‏إظهار الرسائل ذات التسميات السداسي التالث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السداسي التالث. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 6 يونيو 2013

من القبيلة إلى سوسيولوجيا الدقة و التخصص

بورتريه
عالم الاجتماع المغربي الدكتور المختار الهراس
من القبيلة إلى سوسيولوجيا الدقة و التخصص
عبد الرحيم العطري
كاتب و باحث سوسيولوجي
دوما يقابلك بابتسامته الطيبة، هادئا حريصا على الدقة في التحليل، يقدم طروحاته و ملاحظاته، بعيدا عن التعميم و القطع النهائي، إنه راغب في الفهم لا غير، استنادا إلى معرفة نسبية لا تنتصر لدوغمائية فارغة، هذا هو المختار الهراس، القادم إلينا من قبيلة أنجرة شمال المغرب، مؤسس سوسيولوجيا الأسرة مغربيا، و المنتقل بالدرس السوسيولوجي من خيار العناوين الكبرى إلى التخصص و تخصص التخصص.
يلج المدرج بكلية آداب الرباط، منذ ثمانيات القرن الفائت، ليجيب على أسئلة طلبته بتواضع العلماء الكبار، يحرضهم على المضي قدما في اتجاه السوسيولوجيا العلمية و عدم الاكتفاء بالتلقي، فلا مناص من الدخول في سجل الإنتاج، فمن اختار بالصدفة أو الخطأ أو بقرار و هم وجوديين حرفة عالم الاجتماع، عليه، و بالضرورة أن يكون كاتبا، و أن ينقل معرفته إلى عموم الناس.
فالانتماء إلى علم الاجتماع لا يتوقف برأيه بحيازة شهادة عليا، و لا يتحقق بنشر الأطروحة اليتيمة، إنه انتماء هوياتي، يتأكد واقعيا بالممارسة المستمرة، و الكتابة المتواترة، فالسوسيولوجيا معرفة استثنائية لا تقبل بالخمول و الاستكانة إلى النوستالجيات الفائتة. لهذا كان الهراس و ما يزال ممارسا سوسيولوجيا كتابة و تنظيرا و تأطيرا، بشكل فردي أو جماعي في الغالب، و هو ما يلوح أكثر في إنتاجاته المشتركة مع زميله و أخيه الدكتور إدريس بنسعيد و كذا مع الدكتورة رحمة بورقية.
المختار الهراس يعد من أبرز علماء الاجتماع المغاربة، اعتبارا لمساهمته الفاعلة في التأسيس لمدرسة سوسيولوجية مغربية، و ذلك عبر مستويين من العمل الجاد، يتوزعان على الإنتاج المعرفي و التكوين الأكاديمي، فالهراس من السوسيولوجيين الذين أهدوا المكتبة العربية جملة من الكتب و الدراسات و المقالات المنشغلة أساسا بأسئلة علم الاجتماع في مجالات السياسة و القبيلة و الشباب و الأسرة و المرأة و التقليد و التحديث..، كما أنه يواصل تأطير و تكوين طلبة الاجتماع كأستاذ للتعليم العالي بجامعة محمد الخامس أكدال بالرباط، و كرئيس لوحدة التكوين و البحث في التحولات الاجتماعية و التنمية و كعضو مؤسس بمجموعة الأبحاث و الدراسات السوسيولوجية بذات الجامعة.
ظهرت أولى أعماله في أمهات المجلات العربية، كالمستقبل العربي و الفكر العربي و الوحدة، و بحكم تمكنه من الفرنسية و الإنجليزية و الإسبانية فقد نشرت له أعمال أخرى بمجلات دولية أخرى. فالهراس، و إلى جانب اشتغاله بكلية آداب الرباط، فإنه يحل من حين لآخر أستاذا زائرا بأعرق الجامعات الأوروبية، مقدما الدليل على أن السوسيولوجيا، كما الحب، لا وطن لها، و أنها مجهود إنساني يتوجب تداوله و التفكير فيه بصيغة الجمع لا المفرد.
أعمال الهراس تتنوع بين أعمال فردية و مشتركة و جماعية ك "القبيلة و السلطة: تطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب" و "المرأة و صنع القرار بالمغرب" و "الخصوبة و السلوك الإنجابي" و "المناهج الكيفية في العلوم الاجتماعية" و "التحولات الاجتماعية و الثقافية في البوادي المغربية"، و "ويسترمارك و المجتمع المغربي"...و هو بهكذا اختيار فردي/مشترك، و كأنه يجيب عمليا على سؤال العطب الذي يعتور السوسيولوجيا بالمغرب، و هو ذات السؤال الذي أشار إليه أحمد شراك و عبد الفتاح الزين بالقول، بأنها سوسيولوجيا بصيغة المفرد لا الجمع، فنحن نتوفر، مغربيا، على سوسيولوجيا الأفراد لا المشاريع الجماعية، الشيء الذي يمنع من خلق تيارات و مدارس فكرية متعددة داخل المتن السوسيولوجي المحلي.
الاقتناع بجدوى العمل المشترك هو ما سيدفعه إلى المساهمة في تأسيس "الكريس" GRES برفقة رحمة بورقية و إدريس بنسعيد و آخرين، و هو المركز الذي سينتج دراسات مهمة في أكثر من مجال، و سيجرب تقنيات منهجية تستعمل لأول مرة في البحث السوسيولوجي بالمغرب كتقنية المجموعة البؤرية focus groupe، و سيسهم، و هذا هو المهم، في تكوين جيل من الباحثين الشباب، قد يحملون المشعل غدا، ضمانا لاستمرارية هذا النفس المعرفي الشيق و الشقي في آن.
يظل البحث عن أفضل الطرق المؤدية إلى المعلومة، انشغالا مركزيا لدى المختار الهراس، فأدوات الاشتغال السوسيولوجي يفترض فيها أن تكون وظيفية و عملية، و أن تقود الباحث نحو عمق الأشياء التي تكتنز المعنى و تؤشر على شروط إنتاج الفعل الاجتماعي، و لهذا يتوجب دوما العمل على الشحذ المستمر لهذه الأدوات، أملا في تجذير السوسيولوجيا العلمية و التمكن أكثر من الظاهرة الاجتماعية.
على درب هذا البحث عن التقنيات الأكثر إجرائية لجمع المعطيات من مجتمع الدراسة، بدأ الانفتاح على تقنية "المجموعة البؤرية"، و لأول مرة، بالمغرب خلال سنة 1996 تحديدا، و ذلك في إطار دراسة حول الهجرة الداخلية أنجزها المختار الهراس بمعية إدريس بنسعيد و عبد الرحيم عمران.
فالهراس يقول في أكثر من مناسبة بأن "المناهج الكيفية توفر من المعلومات و التفاصيل حول المواضيع المدروسة ما لا توفره المناهج الكمية"، و هذا ما يتوجب تفهمه جيدا حتى يتم التحرر من ذلك التمثل المعطوب للسوسيولوجيا كعلم لا يكتسب شرعية معرفية بعيدا عن "الاستمارة و الأرقام " ، فهناك تقنيات أخرى أكثر أهمية و أداتيه في الوصول إلى المعطيات الاجتماعية، لكن متى يتم التحرر من سلطة "سوسيولوجيا الاستمارة و الأرقام"؟ و متى تغدو المجموعة البؤرية و غيرها من التقنيات الكيفية أدوات أكثر شيوعا في خارطة السوسيولوجيا المغربية؟ و كيف السبيل بعدا إلى هكذا وضع علمي؟
المختار الهراس يعترف بأن السوسيولوجيا معرفة فوق العادة تستلزم جودة في الأداء، و أفق انتظار مفتوح على غير المتوقع، فالظاهرة الاجتماعية معقدة للغاية، و لا يمكن التمكن منها بيسر شديد، و هنا بالضبط يلح على تدقيق الأدوات المنهجية و بلورة مفاهيم الاشتغال، فتحديد المفاهيم عنده، ليس مجرد ترف علمي تفرضه خطوات البحث، بل هو ضرورة منهجية و معرفية لتوحيد لغة التعاطي و التداول.
فالهراس يؤكد دوما بأن المجتمع المغربي "يمر كغيره من المجتمعات العربية، بتحولات جذرية متسارعة، تعمل على تغيير البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا المجتمع، وتؤثر على مختلف الأطراف الفاعلة، بدرجات متفاوتة. وضمن هذا الإطار، تتفاوت درجات الاستفادة أو التضرر من هذه التحولات بحسب مدى هشاشة الفئة المعينة أو مدى سيطرتها وتمكنها". و الثابت و المتحول في سياق هذه التحولات هو الأجدر بالمتابعة من أجل الفهم و التفسير، لكن بعيدا عن التأويل، الذي يسقط الباحث في فخ الأدلجة، فحرفة عالم الاجتماع، بالنسبة إليه، تستوجب أقصى درجات الحياد و البرود.
سيشتغل الهراس طويلا على القبيلة، كمفتاح لفهم تحولات المجتمع الأنجري و المغربي عموما، فلا يمكن فهم ذات المجتمع بدون الرجوع إلى ثلاثية "المخزن، القبيلة، الزاوية"، فالقبيلة عنده تلوح كمكون مركزي في النسق المغربي، ألم يقل العروي قبلا بأن "تاريخ المغرب هو تاريخ قبائل قبل أن يكون تاريخ دول"، و في اشتغاله على القبيلة سيحاور العصبية الخلدونية و السوسيولوجيا الكولونيالية و إرث المدرسة الانقسامية، كما أنه سيفتح بابا/ نصا غائبا في التركة الاستعمارية، و هو المتعلق بالمعرفة التي أنتجها الإسبان حول المجتمع المغربي، منتهيا إلى وجود أعمال لا تقل أهمية عما أنتجته المدرسة الفرنسية.
بعد طول اشتغال على القبيلة سيجد الهراس نفسه مسائلا للشباب و القيم و التنمية المحلية و التحولات الأسرية تحديدا، متوجا هذه المساءلة بأطروحة جامعية حول "بروز الفرد في قبيلة أنجرة"، و التي جاءت لتعلن انتماء تخصصيا في قارة السوسيولوجيا تحت مسمى "سوسيولوجيا الأسرة"، و تدعو في الآن ذاته إلى الانعتاق من سوسيولوجيا العناوين الكبرى إلى التخصص أو تخصص التخصص. و هذا ما لاح أيضا في الأعمال التي أشرف عليها بعدا في إطار إعداد أطروحات نيل الدكتوراه، فالتركيز على قضية أو مجال محدد، و إلى أقصى حد ممكن، يسعف كثيرا في الدرس و التحليل، و يقود فعلا إلى بناء سوسيولوجيا علمية، تتمكن من تفاصيل التفاصيل.
المختار الهراس نموذج مائز للأستاذ و المربي الذي لا يمل من تشجيع طلبته على التحصيل العلمي، إنه مستمر في تعليمهم فصول العشق السوسيولوجي، محذرا إياهم من مغبة السقوط في العلم الانطباعي المتسرع، داعيا إياهم إلى الإنتاج بدل التلقي، و إلى الدقة و التخصص بدل العناوين الكبرى، هذا هو المختار الهراس يفرض عليك احترامه و حبه أيضا، بسب معرفته الباذخة و تواضعه الجليل و دماثة أخلاقه العالية، فهنيئا لنا به مربيا و معلما و إلى غير المنتهى.

الأحد، 19 مايو 2013

بول باسكون المجتمع المركب المجتمع المغربي من وجهة : نظر بول باسكون ومحمد جسوس.1 حمو بلغازي ـ ترجمة : ناصر السوسي

المجتمع المغربي من وجهة : نظر بول باسكون ومحمد جسوس.1 حمو بلغازي ـ ترجمة : ناصر السوسي

 http://www.anfasse.org/index.php/2010-12-27-01-33-59/2010-12-05-18-31-21/3518---------

حاول بعض الباحثين المحليين والأجانب ، سواء بهاته الطريقة أو تلك ، تحديد طبيعة المجتمع المغربي بإبراز الآليات الواقعية التي تحرك هذا البلد المتأرجح بين التقليد والحداثة،و اللاعقلاني والعقلاني.
فبالرغم من أن المجتمع المغربي مجتمع يعيش وضعية كهاته فإن ثمة طموحا يحذوه لاحتلال منزلة داخل عالم التكنولوجيا.
يتضمن النص التالي عرضا لمقتربين في منتهى الوجاهة، أولهما لبول باسكون ، وثانيهما لمحمد جسوس.
-    مقترب بول باسكون : المجتمع المركب :2
لا يوجد ، حسب بول باسكون ، مجتمع واحد في المغرب بل توجد مظاهر جزئية لخمس مجتمعات متراتبة ؛ ذلك أن الأمر يرتهن بمجتمعات أبوية/بطريركية، وتيوقراطية ، وفيودالية [=قايدية] ثم قبلية فصناعية.
يريد بول باسكون بالمجتمع الأبوي المجتمع الذي تشكل فيه مؤسسة العائلة الخلية الأساسية للتنظيم الاجتماعي بحيث تكون هذه الخلية متميزة بالمركزة الكلية للسلطة بين يدي الأب؛ إذ لا شيء يحصل ، أو يتم إقراره بدون رضى ، وقبول رئيس العائلة [=الأب]. وللتدليل على هذا يمكن الإشارة إلى مؤسسة الزواج التي من غير الممكن إقامتها بدون موافقة آباء العازمين على الزواج.
على أنه وضمن المجتمع الأبوي نلاحظ بأن الفتاة تستمر في العيش في كنف الأب وتحت سلطته ؛ وفي حالة غيابه تنتقل إلى العيش تحت حماية أحد أقربائها من جهة الأب طبعا.
إن الأب، و دائما ضمن المجتمع الأبوي، هو الوحيد الذي يؤول إليه حق ممارسة السلطة المطلقة والكلمة – الفصل سواء تعلق الأمر بالمجال الاقتصادي؛ أو بمجال تدبير الإرث العائلي.
أما المجتمع التيوقراطي فبقدر ما يعسر علينا حصره و ضبطه؛ يعسر علينا كذلك تجاهل أدواره، و تأثيراته في تاريخ المغرب التي تحدث من خلال الزوايا؛ و الجماعات الدينية الطرقية.
ويريد بول باسكون بالمجتمع الفيودالي ذلك النسق المؤسس [ بفتح السين الأولى] من قبل القواد الكبار أو المتوسطين الممثلين للسلطة المركزية على المستوى المحلي [كاد رجال السلطة أن يتملكوا رقاب الناس، وكل ممتلكات المناطق الخاضعة لنفوذهم (قياداتهم)].
وبناء على هذا يستنتج بول باسكون بان ما يسم النسق القايدي هو الاستغلال، و العنف بالإضافة إلى العبودية.
هذا من جانب، و من جانب آخر أشار باسكون إلى المجتمع القبلي الذي اعتبره موسوما بالتضامن السياسي الإقليمي؛ لأن القبيلة تكون ملزمة بالذب عن مجالها الجغرافي بالأسلحة الضرورية. وجدير بالذكر أن مثل هذا الدفاع يتطلب سلطة تتمثل في وجود رجال قادرين على حمل السلاح.
و أخيرا هناك المجتمع الصناعي، فهو كأي مجتمع متطور تقنيا، نجده يعمل في المغرب وفقا للمبادئ التالية : الشركة، الباطرونا، والعمل الأجير (...) علما بأن الخلط يظل قائما بين الشركة (كفضاء للشغل و الأعمال)؛ وبين البيت (كمجال للحياة الخاصة) ...
وعموما لم تبق الأنساق القبلية، و القايدية، و التيوقراطية بذات الأشكال التي كانت عليها في السابق؛ بحسبان أن المجتمع الصناعي ما انفك يبحث عن نفسه في ظل مجتمع بطريركي يواصل هيمنته على كل الأنماط المجتمعية الأخرى. لكن ماذا يقول محمد جسوس في ذات المضمار؟.
- مقترب محمد جسوس : المجتمع المخزني.3
في المجتمع المغربي، غالبا ما تتساكن، وفقا لمحمد جسوس، خمس مشاريع مجتمعية في عين الآن : نسق القرابة، و المشتركية، و الزبونية، ثم الرأسمالية، فالمخزن ( الإدارة المركزية أو الدولة).
النسق القرابي هو حجر زاوية التنظيم الاجتماعي في المغرب العتيق.
فقد أضحى إحدى الأدوات الايدولوجيا للدولة ؛ كما إحدى امتداداتها. فإذا كانت روابط القربى تقدم علاجا ناجعا، وفعالا لمختلف الاضطرابات، والأزمات الاجتماعية، فإنها اليوم تسهم في تمجيد السلطة المركزية عبر الإكثار، إلى حد الغلو ، من النماذج ، والسلوكات، والقيم، والمعتقدات التي تتماهى ، وتتطابق والمشروع المخزني.
 على حين أن المشروع المشتركي (أو الوطني) والذي كان قد لعب دورا رياديا غداة نضال الشعب المغربي ضد الأطماع الخاريجية، وتحديدا في فترة الاستعمار، نجده قد أضحى اليوم وسيلة فعالة للتغميض والتعتيم. فالدولة المغربية تستعين بهذا المشروع لأجل إخفاء المشاكل المترتبة على اللامساواة ؛ واستغلال البعض من قبل البعض الآخر (...) وبصيغة أخرى إن الدولة نجحت من خلال الاعتماد على المشتركية، في تمرير رسالة مؤداها أن المغاربة متساوون؛ وأنهم إخوة، وبهذا المعنى فإنه لا شيء يميز بينهم.
ونظرا لحضور هذا الخطاب الإيديولوجي، ولنظرة كهاته تحلق بعيدا فوق حقيقة الأشياء؛ فإنه يصعب الحديث عن التناقضات والصراعات الاجتماعية بيد انه وبمجرد ما تقوم حركة فكرية تتقصد تعدية ذلك الخطاب، فإنه يتم التصدي لها بسرعة باعتبارها حركة و تناهض مبادئ التقليد المغربي، بل تناقض حتى تعاليم الإسلام.
أما الزبونية فهي ظاهرة ترتكز بشكل كبير على العلاقات الشخصية كما على السلطة السياسية ؛ ذلك أن الأقطاب الذين ينتظم الزبناء حولهم يشغلون وظيفة الوسطاء لدى الإدارة، ولدى الأجهزة الدولتية على السواء.
كانت الوساطة في الماضي تدور حول محاور بعينها : الأسياد، والمرابطين ورؤساء الجماعات الدينية لكن محورها اليوم صار هو الدولة. إن دل هذا شيء فإنما يدل على ان ظاهرة الزبونية أضحت، على وجه التقريب، تشمل الحقل الاجتماعي برمته. من هنا ينتصب السؤال التالي : هل بمستطاعنا أن نؤسس مجتمعا بكامله على قواعد وروابط زبونية؟.
المشروع الرابع الذي تحدث عنه محمد جسوس هو المشروع الرأسمالي.
برز هذا المشروع مع نهاية القرن التاسع عشر غير أنه لم يتمكن من فرض نفسه كيما يكون مستقلا؛ ولعل من سببيات ذلك أن البورجوازية المغربية تابعة للشركات المتعددة الجنسية؛ وذيلية للاستعمار، حتى وإن كانت مجموعة من المؤشرات السوسيو اقتصادية (العلاقة مع الرأسمال البترولي العربي، والمرور من البنية التقنية للقطاع العام إلى القطاع الخاص) تبين بأن هذه البورجوازية المغربية طفقت تعبد طريقها باتجاه استقلالها.        
وخلافا للمشروع الرأسمالي المومإ إليه يبدو المخزن مؤسسة ذات جذور تاريخية  همها الأكبر [حسب محمد جسوس] استتباب سلطة مركزية يكون بمقدورها تحقيق اختياراتها؛وفرض قراراتها على مختلف تشكيلات المجتمع المغربي مما جعلها تصطدم بمقاومة قبلية شرسة حالت دون مركزة نفسها، ودون الدفاع عن سلطتها [=المؤسسة المخزنية] في جميع أطراف البلاد. وقد تسنى لها ذلك، فيما بعد، بالاعتماد على النظام الاستعماري.
ويردف محمد جسوس في ، السياق ذاته، بأن المشروع المخزني مشروع يهيمن على كل المشاريع الأخرى فضلا عن أنه يعطي الأولوية لاحتكار المنطق السياسي على حساب أي منطق آخر، سواء كان هذا المنطق ذات طبيعة اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو إيديولوجية (...).
يتحصل مما سبق أن كلا من بول باسكون ومحمد جسوس يجلي بأن ثمة قوة واحدة محركة للمجتمع المغربي : النسق البطريركي بالنسبة لبول باسكون ؛ والمشروع المخزني بالنسبة لمحمد جسوس ، وينضاف إلى ذلك أن عناصر المقتربين تتشابه فيما بينها وتتكامل وهو ما يقذف بنا إلى صياغة هذا الاستفهام : هل يعني هذا أن الواقع المغربي غذا جليا وشفافا مثل مياه الصخور؟
كلا . لأن هنالك مناطق ظل كثيرة تتطلب البيان والتبيين، ومن ذلك العقلية المغربية التي يتعين الشروع في دراستها.
التقابل بين المقتربين :
المجتمع المركب
المجتمع المخزني
الميزة
النسق الأبوي
المشروع المخزني
مركزة السلطة (الأب – المؤسسة)
النسب التيوقراطي
المشروع الزبوني
الوساطة
النسق الصناعي
المشروع الرأسمالي
الشعبية
النسق القبلي
المشروع القرابي
التضامن(دفاع ذاتي).
- إحالات –
-1- « libération » N° : 479, Vendredi 22 mai 1992 , P : 18
- 2 – Pascon (Paul) : 1980, Etudes rurales, S.M.E.R. Rabat, Maroc , pp : 189-229.
-3- جسوس (محمد)، تسائلات حول طبيعة ومآل المجتمع المغربي المعاصر جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، الأعداد : 171- 180- 181.

 

البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير.


  • بقـــــــلم الدكتــور مــحــمــد الــدهــان

    البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير.

    لقد توصل “جاك بيرك” إلى بعض الاستنتاجات النظرية خلال دراسته للبنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير يمكن تلخيصها كالتالي:
    1-انتماء المجموعات القبلية في الأطلس الكبير لكيان أوسع يتجاوز الحدود الجهوية وحتى القطرية ليعم افريقيا الشمالية بأكملها. هناك استمرارية أفقية وتشابه بين كل التنظيمات الاجتماعية في المغرب العربي سواء تعلق الأمر بالتنظيمات القبلية في القرى والبوادي، أو التنظيمات القرابية في المدن.
    هذه التنظيمات القاعدية تتشكل أساسا من من خلايا عائلية “أبوية” تتشابه فيما بعضها ولا تختلف إلا من ناحية التركيب. إنها تتشكل في القمة من النسب الأبوي في صيغته الحقيقية أو الوهمية، وترتبط قاعديا بخلايا متشابهة، تنتظم في تجمعات لها أشكال متنوعة، لم يفهم البحث الأنثروبولوجي حتى اليوم أسباب تنوعها.
    “إننا لم نعثر بعد ،يقول “بيرك” ، على المبدء العام الذي تنتظم وفقه هذه التجمعات، ولو عرفنا ذلك لاكتشفنا إحدى القوانين الأساسية التي تتحكم في تنظيم المجتمع المغاربي”.
    من جهة أخرى لاحظ “جاك بيرك” وجود تجانس واستمرارية بين كل المكونات الاجتماعية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي في إفريقيا الشمالية، حيث لايوجد اختلاف يذكر بين القبيلة البربرية والمدينة الاسلامية، بين البدو والرحل، العرب والبربر. هذه الاستمرارية تتأكد حينما ندرس التنظيم الاجتماعي من الناحية لمورفولوجية (التنظيمات تتشكل من وحدات قرابية)، أو من الناحية التاريخية حيث نجد ارتباطا واضحا لهذه البنيات على مستوى إفريقيا الشمالية بكاملها مما يفند زيف التقسيمات السياسية الحالية التي تضع حدودا مصطنعة ووهمية داخل نفس الكيان الجغرافي والاجتماعي والتاريخي من خلال تقسيم افريقيا الشمالية إلى دول ودويلات…
    2- الخلاصة الثانية تتعلق بالتجذر التاريخي لكل التنظيمات القبلية في افريقيا الشمالية وانتمائها لمنظومة واحدة ، بما في ذلك القبائل النائية والتي تبدو معزولة وبعيدة عن كل احتكاك حضاري بحكم تواجدها في قمم الجبال أو في مناطق صعبة الولوج. كل “دشر” أو قبيلة لهما جذور تغوص في عمق التاريخ المغاربي دون استثناء وهو ما عبر عنه “جاك بيرك” ب”تاريخانية” التنظيمات القبلية في لإفريقيا الشمالية ضدا على ما كانت تدعيه النظرية التطورية في شقها الاستعماري التي كانت تعتبر هذه التنظيمات كبقايا ورواسب لمجتمع جامد يكتفي بإعادة ‘نتاج أنساقه والتموقع خارج التاريخ.
    لقد تمكن “جاك بيرك” من خلال استنطاق الوثائق المكتوبة، وأسماء الأماكن والأعلام، والمصادر الشفوية بما فيها من أساطير وتراث أدبي غير مكتوب، من إبراز الوعي التاريخي للقبائل وارتباطها بشكل جدلي مع محيطها الجغرافي والاجتماعي. إن البنيات الاجتماعية في افريقيا الشمالية ناتجة عن حركة ثنائية تربط الخاص والعام، المحلي والشمولي بحيث لاتوجد قبائل خارجة عن حركة التاريخ. لقد بين “جاك بيرك” من خلال النموذج المحلي الذي قام بدراسته ( ويتعلق الأمر بقبائل سكساوة في الأطلس الكبير)، أن هذه التجمعات التي تبدو معزولة في قمم ووديان الأطلس، لم تنقطع يوما عن انتمائها لكيان أوسع، جهوي وقطري وانها ساهمت في التاريخ من خلال تأثيرها على مجريات الأحداث خلال عشرة قرون منذ مساهمتها في المشروع الموحدي حتى اليوم دون أن تفقد خصوصيتها الثقافية والاجتماعية.
    3- تتميز التنظيمات الاجتماعية في افريقيا الشمالية بقدرتها على استيعاب مضامين ثقافية متعددة المصادر وإدماجها في النسق العام الذي تتشكل منه الهوية القبلية. إن القبائل التي شكلت النسيج الاجتماعي لإفريقيا الشمالية تتميز بحيويتها وتفتحها واستفادتها من كل ما هو جديد دون أن تفقد هويتها وتذوب في الآخر. وقد كتب “جاك بيرك” في هذا الصدد:
    “إن الأمور تحدث، وكأن هذه التنظيمات تسعى، من خلال تعويض داخلي إلى إعادة التوازن والمحافظة على استقلالها الذاتي. إن قبول هذه التنظيمات لما هو جديد، وخضوعها لأشكال العنف والاغراء لايتنافى أبدا مع تشبثها بقيمها الأساسية”.
    ونفهم من هذا القول أن الشخصية الجماعية تقوم بإعادة تأويل مستمر للعناصر الثقافية الواردة من الخارج وتكييفها مع الحاجيات المحلية وإعطائها طابعا محليا. هذه القدرة على استيعاب مضامين جديدة وإدماجها في النسق الثقافي المحلي هي إحدى المميزات الأساسية للتنظيمات الاجتماعية في الأطلس الكبير.

الخميس، 2 مايو 2013

طبيعة المجتمع المغربي المزيجة بول باسكون






يظهر المجتمع المغربي للجميع في تنوعه. بدءا، هناك خصوصية ما تهيمن على مختلف المناطق الجغرافية، والفئات الاجتماعية، وفي مختلف أصناف العمر والجنس، خصوصية لها نفس الحجم الذي نجده، على الأقل، في مختلف العصور التاريخية، [بحيث] يتولد لدينا انطباع بوجود تراكب ما في الثقافات والمجتمعات.
هذا بلد المتناقضات! فكرة ابتذلتها الملصقات السياحية. وإن المسافر ليستغرب من تعايش المحراث الخشبي مع مخرطة الخزَّاف، وتعايش الخيمة المصنوعة من الوبر مع الجرَّار ومصنع الاسمنت والعمارات.
هكذا يقيم الجغرافي تعارضا بين البداوة وحياة الانتجاع، بين المقيم في الواحة والمقيم في السهل، بين شجّار الجبال وساكن المدينة القديمة والجديدة. أما الاقتصادي فيحل المشكل كله بإقامته لتعارض بسيط بين القطاعين التقليدي والعصري، حيث لا يستفيد الأول إلا من استثمارات ضعيفة محدودة في اقتصاد قائم على الكفاف، وإنتاج قوتي، بينما يتمتّع الثاني باستثمارات ضخمة، وينتج السلع ويعيش على التبادل. إنها تعارضات حادّة يقنع بها أغلب الباحثين، مع بعض الفوارق الطفيفة المتعلقة بقطاع وسطي أو شبه عصري. وأما الاثنولوجيون فيشددون تحاليلهم، بالطبع، على مفهوم السلالة الذي غالبا ما يطابقونه بمفهوم الثقافة: أي إيمازيغن، الشلوح، الريفيون، الصحراويون، العرب، الخ. صحيح أنه منذ ميشو بلير (Michaux-Bellaire)، وبعده مونطاني (Montagne) سمحت التعارضات المقامة بين العرب والبربر، بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، بين الشرع والعرف، وبين الطغيان والديموقراطية، للكثير من الباحثين بالإجابة، دون صعوبة، ولكن دون تمييز أيضا، على جميع الأسئلة، وكأنه لا وجود، فوق هذه الانقطاعات، الواقعية أحيانا، لوحدة قوية تذكر.
عدة مجتمعات متراكبة
يبدو أنه ينبغي لنا تمديد التفكير إلى ما هو أبعد قليلا، وتجاوز المونوغرافيات، وهي دراسات سكونية وغير تفسيرية، وتجاوز المِشْكَالات المبنية كلها على الفوارق، والتي تنسى الجوهري، خصوصا وأن العديد من الناس أصبحوا، حاليا، يطرحون تساؤلات كبيرة جدا حول طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه.
والواقع، أن نماذج عدة من التنظيمات الاجتماعية، التامة في ذاتها، تتصارع داخل هذا المجتمع. لسنا أمام مجتمع معين، بل أمام مظاهر جزئية من مجتمعات عديدة تتعايش أحيانا في نفس اللحظة ونفس اللحظة ونفس المكان. هكذا ينتمي فرد محدّد، حسب سلوكاته المختلفة، إلى عدّة مجتمعات. والدلائل على ذلك بسيطة ويومية: [مجموعة من] الفلاحين لهم الحق في الأراضي الجماعية، وتذهب نساؤهم، يوم العنصرة، لسكب السوائل على قبور الأجداد، ويطلبون من خمّاسيهم أن يأتوهم بالبغلة صباحا، ثم يتمنطقون بالخناجر، ويذهبون إلى «المكتب» ليطلبوا القرض الفلاحي جماعيا. ألا يمكن لنا، بدلا من تحديدهم تحديدا تقريبيا عن طريق السن والسلالة والمنطقة، ردّهم إلى تعايش نماذج اجتماعية متعددة، وهي، بالمناسبة خمسة نماذج؟
لدينا مثال آخر في شاب يحمل شواهد، ويرتدي بذلة عصرية، ويتلفن إلى مسؤول إداري. إنه ينطق بكلمات عربية، ويوصي بتشغيل فلان بالفرنسية، ولكنه أمام تحفظات المسؤول يعاود الكرّة بثلاث حجج، إنما بالعربية هذه المرّة: إن قريبا للشخص المقترح قد فقد عمله، وأن العائلة أصبحت بدون مورد، وبأنها تنتمي إلى قبيلة من وسط المغرب، وبأنها كثيرة الولد، ولكنّه يواجه في الأخير برفض مبني على القانون، هذا دون أن تكون مؤهلات المرشح قد ذكرت. وبإمكاننا إيراد أمثلة أخرى إلى ما لا نهاية: فكلّنا يجرّ وراءه جلبة التاريخ ومخلفاته.
ويبدو أن هناك دمجا للمجتمعات التاريخية المتعاقبة، التي لم يتبق لنا منها سوى بعض المظاهر، هي امتدادات راسخة لمجتمع سابق، أو مقدمات لمجتمع في طور البناء، فما أن توضع فيه من جديد حتى تكتسب كامل معناها.
إن التصفية أو الاستبدال [ظاهرتان] تفاضليتان، وهذا ما يفسر التعايش: أحيانا تتطور الأدوات والتقنيات في المقام الأول، وأحيانا تتطوّر العلاقات الاجتماعية، وأحيانا أخرى المؤسسات أو القضاء، أو العقود أو الثقافة أو الأخلاق أو العادات أو المواقف أو المعتقدات، أو العلامات، أو الايدولوجيا أو الطقوس، أو السلوكات الإنجابية الخ.
ما هو المحرك؟

نستطيع، هنا، إقامة تعارض بين مستويين، مستوى البنايات التحتية ومستوى البنيات الفوقية، وهو أمر قام به البعض، وصادف، إلى هذا القدر أو ذاك، حظّه من النجاح. ونستطيع، أيضا، أن نتصوّر أن لكل مجتمع محرّكا خاصّا به، ونتساءل عما إذا لن تحل الايدولوجيا، في حالة المجتمعات الصناعية الجديدة، محلّ الدور الذي لعبته الآلات في بدايات المجتمعات الصناعية، ونتساءل: ألم تكن للانتقال من المجرفة إلى المحراث أهمية لا تقلّ عن أهمية الديموغرافيا أو الكتابة في هذا العصر أو ذاك؟
ولنفترض وجود مجتمعات نموذجية مثل مجتمعات ماركس أو غورفيتش، لدرجة قد يصعب، علاوة على ذلك، على المرء تحديدها عندما يعيش فيها. ولنفترض كذلك أن المدد الزمنية التي عاشتها هذه المجتمعات لم تكن متماثلة: ربما يكون بعضها قد دام قرونا، وبعضها عقودا، بعضها قد يكون وصل مرحلة النضج حيث طمست المجتمعات التي سبقتها نهائيا، بينما ظلت الأخرى عابرة. إن معرفتنا ببنية الطبيعة الجامدة قد عوّدتنا على التقدم في التفاصيل، حيث نعيد النظر دوريا في خطاطة التصوّر العام. ولكن إعادة النظر هذه تظل عديمة الجدوى ما لم يصاحبها فهم أكبر لتفسير المعطيات المكتسبة. من ثم، لم تُعد الفيزياء الذرية المعاصرة النظر في تحليل أرسطو الأكثر أولية (أي الأرض، الماء، والنار، والهواء...)، أو في التمييز المجمل بين المواد الصلبة والسائلة والغازية، وإنما فهمتها فهما مغايرا، هذا كل ما في الأمر. ولهذا ينبغي لنا التوصّل إلى تصنيف منهجي، وإلا أصبح علماء الاجتماع كالخيميائيين القروسطيين يبحثون عن حجر الفلاسفة ضمن علم الاجتماع!
هل بإمكاننا أن نسمي [حدثا] معاصر لنا مغلوطا تاريخيا؟ يمكن لوضع اجتماعي أن يهيمن، ويمنع، ويعرقل تطور وضع اجتماعي آخر قادم من مجتمع مختلف. وباستطاعتنا، فضلا عن ذلك، فهم مفهوم الاستلاب عند ماركس، باعتباره هيمنة نوع من الوقائع الاجتماعية المتجاوزة على نوع [آخر] من الوقائع الاجتماعية الصاعدة، مثلها في ذلك مثل العامل المُؤَهَّل الذي يشكل، في المجتمع الصناعي، قيمة التطوّر الأساس داخل هذا المجتمع الجديد، ولكنه يبقى، رغم ذلك، مستلَبا من طرف عقلية رجعية تحدّرت من خشيته لرئيسه [القبلي] واحترامه له، وهو بقية من بقايا المجتمع الإقطاعي السابق ومحرّكه!
مقاومة الكلمات
عندما تتعايش بعض الملامح المغلوطة تاريخيا، في كل مجتمع، وعلى أي صعيد، يمكن لنا القول إن هناك استلابا، بل يمكن لنا، من ثم، استخلاص نظرية للاستلاب المعمّم، وهو مرض حقيقي أصاب مجتمعنا.
ومن جهة أخرى، إنه لأمر عادي أن نلاحظ بأن الكلمات تعيش بعد اختفاء أو تغيّر المفاهيم التي كانت تغطّيها، إلى حدّ أنها تشير، أحيانا، إلى ظواهر أخرى، وتصوّرات ومؤسسات مغايرة تماما، أو أنها تحلّ محلّ كلمات أخرى أصبحت مهجورة. إن ديمومة المصطلح فوق حركية الواقعي تعبر أحيانا عن اقتصاد في اللغة، بل عن الحياء أمام الجديد أحيانا، بل وحتى عن الخوف من إطلاق قوى غامضة. باستطاعة الطغيان أن يفرض، في نفس الوقت أيضا، تغيير الموضوع مع الاحتفاظ بالكلمة [نفسها]. وفي أماكن أخرى، في أوروبا الغربية خصوصا، فإن الهمّ الإسماني يحتم إطلاق اسم على كل شيء جديد. أما في المغرب، فلدينا انطباع بحصول العكس. إن الحرص على وحدة الجسم الاجتماعي قوي جدا، والخوف من الحرْم (excommunication) شديد جدا، لدرجة أن [الناس] كانوا ميالين، وإلى حدود هذه السنين الأخيرة، إلى إخفاء الأشياء الجديدة تحت أسماء قديمة. كان هذا شأن القواعد والمؤسسات العرفية. هكذا عنت «التويزة»، في نفس الوقت وبالتتابع، التعاضد القروي بين دافعي الضرائب، والسخرة التي يقدّمها الأقنان لسيّدهم، والمساهمة في ورشة للعاطلين أجرها عينيّ فقط، وحفلة راقصة من نوع خاص. كما عنت كلمة «عزيب» «معزلا» (écart) لتربية المواشي، وقصرا ريفيا صغيرا يقطنه السيد، وأرضا ذات ريع عقاري وضعية حديثة، وكلمة «الشيخ»، الرئيس، بالمعنى الديني والصوفي، والرجل الطاعن في السن، والشيخ الذي يحكم جماعة ما، ومأمور السلطة على مستوى المقاطعة. وكذلك الشأن بالنسبة لكلمات مثل: شركة، بنّوس، جماعة، مقدّم، الخ (انظر دراسة نشرت حول الجماعة ضمن دفاتر السوسيولوجيا على وجه الخصوص). لا يخفي أن يمكن ردّ كل واحد من هذه المعاني إلى مجتمع معيّن. ولربّما فسّر هذا المظهر البارز من مظاهر مقاومة المصطلح للتطور الاجتماعي الصعوبات المنتصبة أمام أي توضيح للأوضاع الاجتماعية التاريخية.
البنى الاجتماعية

في الوقت الذي حدّد فيه علماء الاجتماع الأوروبيون الكبار بدقة مجتمعات نموذجية بالنسبة إلى العصور البدائية، والمجتمعات الصناعية، [نرى أنه] لم يبدأ أي توليف حقيقي بالنسبة إلى المجتمع المغاربي، ولربما يعود هذا إلى اعتبار الباحثين أن المعرفة المونوغرافية لم تزل بعد في المهد. ولكن ما هي المونوغرافيات التي يمكن للباحثين إنجازها دون فرضيات عامة؟
لهذا ينبغي بناء سلاسل سوسيولوجية متماسكة،وتعيين أوجه التضامن في المجتمع المغربي اليوم، وافتراض أن كل تضامن منها ينتمي إلى تماسك نموذجي ومجتمع نموذجي، ثم ينبغي البحث في التاريخ والجغرافية والطبقات الاجتماعية عما يبدو النموذج الأصلي الأمثل. ومن ثم، ينبغي دراسة اشتغاله الداخلي، وقوانين تطوّره، وتناقضاته، والتناحرات المطروح عليه تجاوزها، ثم وضعه في مواجهة مع النماذج السابقة واللاحقة، بغية فهم العالم المحيط بنا فهما أحسن. هكذا فإن لدينا التضامن المترتب عن القرابة العصبية (البطريركية)، والتضامن الصوفي الإيديولوجي (اللاهوتي، الزوايا الدينية) والتضامن السياسي الإقليمي (القبلي)، والتضامن القائم على الوصاية أو الفيودالي (القائدي)، والتضامن التقني الاقتصادي (الصناعي)، وهي أوجه تضامنية مهيمنة. إن التضامن الأول يهيمن على الأشكال الأخرى هيمنة واضحة. أما الثاني، فلقد كان عابرا دائما، ويصعب الاحتفاظ به. ولعلنا نستطيع كتابة تاريخ للمغرب، بما في ذلك العصر الحديث، بوصفه سلسلة من الهجومات التي تشنها النماذج المجتمعية المختلفة (اللاهوتية، والقبلية، والقائدية، والصناعية)، على المجتمع البطريركي، الذي لم يترك الميدان، بعد، تركا نهائيا.
يستحقّ كل مجتمع من هذه المجتمعات وصفا وتاريخا. وبإمكاننا، في انتظار ذلك، جعلها تتتابع هكذا: المجتمع البطريركي، فالمجتمع القبلي، ثم المجتمع القائدي، والمجتمع الصناعي (انظر الخطاطة رقم واحد). ويبقى على الباحثين تحديد مُددها الزمنية وتداخلاتها فيما بعد.
وتلعب عناصر التراتب الاجتماعي بعد ذلك، دورها، كعناصر السن والجنس والانتماء الإقليمي أو العرقي (انظر الخطاطة رقم 2).
لا أحد من بين هذه المجتمعات كامل تاريخيا، أي تام، ما دام يجرّ وراءه بقايا سابقة له.
وقد يعلن نموذج اجتماعي ما عن نفسه، مع ذلك، بإحداث ضجّة، حيث يطفو على خشبة المسرح مكتمل الهيئة، ويصفّي في طريقة نتوءات المجتمعات السابقة الدنيا. «هو ذا العالم سيغيّر قاعدته، ونحن هباء، فلنكن كل شيء» (نشيد الأممية). إن قصد المجتمع النموذجي هو إسقاط اليوطوبيا. وكل شيء موجود في الصّرخة. ولكن تحقيق هذا القصد يأتي لاحقا عبر المعارك والبتور والمساومات والتنازلات للواقع باختصار، أي للقوى الاجتماعية ولسلوكات ووقائع المجتمع التاريخي. إنها معارك ذات نتائج غير مؤكدة، وهي دائمة، حيث لا شيء يكتسب نهائيا، إذا لم نتجاوز الاستلابات الواحد بعد الآخر، حتى نصل إلى الاستلابات الأخيرة.
وإلا هدأ الهيجان، وتحوّل القصد إلى يوطوبيا سلبية، وانطفأت البركانية الاجتماعية تاركة وراءها بعض البذور التي ستشرع، في حالة تلاؤمها، في قرض بنى المجتمع التاريخي عبر بعض الحلول الوسطى الايجابية.




________________________________________
نقل النص عن الفرنسية: مصطفى كمال
*نشر النص بمجلة «لاماليف»، دجنبر/كانون الأول 1967، وأعيد نشره في «المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع»، عدد: 155-156، (خاص بـ: بول باسكون)- ص ص: 211-215

Photo : ‎طبيعة المجتمع المغربي المزيجة  	  	بقلم: بول باسكون    	   		  	يظهر المجتمع المغربي للجميع في تنوعه. بدءا، هناك خصوصية ما تهيمن على مختلف المناطق الجغرافية، والفئات الاجتماعية، وفي مختلف أصناف العمر والجنس، خصوصية لها نفس الحجم الذي نجده، على الأقل، في مختلف العصور التاريخية، [بحيث] يتولد لدينا انطباع بوجود تراكب ما في الثقافات والمجتمعات. هذا بلد المتناقضات! فكرة ابتذلتها الملصقات السياحية. وإن المسافر ليستغرب من تعايش المحراث الخشبي مع مخرطة الخزَّاف، وتعايش الخيمة المصنوعة من الوبر مع الجرَّار ومصنع الاسمنت والعمارات. هكذا يقيم الجغرافي تعارضا بين البداوة وحياة الانتجاع، بين المقيم في الواحة والمقيم في السهل، بين شجّار الجبال وساكن المدينة القديمة والجديدة. أما الاقتصادي فيحل المشكل كله بإقامته لتعارض بسيط بين القطاعين التقليدي والعصري، حيث لا يستفيد الأول إلا من استثمارات ضعيفة محدودة في اقتصاد قائم على الكفاف، وإنتاج قوتي، بينما يتمتّع الثاني باستثمارات ضخمة، وينتج السلع ويعيش على التبادل. إنها تعارضات حادّة يقنع بها أغلب الباحثين، مع بعض الفوارق الطفيفة المتعلقة بقطاع وسطي أو شبه عصري. وأما الاثنولوجيون فيشددون تحاليلهم، بالطبع، على مفهوم السلالة الذي غالبا ما يطابقونه بمفهوم الثقافة: أي إيمازيغن، الشلوح، الريفيون، الصحراويون، العرب، الخ. صحيح أنه منذ ميشو بلير (Michaux-Bellaire)، وبعده مونطاني (Montagne) سمحت التعارضات المقامة بين العرب والبربر، بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، بين الشرع والعرف، وبين الطغيان والديموقراطية، للكثير من الباحثين بالإجابة، دون صعوبة، ولكن دون تمييز أيضا، على جميع الأسئلة، وكأنه لا وجود، فوق هذه الانقطاعات، الواقعية أحيانا، لوحدة قوية تذكر. عدة مجتمعات متراكبة يبدو أنه ينبغي لنا تمديد التفكير إلى ما هو أبعد قليلا، وتجاوز المونوغرافيات، وهي دراسات سكونية وغير تفسيرية، وتجاوز المِشْكَالات المبنية كلها على الفوارق، والتي تنسى الجوهري، خصوصا وأن العديد من الناس أصبحوا، حاليا، يطرحون تساؤلات كبيرة جدا حول طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه. والواقع، أن نماذج عدة من التنظيمات الاجتماعية، التامة في ذاتها، تتصارع داخل هذا المجتمع. لسنا أمام مجتمع معين، بل أمام مظاهر جزئية من مجتمعات عديدة تتعايش أحيانا في نفس اللحظة ونفس اللحظة ونفس المكان. هكذا ينتمي فرد محدّد، حسب سلوكاته المختلفة، إلى عدّة مجتمعات. والدلائل على ذلك بسيطة ويومية: [مجموعة من] الفلاحين لهم الحق في الأراضي الجماعية، وتذهب نساؤهم، يوم العنصرة، لسكب السوائل على قبور الأجداد، ويطلبون من خمّاسيهم أن يأتوهم بالبغلة صباحا، ثم يتمنطقون بالخناجر، ويذهبون إلى «المكتب» ليطلبوا القرض الفلاحي جماعيا. ألا يمكن لنا، بدلا من تحديدهم تحديدا تقريبيا عن طريق السن والسلالة والمنطقة، ردّهم إلى تعايش نماذج اجتماعية متعددة، وهي، بالمناسبة خمسة نماذج؟ لدينا مثال آخر في شاب يحمل شواهد، ويرتدي بذلة عصرية، ويتلفن إلى مسؤول إداري. إنه ينطق بكلمات عربية، ويوصي بتشغيل فلان بالفرنسية، ولكنه أمام تحفظات المسؤول يعاود الكرّة بثلاث حجج، إنما بالعربية هذه المرّة: إن قريبا للشخص المقترح قد فقد عمله، وأن العائلة أصبحت بدون مورد، وبأنها تنتمي إلى قبيلة من وسط المغرب، وبأنها كثيرة الولد، ولكنّه يواجه في الأخير برفض مبني على القانون، هذا دون أن تكون مؤهلات المرشح قد ذكرت. وبإمكاننا إيراد أمثلة أخرى إلى ما لا نهاية: فكلّنا يجرّ وراءه جلبة التاريخ ومخلفاته. ويبدو أن هناك دمجا للمجتمعات التاريخية المتعاقبة، التي لم يتبق لنا منها سوى بعض المظاهر، هي امتدادات راسخة لمجتمع سابق، أو مقدمات لمجتمع في طور البناء، فما أن توضع فيه من جديد حتى تكتسب كامل معناها. إن التصفية أو الاستبدال [ظاهرتان] تفاضليتان، وهذا ما يفسر التعايش: أحيانا تتطور الأدوات والتقنيات في المقام الأول، وأحيانا تتطوّر العلاقات الاجتماعية، وأحيانا أخرى المؤسسات أو القضاء، أو العقود أو الثقافة أو الأخلاق أو العادات أو المواقف أو المعتقدات، أو العلامات، أو الايدولوجيا أو الطقوس، أو السلوكات الإنجابية الخ. ما هو المحرك؟  نستطيع، هنا، إقامة تعارض بين مستويين، مستوى البنايات التحتية ومستوى البنيات الفوقية، وهو أمر قام به البعض، وصادف، إلى هذا القدر أو ذاك، حظّه من النجاح. ونستطيع، أيضا، أن نتصوّر أن لكل مجتمع محرّكا خاصّا به، ونتساءل عما إذا لن تحل الايدولوجيا، في حالة المجتمعات الصناعية الجديدة، محلّ الدور الذي لعبته الآلات في بدايات المجتمعات الصناعية، ونتساءل: ألم تكن للانتقال من المجرفة إلى المحراث أهمية لا تقلّ عن أهمية الديموغرافيا أو الكتابة في هذا العصر أو ذاك؟ ولنفترض وجود مجتمعات نموذجية مثل مجتمعات ماركس أو غورفيتش، لدرجة قد يصعب، علاوة على ذلك، على المرء تحديدها عندما يعيش فيها. ولنفترض كذلك أن المدد الزمنية التي عاشتها هذه المجتمعات لم تكن متماثلة: ربما يكون بعضها قد دام قرونا، وبعضها عقودا، بعضها قد يكون وصل مرحلة النضج حيث طمست المجتمعات التي سبقتها نهائيا، بينما ظلت الأخرى عابرة. إن معرفتنا ببنية الطبيعة الجامدة قد عوّدتنا على التقدم في التفاصيل، حيث نعيد النظر دوريا في خطاطة التصوّر العام. ولكن إعادة النظر هذه تظل عديمة الجدوى ما لم يصاحبها فهم أكبر لتفسير المعطيات المكتسبة. من ثم، لم تُعد الفيزياء الذرية المعاصرة النظر في تحليل أرسطو الأكثر أولية (أي الأرض، الماء، والنار، والهواء...)، أو في التمييز المجمل بين المواد الصلبة والسائلة والغازية، وإنما فهمتها فهما مغايرا، هذا كل ما في الأمر. ولهذا ينبغي لنا التوصّل إلى تصنيف منهجي، وإلا أصبح علماء الاجتماع كالخيميائيين القروسطيين يبحثون عن حجر الفلاسفة ضمن علم الاجتماع! هل بإمكاننا أن نسمي [حدثا] معاصر لنا مغلوطا تاريخيا؟ يمكن لوضع اجتماعي أن يهيمن، ويمنع، ويعرقل تطور وضع اجتماعي آخر قادم من مجتمع مختلف. وباستطاعتنا، فضلا عن ذلك، فهم مفهوم الاستلاب عند ماركس، باعتباره هيمنة نوع من الوقائع الاجتماعية المتجاوزة على نوع [آخر] من الوقائع الاجتماعية الصاعدة، مثلها في ذلك مثل العامل المُؤَهَّل الذي يشكل، في المجتمع الصناعي، قيمة التطوّر الأساس داخل هذا المجتمع الجديد، ولكنه يبقى، رغم ذلك، مستلَبا من طرف عقلية رجعية تحدّرت من خشيته لرئيسه [القبلي] واحترامه له، وهو بقية من بقايا المجتمع الإقطاعي السابق ومحرّكه! مقاومة الكلمات عندما تتعايش بعض الملامح المغلوطة تاريخيا، في كل مجتمع، وعلى أي صعيد، يمكن لنا القول إن هناك استلابا، بل يمكن لنا، من ثم، استخلاص نظرية للاستلاب المعمّم، وهو مرض حقيقي أصاب مجتمعنا. ومن جهة أخرى، إنه لأمر عادي أن نلاحظ بأن الكلمات تعيش بعد اختفاء أو تغيّر المفاهيم التي كانت تغطّيها، إلى حدّ أنها تشير، أحيانا، إلى ظواهر أخرى، وتصوّرات ومؤسسات مغايرة تماما، أو أنها تحلّ محلّ كلمات أخرى أصبحت مهجورة. إن ديمومة المصطلح فوق حركية الواقعي تعبر أحيانا عن اقتصاد في اللغة، بل عن الحياء أمام الجديد أحيانا، بل وحتى عن الخوف من إطلاق قوى غامضة. باستطاعة الطغيان أن يفرض، في نفس الوقت أيضا، تغيير الموضوع مع الاحتفاظ بالكلمة [نفسها]. وفي أماكن أخرى، في أوروبا الغربية خصوصا، فإن الهمّ الإسماني يحتم إطلاق اسم على كل شيء جديد. أما في المغرب، فلدينا انطباع بحصول العكس. إن الحرص على وحدة الجسم الاجتماعي قوي جدا، والخوف من الحرْم (excommunication) شديد جدا، لدرجة أن [الناس] كانوا ميالين، وإلى حدود هذه السنين الأخيرة، إلى إخفاء الأشياء الجديدة تحت أسماء قديمة. كان هذا شأن القواعد والمؤسسات العرفية. هكذا عنت «التويزة»، في نفس الوقت وبالتتابع، التعاضد القروي بين دافعي الضرائب، والسخرة التي يقدّمها الأقنان لسيّدهم، والمساهمة في ورشة للعاطلين أجرها عينيّ فقط، وحفلة راقصة من نوع خاص. كما عنت كلمة «عزيب» «معزلا» (écart) لتربية المواشي، وقصرا ريفيا صغيرا يقطنه السيد، وأرضا ذات ريع عقاري وضعية حديثة، وكلمة «الشيخ»، الرئيس، بالمعنى الديني والصوفي، والرجل الطاعن في السن، والشيخ الذي يحكم جماعة ما، ومأمور السلطة على مستوى المقاطعة. وكذلك الشأن بالنسبة لكلمات مثل: شركة، بنّوس، جماعة، مقدّم، الخ (انظر دراسة نشرت حول الجماعة ضمن دفاتر السوسيولوجيا على وجه الخصوص). لا يخفي أن يمكن ردّ كل واحد من هذه المعاني إلى مجتمع معيّن. ولربّما فسّر هذا المظهر البارز من مظاهر مقاومة المصطلح للتطور الاجتماعي الصعوبات المنتصبة أمام أي توضيح للأوضاع الاجتماعية التاريخية. البنى الاجتماعية  في الوقت الذي حدّد فيه علماء الاجتماع الأوروبيون الكبار بدقة مجتمعات نموذجية بالنسبة إلى العصور البدائية، والمجتمعات الصناعية، [نرى أنه] لم يبدأ أي توليف حقيقي بالنسبة إلى المجتمع المغاربي، ولربما يعود هذا إلى اعتبار الباحثين أن المعرفة المونوغرافية لم تزل بعد في المهد. ولكن ما هي المونوغرافيات التي يمكن للباحثين إنجازها دون فرضيات عامة؟ لهذا ينبغي بناء سلاسل سوسيولوجية متماسكة،وتعيين أوجه التضامن في المجتمع المغربي اليوم، وافتراض أن كل تضامن منها ينتمي إلى تماسك نموذجي ومجتمع نموذجي، ثم ينبغي البحث في التاريخ والجغرافية والطبقات الاجتماعية عما يبدو النموذج الأصلي الأمثل. ومن ثم، ينبغي دراسة اشتغاله الداخلي، وقوانين تطوّره، وتناقضاته، والتناحرات المطروح عليه تجاوزها، ثم وضعه في مواجهة مع النماذج السابقة واللاحقة، بغية فهم العالم المحيط بنا فهما أحسن. هكذا فإن لدينا التضامن المترتب عن القرابة العصبية (البطريركية)، والتضامن الصوفي الإيديولوجي (اللاهوتي، الزوايا الدينية) والتضامن السياسي الإقليمي (القبلي)، والتضامن القائم على الوصاية أو الفيودالي (القائدي)، والتضامن التقني الاقتصادي (الصناعي)، وهي أوجه تضامنية مهيمنة. إن التضامن الأول يهيمن على الأشكال الأخرى هيمنة واضحة. أما الثاني، فلقد كان عابرا دائما، ويصعب الاحتفاظ به. ولعلنا نستطيع كتابة تاريخ للمغرب، بما في ذلك العصر الحديث، بوصفه سلسلة من الهجومات التي تشنها النماذج المجتمعية المختلفة (اللاهوتية، والقبلية، والقائدية، والصناعية)، على المجتمع البطريركي، الذي لم يترك الميدان، بعد، تركا نهائيا. يستحقّ كل مجتمع من هذه المجتمعات وصفا وتاريخا. وبإمكاننا، في انتظار ذلك، جعلها تتتابع هكذا: المجتمع البطريركي، فالمجتمع القبلي، ثم المجتمع القائدي، والمجتمع الصناعي (انظر الخطاطة رقم واحد). ويبقى على الباحثين تحديد مُددها الزمنية وتداخلاتها فيما بعد. وتلعب عناصر التراتب الاجتماعي بعد ذلك، دورها، كعناصر السن والجنس والانتماء الإقليمي أو العرقي (انظر الخطاطة رقم 2). لا أحد من بين هذه المجتمعات كامل تاريخيا، أي تام، ما دام يجرّ وراءه بقايا سابقة له. وقد يعلن نموذج اجتماعي ما عن نفسه، مع ذلك، بإحداث ضجّة، حيث يطفو على خشبة المسرح مكتمل الهيئة، ويصفّي في طريقة نتوءات المجتمعات السابقة الدنيا. «هو ذا العالم سيغيّر قاعدته، ونحن هباء، فلنكن كل شيء» (نشيد الأممية). إن قصد المجتمع النموذجي هو إسقاط اليوطوبيا. وكل شيء موجود في الصّرخة. ولكن تحقيق هذا القصد يأتي لاحقا عبر المعارك والبتور والمساومات والتنازلات للواقع باختصار، أي للقوى الاجتماعية ولسلوكات ووقائع المجتمع التاريخي. إنها معارك ذات نتائج غير مؤكدة، وهي دائمة، حيث لا شيء يكتسب نهائيا، إذا لم نتجاوز الاستلابات الواحد بعد الآخر، حتى نصل إلى الاستلابات الأخيرة. وإلا هدأ الهيجان، وتحوّل القصد إلى يوطوبيا سلبية، وانطفأت البركانية الاجتماعية تاركة وراءها بعض البذور التي ستشرع، في حالة تلاؤمها، في قرض بنى المجتمع التاريخي عبر بعض الحلول الوسطى الايجابية.       	 	 ________________________________________ نقل النص عن الفرنسية: مصطفى كمال *نشر النص بمجلة «لاماليف»، دجنبر/كانون الأول 1967، وأعيد نشره في «المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع»، عدد: 155-156، (خاص بـ: بول باسكون)- ص ص: 211-215‎

الاثنين، 25 فبراير 2013

الأسئلة النظرية والمعرفية للمشروع السوسيولوجي في المغرب

الأسئلة النظرية والمعرفية للمشروع السوسيولوجي في المغرب

نشر في المساء يوم 29 - 09 - 2008

هل تواكب السوسيولوجيا في المغرب الأسئلة الكبرى للسوسيولوجيا على المستوى الإنساني العام؟
وهل أدركت السوسيولوجيا في المغرب معرفيا مدى الأهمية التي يمكن استجلابها من الجدل النظري الذي يخوضه أكاديميو السوسيولوجيا ومنظروها؟
ما هي القيمة المعرفية التي يمكن استخلاصها من التطورات التي تعرفها السوسيولوجيا لاستخدام فوائدها في البحث السوسيولوجي حول المجتمع المغربي؟
تقتضي الإجابة عن هذه التساؤلات متابعة أهم اللحظات التاريخية لرصد تلك التحولات التي كان لها الأثر الكبير في السوسيولوجيا. لقد بات واضحا أن فهم تحولات السوسيولوجيا لا يستميز عن فهم تحولات المجتمع.
عرفت السوسيولوجيا خلال القرن العشرين تطورا جوهريا، وبخاصة منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الأحداث التي مارست جاذبية أكبر على هذا التخصص العلمي ارتبطت بظهور دولة الرفاه في المجتمعات الرأسمالية، كما ارتبطت بالحرب الباردة وانهيار النظم الاشتراكية الشمولية. لقد رافقت هذه الأحداث تحولات اجتماعية وسياسية عنيفة وحادة وشاملة لمجموع المجتمع الإنساني، مما جعل تأثيراتها تمتد لتشمل النظرية السوسيولوجية في مبانيها واتجاهاتها. برز في إثر هذا المخاض جدل قوي في أوساط السوسيولوجيين حول قدرة النظرية السوسيولوجية على تفسير التحولات. كانت تلك بمثابة المقدمات التاريخية والمعرفية لبداية الحديث عن استحالة وجود نظرية شاملة لها الإمكانيات المنهجية والنظرية لتفسير الظواهر الاجتماعية التي ساهمت العوامل والتحولات الكبرى في إنتاجها. كما رافقت هذا الجدل أطروحة بديلة تقول بوجوب تبني التعددية النظرية واعتماد مناهج مرنة تساعد على الانتقال من نظرية إلى أخرى حسبما تقتضيه ضرورات البحث السوسيولوجي.
من الواضح ارتباط تطور النظرية السوسيولوجية بما يجري في العالم وعلى مستوى المجتمع الإنساني ككل، أكثر مما ارتبط ذلك التطور بتماسك المنطق الداخلي للسوسيولوجيا نفسها. كان لابد للسوسيولوجيا أن تتفاعل مع محيطها وأن تجيب في الوقت ذاته عن معضلاتها النظرية.
عموما، وبدءا من الحرب العالمية الثانية، يمكن الحديث عن المراحل الكبرى لتطور النظرية السوسيولوجية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الستينيات، سيطرت النظرية البنيوية الوظيفية، على الخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي النظرية التي وضعها بارسونز، وإن شكلت التفاعلية الرمزية وتيار رايت ميلز النقدي بديلين، رغم أن بارسونز دمج بين التفاعلية الرمزية وبين نظريته. لقد برزت مدارس متعددة تهتم بدراسة العالم الاجتماعي من خلال الفاعلين الاجتماعيين بالاعتماد على منهجية النظام الاجتماعي بوصفها أكثر النظريات قدرة على التفسير والتحليل، في هذه المرحلة أيضا تصاعد الاهتمام بالفلسفة التحليلية البريطانية، وانبعاث الماركسية في الأكاديميات الأنجلوسكسونية عبر التأثير الماركسي الفرنسي (بعد ترجمة ألتوسير إلى الإنجليزية) والتأثير الألماني. عبر التقليد البنيوي ألهمت الكثير من الأبحاث في الأنتربولوجيا وسوسيولوجيا الثقافة، وهي الفترة التي عرفت إقبالا للأنتربولوجيا الأنجلوسكسونية على المغرب. عرفت هذه المرحلة استقرارا نسبيا وازدهارا ملحوظ في المجتمعات الغربية. غير أن انفجار الصراع السياسي والتغير الذي بدأت معالمه تبرز إلى الوجود في ستينيات القرن الماضي، رافقه انفجار مماثل في النظريات السوسيولوجية، ومعلوم أن بنيوية تلك المرحلة ستنقلب فرضياتها مع مضي السنين، ليصبح لها اتجاه عرف ب: ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.
لم يكن المجتمع المغربي بحكم وضعه السيادي والسياسي قد بلور نخبه، وبقيت تلك التحولات بعيدة عن التأثير في مجال البحث العلمي الوطني. هكذا بقي المجتمع المغربي حتى بعد الفترة الكولونيالية مصدر إلهام للأجانب أكثر مما كان مصدر إلهام للمغاربة أنفسهم.
كما يمكن القول إنه بعد مرحلة الستينيات شهد الفكر الاجتماعي تأصيلا كبيرا للتقليد الماركسي المنتسب إلى المدرسة الألمانية المرتبطة بدورها بالتقليد النقدي (مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية). وهي المدرسة التي كان لهيغل تأثيره الفكري عليها كما على لماركس نفسه، لكن مع أعمال يورغن هابرماس سوف تشهد هذه المدرسة تحولات جوهرية. فقد رفدت أعمال هابرماس الفكر الاجتماعي بتقليد فلسفي آخر هو التأويل، الذي بدأ أساسا نتيجة الجدل حول كيفية تأويل النصوص الدينية المقدسة، ليصبح الآن نظرية عامة في التفسير.
الماركسية برغم كونها من التقاليد الفلسفية والاجتماعية الكبرى، فإنها تأثرت بدورها بالتحولات التي عرفها النصف الأول من القرن العشرين. كما أن التيار الرئيسي أو التقليدي في النظرية الاجتماعية، والذي يشمل نظريات الوظيفية البنائية، ونظرية الاختيار العقلاني، أو نظرية التبادل والتفاعلية الرمزية ومنهجية النظام الاجتماعي، هذه كلها نظريات تحليلية وصفية تشترك في فرضية أساسية: وهي أن أنسب موضوع للسوسيولوجيا هو دراسة الفعل الاجتماعي. وهي بالتالي تنحو إلى تعميم أوصاف الفعل الاجتماعي على أوصاف البنية الاجتماعية. فيما تقوم البنيوية بالعكس، حيث تعتمد على تعميم تفسيرات البنى الاجتماعية وتنقلها إلى ما يقوم به الفاعلون. وأخيرا تنحو النظرية النقدية التأويلية إلى استعادة وتوظيف مقولات نظريات الفعل، غير أنهما تحتفظان إلى حد ما بفكرة وجود البناء الاجتماعي مستقلا عن أفراده.
عكست المؤتمرات العالمية حول السوسيولوجيا قلقا ثقافيا في المرحلة المعاصرة، إذ يتحدث السوسيولوجيون عن أزمة علم، أزمة في هوية السوسيولوجيا نفسها، وذلك بالنظر أساسا إلى نوعية التحولات المعاصرة التي شهدتها المجتمعات المعاصرة في ظل معطيات «العولمة».
جراء ذلك بات المبدأ الداخلي للسوسيولوجيا يعاني من إرباك شديد، فلم تعد حدود السوسيولوجيا، كمجال تخصصي، واضحة، والتداخل بينها وبين حقول علمية أصبح أمرا واقعا كما هو الشأن مع الأنتربولوجيا والعلوم السياسية والاقتصادية، وهي حقول معرفية تدرس وتحلل وتفسر الشيء نفسه، حتى اللسانيات والتحليل النفسي يستعملان خطابا يخترق أماكن ظلت لزمن حكرا على السوسيولوجيا.
من ناحية أخرى، فإن هناك مجالات معرفية وممارسات مهنية بدأت تستقل بنفسها من قبيل: التواصل، التمدن، دراسات الصحة، الجريمة، العمل الاجتماعي، تحليل المنظمات، علاقات العمل، استطلاع الرأي... إلخ.
مجالات ثقافية واجتماعية كما هو حال الحركة النسائية والدراسات الثقافية ودراسات السلوك الجنسي... كلها حقول وظواهر وتيارات وعلاقات أخذت في الصعود متجاوزة السوسيولوجيا. ولذلك ربما يثار في تلك المؤتمرات العالمية انزعاج وخشية من أن تفقد السوسيولوجيا موقعها كحقل تخصصي يفترض أن يقدم تحليلا وتفسيرا علميين لتلك الظواهر الاجتماعية.
مع ذلك، تعد هذه التحولات مفيدة لتطوير المشروع السوسيولوجي. لأنها على الأقل تحث السوسيولوجيا على تعديل برنامجها وتحسين أدائها النظري والميداني. ولعل استرجاع السوسيولوجيا لأنفاسها وانخراط مناهجها في التصدي لجملة قضايا كانت إلى عهد قريب بعيدة عنها من قبيل دراسات السلوك الاقتصادي يؤكد حيوية المشروع السوسيولوجي وأهمية مساهماته في المعرفة الاجتماعية. لعل من إيجابيات تفاعل السوسيولوجيا مع الحقول المعرفية الأخرى إكساب مشروعها قيمة مضافة، من ذلك استعارة بعض مناهج الإثنوغرافيا واللسانيات والتي طورها السوسيولوجيون، مما جعل منها مناهج قابلة للتعميم بشكل أفضل، ذلك ما يمكن ملاحظته مثلا في دراسات وتحليل الخطاب. كما لا يمكن إنكار التقدم الذي توقعه السوسيولوجيا في الدراسات المعاصرة حول ظواهر مهيمنة عالميا من قبيل: الفقر والإقصاء والتهميش والعولمة ومجتمعات المعرفة والتواصل والأشكال العائلية الجديدة والعنف والتمدن وعلاقات الدولة بالمجتمع المدني وتحولات المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعمل الجماعي... إلخ.
المطلوب أن تواكب السوسيولوجيا في المغرب جملة هذه المكتسبات، وأن تفعل برنامجها وفق نمطين من المعالجات، أولها أن تقوم بعملية إحياء للاجتهاد النظري داخل الفكر الاجتماعي وتعيد قراءة الإرث المعرفي الذي كان المجتمع موضوعا له، سواء تعلق الأمر بالإرث الأدبي أو الفني أو الشعبي أو التاريخي، أو تعلق الأمر بالإرث الفكري والديني والفلسفي. لقد كان المجتمع حاضرا في كل أنماط الإنتاج الرمزي، وعلى السوسيولوجيا أن تحرر ذلك الإرث من أبعاده الفلكلورية وتستخرج منه فكرا اجتماعيا يليق بالعمق الحضاري للمجتمع المغربي. وفي السياق ذاته يلاحظ أن النخبة السوسيولوجية في المغرب لم تهتم بمسألة ترجمة الإرث السوسيولوجي والأنتربولوجي الذي أنتجه الآخرون حول المجتمع المغربي، ولئن كان البعض يبرر ذلك بموقف مبدئي يرى في ذلك الإرث نفسا عنصريا وكولونياليا، إلا أن هناك الكثير من الأبحاث التي لا تتصف بهذا النوع من الخلفيات بقيت من دون ترجمة. ويؤسف أن بعض تلك الأبحاث (وهي على كل محدودة جدا) ترجمت بعد مرور عقود عن صدورها، ويزداد الأسف لكون المترجمين لم يكونوا مغاربة.
أما النمط الثاني من المعالجات، فيقوم أساسا على إعادة الاعتبار لمتطلبات البحث السوسيولوجي وفقا لاحتياجات المجتمع وليس وفقا لإكراهات «أباطرة السوسيولوجيا»، فالملاحظ أن الأبحاث الأكثر شيوعا هي تلك الممولة من جهات لا تفصح عن أهدافها وخلفياتها، إذ تستعمل اليد العاملة المحلية (بروليتاريا سوسيولوجية)، في جمع المعلومات وتقصي الآراء، بينما تذهب نتائج التحليل وتركيب المعطيات وقراءتها إلى مكاتب أباطرة السوسيولوجيا الذين يستعملونها وفق مناهج عقلانية تعتمد تنظيم المعلومات وتصنيفها (بنك المعلومات حول المجتمع). هذا النوع من السوسيولوجيا (تحت الطلب) لا يساهم فقط في تخلف السوسيولوجيا في المغرب، وإنما يعمق، من خلال المعرفة الاجتماعية، جهل المجتمع بذاته.
* باحث في السوسيولوجيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.

سيرة السوسيولوجيا في المغرب







سيرة السوسيولوجيا في المغرب
موقع السوسيولوجيا في المجتمع ما زال موضع جدل
نشر في المساء يوم 29 - 09 - 2008

تطمح هذه الملاحظات إلى تثمين المعطيات السوسيولوجية بهدف إصلاح المشروع العلمي للسوسيولوجيا، وتترتب عن ذلك جملة من الأسئلة المهمة:
ما هي المقاربات النظرية والمنهجية والإبستيمية الأكثر تخصيبا للمعرفة السوسيولوجية؟
ما هي طبيعة التوجه الذي ينبغي للسوسيولوجيا أن تأخذه إزاء الرهانات الاجتماعية التي تواجه المجتمع؟
كما هو شأن السوسيولوجيا على المستوى العالمي، محكوم على السوسيولوجيا في المغرب بالانفتاح على/وفتح مجالات اجتماعية تبدو راهنية وملحة، من قبيل الظواهر المرتبطة بدراسة وتحليل أنماط العلاقات والروابط في المجتمع في ضوء التحولات الجديدة، بما في ذلك علاقة المجتمع بالدين، الدولة والمجتمع، العلاقة بين التدين والسياسة، إنتاج النخب، تحولات منظومة القيم، روابط الأجيال، الجريمة والمدينة، القيم المدنية، الجماعات والحركات الاجتماعية الجديدة، الهوية والإثنيات... إلخ.
تنضاف إلى كل ذلك التحديات الداخلية للسوسيولوجيا والمرتبطة تحديدا بتطور المدارس الفكرية العالمية وتأثيراتها على المشروع النظري والفكري لسوسيولوجيا منشغلة بالمجتمع وتحولاته. ومن تلك التحديات كيفية استعمال التعدد النظري والتقاط المقاربات الأجود مردودية من الناحية المعرفية. ليس عيبا أن نتعاطى مع رواد الفكر السوسيولوجي ونستفيد منهم ولا يمكن تجاهل مساهمات السوسيولوجيين الكلاسيكيين من قبيل: ماركس ودركايم وويبد وبارسون أو غيرهم من المفكرين الذين تم اكتشافهم أو إعادة اكتشافهم كما هو حال كل من: موس وديواي وزراندت وشولتز.
لكن لابد أيضا من مواكبة تلك الأطروحات التي تأسست على أنقاض تاريخ الجدل السوسيولوجي بين الوظيفية والماركسية والبنيوية الوظيفية والاستفادة من أزمة الماركسية، حيث برز الآن توجه نحو التداخل النظري أو التعدد النظري. كما يجب الاعتناء بتطوير التفكير السوسيولوجي خارج الثنائيات: فرد-مجتمع، ذاتية-موضوعية، الماكرو-الميكرو، الفعل-البنية، العقلانية-اللاعقلانية... إلخ.
تجاوز الثنائيات لا يمكنه أن يتم إلا عبر تبني مقاربات متعددة الأبعاد، حيث يقتضي ذلك التعدد النظري الذي يفيد في إنتاج سوسيولوجيا مرنة قابلة للتكيف وقادرة على المواكبة ومؤهلة لتحليل وتفسير تبدلات المجتمع. فمن دون تلك الكفاءة والفعالية لن يكون للمجتمع حاجة للسوسيولوجيا.
مازال موقع السوسيولوجيا في المجتمع مثار جدل، وسيبقى كذلك طالما بقيت الظواهر الاجتماعية الجديدة خارج مجالات اهتمامها، بل إن قيمة ذلك الاهتمام تتجاوز مجرد الرصد والتوصيف لتشمل مقتضيات أخرى، منها القيام بتأمل نظري وإبستيمي يمكن استثمار نتائجه من خلال مستويين:
أولا، عقد المقارنات بين مختلف رواد التفكير السوسيولوجي (المعاصرين على الخصوص)، ونحن هنا لا غنى لنا عن بورديو وبودون وتورين ولوهمان وهابرماس وجيرتز وجيرنس وفريتانج وكولمان وتايلور.
ثانيا، لإغناء التأمل النظري المرتبط بالفكر السوسيولوجي المغربي لابد من تفادي الاختزال والتعميم، والاستفادة من الهيرمنوطيقا وكذا تفعيل مقاربات تواصلية وتكثيف الدراسات الثقافية (سوسيولوجيا الثقافة) والاستفادة من نقد نظرية الحداثة ودراسات الخطاب وتحليله. من دون إغفال دور التكنولوجيا في المجتمع، ومن خلال استخدام مفهوم «مجتمع المعرفة»، والتركيز على تحليل السيرورات الإبستمولوجية، وما إن كانت البنيات الاجتماعية هي التي تحسم في البنيات المعرفية أم العكس.
تواجه السوسيولوجيا في المغرب تحديا آخر، لا يبدو أن تجاوزه سيكون أمر متاحا من دون مراجعات جذرية. فالسؤال الذي كان يؤرق السوسيولوجيا في بداياتها كان حول إمكانية تحقيق الموضوعية، أما اليوم فإن السؤال المركزي يدور حول إمكانية تحقيق الكونية: بمعنى هل من الممكن للسوسيولوجيا تأسيس خطاب كوني؟ هذا السؤال مهم بالنسبة إلى السوسيولوجيا لكن توظيفاته قد تحمل مخاطر على المجتمع. إنه سؤال ينطلق من مبدأ معروف هو وحدة المسارات التاريخية ووحدة مصائر المجتمعات الإنسانية، لكنه لا ينتبه كثيرا إلى الخصوصيات والجوانب الرمزية والثقافية والعقائدية مثلا، إلا من زاوية شمولية أو يستعملها لتبرير الحتمية التي تكتنف الخطاب الكوني. ويكفي أن المجتمع المغربي كان في كثير من المقاربات ضحية هذا النوع من الخطاب الذي يدعي العلمية.
وعليه، لابد من إيجاد التوازن اللازم بين طموح السوسيولوجيا لإنتاج خطاب كوني، وبين مقتضيات اكتشاف المجتمع المغربي وفق متطلبات المجتمع نفسه، وفق تساؤلاته وانشغالاته، ووفق ذاتياته وخصوصياته. يجوز أن السوسيولوجيا تريد بناء أطرها النظرية بما يضمن بناءها الداخلي وتماسكها الجوهري، فهي علم قائم على قوانين استخلصها الباحثون من خلال التجربة البشرية، لكن ذلك لا يمنع أن المجتمع المغربي هو أيضا بحاجة إلى اكتشاف سبل ومسالك انسجامه الداخلي وتماسكه الاجتماعي، وهو لذلك يتوقع من السوسيولوجيا أن تكون مرشده ودليله نحو هذا المطلب.
هذه معادلة دقيقة ومعقدة: كيف الاعتناء بالتنظير السوسيولوجي من دون التفريط في معطيات الواقع الاجتماعي؟ من دون التعسف في استخدام المعطيات؟
لا إمكانية لتحقيق ذلك من دون تمثل التنظير السوسيولوجي والإمساك بوتائر التحول الاجتماعي بالقدر نفسه من الحرص والعمق. ومعنى ذلك أن حل تلك المعادلة رهين بتأسيس أفق إبستيمي واضح ودقيق ينسجم مع القوانين الاجتماعية العامة التي ثبتت صدقيتها. من الواضح أن أهم الأسئلة التي تواجه السوسيولوجيا في المغرب تقود إلى الإبستيمولوجيا. ذلك أن كل علم، والسوسيولوجيا بالذات، منفتحة ومفتوحة على المؤثرات المفارقة في بنيتها الداخلية، لأن حدودها المنهجية غير قارة وفي تبدل مستمر. وعليه فلابد للسوسيولجيا في المغرب من تجديد ذاتها وموضوعاتها ومناهجها.
مصداق هذه الملاحظات يمكن البرهنة عليه عندما نريد اختبار السوسيولوجيا في ميادين خاضعة للتبدل باستمرار بوصفها ظواهر هشة كالعائلة مثلا، أو الأشكال الجديدة للجريمة في المدن المغربية، أو أنماط مأسسة العمل الجماعي، أو القوى الثقافية الجديدة، أو الهجرة السرية، أو أنماط التدين وتعبيراته... إلخ.
بالوقوف مثلا على تحولات العائلة المغربية، يمكن الحديث عن بروز أنماط جديدة من الروابط وأشكال جديدة من التفكك. من ذلك مثلا، تبدل موقع ومنطق الأبوة رمزيا ونَسَبيا، وبروز مفهوم «الأم العازبة»، والطلاق، والسلطة الاقتصادية، ولذلك فإن مستقبل الدراسات في هذا الميدان رهين بوضع تلك التحولات الحادة والعنيفة ضمن سياقها الاجتماعي بالاعتماد على مقاربات علمية متعددة ومتداخلة التخصصات.
أما بخصوص الأشكال الجديدة للجريمة كمثال ثان، فيستدعي السوسيولوجيا في المغرب إلى تطوير إطار مفاهيمي متعدد التخصصات وأطر نظرية لفهم هذه الأشكال الجديدة من الجريمة، لفهم كيفيات انتشارها والمصادر الاجتماعية الداعمة لها. ويمكن مثلا في هذا السياق استخدام مفهوم «الرأسمال الاجتماعي» لتحليل هذه الأشكال الجديدة من الجريمة، خصوصا لدى الشباب الذين يعيشون ظروفا اجتماعية لاإنسانية ولااجتماعية. وهذا المفهوم له فائدتان، فهو من ناحية يساعد على تطوير وتجديد البحث السوسيولوجي في المغرب بالقدر نفسه الذي يساعد علم الإجرام من ناحية ثانية. فهذا المفهوم يقترح الاعتماد على نظرية عدم تكافؤ الفرص عندما يتعلق الأمر بالاستفادة من الرأسمال الاجتماعي، مع الأخذ بعين الاعتبار دور المؤسسات كالمدرسة أو الوسط بوصفهما عاملين لتفسير كيفيات تحول الشباب إلى عالم الجريمة.
ونحن نلاحظ ذلك بقوة في المغرب، حيث ارتبطت العوامل المباشرة للجريمة بالمستوى التعليمي، والإقصاء الاجتماعي، والسكن غير اللائق، وانعدام فرص العمل. كما أن الحلول التي يتم اللجوء إليها بدعوى محاربة السكن العشوائي، لم تسهم إلا في مزيد من تغذية عوالم الجريمة، بل ساعدت على أن تأخذ الجريمة أبعادا جماعية بعد أن كانت فردية. فالسكن الاجتماعي والاقتصادي خلق مدنا للإجرام.
لذلك، لن يكون ممكنا للسوسيولوجيا في المغرب أن تكسب احترام المجتمع طالما بقيت بعيدة عن توتراته الحقيقية، عن أسئلته الوجودية. أن تعيد السوسيولوجيا بناء ذاتها ومشروعها معرفيا معناه أن تحظى بالقدرة على الاستجابة لأسئلة المجتمع، وأن تحضر بقوة وبذكاء في إبداع الحلول والمخارج. تحقيق ذلك رهين باكتساب السوسيولوجيا حسا اجتماعيا واستقلالية معرفية، وبرنامجا علميا ونقديا حتى يكون بمقدورها أن تجيب عن الأسئلة الداخلية للمجتمع. ذلك هو السبيل الأوحد لكي تحظى السوسيولوجيا بالاحترام الذي تبحث عنه وينعم المجتمع المغربي بالسوسيولوجيا التي يستحقها.
* باحث في السوسيولوجيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.

الاثنين، 11 فبراير 2013

محمد الشريف: ما قبل هيكلة الزوايا بالمغرب: الطوائف الصوفية خلال مرحلة الانحلال الموحدي

شهد العقدان الثاني والثالث من القرن السابع الهجري/13 م الانحلال التدريجي للإمبراطورية الموحدية. ذلك أن التصدع الذي أحدثته هزيمة العقاب سنة 609 هـ/1212 م لم يقف عند حدود جهاز الدولة الموحدية المركزية، وإنما امتد إلى مجموع مجالها الذي أصبح عرضة للتفتت السياسي بانقسام الإمبراطورية إلى كيانات مستقلة. إلى هذه الأزمة السياسية تنضاف أزمة إيديولوجية ابتداء من سنة 626 هـ/1229م، حين أعلن الخليفة المأمون (626-630 هـ/1229-1232م) نبذه للعقيدة التومرتية، وأزال إسم المهدي من السكة ومن خطبة الجمعة ومن المراسلات الرسمية، واعتبر الإبقاء على تلك الإراءات ليس ضروريا للمحافظة على الشرعية السياسية والدينية للموحدين[1]. ولا نفهم جيدا هذه الصيرورة التي تؤشر على انكسار الأسس الإيديولوجية للدولة الموحدية[2]، وتؤشر على فقدان النسق الموحدي لأهم خيوطه المميزة.       
وعرفت علاقات السلطة الموحدية مع أتباع التصوف خلال النصف الأول من القرن السابع / 13م توتراً كبيراً. ففضلا عن كثرة الثورات ذات المرجعية الصوفية المهدوية[3]، تمدنا المصادر بشهادات مختلفة عن أوجه الصراع الذي طبع علاقة السلطات الموحدية مع بعض الشيوخ المتصوفة. إلا أننا سنقتصر على مثال الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم خلف السلمي البلفيقي، المعروف بابن الحاج (ت. 616 هـ/1219 م)[4]. فموقفه يقدم لنا صورة واضحة لمكانة المتصوفة داخل مجتمعهم وموقفهم من السلطة الموحدية بعيد الشرخ الهائل الذي أحدثته هزيمة العقاب سنة 609 هـ /1212م سواء في بنية الدولة العسكرية أو في توازناتها الاجتماعية. وتحيل الشهادة التاريخية التي تصف مثوله أمام الخليفة الموحدي المستنصر(611- 620 هـ /1214-1224 م) على روايتين مختلفتين:
فحسب الرواية الأولى، تمت إدانة البلفيقي من قبل جماعة من فقهاء مدينة المرية. فقد كان هذا المتصوف يعتمد على مشايعيه ومريديه، وكانوا من الكثرة بحيث أصبحوا يمثلون- حسب وجهة نظر الفقهاء- خطراً محتملا على الدولة. وعندما علم الخليفة بذلك، أمر واليه على المرية بإشخاص البلفيقي إلى العاصمة مراكش من أجل استنطاقه. وعلى الرغم من أن مريدي الشيخ حاولوا عرقلة مسعى الوالي الموحدي لإلقاء القبض عليه، فإن البلفيقي تجنب أن تتحول الوضعية إلى تمرد شامل حينما حسم الموقف بقوله : "لا يجوز القيام على السلطان"[5].
أما الرواية التي يوردها المقري فتشير إلى أن استقرار البلفيقي بالمرية كان استجابة لطلب واليها آنذاك من الأسياد الموحدين، "فحل بها وأوطنه تحت بره وإكرامه"، ولم يتم الأمر بإشخاصه لمراكش إلا بعد أن تصدى لتجاوزات أحد المشرفين الذي "أحدث على الناس أحداثا منكرة، فرفعوا أمرهم إلى الشيخ أبي إسحاق، شاكين إليه بحالهم معه، وراغبين في صرف ما حل بهم من قبله"[6]. ولم يكن أمام هذا المشرف إلا مراسلة "ظهيره الذي يستند إليه نظر السلطان بمراكش"، الوزير عثمان ابن جامع، يشتكي إليه بحاله، وعرقلة الشيخ لمهمته، منبها إياه على أن له أتباعا وأعوانا، "لا يؤمن من جانبه الثورة على السلطان"[7]، ولما بلغ الوزير ما وجه به إليه خديمه المشرف، طالع به سلطانه المستنصر بالله، "وألقى إليه في صورة الناصح، أن تغريب الشيخ أبي إسحاق عن المرية من أعظم المصالح، فخرج أمر المستنصر بإزعاجه من المرية وتوجيهه إلى مراكش".
وبالفعل، ترك الشيخ المرية يوم الإثنين 12 صفر سنة 616 هـ/ نهاية مارس 1219م في أسطول المرية، "فلم تكن العامة لتتركه ولا توافقه على السفر لمراكش، والانفصال عنهم، اغتباطا لجواره، وتهالكا على مقامه بين أظهرهم واستقراره"[8].
ويبدو أن الخليفة الموحدي قد فهم الأثر العكسي الذي من الممكن أن يخلفه تعامل صارم مع الشيخ، بسبب صيته العظيم ومكانته لدى العوام، كما أبانت عن ذلك أحداث المرية. ولو أنه يؤثر عن البلفيقي أنه كان يقول : "كل من نال من عرضي ما نال فأنا أحلله من ذلك وأغفر له، ما عدا من رماني بالقيام على السلطان... ولو رماني بالزنا ما كان أشد علي مما رماني به"[9]، فمن المؤكد أنه لم يقبل بالحظوة التي منحه إياها الخليفة الموحدي بتعظيمه وإكباره[10].
ويبدو أن السياسة الرسمية تجاه التصوف خلال فترة الانحلال الموحدي المتأخرة، كان لها وجهان : من جهة حاولت السلطة بطرق مختلفة، إضعاف سلطة الطوائف الصوفية المنظمة، في محاولة يائسة لتجنب ميل هؤلاء للخصم المريني، ومن جهة أخرى وللحد من تأثير التصوف المنظم في "رباطات"، حاول الموحدون أن يحوزوا ثقة أشياخ التصوف غير المنتمين لإحدى هذه الطوائف التي كانت تعمل ببلاد المغرب خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري /13م، مثل طائفة الماجريين المشهورة بطائفة الحجاج التي أسسها أبو محمد صالح في نهاية القرن السادس الهجري[11]. وبنهجهم لهذه السياسة لم يكن خلفاء فترة الانهيار الموحدي يعملون إلا على السير في نفس الطريق التي سار عليها أسلافهم، والمتمثلة في إضفاء الامتيازات على بعض أشياخ التصوف ذوي الشهرة، أو تعيينهم في بعض الخطط الحكومية، بهدف الظهور بمظهر "الخلفاء الورعين"، وإضفاء نوع من الشرعية على سلطتهم المترنحة.
وهناك مثال يسمح لنا بتوضيح ما سبق، وهو العلاقة التي ربطت الخليفة المأمون (626-630 هـ/1229-1232 م) بشيوخ رباط تيط. فخلال نزاعه مع يحيى المعتصم على السلطة بعد وفاة الخليفة العادل الموحدي (624 هـ)، كتب المأمون لشيخ رباط تيط، طالبا منه تزكية بيعته. وقد ساند شيخ الرباط المأمون دون تردد، وطلب منه بأن " يأخذ الحركة إلى مراكش ويستعين بالله، وإنا [يقول الشيخ] نتكفل لك على ذمة الله تعالى أن يهب لك ملككم، ويجعلكم خليفة، لكونكم أهلا للخلافة، لأن لك عقلا وافرا ورأيا صالحا"[12]. كما أن علاقة المأمون بالشاعر المتصوف أبي عمر ميمون بن علي الصنهاجي الخطابي، المشهور بابن خبازة (ت. 637 هـ /1239 م) تؤشر بدورها على طبيعة علاقة الخليفة المأمون برجال التصوف. فقد عينه الخليفة على حسبة السوق[13]. وعلى عكس نموذج الصوفي الرافض للتعامل مع السلطة، فإن ابن خبازة الذي كان لباسه عادة عبارة عن "مرقعة"، لم يكتف بمدح الخليفة المأمون في أشعاره وإنما عندما قرر هذا الأخير نبذ العقيدة التومرتية، نظم قصيدة يبين فيها تأييده لقرار الخليفة ويذم فيها عقيدة المهدي[14].
إن التسامح الظاهري للخليفة المأمون مع المتصوفة لا ينفي بالطبع أنه خلال فترة خلافته ظهرت خلافات بين بعض أتباع التصوف والسلطات الموحدية. للأسف لا توفر المصادر إلا القليل من المعلومات بهذا الخصوص. وهذا ما يبدو بخصوص حالة الشاعر الصوفي القرطبي أبي زيد عبد الرحمان بن محمد بن يخلفتن الفزازي (ت.627 هـ/1230 م)[15]. فقد تتلمذ على يد متصوفين كبيرين هما أبو الحسن ابن الصائغ، وأبو الصبر أيوب الفهري. وتشير المصادر بصفة خاصة إلى ميله للتصوف، ودفاعه المستميت عن المذهب. فقد اشتهر بـ "المنافرة لأهل البدع"، وكان "كثير الحب الصالحين والزيارة لهم"[16]. وقد ألف كذلك قصائد زهدية ومدائح نبوية[17]، "وله في الزهد أشعار سمعت منه وسارت عنه ومال إلى التصوف وشهر به مع الميل إلى علم التصوف وصحبة المريدين والسعي في مطالبتهم والتشدد على أهل البدع"[18]. وقد شغل الفزازي- الذي كانت له حياة متنقلة ما بين ضفتي الزقاق- منصب "كاتب" لدى الخليفة المأمون، مع العلم أن أغلبية مترجميه يؤكدون أن تعيينه في هذا المنصب كان ضد إرادته[19]. ومن المحتمل أن يكون هذا التحفظ سببا في "الجفوة التي نالته من السلطان"[20]، ولزوم داره، أو أنها نجمت عن موقف الفازازي من استعانة المأمون بالروم على قتال المسلمين وموافقته على شروطهم المهينة[21]. واضطر في أخريات حياته (سنة 626 هـ) للقدوم إلى مراكش- ربما بين يدي المأمون- وتوفي هناك السنة الموالية[22].
إن حالة الفازازي لها من دون شك شبه بحالة شاعر متصوف إشبيلي مارس هو كذلك مهنة الكتابة لدى المأمون : يتعلق الأمر بأبي بكر محمد بن عبد الله بن قسوم اللخمي (ت. 636 هـ/ 1242 م)[23]. فقد "روى عن أبي عمران المارتيلي، وأخذ عنه طريقة التصوف ولازمه طويلا وانتفع بصحبته، و"كتب في شبيبته عن بعض أمراء وقته، ونال معه دنيا واسعة وجاها عريضا، ثم ترك ذلك زهدا فيه وانقطاعا إلى الله تعالى، وتعويلا على ما لديه". ولقد أبرز الرعيني ظروف تصوف هذا الشيخ وزهده قائلا : "لا أعلم أحدا من أهل عصرنا زهد في الدنيا حقيقة زهد أبي بكر. فإنه زهد عن تمكن فيها وظهور عند بنيها، وبعد إقبالها عليه أعرض عنها وأقبل على عبادة ربه ورفض ما كان في يده منها، واشتغل مدة بتعليم كتاب الله العزيز ونسخه"[24]. ويشير ابن عبد المالك إلى هجره الخدمة السلطانية، وانصرافه إلى التصوف، بالعبارات التالية : "كان له ديوان جمع فيه ما صدر عنه من نظم ونثر أيام تنشبه في الخدمة التي أنقذه الله منها، ولما نزع عنها مزقه وخرقه، ولم يخطر على باله شيئا منه، حتى لقي الله عز وجل". بل إنه انصرف إلى التأليف في الزهد والتصوف والمواعظ والزهد وأخبار الصالحين[25].
ويبدو أن إحدى الإجراءات المتخذة من طرف الموحدين لإيقاف التأثير المتزايد للجماعات الصوفية بين نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الهجريين (12-13م)، هو تشجيع ظهور الطوائف الصوفية وتمتيعها بالامتيازات والرعاية. يتعلق الأمر بتشجيع تيار صوفي ذي طابع رسمي، خاضع لمراقبة الدولة. هذه هي الخلاصة التي نستشفها من ترجمة الشيخ أبي العباس (أو أبي جعفر) أحمد بن إبراهيم بن عبد المالك التميمي القنجائري (ت. 627 هـ/ 1230م)[26]. فحسب ابن عبد المالك المراكشي، كان القنجائري من "جلة العلماء وأكابر الصلحاء... وكانت له من ملوك عصره مكانة جليلة". وبالفعل، "كانوا يستدعونه ويستدنونه تبركا به، واغتناما لمشاهدته، فيقبل عليهم ويقبل منهم [...] وكان ملوك بني عبد المؤمن وأمراؤهم ورؤساء دولتهم كثيرا ما يرغبون منه في تفريق صدقاتهم التطوعية على من يراه من الفقراء والمحاويج وأهل الستر والصون، لعلمهم بأنه مغشي الجانب من طوائف الناس على اختلاف طبقاتهم [27] "
إلا أن ما يثير التساؤل حول هذه الشخصية الصوفية هو إقرار ابن عبد الملك المراكشي بأن القجائري كان "شيخ الطائفة الصوفية قاطبة بالمغرب"[28] على عهد الموحدين. ونحن لا نتوفر على نص آخر يؤكد كلام المراكشي. وإذا كان الأمر يتعلق فعلا بطائفة منظمة من طرف السلطة الموحدية بهدف استقطاب المتصوفة وتفتيت الشبكات الرافضة منها، فإنها ستكون بادرة المجهودات المرينية اللاحقة لتدجين التيار الصوفي المغربي[29]. ومن الجائز افتراض أن الخلفاء الموحدين قد اعتمدوا عليه لخلق طائفة صوفية رسمية منظمة، تراقبها السلطات مباشرة، إذ كان بإمكانه أن يضفي عليها نصيب من التأييد الشعبي الذي كانت تتمتع به الجماعات الصوفية الأخرى التي لا تدور في فلك السلطات الموحدية.
ومن المفيد الإشارة إلى إنه عند وفاة القنجائري بسبتة سنة 627 هـ /1230 م، تزوجت إحدى بناته - وهي مريم- بالرئيس أبي القاسم بن أبي العباس أحمد العزفي الذي سيصبح حاكما مستقلا بمدينة الزقاق (ابتداء من سنة 654 هـ /1256)[30]. وكان والده الفقيه أبو العباس أحمد العزفي (ت.633 هـ/1236م) أحد الرجالات المقربين من الدوائر الصوفية؛ فهو صاحب كتاب "دعامة اليقين في زعامة المتقين" المخصص للشيخ أبي يعزي، فضلا عن صلاته الوثيقة بآل أمغار بتيط الفطر[31]. وبذلك فإن الارتباط بين العائلتين (القنجائري- العزفي) لم يكن نتيجة اعتباطية صرفة، على ما يبدو.
والواقع إن السياسة الموحدية لاحتواء الطوائف الصوفية قد منيت بالفشل، على الرغم من الامتيازات التي أسبغوها على شيوخ الطائفة الصوفية الصنهاجية التي أسسها بنو أمغار في رباط تيط الفطر[32]. ومما يؤشر على تأزم العلاقة بين الجانبين محاولة الخليفة الرشيد (630-640 هـ/1232-1242م)- بإيعاز من "بعض شيوخ صنهاجة" - فرض ضريبة على الجماعة الصوفية لرباط تيط الفطر، وإبطال "الظهير" الذي يعفي بني أمغار من أداء المغارم[33]. ولو أن محاولة الخليفة لم يكن لها - على ما يبدو- تأثير، فإنه كان لها انعكاسات كبرى من الناحية السياسية؛ إذ اعتبرها بنو أمغار دليلا على عداوة الخليفة الرشيد لهم، وتدشينا للقطيعة النهائية بين متصوفة رباط تيط الفطر والسلطة الموحدية. إذ بعد ذلك بقليل، وخلال خلافة المرتضى (646 -665 هـ/1248 -1266م) ثار الوالي الموحدي أبو فارس عزوز بن يبروك بن أمغار ضد الخليفة الموحدي المرتضى، والتجأ إلى حرم رباط تيط، واعترف بسيادة الأمير المريني يعقوب بن عبد الحق (656 -685 هـ/ 1258- 1286م). وقد عاقب المرتضى خيانته بإعطاء أمره لتهديم سور رباط تيط الفطر واقتحام حرمة الشيخ. إلا أن شيخ الرباط أظهر معارضة شديدة لقائد المرتضى، أبو القاسم الهنائي المكلف بتعقب الثائر ابن يبروك[34].
وقد حاول الخليفة أبو دبوس (الذي خلف المرتضى) تأمين مساندة شيوخ رباط تيط بأن أصدر ظهيرا في ربيع الأول من عام 665 هـ (أي بعد ثلاثة اشهر فقط من الحكم) يحملهم فيه على "الكرمة والمبرة والرتبة الدائمة والحماية التي يقيهم ضروب الضيم والمضرة"، فضلا عن إعفائهم من "الوظائف المخزنية، والكلف الناشئة، وجميع ما يلزم من المؤن والسخر"، طالبا منهم التصدق بأعشارهم وتفريقها على المساكين، جريا على عادتهم في الصلاح[35]. إلا أن محاولته منيت بالفشل، لأن شيوخ تيط مالوا لجانب خصومه السياسيين، واعترفوا مبكرا بسلطة المرينيين الذين لم يترددوا من جانبهم في إقرار ما بظهير أبي دبوس لهم، "بل أضافوا إليه امتيازات مادية، وبادروا إلى الاعتراف المبكر لهم بشرف نسبهم، بل قدموهم على رأس الركب الرسمي للحج في سنة 703 هـ"[36].
وتؤكد معطيات أخرى المواجهة بين الخلفاء الموحدين وأتباع الطوائف الصوفية خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري/13م، ومنها تلك التي تصف لنا سجن عبد الله بن أبي محمد صالح الماجري[37] (ت.651/1253م) ابن مؤسس رباط آسفي. فقد تم سجن عبد الله في مراكش بأمر من الخليفة الموحدي، الذي لا تفصح المصادر عن هويته، أثناء توجهه للمشرق مع مجموعة الفقراء المتصوفة. وهدده الخليفة بالقتل "إن لم يكتب الشيخ فيهم له كتابا ويعرفه فيه بأن أبا عبد الله المذكور ولده قتلهم جميعا"[38]. وقد أخبره بعض المتصوفة بوضعية ابنه أبي عبد الله صالح، ونصحوه بإرسال رسالة إلى الخليفة يستعطفه ويطلب عفوه، ويبعث جملة من المال لإطلاق سراحه[39]. ولم يستمع شيخ آسفي لمطالبهم قائلا : " قل لهم لا بد، إن شاء الله، من إطلاقكم عن قريب، شاء أولئك أم أبوا. وأما الكتب فما كنت ممن يكتب إليهم أبداً"[40]. وتم تسريح عبد الله بالفعل، وعند وفاة والده خلفه على رباط آسفي.
ولو أن المصادر لا تذكر الأسباب المحتملة التي دفعت الخليفة الموحدي لإعطاء أوامره بسجن عبد الله، يمكننا افتراض أن هذا الأمر يدخل ضمن سلسلة الإجراءات الردعية التي طبقتها السلطات الموحدية ضد بعض أشياخ التصوف المشهورين. ومن الممكن أن الموحدين إنما كانوا يحاولون في الحقيقة تخويف أبي محمد صالح، الذي كان بإمكانه أن يمثل خطرا على استقرار دولتهم، من وجهة نظرهم. لقد كان أبو محمد صالح تلميذاً لأبي مدين[41]، الذي تعرض بنفسه للأشخاص على عهد المنصور- وبعد رجوعه من المشرق، استقر الشيخ بمدينته الأصلية آسفي، وأسس الطائفة الصوفية "الماجرية" التي اشتهرت بطائفة "الحجاج" حينما توسعت لتشمل غير الماجريين[42]. ومن بين جميع الجماعات الصوفية التي كانت توجد ببلاد المغرب في هذه الفترة، كانت طائفة أبو محمد صالح من دون شك الأحسن تنظيماً.[43]
ويمكن افتراض أن أنشطة أبي محمد صالح كانت تثير بعض الشكوك لدى الموحدين. فطائفته الصوفية لم تكن فقط تمارس نشاطها في منطقة آسفي، وإنما وفرت بنية تحتية لصالح الحجاج المتجهين للمشرق، تتجاوز حدود الإمبراطورية الموحدية. لقد شجع أبو محمد صالح كذلك إنشاء رابطات أخرى- لها علاقة بالرباط الأصلي الموجود بآسفي- موزعة بمختلف مناطق المغرب، مثل سجلماسة وأغمات، وغيرهما من المناطق التي كانت قد خرجت عن ربقة الحكم الموحدي[44]. وكان لهذه الطائفة تمويلها الذاتي بفضل تبرعات أفرادها، ولها مراسيمها وطقوسها الروحية التي كانت مستوحاة من تعاليم مؤسسها، وهو ما كان يضمن تماسكها الداخلي. باختصار لقد كان للموحدين أسبابا وجيهة ليحاولوا وضعها تحت رقابتهم[45].
يبقى توضيح الدور الذي يمكن أن يكون قد لعبه رباط آسفي في الصراعات التي واجهت الموحدين مع بني مرين. ولو أننا لا نتوفر على أية إيضاحات تسمح لنا بالجزم بأن أتباع أبي محمد صالح قد مالوا لصالح المرينيين - كما حدث مع بني أمغار بتيط - فإننا نجد أن الأمير يعقوب بن عبد الحق المريني قد عين أصغر أبناء شيخ آسفي، وهو عيسى (ت. 698 هـ/1299م) لـ"ولاية الإمارة ببلد آسفي"[46]. ومن المحتمل أن الأمير المريني حاول - بهذه المبادرة- أن يكافئ أحفاء أبي محمد صالح على دعمهم له في صراعه مع الموحدين.
وإلى جانب الدور السياسي الذي قد تكون لعبته الطوائف بالمغرب في انحلال السلطة الموحدية وفي الصراع الموحدي المريني خلال النصف الأول من القرن السابع /13م، فإننا نلمس تأثير المتصوفة السياسي كذلك في الثورات ضد الموحدين التي اندلعت خلال نفس الفترة بالأندلس، وخاصة في منطقة الشرق. ونشير بالخصوص إلى الثورة التي حمل لواءها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود (ت. 635 هـ/1238 م) في منطقة مرسية سنة 625 هـ /1228م، أي بالضبط في فترة أوج التيار الصوفي في هذه المنطقة[47]. وبتحليل أصل هذه الثورة وتطورها ضد الخليفة المأمون، تتبين بعض المؤشرات التي تسمح بافتراض وجود روابط بين ابن هود والجماعات الصوفية لمنطقة مرسية. ولو أنه يصعب معرفة مدى الدور الذي لعبه متصوفة المدينة خلال هذه الفترة، فإننا نتوفر على معطيات مشتتة، تدفعنا إلى القول أن ابن هود كان يبحث عن دعم أتباع هذا المذهب، ليضفي شرعية على حكمه. ومما له دلالة أكبر هو أن ابن هود ولَّى على مرسية عبد العزيز بن عبد المالك بن خطاب (ت. 636 هـ /1238م)[48]، وهو رجل تحمل مسؤوليات سياسية، ومال إلى التصوف والزهد[49]. ومن المؤكد أن ثورة ابن هود، وخاصة حملاته لإيقاف الزحف المسيحي على شرق الأندلس- قد أثارت حماس متصوفة باقي المناطق. فالشيخ الغرناطي أبو إسحاق بن عبيد يس النفزي (ت. 659 هـ/1261 م) يمدح ابن هود في أشعاره، ويحثه فيها لتوظيف جهوده لصالح الجهاد[50].
من جهة أخرى، كان لتصوف مرسية، خلال هذه الفترة، بعد سياسي لا غبار عليه، ظهر واضحا في حالة محمد بن أحلى (ت.645 هـ /1247م) كما لاحظ ذلك (بيير غيشار)[51]. فقد تزعم هذا الشيخ جماعة "متطرفة" من المتصوفة كانت تعمل في منطقة لورقة. وحسب ابن الزبير، كان لمذهب ابن أحلى "نزوح عن سنن المسلمين ... من ذلك قولهم بتحليل الخمر وتحليل إنكاح أكثر من أربعة، وأن المكلف إذا بلغ درجة العلماء سقطت عنه التكاليف الشرعية"[52]. وبدأ أتباعه في ممارسة الإذاية في الأموال والأبدان والتخويف الشديد لسكان المنطقة[53]. وتحول ابن أحلى ما بين 637-645 هـ/1240-1245م إلى والٍ مستقل للورقة بدعم من أتباعه. وامتازت إدارته - حسب ابن عبد المالك المراكشي- بالعدل والمساواة[54]. من هذه الزاوية يمكن اعتبار ابن أحلى[55] ممثلاً نموذجياً للواجهة السياسية للتصوف في خط ابن قسي، مثله في ذلك مثل عزيز بن خطاب الذي ترك الحياة الصوفية لينصرف لهموم السياسة[56].
الدكتور محمد الشريف:
جامعة عبد الملك السعدي/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان

--------------------------------------------------------------------------------
[1]- ابن عذاري المراكشي، أبو العباس أحمد، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب (قسم الموحدين)، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت- دار الثقافة، الدار البيضاء، 1985، ص 286؛ ابن أبي زرع الفاسي ، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور، الرباط، 1973، 251؛ مجهول (لعله) ابن سماك العاملي، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق  سهيل زكار وعبد القادر زمامة، الدار البيضاء، 1979 ص، 164-165
Roger le Tourneau, « Sur la disparition de la doctrine almohade », Studia Islamica, XXXII, 1970 ,pp. 193-201( p.194-195) 
[2] - أثارت مبادرة المأمون جدلا كثيرا وفسرت وأولت تفسيرات وتأويلات شتى. فهناك من يعتبرها مبادرة ضد الأرستقراطية الموحدية (الأشياخ)، وهناك من رأى فيها تمردا لأصحاب المذهب المالكي، بينما يعتقد "لوماكس" أن المأمون، المتأثر من جهة بأصوله (هو ابن أندلسية) وكونه تربى بالأندلس، كان يعتبر أن المذهب الموحدي ليس عنصر انقسام داخل الجماعة المسلمة فحسب، وإنما يدخل بدعة تستحق العقاب الإلهي المتمثل في شكل حروب أهلية وهجمات مسيحية. ومهما يكن من أمر، فإن قرار المأمون أدى في الواقع إلى تقويض مركز سلالته نفسها بحرمانها من كل شرعية ومن كل أساس أخلاقي وايديولوجي. عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب ..ج 2، ص 178
Lomax D. « Heresy and Orthodoxy in the Fall of Almohad Spain”, God and man in
-    Medieval Spain : essays in honour of J. I. R . I ., Highfield, éd. D. w Lomax et D..
-    Mackenzie, Warminster, 1989 , pp 47-48
-    Roger Le Tourneau, « Sur la disparition de la doctrine almohade » , Studia Islamica, XXXII, 1970, pp.193-201
[3] - عن هذه الثورات راجع كتابنا : التصوف والسلطة بالمغرب الموحدي، منشورات الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية، الرباط، 2004
[4] - ترجمته في : ابن الأبار، أبو عبد الله محمد القضاعي، التكملة لكتاب الصلة، نشر عزت العطار الحسيني، القاهرة، 1956، ج1، (343)؛ أحمد بابا، نيل الابتهاج  بتطريز الديباج، إشراف وتقديم عبد الحميد الهرامة، طرابلس، 360،1989 ؛ أحمد المقري، أزهار الرياض في أخبار عياض، الجزء الرابع، تحقيق سعيد أعراب ومحمد بن تاويت، المحمدية (د. ت.)، ج4، 34-35 ؛ وكذلك : محمد الطالب ابن الحاج السلمي، رياض الورد فيما انتمى إليه هذا الجوهر الفرد، تحقيق جعفر ابن الحاج السلمي، ج.1، دمشق، 1993، ص 113-132، وخاصة 129-126
[5] - التكملة، (طبعة القاهرة)، ج1، ص166؛ نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص 37-38 
[6] - أزهار الرياض، ج4، ص 110-111
[7] - نفسه، ص 111
[8] - نفسه، 112-113
[9] - أحمد المقري، أزهار الرياض في أخبار عياض، الجزء الرابع، تحقيق سعيد أعراب ومحمد بن تاويت، المحمدية (د. ت.)، 114؛ رياض الورد، ج1، م.س.ص 129
[10] - أزهار الرياض، 113، فعندما "سأل الدعاء منه وهو لا يجد في فيه ريقا "
[11] - انظر أعمال الملتقى الذي نظمته كلية الآداب بالرباط مع المجلس البلدي لمدينة آسفي، تحت عنوان  : "أبو محمد صالح : المناقب والتاريخ"، وصدر عن دار النشر العربي الإفريقي، 1990، وقد تكاثرت الطوائف بالمغرب بعد ذلك حيث يذكر ابن قنفذ الذي وقف على قبر أبي محمد صالح بآسفي سنة 763 هـ  ست طوائف كبرى كانت تستوطن كلها الجنوب المغربي انطلاقا من نهر أم الربيع. (ابن قنفذ، أنس الفقير وعز الحقير، الرباط، 1965)، وهذه الطوائف الست هي بالإضافة على طائفة الحجاج :
- طائفة الشعيبيين، وتنسب إلى الشيخ أبي شعيب الصنهاجي دفين أزمور.
- طائفة الأمغاريين التابعة للشيخ أبي عبد الله أمغار دفين عين الفطر.
- طائفة الماجريين السابقة الذكر، وتنسب على أبي محمد صالح بن ينصارن الدكالي ثم الماجري
- طائفة الغماتيين، اتباع ابي زيد الهزميري
- طائفة الحاحيين أتباع أبي زكريا الحاحي
[12] - الآزموري، أبو عبد العظيم ، بهجة الناظرين وأنس العارفين، مخطوط الخزانة العامة بالرباط، رقم 1343. ورقة 28
[13] - ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، السفر الثامن، تحقيق محمد بن شريفة، الرباط، 1984 /2، ص 404
[14] - المنوني (محمد)، حضارة الموحدين، دار توبقال للنشر، 1989، 158
[15]- حول هذه الشخصية انظر : التكملة، ج 2، (1641)؛ ابن سعيد، المغرب، ص 118؛ الرعيني، أبو الحسن علي ،  برنامج شيوخ الرعيني، تحقيق إبراهيم شبوخ، دمشق، 1962، (38)؛ صلة الصلة (ضمن كتاب : الذيل والتكملة، س./8، (61)؛ ابن الخطيب، الإحاطة في أخبارغرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان، ط2. القاهرة، 1973، ج 3، ص 517-522؛ نيل الابتهاج، 163؛ عبد الحميد عبد الله الهرامة، آثار أبي زيد الفزازي الأنداسي... دار بيروت- دمشق، 1991
[16] - نفسه، 102
[17] - آثاره الشهيرة في هذا الصدد هي "المعشرات" في الزهد والمواعظ. انظر أشعاره التي نشرها عبد الحميد عبد الله الهرامة، آثار أبي زيد الفزازي الأندلسي... م. س.
[18] - ابن الأبار، التكملة (طبعة مدريد)، رقم 1641، ص 586
[19] - يقول ابن الخطيب : "وكان متلبسا بالكتابة عن الولاة والأمراء ملتزما بذلك كارها له حريصا على الانقطاع عنه ": الإحاطة، 3/ 518، ويقول تلميذه الرعيني : "كان ... متبرما بتنشبه في الخدمة " : برنامج شيوخ الرعيني، ص 102
[20] - ابن البار، التكملة، (م)، ج 2، ص 586
[21] - عبد الحميد عبد الله الهرامة، آثار أبي زيد الفزازي الأندلسي...م.س. ، ص 14
[22] - يذكر ابن الأبار (التكملة (م)، ج 2. ص 586 ) أنه حاول لقاء الشيخ الفازازي مرتين في اشبيلية وفي قرطبة لكنه لم يقدر على ذلك "لالزامه داره بجفوة نالته من السلطان ".
والجدير بالذكر أن أخاه أبو عبد الله محمد بن يخلفتن (المتوفى سنة 621/1224 م) قد شغل منصب الكاتب لدى الخليفة الناصر والمستنصر. انظر: المراكشي، عبد الواحد (ت. 581 هـ)، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العربان ومحمد العربي الخطابي، القاهرة، 1949، 229، 238، وترجمته في :ابن الأبار، التكملة (ق) ج2، (1616)، ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، س/8، 1. (149). وكان ابنه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان بن يخلفتن كذلك " كاتبا " على عهد الخليفة الرشيد.. انظر :ابن عذاري، البيان المغرب، 299. وظل هذا المنصب يتوارثه أفراد هذه الأسرة حتى عهد الخليفة الموحدي المرتضى.ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، س/ 1.8 . 362
[23] - ابن البار، التكملة، (ق)، ج2، (1669)؛ الرعيني، برنامج، (34)؛ ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، س/6، (705 )
[24] - الرعيني، برنامج، ص 92-93، وكذلك؛ ابن عبد الملك،  الذيل والتكملة، س 6، ص 243
[25] - منها "محاسن الأبرار في معاملة الجبار"، ابن عبد الملك،  الذيل والتكملة، س 6، ص 243-244
[26] - ترجمته في : ابن الأبار، التكملة (ق)، ج1، (226)؛ ابن عبد الملك،  الذيل والتكملة، ج1،1، (34)، الرعيني، برنامج، (78)
[27] - ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، س/ 1.1، ص 57-58؛ ذكر تقي الدين الفاسي المكي حماما ورباطا، وتاريخ وقفه العشر الأوسط من شوال سنة 620 هـ على ما في النقش المتعلق بذلك. وفيه "أنه وقف وحبس وسبل وتصدق بجميع هذا الرباط الشارع على المروة المعظمة على جميع الفقهاء من أهل الخير والفضل والدين والعرب والعجم المتأهلين وغير المتأهلين على ما يليق بكل واحد منهم في المنازل في هذا الرباط".
[28] - ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج1. 1، ص 48؛ (في التكملة، 118 " كان على طريقة الصوفية "
[29] - Ferhat  Halima et Triki, Hamid, « Hagiographie et religion au Maroc médiéval » Hespéris Tamuda, 26, 1986.49
[30] - ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، س/1.1، ص 58
[31] - الآزموري، بهجة الناظرين،.. ورقة 60،38، 97،96؛ وقد أنشد أبو العباس فيهم قائلا :
وددت بعين الفطر لو كنت ثاويا   **   جوار لا بن أمغار في عز بيتهم
هي الدار نعم الدار دارهم التي    **    نشؤوا فيها أبدالا وأقطاب وقتهم
هم شرفاء الأنساب وجدهم        **     تسمى بقطب الصالحين وغوثهم
عسى في زمام الصالحين وقربهم   **       أحط وأحظى عند بابك بعثهم
[32] - وكانت "استراتيحية الاحتواء "التي تبنتها السلطة المرابطية تجاه المتصوفة قد نجحت مع شيوخ آل أمغار الذين منحهم المرابطون "ظهائر الوقير والإحترام"، (د. بوتشيش (إبراهيم القادري)، المغرب والأندلس في عصر المرابطين : المجتمع - الذهنيات- الأولياء، دار الطليعة، بيروت، 1993، ص154، وانظر كذلك دراسة : محمد المازوني، "رباط تيط : من التأسيس إلى ظهور الحركة الجزولية"، ضمن كتاب : الرباطات والزوايا في تاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب الرباط، 1997.ص41-43 ؛ ودراسة كورنيل
Vincent J. Cornell, Ribat Tit-N-Fitr : The Origine of Maroccan Maraboutism, Islamic Studies, (Islamabad, Pakistan), vol .27,1988, N° 1, pp. 23-
[33]- بهجة الناظرين، 39-40، ومن الممكن أن الفترة التي يحيل عليها ابن عبد العظيم الأزموري تقع في بداية سنة 635/1237 خلال مرور الخليفة الرشيد عن منطقة أزمور. انظر؛ ابن عذاري، البيان المغرب...م. س.،346
[34] - بهجة الناظرين، 38. وبعد عزله في محرم من سنة 665 / أكتوبر 1266 هرب الخليفة المرتضى إلى أزمور بالذات.وهنا زار قبر الشيخ أبي شعيب الدكالي للتبرك به. ومن المعلوم أن أبا شعيب كان تلميذا لأبي عبد الله بن أمغار، مؤسس الطائفة الصوفية الصنهاجية . انظر :ابن عذارين البيان المغرب ...م.س ،441؛ ابن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس، دار المنصور، الرباط، ص، 260. في ص 259 وقد حاول أبو دبوس الذي كان يريد الاطمئنان إلى أنصاره الصنهاجيين استرضاء الأمغاريين بمنحهم ظهيرا سنة 665 هـ يرفع عنهم الكلف والوظائف السلطانية. (بهجة الناظرين، ورقة 72-74)
[35] - انظر نصه في بهجة الناظرين، ورقة 37. وأورده محمد المازوني ملحقا بدراسته : "رباط تيط : من التأسيس إلى ظهور الحركة الجزولية "..م.س.، ص48
[36] - محمد المازوني، رباط تيط ...م.س. ص43
[37]- الماجري، أحمد بن إبراهيم بن أحمد ،  المنهاج الواضح في تحقيق كرامات الشيخ أبي محمد صالح، ط مصر، 1933 ص،144-145؛ الإعلام، ج8،(1169)؛ محمد بنشريفة، "الماجريون" ضمن كتاب : أبو محمد صالح : المناقب والتاريخ، منشورات المجلس البلدي لمدينة آسفي وكلية الآداب بالرباط، النشر العربي الإفريقي، 1990. ص31- 45(ص37)
[38] - توفي أبو محمد صالح سنة 631/1234م.
انظر :   (E. Lévi- Provençal) E.I. 2.s.v.1145                                    
ولا بد أن يكون الخليفة الذي أمر بسجن ابنه عبد الله هو أحد الخلفاء الذين حكموا خلال الثلث الأول من القرن السابع الهجري /13م، والسابق على السعيد (639-645هـ/1242-1248م)
[39] - العباس ابن ابراهيم، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من  الأعلام، الرباط، 1983، ج8 /215
[40] - نفسه
[41] - المنهاج الواضح، 25؛ ابن قنفذ، أنس الفقير وعز الحقير، تحقيق محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 1968، ص 35؛ عبد اللطيف الشاذلي، " أبو محمد صالح ...." ضمن كتاب : أبو محمد صالح، .. م س. 55-67 ( ص 58 )
[42] - أنس الفقير، ص64
[43] - المنهاج الواضح، 57 -58؛ عبد اللطيف الشاذلي، م.س. 60
[44] - المنهاج الواضح، 141-143؛ فرحات والتريكي، م. س. 8
[45] - فرحات (حليمة) والتريكي (حميد)، "كتب المناقب كمادة تاريخية"، ضمن كتاب: التاريخ وأدب المناقب، عكاظ، الرباط، 1989، ص9
[46] - المنهاج، 145-147، ويؤكد محمد بن شريفة، خطأ، أنه توفي سنة (678/1279م)
[47]- Pierre Guichard , « Le Sarq al Andalous, l’Orient et le Mghreb au XIIIe et XIIIe siècles : réflexions sur l’évolution politique de l’Espagne musulmane » , in, Relaciones de la peninsula Ibérica…. Madrid , 1988,  pp. 1-20 (p. 10)
[48] - التكملة، (م)، (1952)؛ ابن الأبار، الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس،ج2 ،308- 314؛ ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، س/5 ، (297)؛ ابن الزبير،  صلة الصلة، (321)
Emilio Molina Lopez, Aziz b .Jattâb, destacada personalidad politica, cientifica y literaria murciana del siglo XIII , Miscelanea Medieval Murciana, 1978
[49] - ابن الأبار، التكملة (ق)، ج2.(1671)
[50] - محمد بنشريفة، "من أعلام التصوف بالأندلس في القرن السابع :ابن عبيد الله ياس النفزي"، ضمن كتاب : في النهضة والتراكم (دراسات مهداة لمحمد المنوني)، الدار البيضاء، 1986، ص223-240 (من المحتمل أن ابن هود حضر مجلس هذا الصوفي )
[51] - Pierre Guichard," le Sarq al Andalous… ",op .cit. p. 10. Id, Les musulmans de Valence et La Reconquête (XI-XIIIe siècles), t. 1, Damas, 1990, pp. 141-142
[52] - ابن عبد المالك المراكشي، الذيل والتكملة، س/6، ص 437
[53] - ابن عبد الملك،  الذيل والتكملة، س/6، ص 437-438 لقد تم سجن ابن أحلى في أول زمره عندما بدأ بنشر أفكاره.
[54]- نفسه، ص 438 "تظاهر في أحكامه وتدبير أمره بالعدل التام والتسوية بين القوي والضعيف والقريب والبعيد... وساس بلده أجمل سياسة، وكان جيد التدبير حسن الرأي في دنياه ".
[55]- ابن عبد الملك،  الذيل والتكملة، س/ 4 ص 436، ابن الزبير، صلة الصلة، ج 3/ ص 140
[56] - 77 Molina Lopez M, « Aziz b . Hattab … », op cit . p. 77