى المقال الثالث يربط ذلك باهتمام نيتشه بالسؤال عن طبيعة الحقيقة ولم نقدر الحقيقة. بهذه الطريقة فهو عمل ناضج بالفعل، يجمع تأملاته فى الموضوعات التى صيغت فى العقد السابق للكتاب.

لماذا قررت أن تقترح مترجمين مختلفين للكتابين؟

أعتقد أن كلارك وسوينسن قدما أفضل ترجمة إنجليزية للجينالوجيا ولكنه العمل الوحيد الذى ترجموه. لو كانوا قد ترجموا (ما وراء الخير والشر) لكنت فضلت ترجمتهما. إنهما أكثر دقة من كوفمان، الذى كان يتعامل بحرية أحيانا مع اللغة الألمانية. هذا له ميزاته – أنت تحصل على إحساس نيتشه فى إنجليزية كوفمان أكثر من إنجليزية أى أحد آخر، ولكن أحيانا بالنسبة للقارئ ذى العقلية الفلسفية فقد تسقط تمييزات محددة ومهمة. كلارك فيلسوفة، وسوينسن دارس للغة الألمانية، هما وضعا موهبتيهما فى الترجمة. سوينسن لديه إحساس جيد جدا باللغة الألمانية، وكلارك لديها حساسية معرفة المهم فلسفيا فى الألمانية ولا تفقد ذلك فى الترجمة.

الشىء الأخر الجيد جدا فى نسختهما هو أنها مزودة بهوامش تفصيلية. الجينالوجيا سىء السمعة إلى حد ما لأنه بلا هوامش. إنه يضع كل أنواع المزاعم التاريخية، والاتيمولوجية وغيرها، ولكن لا توجد هوامش لأنها ليست الطريقة التى يفعل بها نيتشه الأشياء. ولكن فى حقيقة الأمر فكانت فى ذهنه مصادر أكاديمية تقريبا فى كل هذه الموضوعات، كلارك وسوينسن جمعاهم هنا. إذن فهما زودا العتاد الأكاديمى المتضمن لما يزعمه نيتشه، مما يجعل النص مفيدا جدا.

الكتاب يركز بوضوح عن الأخلاق. هل تعتقد أن هناك تغيير حدث فى رؤية دارسى نيتشه لنظرته للأخلاق فى الستين أو السبعين عاما الأخيرة؟

أعتقد أن هناك تغييرا ملحوظا وأعتقد أن هناك تفسيرا سهلا له. ارتباط نيتشه بالنازيين لم يكن جيدا لسمعته. بالنسبة لناس مثل والتر كوفمان، الذى كتب كتابا مؤثرا عن نيتشه بعد الحرب، فنيتشه الخاص به هو ليبرالى علمانى ولطيف. شخص لطيف يؤمن بالتطور الذاتى – هو ليس نازيا مخيفا. مع هايدجر نحن نرى نيتشه كميتافيزيقى لديه صورة ضخمة لماهية الواقع كإرادة قوة، والجانب الأخلاقى/السياسى لفكر نيتشه تم وضعه جانبا. بالنسبة للتفكيكيين الفرنسيين فنيتشه هو الرجل الذى يخبرنا أنه لا يوجد نص فيه معنى مستقر وأنه لا توجد حقيقة وهكذا. كل هذه القراءات تفصلنا عن اهتمامات نيتشه القيمية الأساسية، وأعتقد أنه بعد عشرين عام فهذه الاهتمامات عاد التركيز عليها.

أعتقد أنه من الضرورى أن نذكر دوما أن نيتشه لم يكن نازيا. لنبدأ بالقول أنه كان يكره الألمان. هو خلق العديد من المشكلات للنازيين. كان عليهم أن يختاروا نصوصه بعناية لأنه كان يكره القوميين الألمان، كان يكره مضادى السامية، كان يكره العسكريين. هو لم يكن متعايشا بسهولة فى ناومبرج[10]. على الجانب أخر، من اليقينى أن نيتشه لديه آراء صادمة عن الأخلاق المسيحية التقليدية. كوفمان تحدث عن كل هذا من 50 عاما مضت، ولكن أعتقد أن هذا أصبح أقل شيوعا الآن. نيتشه لا-ليبرالى بشكل كبير، هو لا يؤمن بالقيمة المتساوية لكل البشر. نيتشه كان يعتقد أن هناك بشر أعلى. وأمثلته الثلاثة المفضلة هم جوته وبيتهوفن ونيتشه نفسه. وهؤلاء البشر الأعلى وعن طريق عبقريتهم المبدعة هم من يجعلون الحياة تستحق أن تعاش – فسيمفونية بيتهوفن التاسعة كافية لتبرير كل المعاناة التى يتضمنها العالم. مرة أخرى هذا اختصار مخل ولكن يوجد هذا الجانب عند نيتشه. وفى قلب نقده للأخلاق كان يعتقد أن العباقرة المبدعين مثل بيتهوفن لو كانوا أخذوا الأخلاق بجدية لما كانوا عباقرة مبدعين. فأن تأخذ الأخلاق بجدية معناه أن تأخذ التزاماتك الغيرية بجدية – أن تساعد الآخرين، أن تضع الاعتبار وتهتم بمصالح الآخرين وهكذا. يمكنك أن تقرأ أى سيرة ذاتية عن بيتهوفن لترى أنه لم يعش بهذه الطريقة. هو كان مهتما بشكل حصرى بعمله المبدع وهذا ما يعنيه نيتشه بالحب الشديد للنفس.

إن كنا نعرف أن نيتشه كانت لديه هذه النظرة اللا-الليبرالية العميقة تجاه الأخلاق، فما الذى عليه أن يقوله لنا الآن، إن كنا واثقين بأننا نتعامل مع الأخلاق من وجهة نظر، دعنا نقول، ليبرالية وديمقراطية؟

حتى لو لم تكن لا-ليبرالى بقدر نيتشه، فربما تكون متشككا حين تتساءل هل نيتشه محق لكون بعض القيم الأخلاقية التقليدية غير ملائمة لوجود ناس مثل بيتهوفن. هذا هو الزعم السيكولوجى القوى الذى يستخدمه – أى أنك لا تستطيع أن تكون عبقريا مبدعا مثل بيتهوفن وأن تأخذ الأخلاق بجدية. أعتقد أن حتى الليبراليين الديمقراطيين والمنادين بالمساواة القدماء سيتساءلون إن كان هذا حقيقيا. إنه تحد صادم ومتشائم، لأن الرؤية الليبرالية فيما بعد التنوير كانت ترى أنه بإمكاننا أن يكون لدينا قيم مساواة ديمقراطية وليبرالية فى حين أنه بإمكان كل شخص أن يزدهر. نيتشه يعتقد أن هناك صراع كبير بين القيم التى تقدمها الأخلاق التقليدية وبين الظروف الضرورية لعمل العباقرة المبدعين.

هكذا فالتحدى مثير فى ذاته، حتى لو لم ترد أن تأخذ جانب نيتشه؛ فمَن المستعد على التضحية بمجموعة من الناس من أجل جوته أو بيتهوفن؟ وبعد ذلك فهناك كل هذه الجوانب عند نيتشه وهى لا تعتمد حقا فى أهميتها على حكمه القيمى الأعلى؛ هناك نظرة نيتشه للذهن الإنسانى، هناك هجومه على الفلسفة التقليدية، هناك هجومه على الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. كل هذه الأفكار مهمة ومثيرة، ومتشابهة مع أفكار فى الفلسفة المعاصرة – حتى لو لم يكن لديك نفس الحس اللا-الليبرالى الموجود لدى نيتشه، وبالطبع فمعظم القراء ليس لديهم ذلك. وهذا هو السبب فى أن هناك العديد من الكتابات عن نيتشه فى الأدبيات الثانوية. هذا صادم قليلا. هذا بالطبع جعلنى أنتظر قليلا لأصل لحقيقة أن هذا هو ما يقصده نيتشه. فإن مواقفه اللا-ليبرالية ونخبويته كانتا مركزيتان حقا فى نظرته للأمور. معاناة البشرية ككل لم تكن هما أخلاقيا كبيرا فى نظره، بل كان ينظر لها إلى حد كبير بلا مبالاة – فى الحقيقة فهى مرحب بها فلا يوجد أفضل من جرعة جيدة من المعاناة من أجل الوصول لفيض الإبداع.


[1]  Richard Rorty (1931-2007) فيلسوف وأكاديمى أمريكى.
[2]  Walter Kaufmann (1921-1980) فيلسوف ومترجم ألمانى-أمريكى، معروف بترجماته لنيتشه.
[3]  روديجر سفرانسكى Rudiger Safranski (1945) فيلسوف وكاتب ألمانى.
[4]  مودمارى كلارك Maudmarie Clark أستاذة الفلسفة بجامعة ويسكونسن ماديسون، وشاركت فى ترجمة كتاب نيتشه (فى جينالوجيا الأخلاق).
[5]  جون ريتشاردسون John Richardson أستاذ الفلسفة بجامعة نيويورك
[6]  Hugh Hefner (1926) ناشر ومؤسس مجلة البلاى بوى الإباحية الأمريكية
[7]  مترجم للعربية، ت: جيزيلا فالور حجار، دار الفارابى
[8]  أو (قلق فى الحضارة)، ترجم إلى العربية، ت: جورج طرابيشى، دار الطليعة للطباعة والنشر.
[9]  ترجم إلى العربية بعنوان (أصل الأخلاق وفصلها)، ت: حسن قبيسى، عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
[10]  حيث قضى خدمته العسكرية.