ماذا لو أُحرقت كتب كافكا؟!!
ترجمة: أحمد محمد الليثي عن جريدة الجارديان البريطانية فى 14 أكتوبر 2014
يمكننا أن نعتبر أن طبعة "بنجوين" للنشر من المسخ وقصص أخرى تحتوى على الأعمال التى وافق "كافكا" على نشرها خلال حياته, وتتضمن "فى مستوطنة العقاب" و "المحاكمة" وقصص قصيرة اخرى بعنوان "التأمل" و"طبيب القرية .. قصائد نثرية قصيرة لأبى", وبالطبع "المسخ", هذه الأعمال هى التى أراد لها "كافكا" أن ترى النور, لا يمكنك ان تجادل ان هذه الاعمال هى التى شكلت محاولة "كافكا" للخلود.
وفى الحقيقة, فإننا لن نعرف أبداً نوايا "كافكا" الحقيقية, فمن المعروف إنه طلب من صديقه, وكاتب سيرته الذاتية بعد ذلك "ماكس برود" أن يحرق مخطوطاته غير المنشورة, ولكن, وعلى العكس من ذلك, فبرود قد نشر كل هذه الاعمال, فهل كان "برود" يعصى أمنيات صديقه الأخيرة؟, أم أن "كافكا" قد أعطى له هذه المخطوطات لأنه يعلم أن "برود" لن يعمل على حرقهم؟, كما أدعى "برود" أخيراً أن "كافكا" لم يقل أبداً إنه سيحرقهم, وماذا كنا سنفعل لو أن "كافكا" قد قرر إعطاء المخطوطات لشخص أخر, والذى قرر أن يودع هذه المخطوطات النيران, كتب كاملة تمت كتابتها حول هذه الاسئلة, فمن المستحيل أن تقرأ تلك القصص بدون التفكير فى القضايا التى تمس تراث "كافكا" ومكانه فى المستقبل.
-تخيل العالم لو أن "برود" قد نفذ أمنيات صديقه, كنا سنجد تعريف أخر للكفكاوية, أو كما قال "ميتشل هوفمان" فى تقديمه لطبعة "بنجوين", ربما لم نكن سنسمع عن كافكا على الإطلاق.
-"هوفمان" يعتقد إنه لمن المشكوك فيه أن نسمع عن "كافكا" بدون "المحاكمة" و "القلعة" و "أمريكا", وبعد كل شىء, وعلى قدر محاولته التى ذهبت به إلى الخلود, فإن "المسخ" و "فى مستوطنة العقاب" من رواياته الأكثر تأثيراً, ولكنها تظل رائعة عند قرائتها ضمن هذه المجموعة.
-المجموعة الاولى التى جُمعت فى طبعة "بنجوين" والتى نُشرت لأول مرة فى عام 1913 تحت عنوان "التأمل", كان من الممكن أن تسقط من ذاكرة إنتاج كافكا لولا أن الروايات قد أعطت لهذه الطبعة ثقلاً كبيراً.
-بالطبع لو أننا تجاهلنا هذه الاعمال لفقدنا بعض المتعة, خاصة الفقرة الاخيرة غير المتوقعة من المسافر, والتى تأتى بعد وصف إمرأة تُشاهد فى الترام, "تسائلت فى التو كيف أن هذه السيدة لم تُدهش فى نفسها لهذا الموقف, كيف إنها لم تنبس ببنت شفة, وكيف إنها لم تنطق حرفاً واحداً". هذه هى اللحظة التى كنت مفتتناً بها تحت أى ظرف.
-وفى الحقيقة, لم أستطع أن أحدد هل إستمتعت بهذه القصص لما أعرفه عن كافكا أصلا أم لا؟, ولكنها كانت مفاجأة سارة وغير متوقعة أن أجد مؤلف "المحاكمة" يكتب بخفة (برفق) عن رفضه من قبل إمرأة, أو عن قدرته على الإنطلاق فى الهواء مثل رجل هندى أحمر يمتطى حصاناً.
-الطريقة الأخرى لمعرفة كاتب هذه الأعمال ليس فقط أن تعرف كيف تقرأ هذه الأعمال, واحد من أهم وأول الأشياء التى يجب أن تعرفها عن "فرانز كافكا" إنك لا يجب أن تأخذ أعماله على وجهها الظاهر, وهو بالتأكيد جيد وحسن, ولكن ما يجب عليك فعله هو إنك يجب أن تقرأ هذه الأعمال منفردة من خلال تراثه الكبير
-من المستحيل – أيضاً- أن تقرأ أعمال "كافكا" بمعزل عن المستقبل, تخيل كيف إنك لن تقرأ أعمال مثل "المسخ" و "فى مستوطنة العقاب" التى نُشرت عامى 1913 و 1914 قبل الحرب العالمية الاولى, ناهيك عن الثانية.
-على الأقل عند قراءتى لهذين العملين الكلاسيكيين, كان لدى قلق بسيط على أحكامى الجزئية, فلم أر العلامات التى تُبشر بعظمة المستقبل, وأيضاً لم أر الإشارات المظلمة الاتية, والأسئلة التى تثيرها الصور المختلفة.
-وإذا وجدنا لدينا القدرة لنضع سؤال الجودة جانباً, تبقى حقيقة إنك لا يجب أن تقرأ أى عمل من أعمال "كافكا" بمعزل عن تراثه الكبير, فنحن نقرأ (الاسطورة) فى كل صفحة من صفحات قصصه, ويمكننا أن نأخذ مقتبسات من كلام "جون آبدايك" فى ذلك الشأن: لقد تعززت شهرة "كافكا" بشكل كبير بسبب ما يبدو إنها نبؤاته, ففى أعمال خاصة وشاذة عن أنظمة فاشية تضاهى أنظمة "هتلر" و "ستالين", وما حملوا به الاخرين من الذنب, المحاكمات الهزلية, جنون العظمة المؤسسى, كل ذلك كان خارج خبراته, فالسلطة الأبوية والبيروقراطية المنحطة التى وضع تصور عنها ككوابيس قد أثبتتها نبؤاته الروائية.
-هل بإمكان أى شخص اليوم أن يقرأ عن الة القتل العلمية فى "فى مستوطنة العقاب", أو العدالة التعسفية فى لباسها المميز وهى تطهر الناس من الاثام بلغة رسمية, دون أن يرى كوابيس البيروقراطية فى القرن العشرين, هل بإمكان أى شخص اليوم أن يقرأ عن إكتشاف "جريجور سامسا" المفاجىء بإنه منبوذ, أو بإنه حشرة مُحظر لمسها, دون أن يفكر على الفور بما فعلوه النازيين باليهود, اليهود الذى كان "كافكا" العظيم واحد منهم؟
-هناك قراءات سخيفة تقول بأن هتلر لم يكن قد بلغ درجة "عريف" عندما كان كافكا يكتب, ولكن هناك مساحات كبيرة من أعمال أخرى لكافكا تظهر كيف كان عميقاً وغارقاً فى الاحداث الجارية, كيف إنه كان شخص يرى المد يتدفق, ويرى بعض التحولات التى تقشعر لها الابدان.
-فعلى سبيل المثال, عندما تقرأ خطاباً أرسله "كافكا" لأخته محاولاً فيه حثها على إرسال إبنها الأكبر لمدرسة داخلية تنقذه من العقلية السامة ليهود براغ الاثرياء, وكيف إنها لن تستطيع ابعاده عن هؤلاء الأطفال, هذه العقلية التافهة, القذرة والخبيثة.
-على الاقل انها تبدو قارسة الان, ومن الممكن أيضاً أن هذا الإدراك المتأخر قد تسبب لى فى أن أرى النمطية عندما لم تكن هناك, إنه شىء لا قيمة له عندما تقرأ "المسخ" على إنها قصة عن العرق أو كراهية الذات, أو –لنكون أكثر دقة- عندنا تدرك إنك محتقراً من قبل كل من حولك, إنها واحدة فقط من تفسيراتها التى لا تُعد ولا تُحصى, إنها أيضاً عن العلاقات العائلية, عن قيمة أرباب العمل وإنتاجية العمال, عن التبعية ومحاولة خلق مكان فى العالم, عن تصورات أخرى للواقع.
-ويمكنها أيضاً أن تكون قصة طريفة عن رجل إستيقظ من النوم فى يوم من الأيام ليجد نفسه حشرة, أو كإدعاء "كينغسلى أميز" الشهير إنه وصف لدوار من أثار الخمر.
-النقطة الأوسع التى ستبقى من أعمال "كافكا" جزء لا يتجزأ من ما سيأتى لاحقاً, ولعله هنا تجدر الإشارة إلى أن "كافكا" نفسه لم يكن يرى أى مشكلة فى أن يكون الفن قناة للمستقبل, "جوستاف جانوش" شخص يعرف "كافكا" معرفة شخصية, يقول, "كافكا" كان يقول عن "بيكاسو" انه يسجل - بكل بساطة – التشوهات التى لم تعلق بإدراكنا بعد, الفن هو المراة التى تقود الطريق بإنتظام كالساعة, لبعض الوقت.