‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات الاوان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات الاوان. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 27 أغسطس 2014

تأويل ابن عربيّ لرؤيا إبراهيم *

تأويل ابن عربيّ لرؤيا إبراهيم *

ابن عربي

** تحذير : الكاتب هنا ليس حبا في بن عربي يقتبس منه . الكاتب علماني ليس له اي اعتبار للاديان وكما لاحظتم في العنوان فهو يتحدث عن سيدنا ابراهيم عليه السلام الاب الكبير الذي اخبرنا عنه الحق كانه شخصية تاريخية بلا اي احترام . و في الموقع نحن نكن احتراما عظيما لهؤلاء الرجال العظماء حاملي النبوة  ولكل الاديان الموجودة على الارض . مقالات الاوان كلها تحوي هذه العقلانية المزيفة -استعمال ادوات التراث في عقلنة العصر الحديث - بشتى الطرق . لماذا اذن نجلب مقالاتهم هنا . نحن نجلب المقالات حسب فائدتها للجمهور العربي سواء كان مسيحيا او مسلما او ملحدا بموضوعية قدر الامكان . والتحذير هنا ليس انتهاكا لموضوعيتنا لانه لو لم نقله لانحزنا للالحاد والعقلنة المزعومة لذا فكي نقف في الوسط نوهنا بذلك ** يونس بن عمارة . 

المقال  بقلم: فتحي بن سلامة 

يعود الفضل في تقديم أجمل تأويل لإشكال العلاقة بين الحلم والتّضحية في الإسلام إلى المتصوّف الأندلسيّ ابن عربيّ (القرن الثّاني عشر). فقد أدرج هذا الإشكال في إطار نظريّته عن “حضرة الخيال”.

انطلق ابن عربيّ من جواب الابن : “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ” ليُخضع مسألة التّضحية بأكملها إلى رهان تأويل الحلم، فهو يقول : “والولد عين أبيه. فما رأى [الوالد] يذبح سوى نفسه.”وفداه بذبح عظيم“فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد، بل بحكم ولد من هو عين الوالد.”(1) وهكذا، فإنّ موضوع الحرمان الذي يخضع إليه الأب من حيث ماهيّته، وعن طريق الابن، هو الطّفل. ولا شكّ أنّ هذا التّأويل الذي قدّمه ابن عربيّ يندرج في إطار تقليد عريق في التّصوّف يقوم على اعتبار “التّضحية الكبرى” تضحية بالنّفس. والنّفس هي la psyché، وهي الجزء الحيوانيّ الفاني من الرّوح، وهي التي تظهر في صورة الحمل الوديع المقدّم قربانا، وعلى هذا النّحو يسلم الغنوصيّ نفسه إلى الفناء في الإلهيّ.

إلاّ أنّ طرافة ابن عربيّ تكمن في النّظريّة التي قدّمها في “الفصّ” المتعلّق بإسحاق. فهي من أرقى وألطف النّظريّات المؤوّلة للحلم المتعلّق بما يعتمل في الأب من شوق إلى قتل الطّفل، وللمرور من الفعل الخياليّ إلى الواقع:

“اعلم أيّدنا الله وإيّاك أنّ إبراهيم الخليل عليه الصّلاة والسّلام قال لابنه (إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك)، والمنام حضرة الخيال فلم يعبّرها، وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام، فصدّق إبراهيم الرّؤيا)، أي لم يعبّرها لما تعوّد به من الأخذ عن عالم المثال، فلمّا رقّاه اللّه تعالى عن عالم المثال ليجعل قلبه محلّ الاستواء الرّحمانيّ، أخذ خياله المعنى من قلبه المجرّد، وتصرّفت القوّة المتصرّفة في تصويره، فصوّرت معنى الكبش بصورة إسحاق عليه السّلام لما ذكر من كونه الأصل، فلم يعبّرها وصدّقها في أنّ ذلك إسحاق، وكان ذلك عند اللّه الذّبح العظيم، فلم يعط إبراهيم الحضرة حقّها بالتّعبير، ففداه ربّه من وهم إبراهيم بالذّبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند اللّه، وهو لا يشعر.”(2)

لم أقم في هذه التّرجمة (3) بأدنى محاولة لجرّ ابن عربيّ إلى عصرنا. فكلّ كلمة وكلّ فكرة في هذا النّصّ تمثّل جزءا من المجموع النّظريّ الذي صاغه ابن عربيّ عن “حضرة الخيال” أو “الحضور الخياليّ”. وليست حضرة الخيال هذه حضورا في الخيال، بل هي حضور الخيال باعتباره جوهر الغياب الذي هو شوق الآخر. فابن عربيّ يميّز في هذه النّظريّة بين قطبين خياليّين. أمّا القطب الأوّل فهو الخيال المرتبط بالظّرفيّة الخاصّة بالذّات : يقول في الفصّ نفسه : “بالوهم يخلق كلّ إنسان في قوّة خياله ما لا وجود له إلاّ فيها، وهذا الأمر العامّ…”

أمّا القطب الثّاني، فهو الخيال غير الظّرفيّ: يقول ابن عربيّ: “والعراف يخلق بالهمّة ما يكون له وجود من خارج في محلّ الهمّة، ولكن لا تزال الهمّة تحفظه(4)”.

فابن عربيّ يميّز هنا بين “الخيال المتّصل” بالذّات و“الخيال المنفصل” عن الذّات. فالخيال المنفصل يشمل في تقديري ما سمّيناه بـ“الخيال الضّروريّ” الذي لا يخيّل المستحيل، بل يشير إليه باعتباره منسحبا، وباعتباره بقيّة تقال، تماما كما هو شأن “كان”.

والنّتيجة التي يمكن استخلاصها ممّا تقدّم حسب ابن عربيّ هي أنّ إبراهيم لم يستطع أو لم يهتد إلى تأويل الهوام(5) في حلمه، وهو “التّضحية بابنه”. فقد بقي “بلاشعور” بالموضوع الحقيقيّ للشّوق إلى التّضحية. فما كان يجب عليه التّضحية به هو “الطّفل الذي فيه” لا ابنه. وتبعا لذلك، فإنّ مشهد ذبح الكبش كان تداركا (من قبل اللّه) في الواقعيّ لما تمّ التّعبير عنه في الخيال ولم تتوفّر وسائل تحويله إلى صورة ملائمة. فما هي إذن هذه الصّورة الملائمة، ومن أين تتأتّى وسائل التّحويل؟

يشرح ابن عربيّ هذا الأمر قائلا : “وقال اللّه تعالى لإبراهيم حين ناداه أن (يا إبراهيم قد صدّقت الرّؤيا) وما قال له : قد صدّقت في الرّؤيا إنّه ابنك، لأنّه ما عبّرها. فلو صدَق في رؤيا ما رأى لما كان عند الله إلاّ إسحاق ولذبحه، فلم يصدق فيها بالتّعبير كما هو عند الله، بل أخذ بظاهر ما رأى والرّؤيا تطلب التّعبير، ولذلك قال العزيز : (إن كنتم للرّؤيا تعبّرون)، ومعنى التّعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر، فكانت البقر سنين في المحْل والخصب، فلو صدق في الرّؤيا لذبح ابنه، ولكان عند اللّه كذلك، وإنّما صدّق الرّؤيا في أنّ ذلك عين ولده، وما كان عند الله إلاّ الذّبح العظيم في صورة ولده، ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم (ص) ما هو فداء في نفس الأمر عند الله.”(6).

وهذا يعني أنّ ما يراه ابن عربيّ هو أنّ الاستبدال الأضحويّ للابن بالكبش كان سدّا للنّقص الذي اعترى تأويل إبراهيم، إذ صدّق بالمعنى الحرفيّ لصور الحلم. فالتّعويض الأضحويّ يكون بذلك تداركا في اللّحظة الأخيرة لخطإ في التّأويل كان يمكن أن يصبح جريمة قتل لطفل. فالتّضحية هنا هي بمثابة التّأويل. المستهدف هو التّضحية بالطّفل الذي كان في داخل الأب من خلال الابن، أو على وجه الدّقّة من خلال صورة التّضحية بالطّفل، وهي غير قتل الابن.

وإذا كانت التّضحية تحلّ محلّ التّأويل النّاقص معوّضة إيّاه، فذلك يعود ربّما إلى وجود تكافؤ بين التّأويل والتّضحية. وإذا صحّ هذا القول، فإنّ التّضحية في الحلم تصبح حلما بتحقيق الشّوق إلى التّأويل. أمّا التّضحية نفسها فتكون الشّوق إلى التّأويل وقد تجسّد في الواقع. والرّهان في هذا الشّوق إلى التّأويل هو كما سنرى قتل الطّفل القابع في داخل الأب. ولكنّ الشّوق إلى قتل الطّفل القابع في داخل الأب لا يعدو أن يكون شوق الابن إلى أن يكون أبا، أو لنقل، لم لا، إنّه مصير الأب إبراهيم وقد وصل إلى مطبّة.

هذه هي النّتيجة القصوى التي نجح في استخراجها من إشكال التّضحية في الإسلام هذا الرّجل الذي ينتمي إلى العصر الإسلاميّ الوسيط، وهي تتمثّل في أنّ التّضحية خطأ في تأويل حلم الأب أو شوق الأب. إنّنا نجد لدى ابن عربيّ، معاصر ابن رشد، أمرا تشهد به كلّ آثاره، وهو محاولة تخليص روحانيّة التّوحيد الإسلاميّ من الإله المكفهرّ الذي يطالب بنصيب من اللّحم ويكره الآباء على إراقة دم الأبناء لتخفيف تأثّمهم. إنّ ابن عربيّ يحيل إبراهيم إلى شوق الآخر وإلى الطّفل الخياليّ، أي إلى إله قابع في لاشعوره. ونفهم لذلك سبب منع الإسلاميّين كتبه وحرقهم إيّاها، معتبرين إيّاها نتاجا لمرتدّ عن الإسلام.

……………

الهوامش:
1 – فصوص الحكم، ص 78.
2 – م، ن، ص 138.
3 – [يقصد ترجمة نصّ ابن عربيّ إلى الفرنسيّة]
4 -[فصوص الحكم، ص 147]
5 -[ “الوهم” في لغة ابن عربيّ. المترجمة]
6 – ابن عربيّ، فصوص الحكم، شرح الشّيخ عبد الرّزّاق القاشانيّ، القاهرة، المكتبة الأزهريّة للتّراث، 1997، ص ص 139-140.
مقتطف من كتاب فتحي بن سلامة، الإسلام والتّحليل النّفسيّ، ترجمة رجاء بن سلامة، بيروت، رابطة العقلانيّين العرب ودار السّاقي، 2008، ص ص 294-297.
* عن (الأوان)

السبت، 23 أغسطس 2014

جحيم الفن الإيروسي الروسي “ذخائر غير مقدسة لزمن مشتهى” / اسكندر حبش

جحيم الفن الإيروسي الروسي “ذخائر غير مقدسة لزمن مشتهى” / اسكندر حبش

هل يمكن الحديث عن ثروة أدبية وفنيّة تعود إلى زمن “الاتحاد السوفياتي”؟ قبل البحث عن إجابة لهذا السؤال، لا بدّ أن نتذكر كل ذاك “الأدب المضطهد” (مثلما اصطلح على تسميته) الذي تسرب من زمن “الشيوعية السوفياتية”، والذي وجد في “الغرب” من يهتم به ويترجمه، لنكتشف معه أدباً على خلاف جذري مع الأدب الرسمي. كذلك أيضاً، عديدة هي الأعمال الفنية التي لم نعرف عنها، بالرغم من أن تلك البلاد أنجبت الكثير من الفنانين الذين كانت لهم بصمة واحدة في مسار الفن العالمي.

أسماء وأسماء، لم تحظ بفرصة النشر أو العرض. أسماء أخرى أُرسلت إلى الغولاغ واختفت في الظلّ. كان الستار الحديدي إذن، حاجزاً حقيقياً لإخفاء فن وأدب، لا نتوقف اليوم عن اكتشافهما، إذ وفق صحيفة “الفيغارو” الفرنسية (التي ترتكز في مقالتها على صحيفة “موسكو تايمز”، وحيث أرتكزُ هنا على الصحيفتين معاً) تمّ الكشف مؤخراً عن 12000 “شيء خارق وصور ولوحات وكتب أدبية” كانت مخبأة بعناية في أحد مخابئ الدولة، وتحت الحراسة المشددة. إذ راكمت الدولة في هذا المخبأ الأعمال التي مُنعت والتي “تمّ القبض عليها” بسبب أنها كانت تمثل “الإيديولوجيا البورجوازية” المتناقضة مع إيديولوجيا النظام، مع العلم أنه كان يمكن لأعضاء الحزب والمقربين من الدولة أن يطلعوا على ذلك.
من بين اللوحات التي ظهرت إلى العلن مؤخراً، بعض رسومات فاسيلي ماسيوتين (الذي زين برسوماته أعمال تشيخوف)، ولعل أبرز ما لفت الأنظار، لوحته التي تمثل إمرأة تمارس العادة السرية. هناك أيضاً الكثير من “الغرافورات” (أعمال حفر) اليابانية التي قيل عنها إنها أعمال “حسية” لم تكن تتناسب مع أخلاق الدولة السوفياتية، لذلك تمّ منعها من التداول في السوق. أضف إلى ذلك الكثير من الأعمال والمخطوطات التي تنتمي إلى الأدب البورنوغرافي.
بهذا المعنى تشكل هذه الأعمال “الكنوز” التي كشف النقاب عنها “القسم السري” في مكتبة الدولة الروسية في موسكو، وهو قسم لم يكن يعلم بوجوده كثيرون. هذه الأعمال، ووفق الصحيفة، هي ما تبقى من تلك المجموعة الخاصة والاستثنائية التي بدأ تجميعها من عام 1920، لتتضمن كل الكتابات والصور التي “قبضت” عليها الدولة السوفياتية من أجل الحفاظ على “الأخلاق الحميدة”. 12000 “غرض” هو الرقم، رقم ما تبقى. يعني هل كانت المجموعة، التي لم تعرض يوماً أمام الجمهور، تضم أكثر من ذلك؟
السبب في إخفائها هي أنها اعتبرت ذات “إيديولوجيا مشؤومة”، لذلك كان من المفترض أن تترك في الظل (أفضل من أن تتلف على سبيل المثال). وعلى مرّ السنين ضمت المكتبة الوطنية في موسكو آلاف الأعمال، التي عادت لتظهر إلى العلن عبر تحقيق كتبه جوي نوميير في “موسكو تايمز” بعد أن فتحت المكتبة أبوابها أمامه، ليتحدث في مقالته عن القصة الكاملة لهذه المجموعة “التي زارها ورآها العديد من القيادات النافذة في تلك الحقبة”.
ولو عدنا إلى الوراء، وفق القصة التاريخية، نجد أن البلاشفة، في العام 1920، قاموا بتحويل أحد المتاحف إلى مكتبة أطلقوا عليها اسم “مكتبة لينين”. وعند إنشائها قام فريق عمل هذه المكتبة بفتح “فرع خاص” وضعوا فيه كتب “الأدب المشبوه” الارستقراطي. إذ كان الروس، قبل الثورة، يتباهون بامتلاكهم تلك الكتب التي توصف بأنها “كتب من أجل السيدات” ذات الرسوم الإيحائية. في العام 1930، تم “القبض” أيضاً على كل الكتب التي على علاقة بموضوع الجنس، كما على الكتب “الطبية” التي تتحدث عن موضوع “عدم الإنجاب”. أما في عهد ستالين، فقد تم السماح برؤية هذه المجموعة للنافذين المقربين منه، وبخاصة أولئك الذين يحبون “الصور الجلية والواضحة”، ومن بينهم قائد الحرس الأحمر سيميون بودييني والمسؤول الرفيع المستوى ميخائيل كالينين، وفق ما تروي القصة.
هاوي جمع التحف
بيد أن مجموعة “هذا القسم من المكتبة” لم تتكاثر وتتضاعف إلا “بفضل” هاوي جمع تحف “متحمس”، يدعى نيكولاي سكورودوموف، الذي كان مدير مكتبة جامعة الدولة في موسكو، إذ كان من “المهووسين” (مثلما وصف) بجمع الرسوم الإيروتيكية كما كتب الأدب الإيروسي، لسنوات عديدة، ولم تعلم السلطات “بهوايته” هذه إلا بعد وفاته، حين اكتشفت “ثروته” فوضعت اليد عليها لتنقلها إلى القسم الخاص. ويروى أيضاً أن قائد الشرطة السياسية المقرب من ستالين، والذي كان بدوره (أي قائد الشرطة) هاوياً لهذا النوع من الفن، كان وضع نيكولاي سكورودوموف تحت حمايته “ليستفيد” من هذه الثروة أي ليتسنى له رؤية كل ما يحصل عليه الأستاذ الجامعي وليمتع “نظره”. حين تم اكتشاف مجموعة سكورودوموف، رفضت الدولة السوفياتية شراءها من أرملته، إذ وجدت أنها لا تشكل “أي أهمية علمية أو تاريخية للقراء”، أضف إلى ذلك أنه “كان من المفترض عليه أن لا يجمعها من الأساس” إذ أنها تنتمي “إلى الفن الممنوع” بسبب طبيعتها التي تشكل “خطراً هائلا”.. لذلك لم يكن من مجال سوى أن تحط رحالها (أي هذه الجموعة) في القسم الخاص “الإيروسي” من المكتبة الوطنية.
وتمضي القصة (كما روتها الصحيفة الفرنسية) لتخبرنا أن آخر “القطع” التي وصلت إلى رفوف هذا القسم الخاص كانت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي “قطع” كانت تصادر من قبل “الجمارك” التي ترسلها مباشرة إلى المسؤول عن هذا القسم. ويقول كاتب التحقيق، إن بعض الكتب القليلة، أصبحت اليوم متاحة أمام الجمهور إلا أن المجموعة “السرية” تبقى في منأى عن النظرات، وحتى أنه لا توجد لغاية اليوم أي جردة أو كاتالوغ بهذه التحف الموجودة. بهذا المعنى “يبقى جحيم مكتبة الدولة الروسية غير ممسوس، وكأنه ذخائر غير مقدسة لزمن مشتهى”.

عن ملحق السفير الثقافي

الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

حشرة كافكا

حشرة كافكا








“حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحوّل في فراشه إلى حشرة ضخمة.”- هكذا كتب كافكا الجملة الأولى من روايته الرائعة والمريعة “التحوّل” أو بتعبير أدق “المسخ”: إذ ما يمكن أن يعني أن يتحوّل جسم من صورة بشر إلى صورة حشرة؟ - ما يرعب القلب، لأنّ نصّ كافكا مرعب حقّا، هو أنّ الحشرة هي النسب الحيواني الأقدم لكل دابة على الأرض. إذا جرّدنا البشريّ من كلّ ادّعاءات الإنسان حول نفسه، لن يتبقى سوى الدابة، الجسم /الحيوان الذي يدبّ على الأرض. لكنّ ما قصده كافكا كان أسوأ من ذلك: إنّ الدابة التي تمشي تحت تصوّر الإنسان حول نفسه هي أيضا “ذاته” بنفس القدر، بهذا المعنى هو حشرة ضخمة. – الإنسان هو حشرة ضخمة تفكّر. ولكن إلى أيّ مدى يمكننا أن ننتمي إلى كوجيطو الحشرات الذي ينام تحت أجسامنا المتعبة بثقل النوع البشري؟ وبأيّ معنى يجدر بنا أن نؤوّل هذا التحوّل “الحشري” للجسم البشري فجأة؟ 
لنتخيّل أنّ شعبا أو مجموعة من الشعوب قد أصابها عين “التحوّل” أو “المسخ” الذي حكاه كافكا عن أحد شخوصه الروائية، كيف يكون علينا أن نواصل قراءة أنفسنا؟ - شعب يستفيق صباحا ما كي يجد نفسه وقد تحوّل في فراشه القومي إلى حشرة ضخمة. كيف يكون عليه أن يعي بنفسه؟ أن يفكّر؟
ولكن هل ثمّة صلة ضرورية بين الجسم البشري والتفكير؟ 

ما حاوله كافكا هو الفصل بين شكل الجسم البشري وقدرتنا البشرية على التفكير. يمكننا أن نواصل هويتنا في جسم حشرة ( !) – حشرة ضخمة، ذات “بطن شبيه بالقبة”، و“أرجل عديدة ونحيفة”. لكنّ من له أرجل عديدة وهزيلة، هو لا يمشي. بل يزحف. نحن ننظر إلى ما نضع في بطوننا وكأنه نحن. وننظر إلى أرجلنا وكأنّها يمكن دائما أن تحملنا إلى أيّ مكان. ولكن ماذا لو أنّ البطن هو مساحة خارجنا، وأنّ هذه الأرجل لا تقوى على حملنا، لأنّها عديدة أكثر من اللازم، أو نحيفة على نحو لا يُحتمل. 
لكنّ كافكا ما فتئ يؤكّد لنا: “لم يكن ذلك حلما”. إذ يحرص البشر على إبقاء إدراك الفرق بين النوم واليقظة واضحا. من لم يعد يفرّق بين النوم واليقظة ليس إنسانا. هل الإنسانية مجرّد خطّ فاصل عن النوم؟ هل هي مجرد حالة يقظة بلا أيّ ضمانات أخرى؟ ولكن ماذا لو أنّ ما ندركه هو ليس نحن. نحن مجرد حالة عابرة بين عالمين لا ننتمي إلى أيّ واحد منهما. ومن ثمّ أنّ إدراكنا بأنّ ما نعيشه “ليس حلما” هو حقيقة بلا جدوى. ولا تساعدنا في شيء على تعريف أنفسنا. 
لذلك يضيف كافكا أنّ غرفة بطله غريغور هي “غرفة بشرية” وتقع تماما داخل الجدران الأربعة المألوفة. – نحن نستمدّ بشريتنا، أو ما نسميه كذلك، دوما، من الطابع البشري للأمكنة التي نسكنها: نحن ضروب من المكان، إذن، والبشرية في جزء عميق منها، مجرد قدرة على ارتياد الأمكنة، أمكنة مخصوصة، أو ضرب من فنّ المكان. وحيثما ينام بشريّ، فهو في “غرفة”. إنّ العالم بهذا المعنى هو غرفة “بشرية”. وهو ليس غرفة عملاقة إلاّ بفضلنا، نحن بني ساكن ابن ساكن. لكنّ الغرف تقع دوما “داخل” الجدران وليس خارجها. وما لا جدران له ليس غرفة بشرية. إنّ معنى السكن البشري هو الداخل. – هذا الداخل هو الذي تهدّم أو امّحى عندما أفاق غريغور سامسا ووجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة، وإن كانت ضخمة: فالحشرة هي الخارج بإطلاق. الحشرة هي الكائن الذي لا داخل له. والحيوان الذي لا ينام داخل أربعة جدران. ومن ثمّ فإنّ بطل كافكا قد أخذ يستفيق على حقيقة مرعبة: أنّ جسده البشري قد تحوّل إلى جسم حشريّ غريب عنه: إنّه الخارج الذي عليه منذ الآن أن يسكنه بواسطة داخل لا وجود له. 
حين ندخل إلى ذات أنفسنا، للقاء معها، ما يبقى خارجنا هو الحيوان: جملة أعضاء الدابة التي تمشي تحتنا دون أن تكون نحن. فحين ننام نحن نترك أجسادنا خارجنا. ولا نحمل معنا شيئا إلى الداخل، غير ذواتنا. 
ولكن، حيثما يسكن المرء أو ينام، يتحوّل المكان، أيّ مكان، إلى غرفة: مساحة مألوفة، حيث تبيت أدوات العمل وصورة سيدة تنظر إليه، ونافذة تفصل عن الآخرين، وشيء ما يحدث في الخارج، مطرٌ ما “يوقّع في نفسه كآبة ما”. – لكنّ الجديد هو أنّ عالم الحشرة غير قابل للسكن: لا يمكن العودة إلى النوم كحشرة بعد أن أفاق كبشر. وهو لا يستطيع أن “ينام على جنبه الأيمن” لأنّ الحشرة لا تستدير. الحشرة لا يمين لها. ولا تدور حول نفسها، كي تسكن نفسها بشكل أكثر راحة. إنّ شكل وجودها الذي فرضته على ذات غريغور هو الظهر. الحشرة ظهرٌ كلّها، وهي ترى العالم بشكل ظهريّ. ومن ثمّ أنّ كلّ معنى لنفسها هو عمودي، ولا يقبل التفاوض، مع البشر وعاداتهم. وعندما يشعر الإنسان بحدود الحيوان في جسمه، لن يبقى له سوى أن يغمض عينيه عن مساحة الإنسان فيه: نحن نسكن أجسامنا في حدود حيوانيتنا. وكل تمرد على حدود الحيوان سوف يلقي بنا في منطقة الألم حيث تتساوى الحيوانات: الألم إذن هو أوّل مغامراتنا البشرية. ويبدو أنّ الألم هو أوّل تعبير عن “خروج” الإنسان من عالم الحيوان. 
لقد وضعنا كافكا أمام استحالة الإنسان، كونه رهين البقاء في حدود شكله الحيواني. إذ كيف يمكن لمن يسكن جسم حشرة أن يكابد كل عناء الحياة اليومية للمواطن الحديث: “اللحاق بالقطار” المزدحم وتحمّل “وجبات الطعام الرديئة” واستساغة “الاتصالات الإنسانية المتبادلة”، تلك التي “لا تصبح ودية قط”، وقبول “النهوض الباكر من الفراش” البشري. يقول كافكا :“هذا النهوض الباكر من الفراش يجعل المرء أبله تماما”. تبدو الحياة اليومية للجسم البشري تمرينا أبله على الانتماء إلى إنسانية لا تحبّه قط. كل ما هو يومي هو تبادل لما لا يمكن الاحتفاظ به: دَين الإنسانية.
لا ينهض الناس إلاّ من أجل تسديد ديون ما. ولذلك هم عليهم أن يسكتوا الوقت اللازم لذلك. ففي صلب كل الضجيج الذي يصمّ آذان الحياة اليومية للفرد الحديث يقبع ويختفي سكوت ما: سكون الدَين. لذلك يصاحب العمل في المؤسسة الحديثة سكوت ما، انتظار يطول أو يقصر حسب القدرة على تسديد دَين ما. وبطل كافكا عليه أن يؤجّل كل صراحة أو شجاعة مع رئيس عمله ليس لأنّه “ثقيل السمع” بل لأنّه قبل أن يصبح شجاعا عليه أن يسدّد ديونا متخلدة في ذمّته، دون أن تكون ديونه قط. – نحن نأتي دوما إلى أنفسنا متأخّرين، ودوما تنتظرنا ديونٌ ما، لم نقترضها أبدا. إنّه ديون “الوالدين”. 
كل علاقة بالأب أو بالأم هي علاقة دَين ما، سابق على أنفسنا وعلى شكل أنفسنا الخاصة. لكنّ نجاحنا في أيّ عمل يقتضي أن نسدّد دَينا أصليا من نوع ما. إنّ وجودنا نفسه دَين ما. وعلينا أن نسدّده بماذا؟ - بالنجاح. ذلك النجاح الذي لا نقصده، لكنّه دَين علينا تسديده. – لا يعني ذلك أن نحبّ الوالدين، بل يعني أن الحياة نفسها دَين علينا أن نسدّده للوالدين بطريقة لائقة. ليس نجاحنا ترفا خاصا، بل دَين ما. وأثقل أنواع الديون هو ذاك الذي يكون دَينا أصليا، مع أننا لم نقترفه قط. إنّ دَين الوجود في العالم.
لذلك لا يبدأ اليوم البشري فعلا إلاّ حين نستفيق على وقع دَين ما، لسنا مخيرين أبدا في تسديده. ولذلك نحن ننهض كل يوم. الحياة كنوع من الدَين.
ولكن من بإمكانه مساعدة الحشرة في الإنسان على النهوض؟ - شعر غريغور أنّ عمله كحشرة أكثر إزعاجا من العمل البشري. لكن الذهاب إلى العمل البشري في جسم حشرة يتطلب قبلُ أن يوجد من يساعد الحشرة على الوقوف. الأم؟ الأب؟ الأخت؟ - توجد العائلة دوما على حدود الحيوان فينا، كي نلتحق بعالم الإنسان. العائلة مركز حراسة حدودي يؤمّن التحاقنا بالحياة اليومية في الوقت المناسب. 
لكنّ ما يزعج الحشرة ليس الوقت اليومي بل الوقوف بالشكل المناسب: إذ يبدو أنّ الالتحاق بالمكان، بشكل المكان، هو أكثر صعوبة من الالتحاق بالحياة اليومية. – الالتحاق بالمكان هو موقف خطير يتطلب استعمالا مناسبا للجسد. لكن جسد الحشرة الملقى على ظهره لا يصلح للنهوض. إنه يبدو بمعنى ما كحيوان ممنوع من الحياة اليومية. وكافكا يزيد في إزعاج المشهد: حشرة ملقى على ظهرها لا يمكنها أن تتحرك من السرير في غرفة مقفلة الباب من الداخل، لكنها في المقابل لا يمكنها أن تطلب المساعدة، مخافة أن يكتشف بقية أعضاء العائلة البشرية أنّ أحدهم قد تحوّل إلى حشرة. وأنّ المسخ قد سرق شكل الإنسان فيه، ولم يعد شريكا في الإنسانية ولا طرفا تربطنا به لغة ما. 
قال كافكا: “ورغم كل الضيق، لم يستطيع- عند هذه الفكرة- أن يكبت ابتسامة”. – هل تبتسم الحشرات؟ إنّ المضحك هنا ليس حيوانيا. إنّه شعور غريغور، البطل الممسوخ، بالمفارقة التي تفصل الإنسان عن عائلته الإنسانية: لا يمكنه أن يطلب المساعدة من عين لن ترى فيه غير الحشرة. القبح حاجز كاف للخروج من عالم الإنسان. بيد أنّه أيضا يكمن الرعب: كل الضحك البشري يقبع على حدود الحيوان. نحن لا نضحك لأنّنا بشر، فقط. ونحن مثيرون للضحك بقدر ما يتصدّع الغلاف البشري حول حيوانيتنا. 


مقتبس عن موقع الاوان . فتحي المسكيني .

الخميس، 24 يوليو 2014

في جذور فكر ميشيل فوكو

في جذور فكر ميشيل فوكو
















ميشيل فوكو (1926-1984) هو فيلسوف ومؤرخ فرنسي، ارتبط اسمه بالاتجاهات البنيوية وما بعد البنيوية. كان له تأثير كبير ليس فقط في حقل الفلسفة، لكن أيضاً في مدى عريض من التخصصات الإنسانية والعلوم الاجتماعية.
مخطط لسيرة فوكو
ولد فوكو في بواتييه، فرنسا، في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1926. بدا في سنواته الدراسية أنه كان معذَّباً نفسياً، لكنه كان متألقاً فكرياً. أصبح فوكو معترفاً به أكاديمياً خلال الستينات، حينما تدرج في سلسلة من المناصب في الجامعات الفرنسية، حتى انتخب عام 1969 ليكون بروفيسوراً لتاريخ أنظمة الفكر في الكوليج دو فرانس المرموقة جداً حتى وفاته. ومنذ بداية السبعينات، أصبح فوكو نشطاً جداً في المجال السياسي، فأسس مجموعة المعلومات حول السجون، وغالباً ما تظاهر للدفاع عن حقوق المثليين وغيرهم من الفئات المهمشة. كثيراً ما حاضر فوكو خارج فرنسا، خاصة في الولايات المتحدة، وفي عام 1983 وافق على أن يعطي محاضرات سنوية في جامعة كاليفورنيا. مات فوكو في باريس في الخامس والعشرين من حزيران عام 1984، ضحية مبكرة لمرض الإيدز. بالإضافة للأعمال التي نشرت خلال حياته، فإن محاضراته في الكوليج دو فرانس، التي نشرت بعد وفاته، تحتوي توضيحات وامتدادات مهمة لأفكاره.
يصعب التفكير بفوكو كفيلسوف فقط. لقد كان تكوينه الأكاديمي غنياً بعلم النفس والتاريخ كما هو بالفلسفة، وكتبه كانت بمجملها تواريخ للعلوم الطبية والاجتماعية، وشغفه كان الأدب والسياسة. مع ذلك، فإن كل كتب فوكو تقريباً يمكن قراءتها بشكل مثمر باعتبارها فلسفية بإحدى الطريقتين التاليتين أو كليهما: باعتبارها ممارسة للمشروع النقدي التقليدي للفلسفة بطريقة (تاريخية) جديدة، وكذلك باعتبارها اشتباكاً نقدياً مع فكر الفلاسفة التقليديين. هذا المقال سيقدم فوكو كفيلسوف من خلال هذين البعدين.
خلفية فكرية
لنبدأ بمخطط للبيئة الفلسفية التي تعلم فوكو فيها. التحق بمدرسة الأساتذة العليا (قاعدة الإطلاق الرئيسية لمعظم الفلاسفة الفرنسيين) عام 1946، خلال فترة الذروة للفينومينولوجيا الوجودية. ميرلوبونتي(الذي حضر فوكو محاضراته) وهيدغر كانا مهمان بشكل خاص. هيجل وماركس حظيا أيضاً باهتمام كبير من قبل فوكو، الأول من خلال ترجمة أعماله من قبل جان هيبوليت، والثاني من خلال القراءة البنيوية التي قدمها لويس ألتوسيرـ كلا الأستاذين (هيبوليت وألتوسير) كان لها تأثير قوي على فوكو في مدرسة الأساتذة. ليس مفاجئاً بالتالي أن تكون بواكير أعمال فوكو ( مقدمته الطويلة لكتاب الحلم والوجود للطبيب النفسي الهيدغري لودفيغ بينسوانغر، وكتابه الصغير المرض العقلي والشخصية ) قد كتبت تحت سيطرة الوجودية والماركسية، على التوالي. لكنه بعد فترة قصيرة ابتعد بشكل قاطع عن كليهما.
على الرغم من أن جان بول سارتر (عاش وعمل خارج النظام الجامعي) لم يكن له تأثير شخصي على فوكو، فإن النظرة إليه باعتباره المفكر الفرنسي الرئيسي قبل فوكو دائماً متواجدة في الخلفية. مثل سارتر، انطلق فوكو من كراهية شديدة للمجتمع والثقافة البرجوازيين وتعاطف تلقائي للمجموعات الهامشية (الفنانين، المثليين، المساجين، إلخ). لقد كان لهما أيضاً اهتمامات متشابهة بالأدب وعلم النفس والفلسفة، وأصبح كلاهما ناشطين قويين سياسياً، بعد فترة مبكرة من عدم الاهتمام بالسياسة. لكن في النهاية، بدا فوكو مصرّاً على تعريف نفسه كنقيض لسارتر. فلسفياً، رفض فوكو ما رآه عند سارتر من مركزية للذات (والتي وصفها ساخراً بالنرجسية المتجاوزة). شخصياً وسياسياً، رفض فوكو دور سارتر باعتباره “مفكراً كونياً”، يحكم على المجتمع اعتماداً على مبادئ متعالية. تبقى هناك صبغة من الاحتجاج الشديد في فصل فوكو نفسه عن سارتر، ويبقى سؤال العلاقة بين أعمال الرجلين ميداناً خصباً للبحث.
ثلاثة عوامل أخرى كان لها تأثير إيجابي واضح على فوكو الشاب. أولاً، كان هناك تقليد فرنسي في التاريخ وفلسفة العلم، ممثل بشكل خاص من خلال جورج كانغيلام، وهو شخصية ذات نفوذ في الجامعة الفرنسية، وقد زودت أعماله في حقول التاريخ وفلسفة علم الأحياء أنموذجاً لما ستكون عليه معظم أعمال فوكو لاحقاً في تاريخ العلوم. دعم كانغيلام أطروحة الدكتوراه لفوكو حول تاريخ الجنون، وكان من أهم الداعمين لفوكو طوال مسيرته المهنية. لقد منح منهج كانغيلام في تاريخ العلم (وهو منهج تطور عن طريق غاستون باشلار)، منح فوكو إحساساً قوياً بالانقطاعات الموجودة في التاريخ العلمي، بالإضافة لفهم عقلاني للدور التاريخي لمفاهيم جعلها ـ من خلال هذا الفهم ـ مستقلة عن الوعي المتجاوز الذي قدمه الفينومينولوجيون. وجد فوكو أن هذا الفهم مدعوم في اللسانيات البنيوية والعلوم النفسية التي طورها ـ على الترتيب ـ فيرديناند دو سوسور وجاك لاكان، بالإضافة لعمل جورج ديموزيل حول الأديان المقارنة. إن وجهات النظر المضادة للذاتية هذه تقدم سياقاً لتهميش فوكو للذات في أعماله التاريخية البنيوية: ميلاد العيادة (حول أصول الطب الحديث) والكلمات والأشياء (حول أصول العلوم الحديثة).
من جهةأخرى، افتتن فوكو بالأدب الفرنسي الطليعي، خاصة كتابات جورج باتاي وموريس بلانشو، حيث وجد التماسك التجريبي للفينومينولوجيا الوجودية دون الفرضيات الفلسفية المشكوك فيها حول الذاتية. والمميز بشكل خاص هو استعانة هذا الأدب بالتجارب الحديّة، التي تدفعنا للدرجة القصوى حيث تبدأ الفئات التقليدية للوضوح بالانهيار. 
لقد قدمت هذه البيئة الفلسفية مواد لنقد الذاتية وللأساليب الأركيولوجية والجينالوجية في كتابة التاريخ التي أعلنت عن مشاريع فوكو في النقد التاريخي، كما سنرى الآن.
نقد فوكو للعقل التاريخي
منذ بداية الفلسفة مع سقراط، فقد اشتملت على مشروع التساؤل عن المعرفة المقبولة في الحاضر. لاحقاً، طور لوك وهيوم وخصوصاً كانط فكرة جديدة بشكل متميز عن الفلسفة باعتبارها نقداً للمعرفة. إن ابتكار كانط الإبستمولوجي العظيم كان التأكيد على أن نفس النقد الذي يكشف عن حدود قوانا المعرفية يمكن أيضاً أن يكشف عن الظروف التي تؤدي إلى تمرينها. ما كان أن يبدو مجرد ملامح عرَضية للمعرفة البشرية (على سبيل المثال، الصفات المكانية والزمنية لمواضيعها) أصبح حقائق ضرورية. لكن فوكو اقترح أننا نحتاج لقلب هذا التوجه الكانطي. بدلاً من التساؤل عن الشيء الضروري فيما يبدو عرَضياً، اقترح فوكو أن نتساءل عن الشيء العرَضي فيما يبدو ضرورياً. التركيز في تساؤله ينصب على العلوم البشرية الحديثة (علم الأحياء، علم النفس، علم الاجتماع). إن هذه العلوم ترمي إلى توفير حقائق علمية كونية عن الطبيعة البشرية، التي هي (الحقائق) في الغالب مجرد تعبير عن الالتزامات الأخلاقية والسياسية لمجتمع ما. إن فلسفة فوكو النقدية تقوّض هذه الادعاءات من خلال بيان أنها فقط نتاج قوى تاريخية عرَضية، وليست مبنية على أسس علمية.
المصدر: موقع موسوعة ستانفورد الفلسفية.

مقتبس من موقع الاوان .كل الحقوق محفوظة 2014