غواية شيلي
فلسفة الحب
تندمج الينابيع في النهرِ
والنهرُ مندمجٌ في المحيط.
تختلط رياح السماء إلى الأبد
مع الإحساس العذب،
وليس في العالم ما هو منعزل.
سًنّةُ السماء في كل شيء
أن يندمج في كيان آخر،
فلم ليس إياي فيك؟
انظري
ها هي الجبال تلثم السماء
والأمواج كل تحضن الأخرى
ولا يغفر للوردة البنت
إن هي أنفت الوردة الولد،
وأشعة القمر تقبل البحر،
وما قيمة كل هذه القبلات
إذا أنت لم تقبليني؟
***
برع الفنانون التشكيليون في مرحلة من تاريخ الفن التشكيلي في رسم ما نسميه بلوحات المناظر الطبيعية، الغروب الحزين، والريف الوديع، والسماء الصافية، والبحر الهادر، والفلاحة الرقيقة، والبقرات الطافية على عشب المرعى. لوحات لعلها أكثر ما يمقته الفنانون التشكيليون اليوم، فقد تكونت لدى المتلقى صورة عن الفن التشكيلي تجعله ينظر إلى أعمال فنانين عظماء أنجبهم القرن العشرون وما يعقبه باعتبارهم مجانين في أحسن الحالات، وفي أسوئها بوصفهم مدَّعين كذابين يرسمون ما لا يفهمون وما لا يفهمه أحد لولا أن البعض جبناء يدعون بدورهم أنهم يحبون هذا النوع من الفن.
هناك أيضا لدى الشعراء في تاريخهم من عوَّدوا المتلقي على نمط من الكتابة تجاوزه الشعراء، وربما التفكير الإنساني المبدع نفسه، ولكن هذا الشعر باق إلى الآن، يجد مكانا له في الخطب السياسية والدينية، وعلى بطاقات التهنئة، وربما في حفلات التأبين، وكلما استمر حضور هذا الشعر في مكان تأكّد غياب الشعر الحديث عنه، تأكد أن العملة القديمة لم تزل تزيح العملة الجديدة. ولكن، هل يرغب الشعر الحديث، باتجاهاته المختلفة، في الحضور بداخل قاعة الزفاف والعزاء؟ الحقيقة أنه لا يريد الحضور هناك، ولا يعمل من أجل ضمان دعوة إلى هذا النوع من الحفلات.
شيلي، وهو صاحب القصيدة التي افتتحنا بها هذه السطور، ليس من الشعراء الذين يمكن أن يتجاوزهم الزمن، ولكي لا نكون مبالغين، علينا أن نقول إنه شاعر لم يتجاوزه الزمن بعد، فلم يزل العالم بحاجة إلى التعلم من شيلي، ويكفي أن نقرأ ملحمة "بروميثيوس طليقا" ولها في العربية ترجمة رصينة قدمها منذ عقود لويس عوض، ولم تزل مدهشة ومعلِّمة وحاضرة، على الأقل لمن يعرف بوجودها ويقدرها قدرها.
أما هذه القصيدة، فهي من النوع الذي يصل إليك عبر البريد الإلكتروني، كما تصل دعوات الغرام مجهولة المصدر. يندهش المرء حين يقرأ القصيدة: أهذا شيلي فعلا؟ أهذه وسيلته في الغواية؟ قبليني مثلما يقبل نور القمر البحر. طيب، يا مستر شيلي، نور القمر لا يقبل البحر، والجبال لا تقبل السماء ولا تحلم أصلا أن تلمسها، والموج لا يتعانق، وبالنسبة للرياح التي تمتزج بالإحساس العذب فهذا ما لا نملك دليلا على نفيه، ولكن أين دليلك أنت على إثباته؟ أما قولك إن سنَّة السماء في كل شيء هي أن يندمج في كيان آخر، فهذا هو ما نقرأ شعرك من أجله.
ذلك بيت من الشعر يجعلنا ننظر نظرا جديدا إلى معنى شرب الماء، ومعنى ري الزرع، ومعنى امتصاص النبات للشمس، ومعنى ذوبان الجليد في البحار، ذلك ما يجعلنا ننظر إلى كل شيء في هذا الكون باعتباره متجها إلى شيء آخر. حتى نحن البشر، نحن منتهى الماء والنبات والشمس، ومنتهى بعضنا البعض في أرقى لحظات وجودنا البشري، حتى نحن في حالة حركة، متجهون لا إلى ما لا ندري حسب، بل إلى حيث نندمج فعلا في كيان آخر، في تراب وهواء ووجود جديد وإن يكن أقدم من أي وجود غيره.
لعل النساء في زمن ما كنَّ على قدر من السهولة يجعلهن يستجبن لهذه الطرق في الغواية، ولكن النساء والرجال من كل زمن بحاجة إلى النظر للعالم متسائلين عما هم ذاهبون إلى الاندماج فيه.
بيت من الشعر لا يجعلنا فقط ننظر إلى العالم نظرة جديدة، بل لعله يجعلنا أيضا نحترم أشياء العالم كلها، يجعلنا نحبها، نحب مكاننا المحتمل فيها، أو مكانها المحتمل فينا.
مقتبس من مدونة اصوات من هناك .مشروع ثقافي لاحمد الشافعي كل الحقوق محفوظة 2014